مناقبه جعلته يرفض الوظيفة والشقة الفخمة، وبقي قانعاً بزراعة الأرض
كان العلامة المجتهد الشيخ حسين أسعد بزي العاملي، يسكن (بنت جبيل) في جبل عامل، قائماً بالوظائف الدينية ومصلحاً بين الناس، سواء ما هو متعلق بإصلاح ذات البين، أو التصدي لحل الخصومات، وكان الناس يرجعون إليه في خلافاتهم من مختلف القرى والمناطق.
وقد دفع رحمه الله (ثمناً باهظاً) من مكتبته الثمينة ونتاجه العلمي، في حملة (نيجر) على بنت جبيل، وخسارته كانت كبيرة لا تعوّض بثمن. وعندما زار الكولونيل الفرنسي (بنت جبيل)، التقى بالشيخ بزي، ولم يكن من الشيخ حسين إلاّ أن شنّ هجوماَ على السياسة الفرنسية، وعلى حضارتها، قائلاً له: "ما الذي جنيتم من هذا العدوان، سوى الإضرار بالناس وبممتلكاتها، ومنها مكتبتي التي تحوّلت إلى أوراق محترقة، وأنتم تدّعون أنكم جئتم لمساعدة الناس وإرساء الحضارة، فهل هذه هي حضارتكم؟!"
التفت الكولونيل إلى الشيخ حسين بزي، وقال له: "دعني من هذا الكلام، أنا جئتك بموضوع آخر وأهم، فهناك منصب رئيس المحاكم الجعفرية ومعه شقة فخمة وسيارة جديدة، ومرتّب شهري لائق بجنابك، وعليك أن تترك بنت جبيل والمعاناة هنا وتذهب إلى بيروت".
هذا العرض لم يغرِ الشيخ حسين، وكان يُدرك أنّ هذا ليس لأجل المرتبة العلمية التي وصل إليها، ولا القدرة الفكرية والخبرة الإجتماعية، كي تُسخّر لأجل مصلحة الناس، بقدر ما هي رشوة، لكسب هذه الشخصيات، لما لها من تأثير على المزاج العام للناس الرافضين للسياسة الفرنسية ولوجودهم أساساً. وكان من الممكن أن ينطلي هذا العرض على الشيخ حسين، والشيطان يزيّن له أهمية هذا الموقع الذي يستحقه هو أساساً، لما فيه المصلحة العامة للناس، إلاّ أنه كان يعلم رحمه الله، أنّ الفرنسيين لا يبحثون عن مصلحة الناس ولا عن تحقيق العدالة، ولا عن الفقهاء القادرين على التصدي لهذه المواقع، ولا يريدون من العلماء أن يدعوا لهم في جوف الليل، وإنّما يبحثون عن مصالحهم والتغطية على جرائمهم التي ارتكبوها بحق أهالي جبل عامل.
فالذي كشف عن بصيرة الشيخ حسين بزي، هو المقام السامي الذي وصل إليه جراء تربيته لنفسه وتخليصها من الشوائب، وحيازته على ملكة العدالة، التي لامست في حدّها الأعلى الحدَّ الأدنى من عدالة الأئمة المعصومين (ع).
من هنا جاءت دعوة المسلمين، للبحث عن الفقيه من أهل البصيرة والعارف بزمانه، فإنه يُدرك مصالح المسلمين، فيرشدهم إليها وينبّههم من المخاطر، فيبعدهم عنها.
وفي نهاية الحوار معهم قال لهم الشيخ حسين: "لست بحاجة إلى هذا المنصب، فالناس في جبل عامل يرجعون إلى علمائهم ويقبلون الأحكام الصادرة عنهم، وعندي أرض ورثتها عن والدي، أزرعها وأعتاش منها، ولست بحاجة إلى أيّة مساعدة من أحد، حتى الحقوق الشرعية أنا مستغنٍ عنها والله تعالى كفاني همّ رزقي".
وهذه هي الحقيقة، فالناس لم تكن بحاجة إلى محاكم جعفرية، لتلزمهم بتنفيذ الحكم، وإنما الحكم الصادر عن عالم الدين، كان مُلزماً لهم، ولا يسع أحد، العمل على خلافه، فكان أهالي منطقته بنت جبيل وحتى من داخل فلسطين والقرى المسيحية المجاورة، ترجع في خصوماتها إلى الشيخ حسين بزي، لما يرون فيه من أهلية علمية وعدالة فاقت التصور، وقدرة عالية على حلّ المشاكل.