ذكريات حيّ الأمين  (المسيحي بائع اللبن)

02/01/2021

ذكريات حيّ الأمين (المسيحي بائع اللبن)

ذكريات حيّ الأمين . .

 

العلامة الشيخ حسن البغدادي العاملي

 

للسيد محسن الأمين ذكرياتٌ كثيرة في مختلف مراحل حياته ، سواء في جبل عامل عندما كان طالباً في مدارسها الدينية ، أو في النجف الأشرف أو عندما عاد إلى سوريا وجبل عامل . .

ذكرياتٌ كثيرةٌ دوّنها في مذكراته ، وبعضُها سجّلها آخرون ، ونحن استعرضنا بعضاً منها في طيّات هذا الكتاب .

وقد أردت هنا أن أستعرض بعضاً من ذكرياته في ( حي الأمين ) للدلالة على القيمة الإضافية لهذه الشخصية الاستثنائية .

والجدير بالذكر ، أنّه يُمكن للمتتبّع أن يُصنّف مجلداً كبيراً في ذكريات السيد الأمين ، وهذه الذكريات ليست حكايةً على سبيل الفكاهة أو التسلية ، إنما تدخل تحت عناوين متعددة من تأسيس منهجٍ تربوي أو فقهي أو اجتماعي ، إلى تطبيقٍ عمليّ لكل تلك المناهج .

من هذه الذكريات نذكر :

المسيحي بائع اللبن

و هي حادثة لايزال يتناقلها أهل (حي الأمين )، الأبناء عن الآباء وقد سمعتُها من أكثر من شخص ، كما قد قرأتها في كتاب (حياة وذكريات في حي الأمين ) للدكتور لبيب بيضون ، وملخص هذه الحكاية :

أن حيّ الأمين الذي كان ولا يزال يسكنه مجتمعٌ متنوع طائفياً ومذهبيّاً ، من مسلمين شيعة وسنّة ، كما يسكنه مسيحيون  ويهود ،  ذات يوم ، قام أحدُ المسحين بفتح (دكان سمانة)في الحي ، وحاول البعض من المسلمين  أن يمنع الناس من التردّد على هذا الدكان ، تحت حجّة أنّ هذا مسيحي ولا يجوز  الشراء منه ، وخصوصاً تلك الأمور التي يُشترَط فيها الطهارة ، حيث كان هذا البقّال يبيعُ (الألبان ).عندما أُخبِرَ السيد الأمين بالحادثة ، عمد إلى معالجة  المشكلة  بطريقة غير تقليدية ، إذ لو منعَ من هذا الكلام وقال لذلك الرجل : هذا الكلام الصادر عنك غلط ! لما كان نافعاً، ولأخذ الموضوع جدلاً بلا فائدة . لهذا أراد السيد أن يُعالج هذا الموضوع عمليّاً، فذهب بنفسه مع جماعة  من المؤمنين إلى ذلك الدكان وقال لصاحبه : يقولون عندك لبن طيب . ثم غرف بوعاءٍ وشرب منه أمام الجميع ،كما اشترى منه كميةَ من هذا اللبن .

ومن الطبيعي أن يُحدث هذا التصرف استهجاناً لدى الحضور ، وخصوصاً أنه مزروعُ لدى أذهان الكثيرين مسألة (نجاسة أهل الكتاب )، في حين أنّ المبنى  الفقهي للسيد قدس سره هو طهارة أهل الكتاب ، كما هو مبنى العديد من الفقهاء ، الذين يُدركون خطرَ ذلك الكلام على مشروع التعايش الإسلامي – المسيحي ، وعلى الحوار بين المسلمين  والمسيحيين ، وعلى مشروع الوحدة الوطنية التي نحتاجها  في مواجهة  التحديات الكبرى  وخصوصاً أنّهم يعيشون في العهد الفرنسي  الذي  يعمل ليلاً نهاراً على الفتنة بين المسلمين والمسيحيين .هذا ناهيك عن المشروع الإسلامي الكبير الذي يريد أن يتّسع ليشمل كل الأديان والملل؛ ليفتح معهم باب الحوار والنقاش ؛ كي تبقى الأمة المتنوّعة  طائفيا ومذهبيّاً بمنأى عن أطماع العدو ، كي لا ينفذ إلى بُناها  التحتية  فيشتّتها ويغزو بلادها وينهب  ثرواتها ، لهذا كان لا بدّ من تأسيس الفقه الاجتماعي الذي نحتاجه في كل المراحل ، حتى في زمن الظهور  لمولانا صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه

ومن الآثار التي ترتّبت على هذا الموقف الحكيم الصادر من السيد الأمين ، أن رئيس المسحيين البروتستانت توفيق سلوم ،لمّا سمع بالحادثة ، أرسل خلف الحاج سعيد الخياط ، وأخبره بوصول أربع شاحنات طحين من (إنكلترا) وأن حاجتهم منها هي ثلاثة ، ويمكن الاستفادة  من الشاحنة الرابعة . وبالفعل ، قبل  الحاج سعيد بها وطلب إرسالّها إلى المدرسة (المحسنية ) ؛ كي تُوزّع على الفقراء  من المسلمين والمسحيين ، فسُرَّ السيد سلوم  وصار يبعث الطحين  دائماً.

 

نقلاً عن كتاب المنهجُ العلمي والإصلاحي في فكر العلّامةُ المُجتهد السيّد مُحسن الأمين (طاب ثراه)، الشيخ حسن البغدادي العاملي، الجُزء الأول، الصفحة 247.

اخبار مرتبطة