٥٥

(بطاقة عالم)

السيد علي بن السيد محمود الأمين الحسيني

من قرية (شقراء) من جبل عامل، ولد سنة ١٢٧٦هـ، كان عالماً جليلاً، درس في النجف الأشرف (الأصول) على الشيخ الآخوند الخراساني صاحب (كفاية الأصول)، وقرأ (الفقه) على كبير فقهاء العرب الشيخ محمد طه نجف.

ووصل إلى مرتبة أستاذ السطوح، وهذه مرتبة يصل إليها من بلغ مرتبة الإجتهاد في تلك المرحلة، وحتى قيل عنه بأنه وصل إلى مرحلة (الإجتهاد المطلق).

والده العلامة السيد محمود الأمين بن السيد علي بن محمد الأمين الحسيني، وكان من أهل الفضل ومن عباد الله الصالحين والمتعبدين، وكان على جانب عظيم من الأخلاق وصفاء النفس، كما كان شاعراً وأديباً، استقر في بلدة (عيثرون) ومات فيها سنة ١٣٢٧هـ.

أمّا نجله السيد علي، فبعد عودته إلى جبل عامل صارت له مكانة دينية واجتماعية، وتخرّج عليه العديد من طلاب العلم، وكان محمود السيرة ممدوحاً من القريب والبعيد، وعمد إلى نشر العلم وتثبيت الحياة العلمية في جبل عامل.

توفي يوم السبت ٢١شوال ١٣٢٨ هـ بعد رحيل والده السيد محمود بسنة، عن اثني وخمسين سنة.

العلامة المجتهد الشيخ

علي بن صالح الكوثراني

طاب ثراه
من علماء القرن

الثاني عشر هجري

السنة الخامسة ــ العدد الخامس والخمسون ــ تموز ٢٠١٦م / شوال ١٤٣٧هـ

شخصية العدد

العلامة الشيخ علي بن صالح بن منصور آل كوثراني

من علماء القرن الثاني عشرهـ، كان عالماً فاضلاً فقيهاً عابداً زاهداً، وكما حاز على الفضيلة العلميّة، حاز أيضا على صفاء النفس ومراتب الكمال والمعرفة.

بدايةً، أودّ أن أشير إلى نقطة غاية في الأهمية، غالباً مانُطلق في علاقاتنا و شهاداتنا لقب (الفاضل) على علمائنا، مع ما هم عليه من نسبٍ متفاوته، وضرورة التفصيل في نسبة هذا التفاوت بين المقامات الشامخة الشريفة.

فهناك من أنهى مرحلة السطوح وهي عبارة عن القوانين في الأصول للمحقق القمي، وكفاية الأصول للشيخ الخراساني، والرسائل في الأصول والمكاسب في الفقه للشيخ مرتضى الأنصاري، وهي مرحلة ما قبل البحث الخارج وهناك من أصبح أستاذ السطوح، وكلاهما يُطلق عليه لقب (الفاضل)، وهذا نفسه ينسحب على بقية العلوم و المهن، فعلى سبيل المثال: (الدكتور) يحوزعليه كل من نال هذه الرتبة بعيداً عن الكلية و الإختصاص، فالشهادة هنا يجب أن تراعي كلّ هذه التفاصيل، وإلا سنُلحق ضرراً بالغاً بنفس الأشخاص عندما نجعلهم في مصاف واحد، وفي مجتمعاتهم التي ينتمون إليها. وهنا تذكرت كلاماً للعلامة الشيخ عبد الكريم مغنية (طاب ثراه)، وهو يعالج قاعدة (الضرر) وأنه ورد (المغرور يرجع على من غرّه)، وهذه تُبحث في المعاملات، بينما الشيخ مغنية جعلها أوسع دائرة وأنها تتعدى إلى كل ما يلحق غُشاً وضرراً، فعندما تشهد لهذا العالم الفاضل بأنه (مجتهداً) وهو ليس كذلك، فأنت بهذه الشهادة غشّيته و ألحقت ضرراً بالمسلمين، لكونه قد يصدّق نفسه أنه بلغ مرتبة الإجتهاد، ثم ينعكس هذا على الناس من خلال أحكامه الخاطئة.

لهذا أردت أن ألفت النظر إلى هذه النقطة كي نميّز بين المراتب المتفاوتة لهؤلاء الأجلاء.

أمّا نسبة العائلة للكوثراني:

الأقوى أن يكون هذا اللقب عائداً إلى بلدة (كوثرية السياد)، وهذا المصطلح استخدمه العلماء سابقاً، فكانوا ينسبون أنفسهم إلى قراهم، فالشهيد الأول الجزيني، نسبه إلى قرية (جزين) والمحقق الثاني الكركي، نسبه إلى (كرك نوح)، وهكذا النباطي والأنصاري و الحبوشي وغيرها.

وبناءً عليه، تكون كوثرية السياد منارة علم قبل أن يأتي إليها الشيخ حسن القبيسي و يشيّد فيها مدرسته بعد نهاية النكبة، وهذا ما جعلها تشتهر منذ الثلث الأول للقرن الثالث عشرهـ، أي بعد ١٢١٩ هـ ١٨٠٤م وهي السنة التي هلك فيها الوالي العثماني أحمد باشا الجزار.

أمّا الحضور العلمي لعائلة آل كوثراني

فكان لهذه العائلة مشاركات علمية منذ القدم ومن زمن الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني الذي استشهد في دمشق على يد المماليك ووعاظ السلاطين سنة ٧٨٦هـ، و كان من تلاميذه الشيخ جمال الدين أحمد بن ابراهيم الكوثراني العاملي، كما ذهب إلى ذلك السيد الصدر في التكملة، وقد وصفه الشهيد في إجازته له: «الشيخ الفقيه الزاهد العابد»، وكان ذلك سنة ٧٧٥هـ عندما قرأ عليه كتاب(علل الشرائع) للشيخ الصدوق.

وليس معنى هذا أنّ جبل عامل لم يكن فيه علماء قبل الشهيد الأول، فهناك العديد من العلماء كانوا على مساحة هذا الوطن قبل مئات من السنين من عهد الشهيد الأول، فعلى سبيل المثال الشيخ أبو القاسم بن حسين بن العودي الأسدي، سكن في جزين ومات فيها، ورثاه الشيخ جمال الدين بن الحسام أبي الغيث العاملي بقصيدة مطلعها:

عَرّج بجزين يا مُستبعَدَ النجفِ

ففضلُ من حَلّها يا صاحِ غيرُ خَفيِ

نعم، الإستقلال العلمي لجبل عامل و النهضة العلمية الكبرى أسّسها الشهيد الأول، ولم يعد معها الطلاب بحاجة إلى الذهاب للحوزات المركزية خارج لبنان كما فعل الشهيد الأول عندما ذهب إلى مدينة (الحلة) وتخرّج على يد فخر المحققين نجل العلامة الحلي.

وهناك نص للعلامة الحر العاملي في كتابه (أمل الآمل): «أنه صلى على إحدى الجنائز في إحدى القرى في عهد الشهيد الأول سبعون مجتهداً»، وهذا معناه أن العلم انتشر في جبل عامل في قراه ومدنه، واستمر إلى أواخر القرن الثاني عشرهـ، حيث وقعت النكبة بعد مقتل الأمير ناصيف النصار سنة ١٧٨١م.

كان لعلماء آل كوثراني حضورعلمي ومشاركات في كلا المرحلتين التي مرّ بها جبل عامل، مرحلة الشهيد الأول رائد النهضة العلمية الأولى، والنهضة العلمية الثانية بعد نهاية النكبة.

الشيخ صالح والد الشيخ علي آل كوثراني، كان من علماء القرن الثاني عشرهـ، من النهضة العلمية الأولى، وقد وجد بخطه نسخ رسالة (الجواب الباهر في حكمة خلق الكافر)، للسيد علي بن طاووس الحلي، التي صنفها في أواخر صفر من سنة ١٠٧٦هـ، وقد انتهى الشيخ صالح الكوثراني من نسخها سنة ١١٥٦هـ، أواسط القرن الثاني عشرهـ.

الشيخ علي الكوثراني المترجم

من علماء القرن الثاني عشرهـ، وإن كانت وفاته بحسب الظاهر في القرن الثالث عشر هـ، وكان من تلاميذ المحقق السيد محسن الأعرجي المعروف بالمحقق البغدادي، وهو عالم فقيه أصولي محقق مدقق عابد زاهد، من تلاميذ السيد مهدي بحر العلوم و يروي عن الشيخ سليمان معتوق العاملي من تلاميذ السيد محمد بن ابراهيم شرف الدين الموسوي في قرية(شحور). وقد سكن الكاظمية وترك ذريّة من أهل العلم، بقوا في الكاظمية وماتوا فيها.

السيد محسن الأعرجي شرح كتاب (الوافيه في أصول الفقه) للعلامة التوني الخراساني المتوفى سنة ١٠٧٠هـ، وسماه الأعرجي لشرحه (المحصول في شرح الوافية في أصول الفقه)، وانتهى الشيخ الكوثراني من نسخ هذا الشرح لأستاذه الأعرجي سنة ١١٩٦هـ، وكان له عليها حواشي، أظهرت فضيلته وأدبه، وقال عنه السيد الصدر في التكملة: «عالم فاضل كامل فقيه أصولي»، وهذه شهادة كبيرة من السيد الصدر، فلم يقل عنه (فاضل) فقط، وإنما قال (فقيه أصولي وكامل)، وهذه مرتبة كبيرة تُظهر فضيلته العلمية ومرتبته السامية وأنه من أهل الاجتهاد، وزاد عليه بقوله (كامل)، لهذا يكون الشيخ علي الكوثراني قد جمع بين سمو العلم و صفاء النفس، فمن جهة بلغ مرتبة الاجتهاد، ومن جهة ثانية بلغ المراتب السامية في كمال النفس، ومضافاً على هذا كان شاعراً وأديباً، وظهر هذا من حواشيه على شرح السيد الأعرجي.

وعليه، فمن المؤكد أن الشيخ علي الكوثراني من طبقة المجتهدين في القرن الثاني عشر هـ، حيث أنهى نسخ شرح الوافي لأستاذه الأعرجي سنة ١١٩٦هـ، ولم يُعرف تاريخ وفاته، وإن كان الأرجح عندي أنّ رحيله كان في القرن الثالث عشر هـ.

بعد نهاية النكبة في جبل عامل سنة ١٨٠٤م، كان لعلماء آل الكوثراني مشاركة في إعادة الحياة العلمية، فالمدارس الدينية الني نشأت بعد النكبة و على اختلاف حضورها وحجمها، شكلت بمجموعها نهضة جبل عامل العلمية و الأدبية و الإقتصادية، حيث وفّرت الطمأنينة للمجتمع العاملي، رغم الآلام والمآسي التي عاشها العامليون وتجاوزوا تلك المحن بصبرٍ وتحدٍ من خلال الإيمان العميق الموجود في قلوبهم، وكما قال الشاعر:

يابن الكرام ألا تدنو فتُبصِرَ ما

قد حدثوك فما راءٍ كمن سمعا

والشيخ خليل كوثراني من هذه السلالة العلمية الطاهرة، انتسب إلى المدرسة الدينية التي شيدها العلامة الزاهد العابد الشيخ سلمان العسيلي في بلدة (أنصار) و كان صاحب فضيلة علمية قدم إليها كمرشد لهم ولم يعقب إلا بنتاً واحدة تزوجها العلامة السيد حسن ابراهيم، الذي كان يسكن النميرية بعد رحيل أبيه السيد علي إبراهيم الحسيني، ولما توفي الشيخ سليمان العسيلي ١٢٩٠هـ طلب أهالي أنصار من السيد حسن أن يقدم إليهم كإمام لهم وفي نفس الوقت ليكمل ما أسسه والد زوجته الشيخ العسيلي من المدرسة الدينية، وكانت من المدارس الأساسية في تلك المرحلة فانضم إليها ما يزيد على السبعين طالباً وكان لها أوقاف تدرّ عليها، ومن جملة الطلاب الذين انتسبوا إليها، السيد محمد و السيد مهدي من أبناء السيد حسن ابراهيم، والشيخ أحمد بن عبد المطلب مروة، و الشيخ باقر بن الشيخ محمد حسين مروة المعروف(بالحافظ)، والشيخ طالب سليمان البياضي، و الشيخ حسن ابن الشيخ محمد علي القبيسي، والشيخ سليمان ظاهر، و الشيخ خليل آل كوثراني وغيرهم، وكان لطلاب هذه المدرسة ومدرسة السيد حسن يوسف مكي في النبطية، دور أساسي في صيانة اللغة، هذا ناهيك عن القيام بالوظائف الدينية من الوعظ والإرشاد وإحياء المناسبات وإصلاح ذات البين.

أعقب الشيخ خليل العديد من الأولاد وكانوا صالحين، وبرز منهم العلامة المجتهد الشيخ حسين كوثراني وأخوه العلامة الشيخ جواد، وقد سلطنا الضوء فيما مضى على الشيخ حسين كوثراني الذي جمع مع العلم الزهد والصفاء وكان صاحب كرامات، وأعقب أبناءً صالحين كان الأبرز فيهم ومن أهل العلم العلامة الحجة الشيخ محمود كوثراني (إمام بلدة الغسانية) من جبل عامل، وكان قائماً بالوظائف الدينية، و من أصحاب النفوس الطيبة، فقد عمل على تربية نفسه بمجرد وصوله إلى النجف الأشرف، وتلك الحادثة التي حدثت بينه وبين العلامة الشيخ حسن العسيلي خير شاهد على ما ذكرنا، وملخص القصة:

كانت الحوزة العلمية في النجف الأشرف، تعطل الدروس يومي الخميس و الجمعة من كل أسبوع، وتكون فرصة للذهاب للزيارة (زيارة الأصدقاء، وقضاء حوائج البيت، والتعويض بالدرس على ما فاته في أيام التحصيل) وكان اللبنانيون يجتمعون في منزل كبيرهم ليلة الجمعة، يتذاكرون ويرون بعضهم، ويحضر فيها الجميع على اختلاف مراتبهم العلمية، من أستاذ البحث الخارج إلى تلميذ ألفية ابن مالك. وذات ليلة، كان الشيخ محمود قد وصل إلى النجف لتوّه، وسأل أحدهم سؤالاً، ولم ينتظر الشيخ محمود ليجيب على هذا السؤال من هوأكبر منه وأعلم، فبادر للجواب فوراً، فما كان من الشيخ حسن العسيلي إلا أن قال له: «اسكت هذا ليس من شأنك، وأنت لا تعرف هذا الموضوع». فلم يعجب الشيخ محمود هذا الجواب فردّ عليه قائلا:» أنا أفهم منك ومن أبيك» وبعد انتهاء المجلس، عاد الشيخ محمود إلى منزله وهو يعاتب نفسه على هذا الجواب، وأنه تسرّع ولم يكن من الجائز أن يغضب لنفسه إلى هذا الحد، وقرّر أن يذهب قبل الفجر إلى حرم الإمام أمير المؤمنين Q، حيث يجتمع العلماء و الطلبة في حرم الإمام عليQ لصلاة الليل و التهجد، وما أن أنهى وضوءه وهمّ بالخروج وإذا بالباب تطرق، و عندما فتح الباب وجد الشيخ حسن العسيلي قادماً إليه مع أنه أكبر منه سنّا وعلماً للاعتذار عما صدر منه، وأنه ألحق الأذيّة به، وهو يعتقد أن أذيّة المؤمن حرام، فضلاً عن أن يكون طالب علم ومجاور للإمام أمير المؤمنينQ.

هذه المناقبية هي التي كانت تحكم العلاقة بين أهل العلم، من التسامح و الصفاء، فكانوا مصداقاً للحديث الشريف: «شيعتنا كونوا زيناً لنا»، وطالب العلم هو أبرز المصاديق حيث يجب أن يتمتع بالإخلاص و الصفاء، ليتمكن من أن يكون القدوة الحسنة.

خلف الشيخ محمود كوثراني أولاداً صالحين منهم صديقنا العزيز سماحة الشيخ محمد كوثراني.

نظمت جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي و بالتعاون مع بلدية طاريا البقاعية احتفالاً تكريمياً لسماحة العلامة الشيخ إبراهيم الخطيب طاب ثراه، في حسينية بلدة طاريا.

تحدث فيه عضو المجلس المركزي في حزب الله سماحة الشيخ حسن بغدادي و مما قال:

قال رسول الله P: «أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد»، فالنبي P يتحدث عن العلماء و المجاهدين لكونهم أهل الصفوة في المشروع الإيماني، ولعلَّ قيمَتَهمْ أنّهم جَسّدوا مشروعَ القدوة في إصلاح الأمة وهدايتها، وإخراجها من الظُلمات إلى النور. وهذا نتيجة إصلاحهم لأنفسهم وحصولهم على أعلى مراتب الكمال والمعرفة.

لذلك جاء في الحديث الشريف: «النظر إلى وجه العالم عبادة»، لأن العالم العامل الصالح يُذكّر بالآخرة، ويتعظ الناس بسلوكه ويرتدعون عن معاصيهم، ويسلكون طريق النجاة.

وهذا ما شاهدناه وسمعنا به في العصور المختلفة لهؤلاء الأعلام، فكانوا في سلوكهم القدوة الحسنة، وفي مواعظهم يخترقون الأسماع إلى القلوب على قاعدة ما خرج من القلب وقع فيه، واستخدموا في سبيل هداية الناس كُلَّ الطرق، من الوعظِ والإرشاد إلى الشعر والأدب، فقد كانت قصائدهم منارات مضيئة، يُردد الجميع أبياتها، ويتناقلها قرَاء العزاء، وأنا قبل أن أتعرّف على ذلك العالم العابد والزاهد الشيخ محمود عباس من قرية (عيثرون) في جبل عامل، والذي كانت وفاته سنة ١٩٣٥م ، كنا نستمع إلى قصائده من قُراء العزاء، ولا أنسى قصيدته العينية المليئة بالمواعظ، والتي لا يمكن للمستمع إلا أن يٌصغي إليها و يتعظ منها، وممّا جاء فيها:

نَبِّه فُؤادَكَ يا ابنَ آدمَ قَبلَما

يَأتيكَ يومٌ هولُهُ لا يُدفعُ

أطِعِ الإلَهَ بِما دَعاك لِفِعلِهِ

أَو تَرْكِهِ فَثَوابُهُ لَكَ يَرجِعُ

فغداً تموتُ وتحتويكَ جنادلٌ

في حفرةٍ منها الحشا يتقطعُ

فالقبرُ بيتٌ مظلمٌ لو حَلَّهُ

ليثُ العرينِ لضاقَ فيه المضجعُ

وهناكَ لا مالٌ لديكَ فتفتدي

كلا ولا ولدٌ هنالِكَ ينفعُ

وهناك تحصدُ ما زرعتَ ندامةً

والمرءُ يحصدُ دائماً ما يزرعُ

وبالعودة إلى البقاع ودور علمائه في النهضة العلمية والأدبية والحركة الجهادية في مختلف الأزمنة والعصور، ورغم الآلام التي حلّت بالمنطقة من الصليبيين والمماليك إلى العثمانيين والفرنسيين حتى قيام الإحتلال الإسرائيلي، لم يبخل علماء البقاع في نشر العلم والأدب، فشيّدوا المدارس واستنهضوا الناس والشباب للدفاع عن الوطن.

كان البقاع في العهدِ العثماني يشهدُ حركةً علميةً كبيرة، لو قُدّر لها أن تبقى وتستمرّ، لكانت جبل عامل الثاني في لبنان، وهي الحوزة العلمية في (كرك نوح)، تلك المدرسة التي خرّجت مجتهدين وأفاضل في القرنين التاسع والعاشر هجري، وذلك حدود سنة ١٤٠٠م. وكان الشخصية الأبرز: الشيخ علي بن عبد العالي الكركي العاملي والمعروف بالمحقّق الكركي أو المحقّق الثاني، نسبة إلى المحقّق الأول الحلي (صاحب شرائع الإسلام).

ولعلّ السببَ الرئيسي في نهايةِ هذه المدرسة الظلم العثماني الذي لم يحترم العلم وقرّبَ وعاظَ السلاطين، وقامت سياستُهم على التوسع والتعصب والجشعْ، والفتن وسفك الدم وهتك الأعراض وسلب الأموال.

مضافاً لشعور علماء (كرك نوح) بالمسؤولية تجاه إيران بالعهد الصفوي، وأوّل الذاهبين كان المحقّق الكركي، فوصل إلى (هراة) التي افتتحها الشاه الصفوي أواخر سنة ٩١٦هـ، واعترض عليه الكركي عندما قتل الجند شيخ الإسلام، وبعض المسلمين السنة، قائلاً له: «إنك وضعت السيف في موضع الحوار، ولو لم تقتلهم لجعلنا يُذعن لمنطقنا الحق كل منطقة خراسان وما وراء النهر».

وهناك نص للشهيد مطهري، يقول فيه: «لولا أن جاء علماء جبل عامل إلى إيران في العهد الصفوي، ونشروا الفقه والحديث والتفسير وشيّدوا المدارس والمساجد، لآلَ أمرُنا في إيران كما العلويين في سوريا».

إذاً، هذا هو السبب الرئيسي في هجرة العلماء إلى إيران، ممّا أدى إلى وهن في الحضور العلمائي في البقاع، لكن بقيت هناك محاولات للإبقاء على الحضور العلمي. ولعلّ علماء (آل الخطيب) في (تمنين التحتا) كان لهم الدور الأساس والواضح في نشر العلم وهداية الناس، وكانوا أصحاب علم وفضيلة. والعلامة الراحل الشيخ حسين الخطيب كان وجه الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان، قبل تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى على يد سماحة الإمام السيد موسى الصدر ورفاقه العلماء، في خمسينيات القرن الماضي، وقد ترأس وفد لبنان إلى الخارج، ومنها: زيارته الشهيرة إلى مصر، ولقاؤه الرئيس جمال عبد الناصر في بيته، حيث استضافهم على العشاء، واستمر الحوار إلى ساعة متأخرة من الليل، وهذه ميزة تُسجل للرئيس جمال عبد الناصر، احترامه لأهل العلم واستضافته لهم في منزله.

الشيخ خليل والد الشيخ إبراهيم، كان له دور واضح وكبير في المنطقة، وخصوصاً في هذه القرية الطيبة (طاريا)، ونجله الشيخ إبراهيم سار على دربه من الوعظ والإرشاد وإصلاح ذات البين، وأنا أسجل موقفاً كريماً لأهالي (طاريا) من رفضهم لنقل جثمان الشيخ إبراهيم إلى (تمنين التحتا)، التي هي مسقط رأسه، وأصرّوا على دفنه في بلدتهم، وفاءً منهم وتبركاً بهذا العالم الجليل بعد موته، كما كان في حياته وذلك سنة ١٩٢١م، فلم يُقصّر هؤلاء الأعلام من القيام بمسؤولياتهم الدينية من الوعظِ والإصلاح وإحياء المناسبات، والأهمّ إصلاح ذات البين، من حلّ النزاعات والمشاكل، والمهمّ في الموضوع أن الناس يقبلون حكمهم ويرضون بصلحهم، ويرفضون العودة إلى المحاكم المدنية.

ومضافاً لعلماء (آل الخطيب) كانت هناك مدارس وعلماء عملوا على توليد الطاقات العلمية، كالشيخ حسين زغيب في بلدة (يونين)، فبعدما درس في جبل عامل على السيد علي إبراهيم الحسيني مدة اثنتي عشرة سنة، ذهب إلى النجف الأشرف، ودرس على أستاذ الفقهاء الشيخ مرتضى الأنصاري، ثم عاد إلى بلدته (يونين)، وشيّد مدرسة خرّجت علماء وفضلاء من (آل محفوظ) في الهرمل، وبعض أبنائه وغيرهم، واستمرت أكثر من عشرين سنة حتى رحيله سنة ١٨٧٧م/١٢٩٤هـ.

كذلك فعل السيد جواد مرتضى في بعلبك، وكانت مدرسة مهمة في تلك المرحلة، وتوفي سنة ١٩٢٢م/ ١٣٤١هـ.

وهناك علماء آخرون قدموا من جبل عامل، وبقوا في البقاع وماتوا هنا، كالشيخ حبيب آل إبراهيم المعروف بالمهاجر والمتوفى في بعلبك سنة ١٩٦٥م، ومفتي الهرمل الشيخ موسى عبد الكريم شرارة المتوفى أواخر سنة ١٩٩٨م، ولا زال الحضور العلمي في البقاع إلى يومنا هذا.

في الختام

أقلّ الواجب تكريم هؤلاء العلماء الأعلام الذين ضحّوا بالغالي والنفيس في سبيل هداية الناس وإصلاح شؤونهم، واستنهاض الشباب لمواجهة العدوان والدفاع عن كرامة الناس وعن أموالهم وأعراضهم.

ونحن في هذه الأيام نعيش ذكرى الإنتصار الإلهي المدوّي في عدوان تموز ٢٠٠٦م، هذا الإنتصار الكبير والواضح، جعل إسرائيل تعترف لأول مرة بهزيمتها وسَمّتها الحرب الثانية، وإن أزعج هذا النصر بعض المسؤولين اللبنانيين ومعهم بعض الأنظمة العربية، حيث حزنوا على هذه الهزيمة أكثر من إسرائيل، التي باتت تعمل ألف حساب قبل أن تقدم على أي حماقة معنا، فقد مرَّ على هذا العدوان عشر سنوات وإسرائيل في كل مرة تفشل باستخلاص العِبَر، بينما حزب الله وباعتراف إسرائيل أنه قد راكم من فائق القوة، ممّا فرض توازن ردع حقيقي مع هذا العدو.

وإذا كان الفشل في عدوان تموز هو الذي دعا محور الشر من أمريكا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية إلى فتح جبهة جديدة مع النظام السوري، ولقطع حلقة التواصل في محور المقاومة، مستفيدين من أبشع أنواع الأسلحة ــ السلاح المذهبي ــ ومستخدمين أقذر البشر وحشيةً من الذين لا دين لهم، ولا عقل ولا إنسانية يذبحون الكبار والصغار والنساء ولا يميزون بين سني وشيعي ودرزي ومسيحي.

ونحن بكل وضوح كما أنّنا لم نأخذ إذناً من أحد في مقاومة العدو الإسرائيلي في مواجهة عدوان تموز ٢٠٠٦م، وتحقيق النصر الواضح، كذلك لا يتوقع أحد منّا أن نستأذنه في مواجهة المنهج التكفيري، ولن نتفرج عليهم كي يصلوا إلينا، فهناك نفكر بمقاومتهم، ونحن لسنا من الذين يذبحون كالخراف، نحن نموت والبنادق في أيدينا، وسنكون حاضرين في كلّ موقع يتعرض فيه أهلنا وشعبنا للخطر، وعندما نستشعر الخطر على أهلنا في أي مكان فلن نتردّد بالدفاع عنهم، وواهمٌ من يظن أننا نتردّد في ذلك أو ننتظر إذناً منه.

وأقول لكم كما حمينا لبنان بالمقاومة والجهاد من العدوان الإسرائيلي، وفرضنا حالة الردع معه، كذلك سنحمي بلدنا ومناطقنا ممّن تسوّل له نفسه في أن يعتدي على لبنان من المنهج التكفيري الذي ترعاه أمريكا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية، وسننتصر إن شاء الله بالصبر والتضحية، وما النصر إلا من عند الله، (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وألقى كلمة العائلة سماحة الشيخ اسماعيل الخطيب و مما جاء فيها:

أيها الإخوة أيتها الأخوات السلام عليكم ورحمة الله.

وبعد... إنه لمن دواعي الخير والرشد أن تتهيأ لنا جمعية تحمل إسم الإمام الصادقQ لتحيي تراث خرّيجي مدرسة الإمام الصادقQ، من هؤلاء سلسلة علماء تمنين على مدى ثلاثة قرون تقريباً إلى منذ ما يقارب ١١٧٥هـ وحتى الآن.

عشرة علماء... أربعة منهم وهم الأوائل تخرّجوا من مدارس جبل عامل وهم: الأخوان ابراهيم ومحمد تقي وإبناهما خليل وجواد

- أمّا ابراهيم فلدينا من بركاته نسخة بخط يده الشريفة لكفاية الفقه (الجزء الأول) عدد صفحاته ٣٩٠ صفحة، انتهى من نسخها نهار الأربعاء في شهر ربيع الأول سنة ألف ومائتين وخمسة عشر هجري.

وفي آخر صفحة من الكتاب قصيدة أول بيت فيها:

علو في الحياة وفي الممات

لحق أنت إحدى المعجزات

- وأما محمد تقي، فقد ذكره السيد محمد جواد الحسيني صاحب مفتاح الكرامة في إجازته للشيخ جواد.

(... ولمّا كان الولد الأعز المقتفي انشاء الله لهذا الأثر العالم العاملي والفاضل الكامل المحقق المدقق المزاحم درجة الإجتهاد والسالك بصفاء ذهنه ودقة فكره نهج السداد الشيخ محمد الجواد نجل شيخنا ومولانا الشيخ محمد تقي...)

والذي أستظهره أن الشيخ محمد تقي من زملاء السيد محمد جواد الحسيني في مدرسة (شقراء) التي أسّسها عم السيد محمد جواد (السيد أبو الحسن موسى الحسيني) المتوفي سنة ١٧٨٠م والشيخ جواد هو الوحيد من علمائنا ممن له أثر علمي رفيع وقليل من نوعه أرجوزة في الفقه تحوي:

١- باب الزكاة بكل فروعها

٢- باب الإرث بكل فروعه

٣- باب الصيد والذباحة بجميع فروعهما

وأرجوزة في جميع أبواب الأصول اللفظية والعملية وبحث في أوزان الشعر كلها في مجلد واحد وهو بين أيدينا.

وفيه نظر وآراء العلماء:

- السيد محمد نور الدين

- الشيخ عبد الله بن علي نعمة

- السيد محمد جواد الحسيني

زائداً على ذلك:

- إجازة مطولة من السيد محمد جواد الحسيني

- إجازة مطولة من السيد علي آل السيد ابراهيم

- إجازة من الشيخ عبد الله بن علي نعمة

أمّا الستة الباقون، فقد تخرّجوا من حوزات النجف الأشرف وهم:

- الشيخ ابراهيم بن الشيخ خليل (المدفون في طاريا على أهلها التحية والسلام)

- الشيخ محمد بن الشيخ جواد

- الشيخ صادق بن الشيخ ابراهيم

- الشيخ أحمد بن إبراهيم (شقيق الشيخ محمد)

- الشيخ حسين بن الشيخ صادق

- الشيخ ابراهيم بن الشيخ أحمد

هؤلاء الأفراد من أهل العلم والمنارات من أهل التقوى والمعرفة ممن جادت بهم تمنين، فكانت على طول هذه القرون قبلة المؤمنين من أنحاء البقاع وهم بدورهم كانوا خدماً للمؤمنين يلبّون حاجاتهم ومتطلّباتهم وبما هم شأن له.

أشكرالله لجمعية الإمام الصادقQ على هذه البادرة الكريمة بشخص رئيسها سماحة الأخ العزيز الشيخ حسن بغدادي سائلاً المولى أن يتولاهم بالتوفيق والسداد والحمد لله رب العالمين .

كما ألقى رئيس البلدية الحاج حمزة كلمة ترحيبية رحّب بها بالحضور، و شكرهم على مشاركتهم في حفل تكريم العلامة الشيخ إبراهيم الخطيب، معتبراً أنّ أهالي طاريا و المنطقة يرون أقل الواجب أن يقوموا بتكريم علمائهم ويستفيدوا من تجاربهم ومن بركاتهم، وإن أهالي طاريا الأوفياء احتضنوا الشيخ إبراهيم الخطيب في حياته، وأصرّوا على إبقاء جسده الطاهر عندهم، ليكون هذا بعض وفاء تجاه هذا العالم الجليل.

وشكر الحاج حمية سماحة الشيخ حسن بغدادي على اهتمامه بإحياء تراث هؤلاء العلماء ولفتته الكريمة إلى بلدة طاريا وتكريمه أحد علماء المنطقة الشيخ إبراهيم الخطيب.

قدّم للإحتفال الأستاذ علي زكي حميّة، رئيس لجنة الوقف في بلدة طاريا.

حضر الإحتفال جمع من العلماء وأسرة آل الخطيب، المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية في لبنان الدكتور محمد مهدي شريعة مدار، والحاج مصطفى الديراني، والحاج محمد سماحة، الشيخ أديب حيدر ورؤساء بلديات ومخاتير وأهالي البلدة و فعاليات المنطقة.

لم يكن يعلم أنّ كتابه الجواهر
سيراه أحد من الناس

إنه العلامة العلم صاحب المنبر الأعظم الشيخ محمد حسن بن الشيخ باقر النجفي والمعروف بـ (صاحب الجواهر)، ولد في النجف الأشرف سنة ١٢٠٢هـ، وتوفي سنة ١٢٦٦هـ، درس على العلامة السيد محمد جواد الحسيني صاحب (مفتاح الكرامة)، وتنبّأ له ان يكون صاحب المنبر الأعظم، فخرّج الكثير من الفقهاء، ومنهم فقيه جبل عامل الشيخ عبد الله نعمة الجباعي.

انتهت إليه الرئاسة الدينية وكانت لزعامته حضور واضح، حيث أظهر عظمة هذا الموقع أمام الناس، وهو الذي أشار على الحوزة العلمية أن تختار أستاذ الفقهاء الشيخ مرتضى الأنصاري مرجِعاً للمسلمين الشيعة.

من أهم مصنّفاته كتاب (الجواهر في الفقه على شرائع الإسلام) للمحقّق الحلي.

ومن مناقبه: طلب منه ذات يوم أحد العلماء أن يعطيه رسالة لأحد التجار كي يأخذ منه نسخة من كتابه الجواهر، وهنا تعجّب الشيخ الجواهري، قائلاً وهل توجد نسخة منه عند أحد، فأنا عندما كتبت الجواهر كان كل همّي أن يكون معي في أسفاري، كي لا أحتاج إلى مراجع ومصادر، ولو كنت أعلم انه سينتشر لكتبت أهمّ من هذا بكثير وبشكل أفضل.

يقول هذا العالم: إنّ قيمة هذا الكتاب (الجواهر) وأهميته وأنه لا نظير له، كانت ببركة هذا الإخلاص الموجود عند الشيخ محمد حسن النجفي، فقد كتبه بنيّة خالصة لوجه الله ولم يكن يعلم أن أحداً سيرى هذا الكتاب غيره.