استلم مبلغاً من المال وكان بأمسّ الحاجة إليه، ولم يأخذ منه فلساً واحداً

30/11/2021

استلم مبلغاً من المال وكان بأمسّ الحاجة إليه، ولم يأخذ منه فلساً واحداً

للعلامة الشيخ محمود عباس العاملي (قدسره) ، الكثير من المناقب التي تُحكى عنه، وكان (رحمه الله) قد ترك أثراً طيباً، ولازال إلى اليوم خطباء المنبر الحسيني يحفظون بعض قصائده في الوعظ والإرشاد ومنها قصيدته المشهورة العينية والتي منها:

حتّامَ أنتَ بما يضُرّك مولَعُ                     طوعَ الهوى وتصدُّ عمّا ينفعُ

وإلامَ أنتَ عن العبادةِ مُعرضُ                 وبأمرِ عيشكَ دائبٌ لا تهجعُ

إلى أن قال:

فغداً تموتُ وتحتويكَ جنادلُ           في حفرةٍ منها الحشا يتقطعُ

فالقبرُ بيتٌ مظلم لو حلّهُ                ليثُ العرين لضاق فيه المضجعُ

وهناك تحصدُ ما زرعتَ ندامةً       والمرءُ يحصدُ دائماً ما يزرعُ

كان الشيخ محمود من تلاميذ المحقق الشيخ محمد حسين الميرزا النائيني، وكتب له الشيخ النائيني مقدمة لـ (كتيّب) صغير من عدّة أوراق أعدّها الشيخ محمود عباس، حول حوارٍ إفتراضي بين (غني وفقير)، وهذه المقدمة تكشف عن عمق الصلة مع الشيخ النائيني وعن الصفاء المودع في الشيخ النائيني، حيث لم يجد حرجاً في أن يكتب مقدمة لهكذا كُتيّب، كما يكشف عن صفاء وطيبة الشيخ محمود، بأن يطلب من أستاذه مقدمة لعدة أوراق في حوار إفتراضي رأى فيه مصلحة للناس.

حكايات كثيرة تُنقل عن الشيخ محمود عباس الذي ولد في عيثرون سنة 1867م، وتوفي في برج البراجنة، ودفن في مقبرة الرادوف سنة 1935م، فأوقاته كانت مليئة بالتبليغ والوعظ والإرشاد وتربية الجيل الصاعد، ولم يصنع لنفسه حواجز مع الناس، ولا اعتبارات تمنعه من العمل، وله الكثير من الحكايات المشهورة التي تركت أثراً بالغاً وطيباً في نفوس الخاصة والعامة، منها: أنه ذات يوم، كان يحجُّ بيت الله الحرام، و في أثناء الطواف ناولته امرأة عراقية (خمس ليرات ذهبية)، وكان مبلغاً كبيراً آنذاك، وهو بأمسّ الحاجة إليه، وإذ بسيّدٍ عراقي محتاج، قدّم له الشيخ محمود كامل المبلغ، ولم يبقِ لنفسه فلساً واحداً. هذا التصرّف هو في قمة الإيثار، والشيخ محمود قد تجاوز مسألة التديّن، إلى مرحلة صفاء النفس وتربيتها، إلى حدٍّ لم يعد يشعر بالحاجة أمام فقر الآخرين، فتصرّفه هذا لم يكن من باب تطبيق حكم شرعي مستحب وهو الإيثار. ولو كان محكوماً لهذا الإطار، لقدّم له نصف المبلغ وأبقى على القسم الثاني، ولعُدَّ بنظر الناس من المؤثرين على أنفسهم، لكنه وصل إلى مقامٍ، لم يعد يشعر بجوعه أمام جوع الآخرين، فقد خلص نفسه من كل الشوائب، كيف لا وكان يسكن في غرفة واحدة مع عائلته في برج البراجنة، كأيّ عاملٍ قدِمَ إلى لبنان للعمل.

ومنها: ذات يوم، كان ذاهباً إلى إحدى القرى للتبليغ والوعظ، وبينما هو في الطريق ناداه أحد الفلاحين وكان يجرّ خلفه (ثوراً)، فقال له: شيخنا جئت بهذا الثور لك (زكاة)، فأخذه الشيخ محمود وجرّه خلفه، وعند وصوله إلى إحدى القرى المجاورة، صادف وجود فلاح يحرث أرضه على بقرة وحمار، وعادةً الناس في قرانا لا يحرثون على الحمير لعدم قدرتها على الحراثة. ]لهذا – من باب الطُرفة - يُعبّر العامة على من يتكلم بكلام غير مفيد، بأنّ خطابه مثل (فلاحة الحمير)[. وهنا ما كان من الشيخ عباس، إلاّ أن قدّم (الثور) الذي معه لهذا الفلاح، مع أنّ الشيخ محمود كان بحاجة له، أو كان بالإمكان ذبحه وتوزيعه على العديد من الفقراء، لكنه لم يفعل، لقد أراد لهذا الفلاح، أن يقوم بمهمته المطلوبة منه في حرث أرض الناس، فيستفيد هو والمجتمع في قريته يستفيدون منه أيضاً.

ومنها: ذات يوم، دهس سائق (تاكسي) مسيحي ولدَه البكر، وكان صغيراً فمات، فألقت الشرطة القبض على السائق وأودعته السجن، وعندما عَلم الشيخ محمود بالأمر، ذهب إلى الشرطة وأسقط الدعوى وأخرج السائق من السجن معتذراً له، قائلاً: "عندما دهست ولدي إنزعجتَ وتألّمت، وعندما أدخلوك السجن إنزعجتَ أيضاً، وأنا لا أريد أن أجمع عليك الألم والإنزعاج مرتين ولا ذنبَ عليك". هذا السائق الذي نقل الحادثة عبر التلفزيون قال: "لم أرى مثل هذا الرجل، فهو جاء واعتذر مني لانزعاجي بالسجن، وعندما قدمت له مالاً (دية)، رفض أخذه قائلاً: لا يمكن أن آكل لحم ولدي".

هذه الروحية والمناقبية العالية التي عاشها العلامة الشيخ محمود عباس، لم تنحصر فائدتها في عيثرون والقرى المجاورة، أو في الضاحية الجنوبية، وإنما تعدّى ذلك ليكون الحديث عن الشيخ محمود، الحديث عن العالم القدوة الذي يصلح لأن يُقتدى به في كلّ مكان وزمان، ونحن اليوم عندما ننقل هذه المناقب وهذا السلوك الرائع للشيخ محمود عباس، فإننا بذلك نقدّم حُجةً قوية علينا أمام الله تبارك وتعالى، وهذا يتطلّب منّا أن نبحث عن الطريقة والنهج الذي سار عليه الشيخ محمود حتى وصل إلى هذا المقام السامي والمرتبة الرفيعة.

اخبار مرتبطة