الشيخ دبوق الطالب القدوة في بنت جبيل

11/12/2021

الشيخ دبوق الطالب القدوة في بنت جبيل

منذ اللحظة الأولى التي وصل بها إلى بنت جبيل كان يمارس دور الطالب القدوة للطلاب، إذ لم يكن موضوع تربية النفس عند الشيخ دبوق مسألة تمني ودعاء، بقدر ما كانت مرحلة تطبيق عملي، وهذا ما ظهر على سلوكه من خلال ممارسة قمة الإيثار حيث قام بخدمة الطلاب، حتى باتوا ينظرون إليه بإكبارٍ واحترام.

وهناك حادثة تكشف ميزة الشيخ دبوق وتميّزه عن زملائه، فقد كانت قرى جبل عامل تحتاج إلى مياه شرب، وكان المجتمع العاملي يستخدم (البرك) العامة، لسقي المواشي والخدمات العامة، ولازالت هذه البرك في بعض القرى، شاهدة على ذلك التاريخ الجميل والقاسي في آنٍ واحد. وأمّا مياه الشرب، فكانت تجلب من العيون والآبار المحفورة في ساحات البيوت، وفي بنت جبيل كان الطلاب يحتاجون لمن يجلب لهم الماء من (العين)، وخصوصاً أنهم استأجروا منزلاً بعيداً نسبياً عن البيوت، وهذه المهمّة كانت تقوم بها النساء، لذلك اضطر الطلاب أن يبحثوا لاستئجار بنتٍ تجلب لهم كل يوم من العين جرّة ماء أو أكثر في قبال أجرة محددة، فأرشدوهم إلى بنتٍ من القرية، فذهب السيد نجيب الدين فضل الله ومعه الطلاب إلى ذلك البيت (الفلاني)، فتحدث السيد إلى والد الفتاة، عن أهمية خدمة طلاب العلم، وأن كريمته سوف تتلقى أجرة مادية لقاء عملها هذا، وجاء جواب والد الفتاة على عكس المتوقع وقال للسيد: "ما عندي بنات للأجار"! وهنا يصف السيد الأمين هذه الحادثة بشيء من اللطافة، وأنهم كطلاب كيف كانوا محدقين بالسيد نجيب، وهو يخطب بذلك الرجل بصوت جهوري، ثم أخذ يستعرض له الروايات التي تتحدث عن خدمة طلاب العلم، وأنّ الملائكة تضع أجنحتها لهم، ومع ذلك بقي الرجل مُصرّ على موقفه الرافض، ولم يتجاوب معه ولم يؤثر به كل ذلك الكلام والمواعظ، وردّ عليه بطلاقة قائلاً له: "لماذا تُعيد الكلام شايفني طبل ما بيفهم"؟! هنا يئس السيد نجيب والطلاب، وعادوا إلى المنزل وهم بِحيرة ولم يعرفوا ماذا يفعلون بأمر ظاهره بسيط لكنه أساسي وصعب، فجلب الماء من العين من الأعمال الشاقة وتحتاج إلى وقت وصبر، لهذا كانوا يعتمدون على النساء في هذه المهمّة. وبينما هم في حالة تفكير، وإذ بالفرج جاءهم من داخل أنفسهم ومن ذلك الشاب الذي انتسب إلى مدرستهم الدينية، وكان في كمال الإنقطاع إلى الله عزوجل، هو الشيخ محمد خليل دبوق المنسجم مع نفسه والراجي مولاه أن يوفقه إلى تطبيق تلك الروايات التي استعرضها السيد نجيب الدين فضل الله، ولم يتردد في أن يقدّم نفسه خادماً لهؤلاء الطلاب مجاناً في سبيل تحطيم صنمية النفس، والحصول على الثواب الجزيل جراء خدمة هؤلاء الطلاب، فقال لهم: "أنا أجلب لكم الماء من العين"، كانت المفاجأة كبيرة عند السيد نجيب والطلاب ولكن الذي هوّن الخطب هو معرفتهم بهذا الطالب الجليل صافي النفس، وأنّ هذا السلوك لم يكن غريباً عليهم إذ هو لا يريد إلاّ وجه الله تعالى، وتربيته لنفسه وإذلالها، وإخراج الصنمية منها، كي لا يبقى هذا مجرد نظريات، بل أن يتحوّل إلى سلوك من دون ادعاء وتبجّح، إذ يجب أن يعرّض نفسه للإختبار الذي يستنكف فعله الكثير من الطلاب، ويعتبرونه لا يليق بشأنهم، بينما الشيخ دبوق لم يكن هذا فعل ادعاء لديه، بقدر ما هو حقيقة كاشفة عن جوهره وعن معدنه وأنّ هذا السلوك سوف يُهيّئه للمستقبل عندما يتصدّى للوعظ والإرشاد، ويُصبح أحد السادة الكبار.

هذه الروحية وهذا المسار، كان بداية الطريق الذي التزمه الشيخ دبوق، وميّزه عن بقية الطلاب، ولم ينفصل هذا المسار عنه مهما تقدّم بالعلم والوجاهة الإجتماعية، وكلّما ارتقى بالعلم درجة، وعند الناس مكانة، زاد من زهده وورعه ومعاقبته لنفسه، وكان يُدرك قدسره، أنّ معاقبة النفس وتأديبها وحرمانها ممّا تُحب هو بداية الطريق نحو إصلاحها ونيل مرضاة الله عزوجل. بهذه الروحية يُصبح النظر إلى وجه العالم عبادة، ويحصل العالم على الفوز في الدارين، ففي الدنيا يكون مِثال العالم المخلص القدوة، وفي الآخرة يُحشر مع الأنبياء والأولياء وحَسُنَ أولئك رفيقاً.

مقتطف من كتاب المنهج الإصلاحي في سيرة الشيخ محمد خليل دبوق، تصنيف العلامة الشيخ حسن البغدادي العاملي

اخبار مرتبطة