استدان خمسة دنانير وعندما سأله أحد زملائه هل معك مال؟ دفعها له..

27/08/2020

استدان خمسة دنانير وعندما سأله أحد زملائه هل معك مال؟ دفعها له..

هذا ما شاهدته وأنا صغير السّن، في بدايات سبعنيات القرن الماضي، عندما كنت بصحبة الوالد المقدّس العلامة الشيخ علي البغدادي، في النجف الأشرف. كان (رحمه الله) عفيف النفس، لم يمدّ يده لطلب حاجة أو مساعدة من الناس، ولا حتى من بيوت المراجع العظام، وكان يأخذ عبادات من صوم وصلاة عن أرواح الأموات ويدفعها بدل أجارٍ للمنزل، ويكتفي بالعيش بالحد الأدنى، من دون تململ، حتى كان يقول لبعض زملائه: لو أرسلوا خلفي إلى لبنان لاستلام أعلى المناصب، سوف أرفضها بدون تردّد، فلذّة العلم، ومجاورة أمير المؤمنين (ع)، لا تُقاسُ بشيء.

وهذا السلوك لم يكن مؤقتاً في النجف، إنما استمرّ معه إلى آخر لحظة من حياته، فلم يجمع مالاً ولم يبحث عن وجاهة، خرج من الدنيا وليس معه شيء من حطامها.

فذات يوم، اضطر ليستدين خمس دنانير، من دلال بيوت اسمه (تركي)، وعندما أخذ المبلغ منه كنا في سوق (الحويش) أمام المسجد (الهندي)، فدخلنا الحرم من باب القبلة، وبعد السلام على الإمام (ع) والزيارة، خرجنا من باب سوق الكبير، وإذ بشيخٍ لبناني، كان زميلاً له، يدخل الحرم، فسلّم وسأل الوالد: هل معك مال؟  فقال له الوالد: نعم، ثم أخرج الخمسة دنانير من جيبه ودفعها له بدون تردّد، أنا هنا انزعجت، لكوني أعرف أنّ هذا المبلغ هو دين، وكان يمكن للوالد أن يعتذر، أو يدفع له نصف المبلغ، وعندما قلت له: لماذا فعلت ذلك؟ قال لي: (الله بيبعت، الرزق على الله عزوجل).

هذا التصرف من الوالد المقدّس الشيخ علي البغدادي، لم أفهمه آنذاك، واليوم يمكن أن نعرف ما هي الروحية والمقام السامي الذي وصل إليه رحمه الله، فهو لم يكن يطبّق حكماً شرعياً، فالشرع المقدس لا يُلزمه بشيء من هذا، ولم يكن الدافع لهذا العمل، هو العلم والصلاة والدعاء والتهجّد، فهناك الكثير من أهل العلم ومن أهل العبادة، ومع ذلك لا يتصرّفون بهذه الطريقة، ولو قلنا أنّ هذا إيثاراً، كان من الممكن أن يدفع له نصف المبلغ، ويبقى عملُه أمام الناس يسمّى (إيثاراً). إذاً الدافع الذي جعله يدفع له كامل المبلغ - وهو في أشّد الحاجة إليه - هو الزهد الحقيقي، الذي لم يعد معه يعنيه شيء من حطام الدنيا، وقد أصلح سريرته إلى حدٍّ لم يعد يشعر بجوعه وجوع عائلته، وبات فقط يحسّ بآلام وحاجة الفقير. فإذا كان قضاء حاجة المؤمن الفقير - وبالأخص إذا كان طالب علم - من أهم الأمور التي تُقرّب من المولى عزوجل، وكان يرى هذا القرب، ويحسّ به، فمن الطبيعي، أن تكون لذّة هذا القرب من الله، أهم بكثير من لذّة حيازته على المال، وبهذه اللحظة هو ينسى نفسه وفقره وجوعه، وجوع عياله.

مقتطف من كتاب مناقب وكرامات علماء جبل عامل، الجزء الأول، من

تصنيف العلامة الشيخ حسن البغدادي العاملي.

اخبار مرتبطة