٥٨

(بطاقة عالم)

العلامة الشيخ
موسى بن عبد
الكريم شرارة

ولد في النجف الأشرف في الخامس عشر من شهر محرم الحرام سنة ١٣٢٦هـ، والشيخ موسى هو حفيد العالم الكبير الشيخ موسى أمين شرارة في (بنت جبيل). تخرّج الشيخ موسى عبد الكريم على أساطين الحوزة العلمية في النجف، فدرس (السطوح) مع زميله الشيخ محمد جواد مغنية على أخيه الشيخ عبد الكريم مغنية، الذي كان من فضلاء الحوزة، وحضر البحث الخارج على السيد أبو القاسم الخوئي، والسيد جمال الكلبيكاني، وكان معه في الدرس السيد هاشم معروف الحسني وغيرهم.

ذهب إلى منطقة (الحمزة) وكيلاً للمرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني، وبقي ثمانية أشهر، كانت كافية لأن يختبر نفسه في القدرة على التحمل والصبر في سبيل الإرشاد وإصلاح المجتمع.

عاد إلى لبنان سنة ١٩٣٩م بطلبٍ من أخيه الشيخ محسن شرارة، بعدما رتّب له أموره مع الشيخ حبيب آل إبراهيم، حيث اتفقا على تزويجه من كريمة الشيخ حبيب، على أن يسكن في مدينة الهرمل كإمام لهم، ويقوم بالوظيفة الدينية، وبالفعل سكن مدينة الهرمل وأصبح مفتياً فيها، وترك آثاراً طيبة على مدى عشرات من السنين، عاملاً بالوعظ والإرشاد وإصلاح ذات البين، كما شيّد بعض المؤسسات الدينية والإجتماعية.

إرتحل إلى الرفيق الأعلى سنة ١٩٩٨م ودفن في (الهرمل) ولا زال ذكره على لسان الناس، يتذكرون مواقفه وحنانه عليهم، فكان العالم العابد المخلص الذي حمل همّ إصلاح المجتمع.

مقام العلّامة المقدّس

الشيخ محمد خليل دبوق (طاب ثراه)

الولادة ١٢٦٧هـ - الوفاة ١٣١٧هـ

السنة الخامسة ــ العدد الثامن والخمسون ــ تشرين الأول ٢٠١٦م ــ محرم ١٤٣٨هـ.

شخصية العدد

الشيخ محمد خليل دبوق

من علماء القرن الرابع عشر هجري، جمع بين العلم وكمال النفس، ومن الذين وفقهم الله تعالى لنيل مرضاته، وبلوغ الدرجات السامية في تربية نفسه والحصول على ملاكات الكمال، فكان منسجماً مع نفسه، محاسباً لها في الليل والنهار، كان يحتاط في الحلال كي لا يقع في الشبهات، وهذا لم يأتِ نتيجة قرارٍ اتخذه، بل سلوكٍ هذّب نفسه عليه، فأذلّها في طاعة الله، ففتح الله له باب الرشاد، فلم ينافس أحداً على حطام الدنيا ولم يحسده، ولم يتمنَّ ما هم عليه، راجياً ربه خائفاً من ذنبه، لم يغفل عن ذكر الله تعالى، كان خاشعاً ذاكراً عابداً زاهداً، ولم يمنعه زهده وتركه لحطام الدنيا، من القيام بالوظيفة الدينية، فكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر مبلغاً لأحكام الله، محيي سنن نبيه P، له هيبة عند العامة، واحترام عند العلماء، فلم ينتظر ثناءً ولا شكراً من أحد، وكان منسجماً مع الدعاء الشريف: (إلهي إن رفعتني من ذا الذي يضعني، وإن وضعتني من ذا الذي يرفعني).

ولد الشيخ محمد دبوق في قرية (خربة سلم) من جبل عامل في حدود سنة ١٢٦٧هـ، فأهل التراجم لم يتعرضوا إلى تاريخ ولادته، وإنما يُستوحى تاريخ ولادته من خلال زمالته للسيد محسن الأمين الذي ولد سنة ١٢٨٢هـ أو ١٢٨٤هـ، وكانا معاً في مدرسة الشيخ موسى شرارة في (بنت جبيل)، والسيد الأمين عندما يذكر بعض الحوادث يقول : «إن الشيخ محمد دبوق كان أكبر منا سناً».

نشأ الشيخ محمد دبوق في جبل عامل، فشرع في الدرس على السيد جواد مرتضى من (عيتا الزط) عندما عاد من النجف الأشرف سنة ١٢٩٧هـ، فدرس عليه النحو وكان معه جملة من الطلبة منهم: السيد محسن الأمين، وكان الشيخ محمد دبوق لا يتردّد أن يطلب من أستاذه إعادة المطلب، إذا لم يفهمه، وكان يحرص على فهم الدرس قبل أن ينتقل إلى البحث الآخر.

وعندما حضر الشيخ موسى أمين شرارة من النجف الأشرف للعلاج سنة ١٢٩٨هـ، بدأ حركته الإصلاحية في (بنت جبيل)، وصيته العلمي سبقه إلى جبل عامل، قام به بتشييد مدرسة دينية تخرّج الطلاب، و بعض طلبة العلوم الدينية كانوا يحضرون على الشيخ محمد علي عز الدين في (حناويه)، فقرّروا الإلتحاق بمدرسة الشيخ موسى في (بنت جبيل)، حيث كان صاحب فضيلة علمية متقدمة، وفي النجف الأشرف كان يُدرس البحث الخارج، ومن جملة الطلبة السيد نجيب فضل الله الذي تصدّى لتدريس المقدمات في مدرسته، واستمروا في تلك المدرسة حتى رحيل الشيخ موسى سنة ١٣٠٤هـ، ورغم قساوة العيش إلا أنها كانت أياماً جميلة، ارتحلوا عنها بعد رحيل المؤسّس. لكن بقيت هناك ذكريات، لا زالت الأجيال تتناقلها، ومنها: كان الطلاب يحتاجون إلى من يجلب لهم الماء من (العين) بسبب بُعدْ البيت الذي يسكن به الطلاب عن البلدة، فاضطر السيد نجيب فضل الله أن يذهب إلى أحد البيوت ليطلب من صاحبه أن يستأجر كريمته لتملأ الجرّة بالماء من العين كل يوم في قبال أجرة محددة، وذهب معه بعض الطلاب، ومنهم: الشيخ محمد دبوق، والسيد محسن الأمين وآخرون، ولما وصلوا دار الرجل، لم يتجاوب معهم، وحاول السيد نجيب أن يقنعه من خلال عرض الروايات التي تحث على إعانة المؤمنين، فكيف إذا كانوا من طلبة العلوم الدينية؟! ولكن كُلّ هذا العرض لم ينفع، وعندما حاول السيد نجيب أن يُعيد عليه بعض الكلام علّه يقتنع بالفكرة، ردّ الرجل عليه: «أنظر ما أنا بطبل حتى تنفخني، وليس عندي بنات لجلب الماء»، وعاد السيد نجيب مع الطلاب يجرون أذيال الخيبة، ولكن الشيخ محمد دبوق ــ مع أنه أكبر سناً من الطلبة ــ عرض على السيد نجيب أن يقوم بهذه المهمّة وأن يجلب لهم الماء بنفسه، وهذه الميزة والروحية التي حملها الشيخ محمد دبوق هي التي أوصلته إلى مراتب عالية في كمال النفس وصفائها فهذا السلوك من الطيبة والتواضع، هو الممر الإجباري إلى رضا الخالق وحب المخلوقين له.

وينقل الشيخ محمد جواد مغنية كما نشر في مجلة العرفان، نقلاً عن السيد عبد الحسين شرف الدين، أنه مضافاً لإعجابه بسلوك الشيخ محمد دبوق، هو أيضاً يقدم عنه شهادة علمية، تجعل الذين يعتقدون أن الشيخ محمد دبوق هو رجل متواضع علمياً ومتواضع مسلكياً يجعل تقييمهم غير دقيق، فكلام السيد شرف الدين، يُفند هذا الموضوع، لكن ليس معنى ذلك أن نضع الشيخ دبوق في مصاف السيد الأمين والسيد شرف الدين، والشيخ حسين مغنية والشيخ عبد الكريم مغنية وغيرهم، إلا أنه لا شك قد حاز على فضيلة علمية أهلته للقيام بالوظائف الدينية في جبل عامل، فعن موقعه العلمي، قال السيد شرف الدين: « كان الشيخ محمد دبوق مقدماً في العلوم العربية كلها، مثقفاً فاضلاً في الفقه وأصوله، معدوداً في حفظة الحديث وإثباته، مقرئاً للقرآن، وفي تفسيره ضليع، أخذ العلوم عن جماعة من أعلام جبل عامل، كالشريف العلامة السيد جواد مرتضى في (عيثا) ، وعلم عاملة في وقته الشيخ موسى شرارة في (بنت جبيل)، وأخذ في (شحور) عن سيدنا الوالد أعلى الله مقامه، مدة طويلة، فكان أفضل حوزته الشريفة، ثم هاجر إلى طلب العلم في النجف الأشرف، فأخذ القوانيين في أصول الفقه عن الشريف السيد نجيب فضل الله الحسني، كما قرأ عليه الرسائل في الأصول للإمام الشيخ مرتضى الأنصاري، وأخذ عن عدّة من أعلام ذلك العصر».

وقال عنه السيد الأمين: «كان عالماً فاضلاً شاعراً، أديباً تقياً ورعاً صالحاً زاهداً عابداً».

أما طريقة التبليغ الديني والأمر بالمعروف عنده، فكانت له طريقة خاصة مؤثرة في الآخرين، تنبع بالدرجة الأولى من تطابق أقواله مع أفعاله، وهذا التطابق كان له أثر بالغ في نفوس الآخرين، مضافاً لأسلوبه المقنع وغير المحرج، فنحن في بعض الأحيان لا نميّز بين النصيحة والإدانة، فالناس لا يرغبون في إدانتهم، ولا يرفضون النصيحة الصادقة، فعلى سبيل المثال: ذات يوم كان في جلسة، فاستغابوا إنساناً، فقال لهم مرتجلاً:

نحن ما بينكم في حالة

قلّ أن نقضي منعا عجباً

إن سكتنا مسّنا الضر وإن

نحن لم نسكت أسأنا الأدبا

بهذه الموعظة الحسنة، أفهم الجالسين أنهم يؤذون جليسهم، وأخجلهم بهذا الشعر الإعتراضي، وبهذا الأسلوب وصل إلى مبتغاه، من دون أن يجرح مشاعرهم.

وتنقل حادثة أخرى: كان في جملة علماء في مجلس الأمير خليل بك الأسعد، فسأل الحاضرين سؤالاً شرعياً عن حكم الصيد، فسكت الجميع، وأجاب الشيخ محمد دبوق، قائلاً: «إن صيد مثلي حلال، لأنّ فيه قوتي وقوت عيالي، وأما صيد أمثالك فحرام، لأنه لهو وباطل، وأخذ يشرح ويوضح المسألة من الناحية الشرعية»، وكان الأمير لا يعرفه، فسأل الحاضرين عنه، فقالوا: «إنه الشيخ محمد دبوق»، وأضاف الشيخ دبوق: « والدي سكّاف وأنا كنت سكّاف»، فقال له الأمير: من أين تعيش؟ فأجابه: إنّ الذي خلقني تكفل برزقي، فأعجب جوابه الأمير وأمر له بصلة، ثم التفت للعلماء، وقال لهم: « أنا مؤمن، فلماذا تبخلون على بالنصيحة».

أما زهده وورعه

فتنقل عنه حكايات عجيبة، فمنها كان يرتدي عباءة عجيبة غريبة، يجلس عليها بالنهار، وبالليل يلتحف بها، وأمّا المخدة فإنها كانت تشبه كل شيء إلا المخدة، وأنشد بها شعراً، كما يروي السيد الأمين:

ورب مخدة زرقاء أمسى

لها حشو يفوق الشوك لينا

جعلت رباطها البابير كيما

تزيد ملاحة وتقل شينا

وفي قصة أخرى كان يملك ما يُسمى بالبيت ويكاد أن يسقط على الأرض، وكان البعض يصر عليه أن يبني له بيتاً أو يُرمّمه كحد أدنى، وكان يرفض بشدة، ويقول لهم: « بيت العنكبوت كثير على من يموت»، وعندما حملوا جثمانه إلى الجبانة، وما أن وضعوه في القبر، حتى سقط البيت على الأرض وكأن الله تعالى لا يريد لهذا الشيخ الجليل أن يبقى له شيء من حطام الدنيا.

وأيضاً من جملة القصص ما حصل بينه وبين السيد نجيب فضل، إذ ينقل الشيخ مفيد الفقيه عن جدّه الشيخ يوسف الفقيه الذي كان طالباً في مدرسة (عيناتا)، ملخصها الآتي: أن الشيخ محمد دبوق كان يتردّد إلى مدرسة (عيناتا) التي كان رئيسها السيد نجيب فضل الله، وإذ بوقت الصلاة قد دخل، فعندها قام السيد نجيب فضل الله بتقديم الشيخ محمد دبوق لإمامة الجماعة ليصلي بهم صلاتي الظهر والعصر، والشيخ دبوق يرفض ذلك بشدة، ولكن ما كان إلّا أن تقدم نتيجة الإصرار الشديد للسيد نجيب، وبعد الصلاة، قال السيد: «أسأل الله تعالى أن يُحلّ عني عُقداً في يوم القيامة بهذه الصلاة، ويبارك قلوب هؤلاء الذين أئتموا بكَ».

ومن سيرة حياته أيضاً، (صلاة الإستسقاء): عندما حبست السماء ماءها في إحدى السنوات، اجتمع العلماء والناس بين بلدتي (قبريخا) و(مجدل سلم)، وكان الشيخ محمد دبوق أصغرهم سناً، فطلبوا إليه أن يؤم المصلين، ولكنه رفض بشدة، وهم أصرّوا عليه ثم أخذوا بيده، وكأنهم يجرونه إلى الصلاة، فتقدم عندئذ إلى الصلاة ودموعه تنهمر على خديه، وإذ بالمطر يهطل مباشرةً بعد الصلاة.

وذات يوم دعاه صديقه الشيخ أحمد بري إلى الغداء، ووضع له ورق عريش محشواً باللحمة والأرز، وبينما هو مشغول بالطعام، توقف الشيخ دبوق فجأةً فتعجب صاحب المنزل، وسأله عن السبب، قائلاً: «هل هناك عيب؟»، فردّ عليه الشيخ دبوق: «أبداً، وإنما توقفت لطيبه فقد وجدت نفسي مقبلةً على الطعام بشره، فأردت معاقبتها».

هذه القصص تكشف عن مراقبة الشيخ دبوق لنفسه ومحاسبته لها، وأنه لا يُعطيها ما تريد، وإذا قصرت نفسه فيما يُرضي الله تعالى، عاقبها فيما تُحب، هي التي أوصلته إلى هذه المكانة السامية.

وبتقديري، فإن أَهمّ شيئين كان يبتعد عنهما الشيخ دبوق: المال والنساء، وهما شباك الشيطان، فيروي السيد الأمين وغيره، أنه إذا كان ماراً بالطريق ورأى امرأة، يُدير وجهه على الحائط كي لا يرى ما أحله الله من بروز الوجه، فالنظر هو المقدمة الموصلة لأي حرام، لذلك كان يقطع الطريق على نفسه بغض النظر، كما قال تعالى: }قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم{.

وأما شعره وأدبه:

فلم يكن شاعراً ينظم الشعر فقط، وإنما كان يمتلك القدرة على نظمه عند الحاجة، ولم يكن شعره ترفاً، وإنما كان له مدلول، كرد الغيبة، أو توصيف قضية حدثت، إلخ...، فذات مرة استعار أحدهم منه كتاباً، وكان مجلداً تجليداً أنيقاً، وذات يوم احتاج هذا الرجل لجلدٍ ليضع فيه حرزاً، فما كان منه إلا أن قص جلد الكتاب وجعل فيه الحرز، وعندما طلب الشيخ دبوق الكتاب، وجده معيباً، فأنشد بيتاً من الشعر، مستنكراً هذا العمل بأسلوب أدبي فقال:

وقد يُهلكُ الإنسانُ كثرةَ مَالهِ

كما يُذبحُ الطاووسُ من أجلِ رِيِشهِ

وهناك قصيدة أرسلها لابن عمه الحاج حسن دبوق:

لله أزمان سرور زهت

ما بين أرام ربى نجد

في ساحة فيحاء تهدي لنا

في كل آن أرج الند

يخالنا الرائي بها انجما

طوالعاً في فلك السعد

إخوان صدق لم يشب صفونا

يساقط الهمة أو رغد

نكرع صهباء الصفا من يد

أو مرشف أحلى من الشهد

كأننا بين رياض المنى

رواتع في جنة الخلد

في فتية نبل كأن الهنا

منهم وهم منه على وعد

من كل فتان ظباً لحظه

تزري بفعل الصارم الهندي

وغادة معطارة لم تقف

من بارع الحسن على حد

فارقتها والقلب مغري بها

والنار تذكيها يد البعد

أقسم لا حالفت طيب الكرى

ولا توسدت على زند

ولا طويت القلب إلا على

ما ليس يسطاع من الوجد

ولا شربت الراح ما لم أطا

بأخمصي سالفة الضد

وأبلغ القصد بلقيا فتى

أحرز أقصى رتب المجد

عزي وكنزي والهمام الذي

أصبحت فيه وارى الزند

إنسان عين المجد روح العلى

باهي السنا واسطة العقد

وله بعض الشعر المحفوظ عنه:

إذا رمت أن ترقى إلى الرتبة العليا

وتبلغ قدراً شامخاً فاهجر الدنيا

وكن ذا اصطبار عند كلّ ملمة

ومت قبل وقت الموت أن شئت أن تحيا

هذا بعض من غيض شعره، الذي نكتشف أنه كان شاعراً وأديباً، ولكن مع الآسف لم تُجمع له أشعار في ديوان مستقل، وضاع معظم شعره، وربما بعض تراثه العلمي، كما ضاع الكثير من تراث علماء جبل عامل، إما بسبب جهل الورثة، أو الخوف من السلطات المتعاقبة على هذا الجبل الشريف.

لم تطل أيامه في العراق بسبب المناخ السيء الذي لم يلائمه، فمرض في النجف الأشرف مما اضطر للعودة سنة ١٣٠٨هـ، وهذا ما قاله السيد الأمين أنه التقى به راجعاً إلى لبنان، وهو في طريقه إلى النجف الأشرف.

سكن في حي الأمين من دمشق، قبل السيد محسن الأمين، وكان قد تحمل الصعاب في سبيل هداية الناس، وعَرّضَ حياته للخطر من قبل بعض السفلة، وسمعت ذات مرة من العلامة السيد علي بن العالم الكبير السيد حسين مكي الذي سكن حي الأمين: أن الشيخ محمد دبوق هدده ذات يوم أحد وجهاء حي الأمين، وأراد قتله، ثم رآه في اليوم التالي، فقال له: «لا تخف، لقد هددني أمير المؤمنين Q بالمنام، وقال لي: لو اعتديت على الشيخ لكسرت ظهرك، ولولا تهديد الإمام علي  Q لقتلتك».

ثم عاد إلى جبل عامل، وسكن خربة سلم، وأكمل تحصيله العلمي على العلامة السيد علي محمود الأمين في شقراء.

وفاته ورحيله:

عندما دنت منه الوفاة أرسل إلى أستاذه السيد علي محمود الأمين يخبره بدنو أجله، وكأنه كان يعرف ذلك، فكتب بعض الأبيات ودفعها لشخص ليوصلها بسرعة إلى السيد الأمين في شقراء، ومما قاله:

يا قاصداً شقراء زر

سامي الذُرى مُحي الفَضَائلِ

حامي شريعةَ جَدّهِ

عن أن تُصَابَ بِسهمٍ صائلِ

وألثُمْ يديه وقل لَهُ

عَني مَقالَة غيِرِ غافلِ

إنّي أخصُّكَ بالسّلامِ

وبَثِّ أشواقيَ القواتلِ

وأقولَ قَولَ محقّق

أني إلى مولاي راحلِ

وعندما وصلت القصيدة إلى السيد علي محمود الأمين، طلب من الحاضرين أن يعجلوا بالذهاب إلى (خربة سلم)، علهم يدركوه، ولكنه كما قال، لم يدركوه وفي الطريق وصلهم خبر رحيله، وكان ذلك في يوم الجمعة في الخامس من محرم الحرام سنة ١٣١٧هـ.

نظمت جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي

بالتعاون مع بلدية (بدنايل) البقاعية، إحتفالاً تكريمياً

لسماحة العلامة الحجة
الشيخ حسن المصري الكرماني العاملي

بدايةً، تحدث عضو المجلس المركزي في حزب الله سماحة الشيخ حسن بغدادي، وممّا قاله:

أيها الحفل الكريم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

يقول أمير المؤمنين علي Q: «هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة، يا كميل العلم خيرٌ لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال».

العلامة الحجة الشيخ حسن المصري الكرماني العاملي كما سمّى نفسه، من علماء القرن الرابع عشر للهجرة، ومن الكوكبة التي قيّضها الله تعالى لحماية هذا الدين، ونشر شريعة سيد المرسلين.

عُرفت عائلة الشيخ حسن بعدّة عناوين، وأسماؤها كانت بحسب الأمكنة التي ارتبطت بها، عُرفت بالحكيم، لأنها كانت تمارس الطب، فوالده الدكتور الحاج محمد حسين الحكيم كان من الأطباء، هاجر إلى مصر وبحوزته وثيقة من الحكومة الإيرانية تطلب فيها من حكومة مصر أن تمنحه الإقامة بلقب د. محمد حسين الحكيم.

وفي مصر، مارس الحاج محمد حسين مهنة الطب، وحاز على مكانة مرموقة لدى الخديوي إسماعيل حاكم مصر في ذلك الزمان، حيث استطاع أن يعالج كريمته التي لم يتمكن من علاجها الأطباء الفرنسيون.

وفي هذا اللقاء التكريمي، سوف أسلط الضوء على شخصية الشيخ حسن الكرماني ضمن محطات ثلاث:

المحطة الأولى: كانت في إيران، في عهد حكم العائلة القاجارية المنحدرة من إحدى قبائل القزلباش البدوية من التركمان، والتي قامت بتصفيات دموية على الساحة الإيرانية، ممّا مكنها من استلام السلطة على كافة الأراضي الإيرانية، وكان الشاه ناصر الدين القاجاري اللعين مولعاً بحب الأجانب والبريطانيين، وهو الذي أشار على زعماء اليهود بأن يشتروا أراضٍ عندما زار بريطانيا، ويشيدوا عليها دولةً لهم، وهو الذي باع إيران بالكامل للسلطات البريطانية، حيث تمّ تقسيمها بين روسيا وبريطانيا.

أمام هذا الواقع الجديد، بات السكوت عما يحصل أمر صعب ولا يطاق، ولهذا نهضت حركة إصلاحية لمواجهة ناصر الدين شاه، من قبل المصلح المجدد السيد جمال الدين الأفغاني الأسترآبادي. وأنا ضد كل الذين تعرضوا لهذا السيد الجليل واتهموه، وهم في الغالب كالوا له الاتهامات حسداً وكيداً، أو من المناوئين الذين لا يريدون أن يروا جميلاً لهذا الرجل العظيم الجليل، والسيد جمال الدين الأفغاني استطاع أن يحقق عدّة أمور، سأذكرها باختصار لما لها من علاقة بالمناسبة.

أولاً: عمل السيد الأفغاني على مواجهة ناصر الدين القاجاري، واستطاع أن يفتي لتلميذه الشيخ رضا الكرماني بقتل جرثومة الفساد ناصر الدين القاجاري. والشيخ رضا الكرماني كان شاهداً على إهانة أستاذه الأفغاني من قبل الشاه ورجاله، وذلك عندما سحبوه في الشارع من داخل مرقد الشاه عبد العظيم الحسني ليبعدوه خارج إيران، وأيضاً الشيخ رضا نفسه عانى من التعذيب أياماً وليالي في سجن الشاه. بناءً على كل ما سبق، صمّم الشيخ رضا على قتل الشاه في مقام الشاه عبد العظيم الحسني، أي في المكان ذاته الذي كان شاهداً فيه على إهانة أستاذه من قبل الشاه ورجاله.

طبعاً، أنا هنا لا أعرف إذا كانت توجد علاقة بين المكرّم الشيخ حسن الكرماني وبين الشيخ رضا الكرماني قاتل الشاه القاجاري، لأن هذا الموضوع يحتاج إلى تدقيق وبحث، ولكن ما نريده اليوم في هذا الحفل هو تكريم عالم، وليس الدخول في نقاشات وتفاصيل لا تخدم هدفنا الرئيسي.

السيد جمال الدين الأفغاني الأسترآبادي، قام بإطلاق حركة المشروطة التي قادها الشيخ الآخوند الشهير (صاحب الكفاية في الأصول)، والمجدد السيد محمد حسن الشيرازي، وهنا يؤخذ على السيد الأفغاني أنه وجّه رسالة قاسية إلى المرجع الديني السيد محمد حسن الشيرازي، يطالبه فيها بإصدار فتوى ضد الشاه ناصر الدين القاجاري. وأنا قرأت نص تلك الرسالة، وهي صحيح قاسية نوعاً ما، واعتبرها البعض تحمل الإهانة، إلا أنها لم تخرج عن حدود الأدب، وهي كما نعلم تصدر عن رجل علم مسؤول، ومما قال فيها: «أيها العالم الجليل، أنت عليك أن تصدر فتوى، وأن الفتوى التي سوف تصدرها، سوف تترك أثراً بالغاً، لأنها مهمة حتى ولو أدت إلى استشهادك». وكلنا يعلم أن السيد الشيرازي ساهم في إطلاق حركة المشروطة، وأنا أتكلم بهذا الكلام الآن، لأن له علاقة بالشيخ حسن الذي أطلق العنان لمشروع الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب، ومواجهة النفوذ الأجنبي داخل البلاد العربية والإسلامية مقتديا بالسيد جمال الدين الأفغاني، مع العلم أنه لم نتمكن من إثبات وجود علاقة تربط الشيخ المصري والسيد الأفغاني سوى سيرهما على نفس الخط والمنهج والمشروع. ومن مزايا السيد الأفغاني ــ أيضاً ــ تهيئته تلاميذ له واعين ومخلصين، حملوا مشروعه وعملوا على تنفيذه في أماكن تواجدهم، وكما يجب أن لا نغفل عن نشاطه الفكري والثقافي حيث قام بالتصنيف والتأليف، وإصدار دوريات شهرية، منها: (العروة الوثقى) التي كانت تصدر عنه وعن الشيخ محمد عبده.

أيها الأخوة والأخوات، أي رجل إصلاحي حتى ينجح يلزم أن يمر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: عليه أن يعمل على صقل شخصيته العلمية والفكرية معاً، حتى يصبح ذا تأثير في مجتمعه ومحيطه.

المرحلة الثانية: عليه أن ينفتح على علماء المذاهب الإسلامية ، يدرس عليهم وينسج معهم علاقات.

المرحلة الثالثة: عليه البحث عن مكان ملائم ينفذ فيه مشروعه المزعوم، مع مراعاة الزمان.

ومن نماذج رجالات الإصلاح التي يمكن أن نطرحها كمثال:

الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني الذي قتله المماليك سنة ٧٨٦هـ في دمشق، درس الشهيد الأول في مدرسة العلامة الحلي في (الحلة) من العراق، ثم طاف على عواصم العالم العربي، ودرس على أربعين شيخاً من علماء المذاهب، ثم عاد ونفذ مشروع الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب في دمشق.

الشهيد الثاني زين الدين الجبعي، الذي استشهد في اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية في ٨ شعبان من سنة ٩٦٥هـ، كانت دراسته الأولى في قرية (ميس) من جبل عامل على زوج خالته المحقق الميسي، وعلى السيد جعفر الكركي في (كرك نوح) من البقاع، ثم ذهب بعد ذلك وطاف على مدن وعواصم العالم العربي، فدرس على خمس وعشرين عالم سنياً، ثم زار عاصمة الدولة العثمانية في سنة ٩٥٢هـ، والتقى فقهاء الدولة العثمانية، ثم أخذ وظيفةً منهم، وأتى إلى بعلبك، وأقام فيها ثلاث سنوات، ثم يكتب بخطّ يده عن الأيام التي قضاها في بعلبك، أنها كانت من أهم الأيام وأجملها، لماذا؟ لأنه كان يدرّس على المذاهب الإسلامية الخمسة، وكان يريد أن يُطلق المشروع الذي ابتدأ به الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني، مع العلم أنهما ــ الشهيد الأول والثاني ــ استشهدا في سبيل مشروع الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب.

السيد جمال الدين الأفغاني، أيضاً تصلح سيرة حياته لأن تكون قدوة لمن يريد أن يكون رجل إصلاح.

إذاً، بناءً على ما تقدم، يمكننا فهم السبب الرئيس من وراء مجيء الشيخ حسن المصري الكرماني إلى لبنان، وهل كان قدومه إلى لبنان بهدف إمامة قرية؟ أو إقامة الجماعة؟ أو التعليم؟ أو أنه كان يبحث عن مأوى ومسكن؟ أو كان هارباً؟ أو شارداً؟...

الشيخ حسن المصري، كان يحمل فكر السيد جمال الدين الأفغاني، وكان رجلاً من رجالات العلم والإصلاح الكبار. درس في الأزهر الشريف طبق المذاهب الإسلامية الأربعة، ولكنه لم يكتفِ بذلك، بل قام بدراسة علوم القرآن والتجويد واللغة لأنه كان من الذين يعتقدون بوجوب التجويد إنطلاقاً من قوله تعالى: (ورتل القرآن ترتيلا)، ولأجل ذلك صنّف كتاباً سمّاه (تنوير الأذهان في تجويد كلام الرحمان)، والذي قام بتقريضه الشيخ عبد الرحمان سلام اللبناني المقيم في بيروت، بتقريضه بأبيات جميلة من الشعر، منها:

هذا الكتابُ حَوى قواعدَ جَمةً

ضمّتْ فوائِدَ ما لهنَّ مَثيلُ

فيه لترتيل الكتاب مسائلُ

وأَهمُّ شيءٍ عندَنَا الترتيلُ

ضَمنتْ لأذهانِ الورى تَنْويرَهَا

فكأنما هي للنُهى قِنديلُ

يا فوز من للآلى باتت مرتلاً

وله على مضمونها تعويل

تأليفُ أستاذٍ عظيمٍ قَدرهُ

ومقَامهُ بينَ الأنِام جَليلُ

حسنُ الذي حَسنُ القريضُ بوصفهِ

فجميعُ نَظمِ المدحِ فيه جميلُ

بحرُ خِضمُ ضمّ كُلَّ فضيلةٍ

كمْ فاضلٍ في جنبه مَفضولُ

شاهدتُه فشَهدتُ بحرَ معارفٍ

في لُجهِّ المنقولُ والمعقولُ

وصَحبتهُ فرأيتُ منه مُنجزاً

شَرواهُ بينَ العالمينَ قَليلُ

أنا في قريضي قاصرٌ عن مدحه

فجميعُ تقريضي لهُ تَمثيلُ

المحطة الثانية: بعد انتهاء الشيخ الكرماني من الدراسة في الأزهر، لم يكتف بما حَصله من علوم، ولأجل ذلك قصد النجف الأشرف، ودرس على الأساطين، ومنهم كبير فقهاء العرب الشيخ محمد طه نجف الذي كان أستاذاً للشيخ موسى أمين شرارة والسيد عبد الحسين شرف الدين والسيد محسن الأمين والشيخ حسين مغنية والسيد يوسف شرف الدين، وغيرهم من العلماء باختلاف مراحلهم.

وفي النجف الأشرف، أعطى الشيخ محمد طه نجف، الشيخ حسن الكرماني شهادة وليست وكالة، وهناك فرق بين الوكالة والشهادة، ومما قاله بحقه:

« وممّن وفّقه الله تعالى لتحصيل تلك المرتبة العظيمة، ومنحه الله المنحة الربانية، جناب سيد العلماء وسند الفقهاء، العالم العامل والفاضل الكامل الشيخ الوفي والفقيه الصفي، والتقي النقي الشيخ حسن محمد حسين الحكيم ، وقد بذل جهده في تحصيل العلوم، وحضر محضرنا ومحضر جمع من العلماء الراشدين في مدة إقامته في جوار أمير المؤمنين Q، وتحمّل في التحصيل مشقةً عظيمة، فبلغ بحمد الله من الفقه والأصول وغيرهما من أنواع العلوم مبلغاً عظيماً، فصار والحمد الله من أعزة العلماء وأجلة الفقهاء، فله ما يكون لهم من الإكرام والإحترام ومتابعة الخواص والعوام، فليحمد الله على هذه المرتبة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم، فله التصرف في الأمور والتصدي لجميع ما يتصدّى به حكام الشرع الشريف، وليس لأحد معارضته...»

الراجي عفو ربه

محمد طه نجف ١٣٢٠هـ

وبعد الإطلاع على هذه الشهادة، نعرف أن الشيخ حسن كان من كبار الفقهاء، لأن هذه الشهادة ليست من شخص عادي، بل من كبير فقهاء العرب الشيخ محمد طه نجف، وهو عندما يعطي شهادة لا يكيل المدائح والصفات الجميلة في شخص ليس أهلاً لها، بل يقوم بإعطاء كل ذي حق حقه، إنطلاقاً من قوله تعالى: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).

وأن وصوله إلى النجف الأشرف كان حوالي سنة ١٣١٠هـ، وأنه في النجف الأشرف كان بنفس النشاط الذي كان عليه قبل وصوله إليها، فعمد إلى التصنيف بالفقه والأصول وعلم الكلام، وصنف أيضاً كتاباً آخراً بعلم التجويد سماه (تسديد اللسان في تجويد القرآن)، وكان قد فرغ من تأليفه في ٢٨ شوال سنة ١٣١٨هـ، أي قبل أن يترك النجف بسنتين.

المحطة الثالثة: في لبنان، بعد أن صقل شخصيته العلمية في النجف، بدأ بتنفيذ ما خطط له، بعدما وجد في لبنان أرضاً خصبة له، لما له من موقع مميز في قلب العالم العربي، ومحيطه الإقليمي والدولي.

فاستوطن الشيخ المصري بلدة (بدنايل) حيث كان له علاقة وطيدة مع الزعيم سعيد باشا حيدر، لكنه لم يأتِ إلى (بدنايل) مباشرة، بل سكن (الشياح) و(حارة حريك) قبل مجيئه إلى (بدنايل) كإمام لها، والتي أطلق منها مشروعه الإصلاحي، وذلك عبر قيامه بعدّة مهام، منها:

التبليغ الديني، وهي مهمة كل رجل دين: كإمامة الجماعة، والصلاة على الجنائز، وإحياء المناسبات، وتعليم الناس الأحكام.

إصلاح ذات البين، أي إصلاح أمور الناس الذين تنشب بينهم الخلافات والمشاكل، والتي كانوا يرجعون فيها للعلماء، لأنهم لم يكونوا يعترفوا بالمحاكم وقضاتهم، وكانوا يعتبرونهم حكام ظلم وجور، انطلاقاً من قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار)، وكان في ذلك الزمن، حكم العلماء نافذ.

التقريب بين المذاهب، حيث كان يأتي المشايخ من القلمون وحمص إلى (بدنايل)، وهم من العلماء السنة، وكانوا خلال إقامتهم في (بدنايل) يبعثون بالرسائل إلى أهاليهم، مما يدلل على أنهم كانوا يأتون لفترات طويلة، ويدرسون على الشيخ حسن المصري الكرماني.

إذاً، الشيخ حسن المصري، كان يُطبق مشروع الشهيد الثاني الذي طبقه في بعلبك سنة ٩٥٣هـ، فنحن عندما نتحدث عن الشهيد الثاني نتكلم عن أحد أعاظم علماء الشيعة، وعندما نتكلم عن الشيخ حسن المصري كشخصية مغمورة غير معروفة، كانت تخطط لمشروع إصلاحي على مستوى المنطقة برمتها، بدأ به من (بدنايل)، وهو ــ أساساً ــ كان قد بدأ به من قبل في مصر، وحمل نفس مشروع السيد جمال الدين الأفغاني، وحركة المصلحين، ثم أتى ليطبقه في لبنان.

والشيء الأخير اللغة، لأنه عندما نتكلم عن النهضة الأدبية واللغوية أيام العثمانيين والفرنسيين، نرى بروز علماء قاموا بتصنيف القواميس والتدريس في المدارس، ووضعوا المناهج التعليمية، ومنهم: الشيخ حبيب آل إبراهيم الذي أنشأ تسع مدارس في البقاع، ووضع البرامج وأحضر أساتذة، وأدخل مادة التعليم، لماذا؟ لأنه كان هناك خطورة على اللغة العربية، وعندما تتشوه هذه اللغة سوف تطال الهوية، ومعنى ذلك أننا انتهينا، لذلك كانت مهمة أن نحافظ على هويتنا من خلال اللغة، اللغة يعني المدارس والقصائد والأدب والشعر، وإذا رجعنا إلى سِيَر أكثر علمائنا في الماضي، نراهم كانوا يدرّسون الأدب والشعر واللغة، وهذا كله كان يُكمل بعضه البعض.

في الختام:

وحدةُ المسلمينَ والوحدةُ الوطنية ومقاومةُ النفوذ الأجنبي، من أهمِّ العناوينِ التي تصدّى لها رجالاتُ الإصلاح، وإن اختلفت برامجهم الوحدويةِ بحسب الزمان والمكان.

وإذا كانت فكرة الجامعة العربية قد نشأت من رحم فكرة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها السيد جمال الدين الأفغاني وبعضُ المصلحين، فهم يقصدون أن تكون عِنواناً للمّ شمل المسلمين، وإتَاحة فرصةِ مواجهةِ النفوذِ الأجنبي، وإذ بالجامعة العربية تتحوَّلُ إلى أداةٍ بيدِ الأعداء وسيفاً مُسلطاً على رقاب الشعوب، لأجلِ تسهيل غزواتهم لبلاد المسلمين ونهب ثرواتهم.

اليومَ لم نعد بحاجةٍ إلى هذا العنوان الذي يستخدمهُ الأعداءُ، كسلاحٍ ضدَ المسلمين، ويبقَى عنوان المقاومةِ وحركةُ الشعوب هي الضمانة الوحيدة للمِّ شمل المسلمين ومواجهة الإحتلال ومشاريعِ التفتيت، بينما الجامعةُ العربية وما شاهدناه خِلَال هذه السنوات، كانت تغطي العدوان الأمريكي من احتلال العراق عام ٢٠٠٣، إلى الحرب على لبنان سنة ٢٠٠٦م، إلى دعم التكفيرين في سوريا واليمن وليبيا ولبنان والعدوان على الشعب الفلسطيني، وإذا كان من أملٍ في إسقاطِ هذا العدوان، وتحريرِ البلاد، فهو ببركة جهاد الشعوب والتَمسُكِ بخيارِ المقاومة.

ونحن في لبنان انتصرنا على العدوين الإسرائيلي والتكفيري ببركة التمسك بخيار (الجيش والشعب والمقاومة) الذي بات يُشكّلُ الرّادعَ الحقيقي لكل من تسوّلُ لهُ نفسهُ في العدوان على لبنان من الخارج أو الداخل، حَيثُ اندَمجَ هذا الدمُ الزكي من الجيش والشعب والمقاومة في أعراس الإنتصارات الباهرة على العدو الإسرائيلي والتكفيري، والمشكلة عندنا أن فريقاً كبيراً من المسؤولين اللبنانيين، هم عَبيدُ شهَواتِهمْ ومُنصاعون بالكامل للإرادة الخارجية، فَعطّلوا البلادَ ومَنعُوا من انتخاب رئيسٍ للجمهورية وأغرقوا البلدَ بالدين العام الذي بتنا لا نعرفُ كم هو الرقمُ الحقيقي الذي بلغه هذا الدين ، وباتَ المجتمعُ من مختلف الطوائف يَئنُّ تحت الضغط المعيشي، فلا حركات نقابية تنفع ولا اعتراضَ ينفع، وكأنّ الإصلاحَ في لبنان متوقف على شرق أوسط جديد، ونحن من اليوم الأول طالبنا بتحييد لبنان عن أوضاع المنطقة، ولكن لا حياةَ لمن تُناديِ، وإذا نجحوا نسبياً بتعطيل البلد والمؤسسات وبمنعِ انتخاب رئيسٍ للجمهورية، لكنهم لن يتمكنوا من ربط لبنان بالأوضاع الأمنية المتوترة في المنطقة، وسيبقى لبنان عصياً على مشاريع التفتيت والهيمنة، وهذا ما كان ليتحقق لولا الحلف الحديدي المتمثل بـ (الجيش والشعب والمقاومة).

أما ما يتعلق بالموضوع السوري، فالمشكلة ليست هي النظام، ولا عند حلفائه المتمسكين بحق الدفاع عن خيار الشعوب، وإنّما هي عند راعي الإرهاب الأمريكي وحلفائه في المنطقة من العدو الإسرائيلي إلى بعض الأنظمة العربية، الذين لا يريدون الاستقرار والازدهار لهذه المنطقة، مع فَارقٍ أنّ العدوان في الماضي كانت فيه شعوب المنطقة تدفع أثماناً باهظةً، أما اليومَ فدماء الشهداء المظلومين تَقضُّ مضاجِعَهُم وتُبدُّد أحلامَهُم، ولن يروا منا إلا الهزيمةَ، وهذه المرة لن تكونَ هَزيمَتُهم من منعهِمْ من تحقيق النصر فقط، وإنما بنصرٍ مؤزرٍ يكون القرارُ في المنطقة لأولياء الدم المظلومين، وهذا ما ظهر في سوريا، وسيظهر في اليمن بإذن الله.

ثم كانت كلمة لإمام بلدة (بدنايل) سماحة الشيخ أديب حيدر، وممّا جاء فيها:

أشكر الحضور الكريم، ولا أريد أن أُطيل عليكم، إختصاراً للوقت، لأن مولانا سماحة الشيخ حسن قد وفّى المطلب حقّه.

المحتفى به المرحوم المقدّس الشيخ حسن المصري الكرماني، وَفَدَ إلى (بدنايل) في أعظم فترة اضطراب في العالم، أي الحرب العالمية الأولى، التي كانت ممهورة بالإضطراب والمجاعة والأوبئة وغير ذلك. وهنا في (بدنايل) أهلُ الحل والعقد والرأي، لم تصرفهم تلك المشاكل عن أن يهتموا بالعلم والثقافة والأدب.

وبين يدي صورة لمختار بلدة (بدنايل) المرحوم الحاج طعان ــ أحد أعيان البلدة والعائلات ــ ونص جميل جداً، سوف أذكر بعضاً من ملامحه في تلك الفترة، طبعاً سماحة الشيخ حسن ذكر بعض العناوين.

بدايةً، سماحة الشيخ المقدّس حسن الكرماني، كان إمام مسجد (الشياح) و(حارة حريك) بطلبٍ من (آل رعد) و(آل كنج)، وحتى يتمكّن لذلك الشيخ حسن من الحضور إلى (بدنايل) كان لا بدّ من وجود جو ملائم يشجعه على القدوم، و(بدنايل) في فترة ١٨٠٠م أي منذ إبراهيم باشا المصري، كانت مركز ثقل ليس في البقاع فقط، بل في العالم العربي أيضاً، فعندما غزت الوهابية بلاد الشام واحتلتها، تكفل بمكافحتها إبراهيم باشا المصري، وانبرى قائمقام ومحافظ البقاع آنذاك إبراهيم آغا حيدر المعروف بالديلي بالمساهمة في إدخال إبراهيم باشا المصري إلى سوريا والبقاع، وكُسرت شوكة الوهابية، وارتدت إلى صحرائها في نجد والحجاز، ثم بعد ذلك فرخها الإستعمار.

في هذه الفترة من الإضطراب، كان المطلوب وجود عالم دين للبلدة ليس للصلاة والصيام فقط، بل من أجل تهذيب الجيل وتعليمه، مع التكفل التام بكافة أتعابه ومستلزماته كما قال تعالى: }هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{(1).

فقَدِم الشيخ حسن الكرماني إلى البلدة، وقرّر أهل البلد أن يبنوا مدرسةً أهليةً عُيّن فيها الشيخ الكرماني مدرّساً ثانٍ ــ لأنه إيراني ــ وبظرف سنة استطاع الشيخ حسن أن يجعل هذه المدرسة أهمّ مدرسة في البقاع، حيث نالت الدرجة الأولى، فتبنّتها الدولة العثمانية مدرسة رسمية، ولذلك نجد أن منزل الشيخ والمدرسة الرسمية قد شُيّدا متلاصقين.

وهذه واحدة من الأمور التي تدل على أنّ أسلافنا، في أحلك الظروف كانوا يفتشون عن الطريق الذي يحفظ المسيرة والأجيال، أقول أن كل من حمل شهادة أو وصل إلى منصب كان من تلاميذ هذه المدرسة، فقد سمعت من المرحوم جودت حيدر أكبر شاعر باللغة الإنكليزية، يقول: «أنه تلميذ هذه المدرسة، هو وبعض الزعامات».

وكل هذا الجهد أنجزه الشيخ حسن الكرماني، وهو لم يتجاوز الخمسين من عمره، إذاً الشيخ المصري هو مؤسّس تَميّز بلدة (بدنايل) بالعلم والمساهم الأوّل والأساس، وبعد ذلك تأسّست مدارس لتعليم القرآن حيث نهض (المرحوم عسيران ــ الشيخ أحمد من بيت علي حسن ــ المرحوم إبن الشيخ الحاج عبد الحسين المصري)، جميعهم مشوا في هذا المنهج في تعليم القرآن والقراءة والكتابة.

وهذه ميزة من الميّزات التي أسّسها الشيخ المصري، بالإضافة إلى ذلك، الموقع الكبير حيث كانت بلدة (بدنايل) مركزاً في صناعة النهضة في الفترة الممتدة من سنة ١٨٦٠م وحتى الآن.

وهناك وثيقة ثانية من المفتي الحسيني إلى الشيخ الكرماني، يوصيه فيها على صيغة التعايش والرعاية بين المسلمين والمسيحيين، وبما أن معالي النائب الأستاذ سليم عون متواجد بيننا، أثناء هجوم الأغراب على مدينة زحلة كانت (بدنايل) المساهم الأول في الدفاع عن زحلة، لأن الجو الذي كان سائداً في (بدنايل) هو جو التعايش.

لذلك ما أريد أن أقوله في الختام، أن المرحوم سليم حيدر كان سفيراً في إيران لمدة ثماني سنوات، وكان يتكلم اللغة الفارسية ارتجالاً، وله شعر، فلا بد من تسليط الضوء على تلك الحقبات المضيئة من تاريخنا، بما يخدم مسيرتنا الإسلامية والوطنية، شاكراً لسماحة مولانا الشيخ حسن بغدادي هذا الجهد الذي سلّط فيه الضوء على هذا العالم الجليل الشيخ حسن المصري، كي يتعرف هذا الجيل على تلك الشخصيات التي أسّست وجاهدت في سبيل المحافظة على حضورنا وهويتنا.

شكراً للجميع، ولكل أحفاد الشيخ حسن الممتدين على (النبي أيلا) إلى (بيت حيدر) و(بيت المصري) إلى أنسبائهم، فإذا أردنا أن نحصي العائلة التي تنتمي إليه من حيث الأمّ والأب سنجد أنّ عددها كبير، وفيها ميزة أن ٩٠٪ منهم يحملون شهادات اختصاص في مختلف الإختصاصات والعلوم، وإن شاء الله نتمكن من إحياء هذا التراث في مناسبات أخرى.

كما تحدث في المناسبة المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية في لبنان د. محمد مهدي شريعة مدار، وممّا قاله:

لست أدري ماذا بقي لي أن أقول. ولكن سأستكمل بعض النقاط التي هُجرت من قِبَلِ الأخوين الفاضلين الكريمين العلامتين سماحة الشيخ حسن وسماحة الشيخ أديب.

أولاً: حول بعض النقاط التي ترتبط بالظروف التاريخية والزمكانية للمكرّم، وخاصةً فيما يرتبط بالمجتمع الشيعي، وطبعاً، جزءٌ مهمٌ منه إيران، وبالحوزات العلمية، وبالحركة الفكرية والحضارية الشيعية. فإيران كانت قد انتقلت من العهد الصفوي، بما له وعليه، إلى العهد القاجاري، والعهد القاجاري شهد بعض الحالات التي ذكرها سماحة الشيخ حسن البغدادي، حيث شهدت إيران في هذا العصر الصراع العثماني الإيراني الذي كان قائماً منذ العهد الصفوي واستمر، وشهدت أيضاً الكثير من حالات البطش، والزجر، واستعمال القوة.

أما في العهد الصفوي، الشيعة انتقلوا نوعاً ما من مرحلة فقه المعارضة ــ الشيعة دائماً كانوا في المعارضة ــ لذلك كانوا أقرب إلى فقه المعارضة من فقه السلطة.

في العهد الصفوي، حصل تقارب بين علماء الدين وبين الحوزات العلمية مع السلاطين، وآنذاك حضر إلى إيران عشرات العلماء من لبنان، وأُسندت إليهم الكثير من المناصب العلمية والدينية وعلى أعلى المستويات.

أما لماذا أُستقدم العلماء الشيعة من لبنان إلى إيران؟ هذا أمر آخر، لا نريد التفصيل فيه، لكن في ذلك العصر بالذات نُشَاهد حالةً من التقاربِ بين العلماء والسلطة. ولذلك، إذ تراجعون الكتب الفقهية التي دوّنت في ذلك العصر، تلاحظون أنها في المقدمة تُهدى إلى السلطان إبن السلطان، والخاقان إبن الخاقان، وما إلى ذلك من التفاصيل.

في العهد القاجاري، حصل انحصار في هذا التقارب، لكنه لم يصل إلى حوزة النجف لبُعدها عما يجري في إيران، مضافاً للحالة التقليدية الموجودة في حوزة النجف.

بالإضافة إلى موضوع رواج الشيخية وبعدها البابية، وما ترتب على ذلك، والتأثير الذي تركته الشيخية على انحسار العلوم العقلية والأصول في الحوزات الدينية حتى عصر الوحيد، ومن ثمّ عصر الشيخ الأنصاري. ولا نريد أن نتطرق إلى ذلك. لكن في هذه الفترة، كان لا بدّ من وجود مُتنفس لرواد الحركة الإصلاحية التي تَطرق إليها سماحة الشيخ البغدادي، ومن أهم هؤلاء الرّواد، المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني أو الأسترآبادي الذي استغل التعارضات آنذاك، واستطاع أن يؤسّس لحركة تنويرية تجديدية. فمارس الحكم، وحتى الحروب العسكرية في أفغانستان، ثم انتقل إلى الهند وأوروبا وباريس وسويسرا واسطنبول ومصر وغيرها من البلدان عدة مرات، كما حج بيت الله الحرام أكثر من مرة، وأسّس لكثيرٍ من الحركات الفكرية في هذه البلدان، وأصدر بعض الإصدارات والصحف، وهذا معروفٌ لديكم جميعاً.

لكن يبدو أن ذَهاب علماء أو تجار أو مواطنين إيرانيين من إيران إلى مصر، سَبقت السيد جمال الدين الأسترآبادي، كمثال على ذلك: المكرّم الشيخ حسن المصري، الذي ترك مصر، وجاء إلى لبنان قبل خمس سنوات من وفاة المرحوم السيد جمال الدين الآسترابادي، وإذا كان الشيخ حسن المصري إبن الشيخ الحاج محمد الحكيم، والحاج محمد إبن الحاج محمد حسين الحكيم الكرماني الطبيب ــ كما تفضل سماحة الشيخ البغدادي ــ فهذا يعني أن ذَهَاب الحاج محمد حسين الحكيم الكرماني إلى مصر، سبق ذهاب المرحوم جمال الدين الآسترابادي، لكن من دون شك عاصر الشيخ حسن المصري الأفغاني أو الآسترابادي، وهناك نقاش حول هذا الموضوع في القاهرة، وربما سمعتم عن الحركة الفكرية المتقدمة التي قادها جمال الدين الآسترابادي في القاهرة.

انتقل الشيخ المصري إلى لبنان، وقبل ذلك طبعاً عاش ودرس في النجف، وكما تفضل سماحة الشيخ حسن البغدادي، من خلال الوثيقة التي قرأ جزءاً منها، والتي دوّنها المرحوم الشيخ محمد طه نجف الذي هو من كبار العلماء، والتعبيرات الواردة في هذا النص تدل على المتانة العلمية للشيخ حسن المصري، لكن لا يُعرف بدقة مدة بقائه في النجف، ومتى كانت؟

إذاً، نحن أمام عالمٍ مخضرمٍ إيراني مصري لبناني نجفي، وخضرميّته لا ترتبط فقط بالجغرافيا، وإنما بثقافته، رغم أن جمال الدين الآسترابادي، لم يدرس أو يدرّس في الأزهر، وإنما كانت حلقة درسه خارج الأزهر.

وكما هو معلوم، أنّ الشيخ حسن المصري لم ينحدر من أسرة علمائية ودينية، بل من أسرة تتألف من أطباء وتجار، لكننا نراه يدخل الأزهر كشاب شيعي منحدرٍ من أسرةٍ متدنيةٍ شيعية، ويدرس فيه الفقه على المذاهب الأربعة، ثم ينتقل إلى حوزة النجف ليدرس الفقه على المذهب الجعفري. فإذاً، هو مخضرمٌ أيضاً في دراسته الدينية، وفترة وجوده في النجف ولبنان، فيها الكثير من الغموض، كما تفضل السادة الذين سبقوني في الحديث. وارتباطه بالميرزا رضا الكرماني الذي قام بقتل ناصر الدين شاه على الأقل، بإيعاز أو بتأثر بتعاليم السيد جمال الدين الأفغاني الآسترابادي، هذا إن لم تكن عملية القتل هذه بفتوى صادرةٍ عنه أو بأمر منه. أيضاً، لا توجد أدلة على الارتباط بين الشيخ المصري الكرماني مع الميرزا رضا الكرماني، ويقال: أن الميرزا رضا الكرماني كان جدّ أو والد الشيخ حسن المصري، لكن والد الشيخ حسن المصري معروف، والميرزا رضا الكرماني لم يكن له سوى إبن واحد، وهو الميرزا تقي، الذي بقي حياً حتى آخر حياته في إيران، وطلب من رئيس مجلس الشورى الوطني آنذاك أي البرلمان الإيراني، وظيفة في المجلس، فوظّف في المجلس رغم أنه كان إبناً لمن قتل الشاه، وبقي في هذه الوظيفة في إيران إلى آخر عمره.

وكان للميرزا رضا الكرماني بنتاً واحدة، توفيت وهي صغيرة، ولذلك لا ينقل التاريخ عن أبناءٍ للميرزا رضا الكرماني. كما أنّ الفترة التاريخية التي عاش فيها كل من هذين الإثنين، لا تتناسب مع أن يكون الشيخ حسن المصري الكرماني إبناً أو حفيداً للميرزا رضا الكرماني ــ على أي حال ــ هذا الرجل المخضرم من أحد أبرز معالم التلاقي والتفاعل الحضاري بين إيران ولبنان، وخاصةً في تلك الفترة. وقد يكون مجيئه إلى لبنان بسبب أن لبنان كان في ذلك الزمان يُعبر عن الحوزة الدينية الرسالية المقاومة للإستعمار، هذه الميزة قد يكون لبنان أو الحوزة العلمية في لبنان في تلك الفترة تتميز بها، ولذلك جاء إلى هذه المنطقة. وقد تكون علاقته بأسرة حيدر المعروفة تاريخياً بأدوارها السياسية ليس على صعيد المنطقة أو البقاع أو لبنان، إنما على صعيد العالم العربي، أحد أسباب مجيئه إلى هذه المنطقة.

من هنا أتصور بأن علينا جميعاً أن نحيي هذا التراث المشترك المخضرم من التفاعل الحضاري بين إيران وبين لبنان، وبين إيران والمنطقة، بين الشيعة والسنة، فهناك الحضور العلمائي العاملي الفاعل في إيران وهناك من جاء من إيران إلى لبنان، بل أكثر من ذلك هناك حالات من المشاركة في الجهاد ضد المستعمر، وضد الغزاة والمحتلين، عددٌ من الإخوة المجاهدين الإيرانيين تدرّبوا على يد قادة لبنانيين، وعددٌ من المجاهدين اللبنانيين حضروا في جبهات القتال في فترة الحرب المفروضة من النظام الصدامي السابق على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وآخر مراحل هذا التفاعل الحضاري، الشهداء الذين قدموا أرواحهم من إيران، ومن لبنان في المأساة التي شهدها العالم الإسلامي في العام الماضي في أرض (مِنى) المقدسة.

في هذا اليوم نعيش الذكرى السنوية الأولى على الفاجعة المؤلمة، وعلى رأسهم الشهيد السفير الإيراني في لبنان، والصديق للبنان الشهيد ركن آبادي، وأيضاً المرحوم العلامة السيد حيدر الحسني اللذين توفيا واستشهدا في هذه الحادثة.

إذاً، نحن أمام ظاهرة ثقافية حضارية بامتياز، علينا أن نحيي معالم هذا التلاقح الحضاري، وهذه الوحدة الإسلامية التي تُبعدنا عن النعرات القومية والطائفية والمذهبية. لأن الوحدة الإسلامية، هي التي تفكر بمصير الأمة الإسلامية ومواجهتها للتحديات والأعداء والتي أطلقها الإمام الخميني الراحل (رض) وسار عليها الإمام الخامنئيّ، وسار عليها أيضاً، أبطال المقاومة الإسلامية وقادتها، فطوبى لهم جميعاً، ونُحيّي ذكرى أرواح كل الشهداء الذين سقطوا على أرض كل المعارك، من إيران إلى لبنان، وشكراً لكم أيضاً جميعاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وتخلّل الإحتفال كلمة ترحيبية لرئيس بلدية (بدنايل) الحاج علي جواد سليمان، وممّا جاء فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ{ صدق الله العلي العظيم.

بداية لابدّ من توجيه شكرٍ خاص لعضو المجلس المركزي في حزب الله سماحة الشيخ حسن بغدادي، كما أرحب بسعادة المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية السيد محمد مهدي شريعة مدار، وبالسادة العلماء والأخوة الحضور.

أيها الحفل الكريم، أرى نفسي عاجزاً عن سرد مآثر ومزايا وخصال المحتفى به العلامة الشيخ حسن المصري الكرماني العاملي، وأرى كلماتي عاجزةً عن إنصافِ عالمٍ جليلٍ أفنى عمره في طاعة الله والتقرب إليه. وقد كان من كرم المولى عليه وعلينا ــ نحن ذريّته ــ أن حطّ الرحال في (بدنايل)، فوجدها كما نعرفها دائماً، ذراعاً مبسوطةً وقلباً مشرعاً، ووجد في أهلها خصال المؤمنين، ومخافة الله وولاية أهل البيت، فطاب له العيش فيها بينهم، واحتضنته في ثراها.

أيها الأحبّة، باسمي واسم عائلتي وعموم أهل (بدنايل) نتقدم بخالص الشكر للمكرِّمين، ومنتهى الأجر للسّاعين والمنظّمين، وجزيل الثناء، خاصةً من تكبد عناء التعب والسفر.

قدم للإحتفال د. حسن حيدر، وحضره حشد من علماء الدين من مختلف قرى البقاع، والنائب السابق سليم عون، والحاج أبو علي مصطفى الديراني، والشيخ أحمد القطان، والسيد حسن التبريزي ممثلاً المجمع العالمي لأهل البيتR، ورؤساء بلديات ومخاتير المنطقة، وعائلة (آل المصري)، وأهالي بلدة (بدنايل).

واختتم الإحتفال بتقديم درع من جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي للشيخ أديب حيدر، تقديراً له على جهوده.


(1) القرآن الكريم، سورة الجمعة، الآية ٢.

أراد أن يحاضر في إحدى ليالي شهر رمضان
حول موضوع ديني

وإذا به ينساه، ويشرع بمحاضرة عن الإمام الحسين Q

إنّه العلامة الشيخ محمد جواد مغنية (طاب ثراه)، حيث كان يقضي شهر رمضان ذات مرة في (البحرين)، وجرت العادة أن يُلقي محاضرة كل ليلة بعد العشاء، وفي إحدى الليالي كان قد هيأ نفسه لإلقاء محاضرة دينية من وحي المناسبة، وبينما هو على المنبر، وإذ به يسمع صوتاً ينادي: «سلام الله عليك يا حسين ولعن الله من قتلك»، يقول الشيخ مغنية: عندما سمعت هذا الهاتف نسيت الموضوع الذي أريد أن أتحدث عنه، وشرعت فوراً بالحديث بما يتصل بالإمام الحسين Q وبيزيد بن معاوية، وقلت: «إن التطور لم يقف عند حدود المادة، بل تعداها إلى الأفكار واللغة، لأنها جميعاً متلازمة ومتشابكة، لا ينفك بعضها عن بعض...، وكلمة الحسين كانت في البداية اسماً لذات الحسين Q، ثم تطورت مع الزمن، وأصبحت عند الشيعة رمزاً للبطولة والجهاد من أجل تحرير الإنسان من الظلم، وعنواناً للتضحية والفداء.

أما كلمة (يزيد) فكانت اسماً لشخص يزيد بن معاوية، أما الآن عند الشيعة، فإنها رمز الفساد والإستبداد، وعنوان الزندقة والإلحاد، فحيثما يكون الشر يكون يزيد، وحيثما يكون الخير يكون الحسين Q.. إلخ المحاضرة، التي ربطها بفلسطين والعدوان على المنطقة.

أقول عندما يخلص العبد لله تعالى، فإن الله كفيل بترتيب أموره، ورعايته وتوجيهه إلى ما هو خير له وللحاضرين، وأن يُذكر الحسين Qفي ليالي شهر رمضان، هو بحدّ ذاته مجلس رحمة وبركة، وكيف إذا كان المتحدّث الشيخ محمد جواد مغنية، المُلمّ بأمور التاريخ والمطلع على أوضاع المسلمين، والمطالب بالإصلاح، والثورة على الظالمين.