٥٤
(بطاقة عالم)
العلامة الشيخ
سليمان معتوق العاملي (طاب ثراه)
من أعلام القرن الثالث عشر هجري، كان صاحب فضيلة علمية حاز على علوم متعددة.
نشأ في جبل عامل إلى جنب زميله في الدراسة السيد صالح الموسوي، فدرسا على والد السيد صالح في (شحور) السيد محمد بن إبراهيم شرف الدين الموسوي.
غادر إلى العراق عندما وضع العثمانيون يدهم على جبل عامل بعد رحيل السيد أبو الحسن موسى الحسيني (١٧٨٠م) ومقتل الأمير ناصيف النصار في معركة يارون (١٧٨١م)، حيث كانت بداية وقوع النكبة على جبل عامل التي طالت شرارتها كل شرائح المجتمع وفي مقدمتهم العلماء والمدارس والمكتبات العلمية فقُتل البعض وسُجن آخرون وفرّ الباقي بعد أن اقتضت المصلحة مغادرة جبل عامل.
الشيخ سليمان معتوق من جملة العلماء الذين غادروا جبل عامل تفادياً لهذا الظلم و في نفس الوقت لأجل استكمال التحصيل العلمي على أساطين الحوزة العلمية، فسكن الكاظمية من بغداد حيث مرقد الإمامين موسى الكاظم و حفيده محمد الجواد(عليهما السلام) و كان ذلك سنة ( ١١٩٧هـ)، وكان رحمه الله من شيوخ الإجازة، فاستجاز جماعة من الأعلام منهم السيد محسن الأعرجي صاحب (المحصول) والعلامة السيد صدر الدين الصدر.
بعد الكاظمية توجه إلى كربلاء وحضر على صاحب (الحدائق)، ثم عاد إلى الكاظمية ثانية وفضّل البقاء فيها، ومجاورة الإمامين (عليهما السلام) بدلاً من العودة إلى جبل عامل على الرغم من إزالة العوائق من طريق العودة وأهمّها هلاك الجزار (١٢١٩هـ)، ولعل السبب في عدم العودة إلى جبل عامل هو الإرتباط العلمي والإجتماعي الذي شغله في الكاظمية، ولولا الموانع الرئيسية بالتأكيد لعاد إلى بلاده و أهله، وبالأخص أنّ المصلحة تقتضي ذلك لأجل العمل على إعادة الحياة العلمية التي انتهت بسبب النكبة.
أعقب الشيخ سليمان معتوق ذرية صالحة بقيت في الكاظمية منها العالم الفاضل الجليل الشيخ أمين حيث كان أحد علماء عصره على حد تعبير السيد حسن الصدر في التكملة وتوفي في الكاظمية بالطاعون (١٢٤٦هـ)، ومن جملة أولاده أيضاً الشيخ محمد وكان من أجلة العلماء الأفاضل ووصفه العلامة السيد عبد الله شبّر بأنه من المشايخ العظام وعلامة الأعلام .
توفي الشيخ سليمان معتوق في الكاظمية في شهر رمضان سنة ١٢٢٧هـ، ودفن فيها.
الفقيه القاضي
ابن البراج الطرابلسي
السنة الخامسة ــ العدد الرابع والخمسون ــ حزيران ٢٠١٦م / رمضان ١٤٣٧هـ
شخصية العدد
الشيخ أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير الطرابلسي
الشهير بالقاضي إبن البراج
من أعلام الفقه في القرن الخامس هجري، ومن كبار علماء الإمامية، أوكلت إليه مهمّة القضاء لأكثر من عشرين سنة في طرابلس والذي يُشرط فيه الإجتهاد الواضح، وهو يختلف عن القضاء عندنا، حيث أن مهمة القاضي هي متابعة الأحوال الشخصية، والذي يحتاج إلى قليل من العلم.
يُعتبر إبن البراج من المرحلة التي أخذ فيها الفقه الجعفري يشق طريقه في إطار التطور على يد الشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي، وهو عالم كلامي وفقيه محدّث ومناظر ومصنّف، درس عليه الكثير من الفقهاء والكلاميين، أمثال: السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي الفتح الكراجكي حتى رحيله سنة ٤١٣هـ، ثم قام مقامه تلميذه السيد المرتضى حتى رحيله سنة ٤٣٦هـ، وبعده تصدى الشيخ أبو جعفر الطوسي، حيث أطلق العنان للفقه والفقه المقارن، ولم يعد أحد من العلماء يجرؤ على مناقشة المباني الفقهية، حتى اتهموا بأنهم باتوا مقلدة، وانكسر هذا الجمود في عهد العلامة إبن إدريس الحلي سنة ٥٩٨هـ، فكان رحمه الله يمتلك القدرة والجرأة على مناقشة الشيخ الطوسي، وعمل على النهوض مجدداً واستمرت هذه النهضة آخذة بالصعود والنمو حتى مرحلة المولى الوحيد البهبهاني في كربلاء، حيث اكتمل الفقه الجعفري في عهده، ووُجهت ضربة قوية إلى المنهج الأخباري.
ومضافاً لوجود إبن البراج في مرحلة تطور الفقه، كان أيضاً في مرحلة معالجة قضية الغيبة للإمام المنتظر (عج)، سواء الغيبة الصغرى التي انتهت سنة ٣٢٩هـ برحيل السفير الرابع أبو الحسن علي بن محمد السمري، أو الغيبة الكبرى وما رافقها من تساؤلات، سنبيّن هذه النقطة في معرض حديثنا عن دور إبن البراج الطرابلسي.
ولادته ونشأته:
بعد التتبع في كتب التراجم أجدهم قد تأثروا فيما ذهب إليه الشيخ عبد الله الأفندي من أن ولادة الشيخ إبن البراج كانت في (مصر)، واعتمد في هذا الكلام على بعض الفضلاء، كما نسب ولادة القاضي أبي الفتح الكراجكي إلى الديار المصرية.
البعض لم يُعجبه هذا الكلام واعتبر فيه وهنٌ واضح، لكون الشيخ عبد الله الأفندي نسب الخبر إلى أحد الفضلاء وهو مجهول لدينا، وأنا بتقديري هذا الإعتراض صحيح من ناحية تقنية، ولكن هذا الضعف يُجبر بتبني الشيخ الأفندي له، وهو العارف المتتبع، وليس من المعقول أن ينسب كلاماً إلى شخص لا يعرف عنه شيئاً، وخصوصاً أنه يُعبر عنه بالفاضل.
وبغض النظر عن مكان ولادة القاضي إبن البراج هل كانت في مصر أو طرابلس، وهل أساسه من الديار المصرية؟ أم أن والده كان يسكن بها ثم عاد به إلى طرابلس، ما يهمّنا أن إبن البراج يُعتبر من الشخصيات العلمية والسياسية في طرابلس، كان فيها ومات ودفن فيها، وصار من أعلامها المعروفة ووجوهها الساطعة، والذي يؤيد أن إبن البراج لم يطرأ على طرابلس، ولم توكل إليه مهمة القضاء وهو من خارجها، ما ورد على لسان الشيخ عبد الله الأفندي، من أن القاضي إبن البراج بعد دراسته في بغداد على السيد المرتضى والشيخ الطوسي عاد إلى طرابلس، إذاً هو كان في طرابلس قبل أن يتوجه إلى بغداد للدراسة فيها، وعاد إليها وهو إحدى الشخصيات الفقهية والكلامية. وبناءً على هذا، لا تعود هناك ثمرة علمية من هذا النقاش، وهل كانت ولادته في مصر أو في طرابلس؟ فهذا النمط من الأشخاص يتجاوز الحديث عنه مكان ولادته وعائلته، إلا من باب حب التعرّف على حسبه ونسبه ليضاف إلى سجل حضوره المُشرّف، وذات يوم سأل أحدهم إحدى الشخصيات الفكرية إلى من تنتسب؟ فأجاب: (إليّ يُنسب الرجال).
أما تاريخ ولادته ــ على الأرجح ــ أنها كانت في حدود ٤٠٠هـ ــ ١٠٠٩م، ويمكن البناء على هذا التاريخ بما ورد على لسان السيد التفريشي، أن: «الشيخ إبن البراج نيّف على الثمانين»، وإذا ما عرفنا أنه توفى سنة ٤٨١هـ، فولادته تكون في حدود سنة ٤٠٠هـ.
دراسته في طرابلس
بالتأكيد لم يشدّ الرحال إلى بغداد بمجرد أخذه قرار التوجه إلى طلب العلم، ولا بُد أنه حضر على فضلاء طرابلس واستفاد منهم، وخصوصاً أن طرابلس في ذلك العهد كانت منارة علمية، وشيّد فيها الحاكم بأمر الله (دار الحكمة) سنة ٤٠٠هـ ــ ١٠٠٩م، وأضحت تلك الدار من أهمّ المكتبات العلمية، وجُمع فيها الكثير من الكتب والمخطوطات النفيسة من سائر العلوم المختلفة، وفتحت أبوابها لجميع الطبقات من الناس، كما أتيحت فرصة النسخ والمطالعة.
ذهب البعض إلى أن إبن البراج درس على القاضي أبي الفتح الكراجكي المتوفى سنة ٤٤٩هـ، وقد استبعد الشيخ الأفندي ذلك، معتبراً أنّ الذي درس عليه هو القاضي إبن أبي كامل الطرابلسي وليس إبن البراج، وجعل إبن البراج والقاضي أبي الفتح الكراجكي في درجة واحدة، وإبن أبي كامل يروي عنهما، لكن كلام الأفندي فيه مغالطة، لأن القاضي إبن البراج ليس من طبقة القاضي الكراجكي، فإبن البراج توفي سنة ٤٨١هـ والكراجكي توفى سنة ٤٤٩هـ، فكيف يكونا في درجة واحدة، والفارق بين رحيل الأول والثاني اثنان وثلاثون سنة، إن لم يكن أكثر. وبغض النظر عند من درس إبن البراج في طرابلس، فقد وصل إلى بغداد وهو صاحب فضيلة علمية أهلته لأن يجلس إلى جنب الشيخ الطوسي الذي سبقه إلى بغداد بـ ٢١ سنة حيث درس فيها على الشيخ المفيد والسيد المرتضى.
إذاً، ترك إبن البراج طرابلس والتحق بالعاصمة العلمية (بغداد)، مع أن طرابلس منارة علمية، وكان بإمكانه البقاء فيها، لكن طموحه العلمي دعاه للذهاب إلى بغداد كي يعود أحد رواد الفقه، وبغداد في تلك المرحلة كانت مختصة بنعمة وجود الدولة (البويهية) التي حكمت إيران والعراق، وازدهر في عصرها العلم والحضارة الإسلامية، وأُطلق العنان للفقه والحوار، ولم يستغل علماء الإمامية وجود هذه الدولة لتكون السيف المسلط على رقبة الآخرين لفرض قناعاتهم عليهم بالقوة، بل كلّ الذي استفادوه من هذه الدولة العادلة هو فرض مجالس الحوار والنقاش مع علماء المذاهب، فكانت الأفكار تُفرض بالدليل والحُجّة الساطعة، وقد عمل على هذا الشيخ المفيد ومن تبعه، وخصوصاً أن تلك المرحلة كانت معقدة على المستوى العقائدي وتحتاج إلى إجابات على تساؤلات وإشكالات وبالأخص ما هو مرتبط بقضية غيبة الإمام المهدي المنتظر |.
دراسته في بغداد
كانت بغداد عاصمة العلم والحضارة الإسلامية ومركز الخلافة، عندما وصل إليها القاضي إبن البراج سنة ٤٢٩هـ، كان العلامة العلم السيد المرتضى هو المتصدي للشأن وصاحب المنبر الأعظم، وقد اجتمع عليه الطلاب من كل حدب وصوب، ومنهم: الشيخ أبو جعفر الطوسي، وحضر معه إبن البراج الدرس حتى رحيل السيد المرتضى سنة ٤٣٦هـ، وكان السيد المرتضى يقسّم رواتب شهرية على الطلاب كي يستغنوا عن مد اليد إلى الآخرين، ولأجل التفرغ الكامل إلى طلب العلم، وهذه السُّنة الحسنة سار عليها المراجع المتصدين في الحوزات العلمية إلى يومنا هذا.
بقي الكلام حول دراسة إبن البراج على الشيخ الطوسي والحوارات الفقهية والعقائدية، هل كانت من موقع الزمالة، أم أنه كان تلميذاً له؟ هناك من ذهب إلى أن إبن البراج زميلٌ للشيخ الطوسي، واستدل على ذلك بحضور إبن البراج مجلس درس السيد المرتضى إلى جنب الشيخ الطوسي، مضافاً لشرحه كتاب (جُملِ العلم والعمل) للسيد المرتضى، حيث تقاسم شرحه مع الشيخ الطوسي، والمناقشات الفقهية التي نقلها في كتابه (المهذب في الفقه).
لكن من يراجع تاريخ وصول الشيخ الطوسي إلى بغداد، وأنها كانت قبل وصول إبن البراج بـ ٢١ سنة، مضافاً إلى ما هو المتعارف عليه في الحوزات العلمية، أنّ طالب العلم عندما يُنهي مرحلة السطوح، يلتحق بالبحث الخارج، ويكون قد سبقه إلى هذا الدرس من هو بمنزلة أستاذه، وعندما يموت الأستاذ يتصدى أبرز تلامذته للتدريس، فيلتحق به من كان يحضر معه الدرس، وهذا ما حدث مع كثيرين، منهم: السيد مهدي بحر العلوم عندما كان يحضر درس المولى الوحيد البهبهاني في كربلاء، وإلى جنبه الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء، وعندما تصدى السيد بحر العلوم للتدريس في النجف الأشرف، إلتحق بدرسه الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء، وهكذا فعل السيد محمد جواد الحسيني العاملي (صاحب مفتاح الكرامة في الفقه) مع الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء.
وأما ما استدل به على الزمالة من تقاسم شرح كتاب السيد المرتضى (جُمل العلم والعمل) حيث شرح إبن البراج القسم المتعلق بالفقه، والشيخ الطوسي شرح القسم المتعلق بالكلام، وهذا أيضاً ليس مؤشراً على الزمالة، فنحن لم ندعِ أن التلميذ يجب أن يكون جاهلاً أمام الأستاذ، حتى يُقال أنّ التقاسم أو الحوار هو من موقع الزمالة، فليس من الضروري أن تكون هناك فوارق كبيرة بينهما، وكونه تلميذاً للطوسي، لا ينافي أن يكون إبن البراج من الفضلاء، وصار بمقدوره مناقشة أستاذه والتصدي معه لأمور علمية أساسية، وهذا أيضاً متعارف عليه في الحوزات العلمية، ولطالما كان الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء يطلب من تلميذه السيد محمد جواد الحسيني العاملي (صاحب مفتاح الكرامة) أن يحقق لهم بعض المسائل ويحسم الأمور فيها.
إذا قبلنا هذا الموضوع، فتُحلّ مشكلة الحوار والنقاش بين إبن البراج مع الشيخ الطوسي، والذي نقله في كتابه (المهذب في الفقه) فقد ناقشه في مسألة: « إذا حلف ألا آكل هذه الحنطة، أو من هذه الحنطة، فأكلها على جهتها أو بعد أن طحنها وصارتْ دقيقاً حنث، لأن العين الذي تعلّقت اليمين بها واحدة. وكان الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه الله قد قال لي يوماً في الدرس، إن أكلها على جهتها حنث، وإن أكلها دقيقاً أو سويقاً لم يحنث. فقلت : له ولم ذلك، وعين الدقيق هي عين الحنطة، وإنما تغيرت بالتقطيع الذي هو الطحن؟ فقال: قد تغيرت عما كانت عليه، وإن كانت العين واحدة، وهو حلف أن لا يأكل إلا ما هو مسمى حنطة، لا ما يسمى دقيقا. فقلت له: هذا لم يجز في اليمين، فلو حلف لا أكلت هذه الحنطة ما دامت تسمى حنطة، كان الأمر على ما ذكرت، فإنما حلف أن لا يأكل هذه الحنطة أو من هذه الحنطة. فقال: على كل حال قد حلف أن لا يأكلها وهي على صفة، وقد تغيرت تلك الصفة فلم يحنث. فقلت: الجواب ها هنا مثل ما ذكرت أولاً، وذلك إن كنت تريد أنه حلف أن لا يأكلها وهي على صفة، أنه أراد تلك الصفة، فقد تقدّم ما فيه، فإن كنت لم ترد ذلك فلا حجة فيه، ثم يلزم على ما ذكرته أنه لو حلف أن لا يأكل هذا الخيار أو هذا التفاح، ثم قشره وقطعه وأكله لم يحنث، ولا شبهة في أنه حنث. فقال: من قال في الحنطة ما تقدم، يقول في الخيار والتفاح مثله. فقلت له: إذا قال في هذا مثل ما قاله في الحنطة علم فساد قوله بما ذكرت، مع أن العين واحدة، اللهم إلا إن شرط في يمينه أن لا يأكل هذا الخيار أو هذا التفاح وهو على ما هو عليه، فإن الأمر يكون على ما ذكرت، وقد قلنا أن اليمين لم يتناول ذلك. ثم قلت له: على أن الاحتياط يتناول ما ذكرته، فأمسك».
وأيضاً في مسألة: «قد كان الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه الله قال لي يوما في الدرس، هذا الماء يجوز استعماله في الطهارة وإزالة النجاسة. فقلت له: ولم أجزت ذلك مع تساويهما؟ فقال: إنما أجزت ذلك لأن الأصل الإباحة. فقلت له: الأصل وإن كان الإباحة، فأنت تعلم أن المكلف مأخوذ بأن لا يرفع الحدث ولا يزيل النجاسة عن بدنه أو ثوبه إلا بالماء المطلق. فتقول أنت: بأن هذا الماء مطلق؟ فقال: أفتقول أنت بأنه غير مطلق؟ فقلت له : أنت تعلم أن الواجب أن تجيبني عما سألتك عنه ــ قبل أن تسألني ــ بلا أو نعم، ثم تسألني عما أردت، ثم إنني أقول بأنه غير مطلق. فقال: ألست تقول فيهما إذا اختلطا، وكان الأغلب والأكثر المطلق، فهما مع التساوي كذلك. فقلت له: إنما أقول بأنه مطلق إذا كان المطلق هو الأكثر والأغلب، لأن ما ليس بمطلق ما لم يؤثر في إطلاق اسم الماء عليه، ومع التساوي قد أثر في إطلاق هذا الاسم عليه، فلا أقول بأنه مطلق، ولهذا لم تقل أنت بأنه مطلق، وقلت فيه بذلك إذا كان المطلق هو الأكثر والأغلب، ثم إن دليل الاحتياط تناول ما ذكرته. فعاد إلى الدرس، ولم يذكر في ذلك شيئاً».
هذا الحوار والنقاش كما أسلفت لا يدل على الزمالة، وهو أمر طبيعي بين التلميذ والأستاذ في مرحلة البحث الخارج، وخصوصاً أن البحث الخارج موضوعه الحوار والنقاش بين الأستاذ والتلامذة، وهم يمتلكون فضيلة علمية تؤهلهم لهكذا حوارات ومناقشة.
نعم ولا شك أن علاقة إبن البراج بالشيخ الطوسي، كانت علاقة مميزة، وكان يرى في هذا التلميذ المستقبل الذي ينتظره، ولذلك كان يُعتبر نائباً له في البلاد الشامية كما سنبيّن ذلك في سياق الترجمة.
قرار العودة إلى طرابلس
قضى القاضي إبن البراج مدة تسع سنوات في بغداد، منكباً على الدرس والتصنيف، وكان قرار العودة ضرورياً للقيام بالوظائف الشرعية، وخصوصاً من تلك المرحلة الذهبية التي تمرّ بها المنطقة وفي ظل حكم بني عمار لطرابلس، وحاجتها إلى عالم فقيه بمستوى إبن البراج ليتولى منصب القضاء المختلف عن القضاء العادي الذي يكون بين متخاصمين. فكانت العودة سنة ٤٣٨هـ، وبقي في طرابلس إلى أن مات سنة ٤٨١هـ.
وقبل التعرض إلى الإنجازات التي حققها في طرابلس، لا بد من ذكر مختصر عن طرابلس وعن موقع بني عمار فيها.
طرابلس
مدينة تقع على ساحل الشام، وكانت جغرافيا تختلف عما هي اليوم فإبن (خلكان) قال: « هي قريبة من بعلبك»، وصاحب تلخيص الآثار، قال: «هي مدينة على شاطئ بحر الروم، عامرة كثيرة الثمرات، لها سور منحوت من الصخر، وبساتين جليلة ورباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون»، وقال صاحب القاموس: «طرابلس بلد بالشام وبلد بالمغرب، أو الشامية أطرابلس بالهمزة، أورومية معناها ثلاث مدن»، وهذه المدن الثلاث هي مدن فينقيه: صور، وصيدا، وأرواد، بنوها وكان كل حيّ من أحيائها الثلاثة يفصله عن الآخر سور.
دولة بني عمار في طرابلس
بنو عمار من عائلة تعود أصولها إلى قبيلة (كتامة) من المغرب، وعند قيام الدولة الفاطمية، كان لشيوخ هذه القبيلة حضور في مؤسسات الدولة ومنهم: الحسن بن عمار الذي كان من المقربين للخليفة الفاطمي العزيز بالله.
في البداية تصدى بنو عمار في طرابلس لمنصب القضاء، فهم علماء حكماء، ولاحقاً أصبحوا أمراء، ومنهم: أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار المتوفى ٤٦٤هـ، ثم جلال الملك أبو الحسن علي بن عمار المتوفى سنة ٤٩٢هـ، ثم فخر الملك عمار بن محمد بن عمار المتوفى سنة ٥١٤هـ، وأبو المناقب شمس الملوك أبو الفرج محمد بن عمار المتوفى سنة ٥٠١هـ.
وقد استقل بنو عمار في طرابلس سنة ٤٦٢هـ ــ ١٠٧٠م، وكانت إماراتهم تمتد حتى تخوم بيروت، وحتى أرباض أنطاكية من جهة ثانية، وفي سوريا من نواحي جبلة إلى قلعة صافيتا وحصن الأكراد والبقيعة، وإلى الهرمل والضنية وجبّة بشري، وكانت جونيه من أعمال طرابلس. وأصبحت طرابلس أعظم مدينة طوال الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وكانت أساطيلها عامرة، وتنقل منتجات الشام والمشرق إلى أوروبا. وكان ميناء طرابلس ينقل السكر إلى وروبا، وزدهرت طرابلس اقتصاديا في عهد بني عمار وراج سوق العلم والأدب والحضارة والعمران، ونستطيع القول أنّ بني عمار استطاعوا أن يبنوا دولة قوية ومتينة تستطيع أن تدافع عن نفسها وعن كيانها في قبال الغزو الصليبي الذي لن نتعرض له الآن.
إذا عرفنا أهمية موقع طرابلس الجغرافي والإقتصادي والحضاري والعلمي، فسوف نعرف أهمية الدور الذي قام به العلماء ومنهم القاضي إبن البراج.
إنجازات القاضي إبن البراج:
· القضاء: قد يتخيل البعض أنّ القضاء وقتها يشبه القضاء الجعفري في المحاكم الجعفرية عندنا، وأن مهمته هي مجرد متابعة الأحوال الشخصية، والتي يحتاج معها القاضي إلى قليل من العلم، بينما القضاء في تلك المرحلة أمر مختلف، كان القاضي يشبه الوالي، وله حضور ونفوذ، يستطيع أن يُبرم الإتفاقيات السياسية والعسكرية وهو حاكم إذا صح التعبير، ويحتاج صاحبه إلى اجتهاد واضح ورمزية استثنائية، ويصبح رجلاً أساسياً في مشروع السلطة والدولة.
وهنا نجد أنّ هذا المنصب لم يكن بمعزل عن المرجعية العامة عند المسلمين الشيعة، وعندما تعود إلى إبن البراج في لسان العلماء نجدهم يعبرّون عنه بأنه نائب الشيخ الطوسي في البلاد الشامية، وهذا المنصب الذي تبوّأه إبن البراج لم يكن بمعزل عن توكيل المرجعية العامة، وهذا دليل إضافي على التفاوت في الرتب بين الشيخ الطوسي وابن البراج.
يبقى السؤال، هل أُجبرَ الشيخ إبن البراج على هذا المنصب أم اختاره من تلقاء نفسه؟ قد يرى البعض أن قبوله بهذا المنصب من باب التقية، لأنه أجبر على ذلك، ولكن أنا أستبعد هذا الكلام، فلا يوجد دليل على أنه كان مجبراً على الذهاب إلى طرابلس ولا على البقاء فيها، مضافاً أن بقاءه في منصب القضاء ما يزيد على العشرين سنة لا يدل على كونه مجبراً على ذلك.
وقد اشتهر إبن البراج بلقب القاضي حتى بات يُعرف به، والشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني من أواسط القرن الثامن هجري، أطلق عليه هذا اللقب من دون إضافة، وقد ورد عن الشهيد الأول في بعض فوائده، وهو يتحدث عن تلامذة السيد المرتضى، قوله: « ومنهم إبن البراج، وكان قاضي طرابلس، ولَاه جلال الملك (رحمه الله)»، وهو أبو الحسن علي بن محمد بن عمار، ويؤكد أيضاً الأفندي في الرياض: «عن خط الشيخ البهائي عن خط الشهيد الأول أنه تولى إبن البراج قضاء طرابلس عشرين أو ثلاثين سنة». وهذا المقدار من التاريخ يحتاج إلى نقاش وربما لا يكون كذلك، إذا قلنا أن الذي عيّنه بالقضاء هو أبو الحسن بن عمار وعليه فيكون ذلك سنة ٤٦٤هـ وإلى وفاة إبن البراج ٤٨١هـ فتكون مدة ولايته القضاء سبع عشرة سنة.
· التدريس: فالقاضي إبن البراج كان فقيهاً وعالماً، وكان في طرابلس مُذ سنة ٤٣٨هـ، وقبل أن يصبح قاضياً بسنين، ومعنى ذلك أنه لا بد وأن يمارس المهمة التي تخصص بها، وأن يستمر بالتدريس والتصنيف، خصوصاً أن طرابلس كانت مركزاً حضارياً وعلمياً، وقد تأسس فيها دار العلم كما ذكرنا فيما تقدم، وكانت الدار من كبريات المكتبات العلمية وتحظى باهتمام خاص لدى السلطة السياسية والطبقة المثقفة والعلماء. ومن العلماء الذين درسوا على إبن البراج، نذكر على سبيل المثال:
١. أسعد بن أحمد بن أبي روح، ويعتبر من أهم تلامذة إبن البراج وخلفه في طرابلس، فتولّى منصب القضاء وإدارة (دار الحكمة)، وكان له حضور فقهي وسياسي، وتحدث عنه أصحاب التراجم فامتدحوه، وكان عالماً عابداً زاهداً كثير التهجد، لا ينام من الليل إلا قليلاً، وأيضاً يُحكى أنه رحمه الله كان مهتماً بالفقه المقارن، وقد صنّف العديد من الكتب في ذلك.
٢. الشيخ عبد الجبار بن عبد الله المقدسي الرازي، وأصله من نيسابور وهي في شمال إيران، وسكن في منطقة بطهران، وقرأ على الشيخ الطوسي مصنفاته، واستجازه في النجف الأشرف في السنة التي توفي فيها الشيخ الطوسي سنة ٤٦٠هـ، ثم غادر إلى طرابلس ودرس على القاضي إبن البراج وبقي فيها إلى أن مات ودفن في نفس مكان الحجرة التي دفن فيها أستاذه إبن البراج.
٣. الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الخزاعي النيسابوري، ومعروف بالمفيد النيسابوري، درس في بغداد على السيد المرتضى وأخيه الرضي والشيخ الطوسي، ثم ذهب إلى طرابلس وقرأ على القاضي إبن البراج، وقال عنه الشيخ منتجب الدين أنه: «يروي كثيراً عن محدثي الشيعة والسنة، وأنه محدث حافظ رحّال كثير الفضائل لكنه غال في التشيع، سكن منطقة الري وأصبح شيخ الأصحاب وفيها توفي».
بناءً على ما قاله منتجب الدين، فهو لم يسكن طرابلس بشكل دائم، وإنما عرّج على طرابلس، وقرأ على إبن البراج ضمن سياق الرحلة الواسعة إلى المنطقة.
٤. الشيخ الحسن بن الحسين بن بابويه القمي، وهو جد الشيخ منتجب الدين (صاحب الفهرست)، ذهب إلى بغداد وقرأ فيها على الشيخ الطوسي، ثم ارتحل إلى طرابلس، وكما قال الحر العاملي في أمل الآمل أنه: « قرأ فيها على إبن البراج جميع تصانيفه».
٥. الشيخ عز الدين عبد العزيز بن أبي كامل الطرابلسي، درس في بغداد على السيد المرتضى والشيخ الطوسي، ويروي عن الكراجكي وابن البراج الطرابلسي.
٦. الشيخ أبو محمد الحسن بن عبد العزيز بن الحسن الجيهاني، وذكره الشيخ منتجب الدين (صاحب الفهرست) فقال: «فقيه ثقة، قرأ على الشيخ الطوسي وعلى الشيخ إبن البراج رحمهما الله».
٧. الشيخ أبو الفتح الصيداوي، يُنسب إلى مدينة (صيدا) من لبنان، وذكره الأفندي في الرياض، فقال: «أبو الفتح الصيداوي من أعاظم تلامذة بعض تلاميذ السيد المرتضى، ويظهر من بعض فوائد الشهيد في طي ذكر تلامذة المرتضى، أن القاضي إبن البراج الذي هو من تلامذة السيد المرتضى، كان أستاذ أبي الفتح الصيداوي».
مصنفاته:
١. شرح القسم الفقهي من كتاب أستاذه السيد المرتضى (جُمل العلم والعمل)، والذي تولى فيه الشيخ الطوسي شرح القسم الكلامي منه. ولعل متن هذا الكتاب هو بإشارة من الشيخ المفيد إلى تلميذه السيد المرتضى بأن يصنف متناً وجيزاً، ليكون رسالة للمؤمنين ليعملوا فيها.
٢. جواهر الفقه، وعبّر عنه إبن شهرآشوب (بالجواهر)، وهذا الإسم ذكره إبن البراج في مقدمة كتاب (جواهر الفقه)، وذكر فيها السبب الذي دعاه إلى تصنيف هذا الكتاب، وملخصه: أن الدافع إلى ذلك هو ردّ بعض الجميل لأمراء طرابلس، والإجابة على المسائل التي كانت ترد، وقد استحسن بعضها، ومما جاء في مقدمته: «أما بعد، فإنه لما كانت أيادي حضرات القضاة الأغريّة الجلالية الفخرية، ثبّت الله وطأها ومجدها، وأدام قدرتها وسعدها علينا ممتدة الأظلال، مسبلة الأذيال، شاملة الإحسان والإنعام، غامرة بكل فضل وإكرام، وجب في حق ذلك الشكر لها علينا، والخدمة منّا لها. وأما الشكر، وإن كان هو الإعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، فقد عرفه منا كل إنسان عرفناه، وعاقل خالطناه. وأما الخدمة لها فجاريةٌ في العلم مجرى ما تقدم من العلم بالشكر. غير أن الخِدَمَ لما كانت تتفاضل، وكان أفضل ما يخدم به مثلي مثلَها ما يرجع إلى الديات ويتعلق بالمتَعبدات، ويعود نفعه على ذوي الألباب، ويبقى ذكره في الأعقاب، رأيت خدَمَتها ببعض ما يتعلق بذلك. فوضعتُ هذا الكتاب، وسميته بكتاب جواهر الفقه. لأنني اعتمدت فيه ذكر المسائل المستحسنة والأجوبة الموجزة المنتخبة».
٣. كتاب (المهذب في الفقه)، وهو من أهم كتبه في الفقه، وهو من كتاب الطهارة إلى كتابه القضاء، وهو من واحد وأربعين باباً.
٤. الكامل، وهو الكامل بالفقه كما عبّر عن ذلك الآغا بزرك الطهراني، وقال عنه: « هناك نسخة منه عند الشيخ محمد تقي المجلسي».
٥. كتاب، روضة النفس في أحكام العبادات الخمس، ذكره إبن شهرآشوب بهذا الإسم، أما الشيخ منتجب الدين، ذكره بعنوان (الروضة).
٦. كتاب، عماد المحتاج في مناسك الحاج.
· معالجة المسائل الفكرية والعقائدية، ومنها: ما هو متعلق بموضوع الإمامة وقضية غيبة الإمام المهدي المنتظر (عج)، وأعتقد أن علماء القرن الرابع والخامس هجري، كما أطلقوا العنان للفقه، وتبؤوا موقع الفقيه العادل كمشروع استمرار لخلافة الإمام المعصوم (ع) في حال الغيبة، كذلك عملوا على معالجة موضوع الغيبة الصغرى الكبرى والتي تركت تساؤلات وإشكالات لا بُد من الإجابة عليها، وهذا ما شاهدناه في المراسلات التي كانت بين القاضي إبن البراج وشيخه الطوسي في بغداد، وصنف الشيخ الطوسي كتاباً سماه (الغيبة).
ولعل مسألة الغيبة مرت بمرحلتين أساسيتين، مرحلة الغيبة الصغرى والتي كان السفراء الأربعة هم الواسطة في علاقة المسلمين بالإمام (عج)، وساهم وجودهم في إزاحة الكثير من الإلتباسات، ومرحلة الغيبة الكبرى، وكان لعلماء الطائفة دور كبير في إزاحة ما هو مشوش في أذهان المسلمين على اختلاف طبقاتهم، وهذا ما قام به الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والقاضي إبن البراج وغيرهم.
أمّا الأقوال فيه:
قال عنه صاحب الروضات: «وجه الأصحاب وفقيههم، وكان قاضياً في طرابلس».
وأثنى عليه السيد مصطفى التفريشي في نقد الرجال، فقال: «فقيه الشيعة الملقب بالقاضي، وكان قاضياً بطرابلس».
وعنه قال الحر العاملي في أمل الآمل: «وكان عالماً فاضلاً، فقيهاً، قرأ على السيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وكان لابن البراج على السيد المرتضى كل سنة ثمانية عشر دينار».
وقال الأفندي في الرياض: «العالم الفاضل الفقيه الجليل المعروف بابن البراج أو بالقاضي كما عن الشهيد الأول، أو القاضي سعد الدين إبن البراج كما ورد في المعالم للشيخ حسن نجل الشهيد الثاني، وهو من تلامذة المرتضى والشيخ الطوسي بل المفيد أيضاً». وهنا قوله (بل المفيد)، خطأ لأنّ الشيخ المفيد توفي سنة ٤١٣هـ، قبل ورود إبن البراج إلى بغداد بست عشرة سنة.
أما الشيخ منتجب الدين في الفهرست، قال: «القاضي سعد الدين عز أمير المؤمنين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز البراج، وجه الأصحاب وفقيههم، وكان قاضياً بطرابلس، وله مصنفات».
رحيله ومكان دفنه
توفي القاضي إبن البراج في طرابلس، ليلة الجمعة ٩ شعبان سنة ٤٨١هـ الموافق لشهر تشرين الثاني من سنة ١٠٨٨م، وهذا ينقله الشيخ عبد الله الأفندي في الرياض، وينسبه إلى بعض الفضلاء.
ولا نعرف ما هو السبب في عدم ذكر اسم هذا الفاضل، والذي ذكرناه في بداية الحديث أنه لا بد وأن يكون معتمداً لديه أو ليس من المعقول أن ينقل عن أي إنسان، ثم يُسميه بالفاضل، وخصوصاً أنه ينسب إليه أكثر الأمور عن إبن البراج، ومنها دقة تاريخ وفاته، وهذا ردّ إضافي على من اعترض على الشيخ الأفندي أنه في نقله وهنٌ وضعف.
وكيف ما كان فمن المؤكد أن إبن البراج توفي في طرابلس، كما ذكر هذا الفاضل، ويؤيده ما ذكره الطهراني في طبقاته عن خط جد صاحب المدارك عن خط الشهيد، أن تلميذه إبن البراج الشيخ عبد الجبار بن عبد الله الرازي، توفي في طرابلس ودفن في نفس الحجرة التي دفن فيها إبن البراج.
ملحق:
تعريف مختصر بأستاذَي إبن البراج السيد المرتضى والشيخ الطوسي.
لم يتسنَ لنا أن نعرّف أستاذي ابن البراج في معرض حديثنا عنه، ولذا اقتضى أن أذكرهما بشكل مختصر ضمن ملحق في نهاية هذه النشرة.
السيد المرتضى: هو السيد أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي السجاد بن الإمام الحسين بن الإمام علي L.
ولد في بغداد في شهر رجب سنة ٣٥٥هـ ــ ٩٦٦م، وكانت مرحلته السياسية من المراحل الذهبية التي مرّت على المسلمين الشيعة وانتشر فيها العلم والأدب، حيث كانت أيام الدولة (البويهية) التي حكمت إيران والعراق من سنة ٣٢٩هـ إلى سنة ٤٤٧هـ، وكانت تلك المرحلة بداية الغيبة الكبرى للإمام المهدي | إلى ثلاثة أمور:
١- الفقه المبني على الإجتهاد والخروج وعدم الإكتفاء بجمع الأحاديث وتدوينها والتي هي المرحلة الثانية في إطار تطور الفقه الجعفري.
٢- توجيه الأمة نحو علمائها وفقهائها لتكون الموقع الطبيعي في إطار تحمل المسؤولية في حال الغيبة.
٣- مواجهة البدع والأفكار السامة وبالخصوص تلك التي أرادت التشويش على مسألة الغيبة للإمام |.
والسيد المرتضى تمكّن من القيام بهذه العناوين الثلاثة، فقد أكمل ما بدأه أستاذه الشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي المتوفى ٤١٣هـ، وأصبح بعد رحيل أستاذه المرجع العام والأستاذ بلا منازع لكل العلماء ومنهم الشيخ أبو جعفر الطوسي الذي حضر إلى جنبه مدة من الزمن درس الشيخ المفيد.
ترك السيد مرتضى ما يزيد على ٨٩ مصنّفاً في مختلف العلوم والفنون من الفقه إلى الأصول والمسائل الكلامية والتفسير، مضافاً لديوان شعر يزيد على العشرين ألف بيت.
رحيله ومكان دفنه: كانت وفاته في بغداد من شهر ربيع الأول لسنة ٤٣٦ هـ وصلى عليه نجله أبو جعفر محمد في الكاظمية، ثم دفنه في منزله، وبعد فترة نُقل جثمانه الطاهر إلى كربلاء حيث دفن إلى جوار جده الإمام الحسين L بالقرب من قبر (إبراهيم المجاب) داخل الحرم المطهر.
الشيخ أبو جعفر محمد بن حسن الطوسي والمعروف بشيخ الطائفة، ومؤسّس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، والذي أطلق العنان للفقه والفقه المقارن.
ولد في خراسان من إيران سنة ٣٨٥هـ ونشأ فيها، ثم انتقل إلى منطقة (نيشابور) وكانت مركزاً للعلم وبقي فيها حتى صار له من العمر ثلاث وعشرين سنة.
ثم انتقل إلى بغداد سنة ٤٠٨هـ فحضر على الشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي، وبعد رحيل الشيخ المفيد سنة ٤١٣هـ، درس على العلامة العلم السيد المرتضى حتى رحيله سنة ٤٣٦هـ، وأصبح صاحب المنبر الأعظم وله كرسي الكلام، وعاد الناس إليه واجتمع عليه الطلاب من كل حدب وصوب ومنهم: القاضي إبن البراج الطرابلسي.
أُعتبر الشيخ الطوسي من مروجي الفقه الشيعي، فأطلق العنان للفقه الجعفري وللفقه المقارن، وبقي مدة لا يجرؤ أحد على مناقشة مبانيه حتى اتهم علماء عصره بأنهم باتوا مُقلدة، وتخلّوا عن باب الإجتهاد.
لقد عالج الشيخ الطوسي نفس العناوين التي تصدى لها الشيخ المفيد والسيد المرتضى من: نشر الفقه، وتثبّيَت دور فقهاء الأمة، ومعالجة المسائل العقائدية، وخصوصاً قضيّة الغيبة للإمام | مستفيداً من وجود الدولة (البويهية)، وشاءت الأقدار أن يغادر بغداد مكرهاً إلى النجف الأشرف، حيث شيّد حوزته العلمية وأصبحت منارة كبرى بوجوده المبارك، واستمرت من بعده وإلى يومنا هذا.
ترك الشيخ الطوسي ما يزيد على ١٩٥ مصنّفاً، حيث لم يترك شيئاً إلّا وصنّف به، فكتب بالفقه وكتابه (المبسوط) والفقه المقارن، كما كتب بالفلك، والرياضيات، والهندسة، والتفسير، وعلم الكلام، والفلسفة، وعلم الأخلاق، والأدب، والنحو، والصرف، وكان شاعراً(له شعر بالعربية والفارسية).
رحيله ومكان دفنه: توفي في النجف الأشرف ليلة الإثنين ٢٢ محرم سنة ٤٦٠هـ، عن خمس وسبعين سنة، ودفن في داره بوصية منه، ثم تحول إلى مسجد وصار يُعرف بمسجد الشيخ الطوسي، وأيضاً يوجد إلى القرب منه قبر العلامة السيد مهدي بحر العلوم.
طرق سيد عليهم الباب آخر الليل
وأخبرهم أن قبره مهيأ في الصحن الشريف
إنه العلامة العلم السيد محمد صدر الدين بن السيد صالح الموسوي العاملي، ولد في مزرعة (شدغيت) القريبة من بلدة معركة من جبل عامل سنة ١٢٩٢هـ، قبل وقوع النكبة بثلاث سنوات، نشأ في حضن والده العلامة الجليل السيد صالح، فأغدق عليه من علومه ومعارفه، فظهر منه ما أبهر العقول، فقد كتب حاشية على (قطر الندى في النحو) وهو إبن سبع سنين، وناقش العالم الأكبر محمد باقر أكمل في مسألة (حجية مطلق الظن) في كربلاء، وله من العمر اثنتي عشرة سنة.
سكن أصفهان وصارت له الرئاسة الدينية، وكان كبار العلماء يجلّونه ويحترمونه، ترك أصفهان سنة ١٢٦٢هـ، وذهب إلى النجف الأشرف بناءً على منام رآه يدعوه فيه الإمام Q إلى ضيافته، فبقي فيها سنة، ثم ارتحل في ليلة الجمعة الأولى من شهر صفر سنة ١٢٩٣هـ. وينقل إبن أخيه السيد محمد علي إبن السيد أبو الحسن، حادثة حصلت معهم ليلة رحيل السيد صدر الدين، ملخصها: أنهم كانوا جالسين عنده ليلة رحيله، وكان يحدثهم عن الفراق، وعندما فاتحه أخوه السيد أبو الحسن في ذلك أجابه:
سَيذكُرُني قومي إذا جدَّ جِدُّهم
وفي الليلةِ الظلماءِ يُفتقدُ البدر
ثم طلب من الجمع أن يذهبوا إلى النوم، وبقي السيد محمد علي، فسأله السيد صدر الدين: ماذا تقرأ؟ فقال: شرح إبن الناظم على الألفية.
فرد عليه السيد صدر الدين أنه من الألفية يقول:
آل حرف تعريف أو اللام فقط
كالطرس ذي الخط المليح والنقط
وأنا أقول في ألفيتي:
آل هي للتعريف لا اللام فقط
كالطرس ذي الخط المليح والنقط
وطلب منه أن يبين له الفوارق بينهما، ولما باشر السيد محمد علي بكتابة ذلك، طلب منه السيد صدر الدين أن يكتبها خارج الغرفة، وبعد خروجه من الغرفة بمدة سمع السيد محمد علي عمه السيد صدر الدين يقول: «الله، الله، لا إله إلى الله...» فدخل عليه، وإذا به مسجى نحو القبلة وقد مات.
فأيقظ والده والبقية، وإذا بسيد جليل يعرفونه طرق عليهم الباب، قائلاً لهم: «السيد صدر الدين توفي!» فقالوا: «نعم»، فقال: «قبره مهيأ في الصحن الشريف».