مناسبات الشهر
مناسبات الشهر
(بطاقة عالم)
الشيخ حسن آل سليمان العاملي
المتوفى في رجب سنة 1184هـ
من علماء القرن الثاني عشر هجري، ومن عائلة لها حضورها العلمي والاجتماعي في جبل عامل، سكنت قرية (البياض) القريبة من مدينة صور، وقبلها كانت تسكن في (مزرعة مشرف)، والعائلة تمتلك مكتبة كبيرة تحوي على كتب قيمة ومخطوطات نفيسة.
وينقل السيد الأمين أنه زار تلك المكتبة واستفاد منها كثيراً، ووجد أن جدهم هو الشيخ سليمان بن محمد بن أحمد بن سليمان العاملي المزرعي الذي كتب بخطه كتاب (مقتل أمير المؤمنين علي Q) وفرغ منه في 25 صفر 1033هـ وعليه خاتمه بتاريخ 1028هـ، ومن المحتمل كما ينقل السيد الأمين أن يكون هو ذاته أيضاً الشيخ سليمان إبن الشيخ محمد العاملي الجبعي تلميذ الشهيد الثاني.
أما الشيخ سليمان بن علي بن محمد بن محمد بن سليمان المزرعاني الذي كان حياً سنة 1152هـ، فهو من أحفاد الشيخ سليمان المزرعي المذكور.
الشيخ حسن كان عالماً فاضلاً وأديباً شاعراً، من كبار علماء عصره، قرأ في جبل عامل وكان يسكن بلدة (أنصار)، ثم سكن قلعة (مارون) وكان في عهد الأمير ناصيف النصار. وينقل الشيخ محمد مغنية صاحب جواهر الحكم في كتابه عن بعض من يثق بنقله: أنّ الشيخ حسن آل سليمان يُفضَلْ في العلم على السيد أبو الحسن موسى الحسيني، ولكنه كان حاد الطبع.
وللشيخ حسن قصيدة يرد فيها على الشيخ عبد الحليم الصفدي (النابلسي) الذي كان من شعراء ظاهر العمر في فلسطين والذي كتب قصيدة ضد العامليين بعد وقعة (يوم طيربيخا) التي كانت الغلبة فيها لمعسكر ناصيف، ومما جاء فيها:
عني إليك فهل بلغت مزارها
وحللت في طلب الوصال ديارها
وشممت أيام الحياة أريجها
وخلعت في روق الشباب خمارها
وأسمت لحظك في رياض جنانها
وقطفت فيما تدّعي أزهارها
أنى تفوز بها وقد ضربت على
هام المجرة عنوة أستارها
الرابعة ــ العدد الواحد والأربعون ــ أيار 2015م / رجب1436هـ
صدر حديثاً عن جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي
البهائي العاملي في جزئين
لاستفساراتكم واقتراحاتكم يرجى التواصل على العنوان التالي:
toorath@hotmail.com
70 - 61 68 08
شخصية العدد
الشيخ حسن القبيسي {
مؤسّس الحياة العلمية الثانيةفي جبل عامل
العلامة الشيخ حسن القبيسي العاملي من علماء القرن الثالث عشر هجري، صاحب الفضل الكبير على جبل عامل، ومن العلماء المبادرين الذين يتحينون الفرص للإستفادة القصوى منها، وإذا كان كثيرٌ من علماء الدين مرّوا في هذا الجبل وفي أماكن مختلفة وقدّموا خدمات جليلة ثمّ ارتحلوا، ومع ذلك نسيهم المجتمع ولم يعودوا في الذاكرة، فهناك قلة لعبت أدواراً إستثنائية، وبقيت حاضرة في ذاكرة الأجيال يتحدّثون عنهم وعن فضلهم وإنجازاتهم، وفي كلّ مرة يُقيّض الله تعالى من يُحيي ذكرهم ويُذكّر بفضلهم، وبالجميل الذي هو دَيْنٌ لهم في رقابنا إلى يوم الدين. فالشيخ القبيسي هو واحد من هذه القلة التي أفنت عمرها بالعلم والتحصيل والمحافظة على جبل عامل، لأجل إبقائه منارة يشعّ نورها على أرجاء المنطقة برمّتها، والأهم في الموضوع تلك المرحلة الإستثنائية التي مرّ بها جبل عامل وكادت أن تقضي عليه، لولا اللطف الإلهي وجهاد وجهد هؤلاء الأعلام الأفذاذ.
ولد الشيخ حسن القبيسي في جبل عامل، وكان لعائلته حضورٌ في مزرعة قريبة من أنصار إسمها (بصفّور) أضحت اليوم خربة وزالت عن الخارطة وانتهت، بينما استمرت مزرعة (سيني) ونمت وحازت على بلدية خاصة بها.
عائلة آل القبيسي لها أيادي بيضاء في جبل عامل، ولعلّ أصولها عراقية، كما يذهب السيد الأمين في الأعيان: «أنّ القبيسي يعود إلى القُبيسة (الكبيسة) وهي مقابل (هيت) بالعراق، أو إلى رجل يُدعى (قبيس) وهناك عين ماء قرب النبطية التحتا تُعرف بـ(عين قبيس)».
ومن الممكن أن أحد أهل العلم قدم من مكة المكرّمة وفيها جبل أبي قبيس، فهناك العديد من العوائل في جبل عامل تعود أصولها إلى مكة المكرّمة أو العراق وإيران وغيرها، فالسيد أحمد الحسيني جد السيد أبو الحسن موسى الحسيني صاحب مدرسة (شقراء) قدم من مدينة الحلة بالعراق وسكن جبل عامل واستمرّت عائلته إلى اليوم وتُعرف بآل الأمين، وكذلك آل البلاغي والشيخ الشاعر إبراهيم يحيى الذي ترك جبل عامل أثناء النكبة سنة 1781م، وتعود جذوره إلى قبيلة (بني مخزوم) في مكّة المكرّمة وغيرهم.
هاجر الشيخ حسن القبيسي إلى النجف الأشرف للدراسة، ولا نعرف بالتحديد التوقيت الدقيق لمغادرته جبل عامل، ولكن نعرف عن حضوره بالنجف وعن أساتذته وفضيلته العلمية، والمهمة التي أوكلت إليه من أجل العمل على إعادة الحياة العلمية إلى جبل عامل.
في أواخر القرن الثاني عشر هجري، إنتهى الحضور العلمي في جبل عامل ودمّر العثمانيون كلّ شيء، على عكس النجف الأشرف التي كانت تشهد نموّاً مُلفتاً، وخصوصاً بعدما تمكّن المولى الوحيد البهبهاني مع تلاميذه السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر آل كاشف الغطاء أن يطوّروا الفقه الجعفري ويتكامل في عهدهم، وهذا مردّه إلى الإستقرار الأمني ولو بالحدّ المعقول، بينما جبل عامل كان الأمن فيه يساوي صفراً، ممّا فرض على العلماء الذين نجوا من قبضة الوالي العثماني أحمد باشا الجزّار، مغادرة جبل عامل إلى إيران والعراق، وهناك من يروي حكايات تُحاكي الخيال عن المعاناة والمرارة التي لحقت بهم في طريق المغادرة، كالشيخ إبراهيم يحيى.
إذاً الفرصة التي أتيحت للنجف الأشرف من الإستقرار النسبي وعدم العدوان العثماني المباشر، أتاح لها الفرصة لنهضة علمية كانت تُعتبر قفزة نوعية في إطار تطور الفقه الجعفري، من دون أن نُغفل الدور المركزي لعلماء جبل عامل والجهود التي بذلوها في النجف الأشرف بعد النكبة التي أصابتهم في بلادهم وفرضت عليهم الذهاب إلى العراق، فالسيد محمد جواد الحسيني (صاحب: مفتاح الكرامة)، كان يُوكل إليه الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء مهمّة البحث والتنقيب في بعض المسائل ومتابعة مباني الفقهاء وإبداء الخُلاصة فيها، وكذلك السيد حسين نجل السيد أبو الحسن موسى الحسيني الذي كلفته الحوزة العلمية بمناقشة المحقق القمّي في مسألة (حجية مطلق الظن) وقد ثبّت هذا النقاش المحقّق القمّي في كتابه (القوانين) من دون أن يُسميه.
الشيخ حسن القبيسي كان من تلاميذ السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر آل كاشف الغطاء، وفضيلته العلمية تُعرف من خلال طلب بعض الأساطين منه التوجه إلى لبنان والعمل على إعادة الحياة العلمية في جبل عامل.
ويمكن تسليط الضوء على هذه النقطة من عدة زوايا:
الأولى: تقدير الأساطين وثقتهم بالمكانة العلمية للشيخ القبيسي، وبالإمكانيات العلمية والفكرية التي تؤهّله التصدّي للتدريس وبناء الحياة العلمية، وكانت المهمة شاقة، فهي تحتاج إلى تحدٍ وإيجاد مناخ ومال وجمع طلاب، وهي تختلف عن الحالات العادية التي تحتاج فقط إلى فتح (كتاب) وإلقاء الدروس على الطلاب، إذاً هذه المهمة تحتاج إلى مؤهّلات إضافية غير العلم.
الثانية: تكشف هذه المهمّة عن مكانة جبل عامل عند هؤلاء العلماء وأنه نقطة إرتكاز في المنطقة، وما قدمه علماء جبل عامل خلال قرون من الزمن وبالأخص في القرن الثامن هجري وإلى أواخر القرن الثاني عشر هجري، يفوق التوقع والإمكانات المتعارفة، فشعّ نوره على العراق وإيران وسوريا ومكة المكرمة وغيرها، هذا إذا أضفنا المكانة الإجتماعية والسياسية لهذا الجبل وتأثيره في سياسة المنطقة، فصحيح جبل عامل هو بقعة صغيرة إذا ما قسناها على بقية البلاد من الناحية الجغرافية إلّا أن تأثيره كان كبيراً بفعل حضور علمائه وجديّتهم في العمل، فالشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني كان يسكن (دمشق) وكانت عاصمة بلاد الشام، وكان له دور فاعل مع علماء المذاهب الإسلامية والسلطة المملوكية، والشهيد الثاني سكن (بعلبك) بعد عودته من عاصمة الدولة العثمانية وزار عواصم العالم العربي وكان يتطلع كالشهيد الأول إلى مشروع إسلامي عام على صعيد المنطقة يقطع الطريق على المصطادين في الماء العكر، واستمر هذا الحضور حتى أواخر القرن الثاني عشر هجري ووقوع النكبة سنة 1781م.
الثالثة: استطاعت النجف الأشرف من خلال هذا الإيفاد أن تحجز لها مكانة متقدمة في إدارة شؤون المنطقة، وتصدّي علمائها للشأن العام خارج الحدود الجغرافية لها.
غادر الشيخ حسن القبيسي النجف الأشرف سنة 1213هـ بعد رحيل أستاذه السيد مهدي بحر العلوم بسنة، فقد ولد السيد مهدي في كربلاء سنة 1155هـ وكان قدس سره سيد العلماء ومن كبار أساطين الحوزة العلمية، جامع المنقول والمعقول، وصاحب كرامات والمشهور منها تشرّفه بلقاء مولانا صاحب العصر والزمان(عج).
وصل الشيخ القبيسي إلى جبل عامل والأوضاع متوترة، بسبب إرتفاع شدة حركة الطياح، وحتى بعد هلاك الجزار سنة 1219هـ، لم يتمكن الوالي العثماني الجديد (سليمان باشا) من إعادة الهدوء، وكان الطيّاح يتخذون من الكهوف والأودية مخابئ لهم في النهار، ويقومون بعمليات إنتقامية في الليل، وكانت الثقة مفقودة تماماً بالعثمانيّين، ولم يقتنع الأمراء وقادة الطياح بصدق الوالي العثماني، الذي باتت مصلحتهم في إعادة جبل عامل إلى ما كان عليه قبل النكبة.
كان لا بد للوالي من عدم الإستسلام والقيام بعدة خطوات تُعيد الأمن والإستقرار :
الخطوة الأولى: العمل على إعادة المدارس الدينية وعودة العلماء، وهي التي استعداها العثمانيّون ولم يحفظوا لها أي كرامة، فتشييد المدارس وعودة العلماء تُمثّل عامل طمأنينة للناس، فتصبح لديهم ثقة بالأوضاع المستجدة، وسنذكر في السياق المدرسة التي شيّدها الشيخ القبيسي في الكوثرية.
الخطوة الثانية: إشاعة الثقة والإتصال بالأمراء وقادة الطيّاح ومحاولة إعادة الثقة معهم، ولكن هذه الخطوة لم تنفع كثيراً حيث أبقت حالة التوتر والإستمرار بأعمال الطياح، فلهم معهم تجارب طويلة من الغدر والمكر.
الخطوة الثالثة: إستعان الوالي العثماني بالأمير بشير الشهابي، وأسفرت هذه الإتصالات والمفاوضات عن اتفاق (عكا) بين سليمان باشا وزعماء الطياح وذلك سنة 1220هـ 1805م، بحضور راغب أفندي الذي أوفده الباب العالي مندوباً فوق العادة للنظر بشؤون إيالة صيدا.
وبتقديري لم تكن هناك ثقة بالأمير الشهابي ولا بوعود الوالي الجديد، و إنما عودة الحياة العلمية هي التي شكّلت حالة طمأنينة عند الناس وعند قادة الطياح وحتى الأمراء، فهم شاهدوا بأم العين النكبة التي حلّت بأهل العلم، وعليه فلو لم يطمئن هؤلاء الأعلام لنية العثمانيين ولمصالحة الضرورة، لما عادوا إلى جبل عامل بعد تبدّل هذه الأوضاع، وخصوصاً أنهم كانوا في عين العاصفة ودفعوا ثمناً باهظاً جرّاء السياسة العثمانية العدائية.
مدرسة كوثرية السياد: لم تكن هناك خصوصية لبلدة (الكوثرية) سوى أن الشيخ القبيسي كان إماماً لتلك البلدة، وفيها شيّد مدرسته الدينية، وأصبح الشيخ حسن القبيسي عنوان الحياة العلمية الثانية في جبل عامل، وهنا لا بُد من تبيّين ملاحظة كي لا تختلط الأمور على المتابعين، إذ أنّ البعض قد يخلط بين دور الشيخ القبيسي والشهيد الأول، فسمّى الأول بطل النهضة العلمية الأولى والشيخ القبيسي بطل النهضة العلمية الثانية، مع العلم أنّ هناك فارق كبير بين الشيخين وبين الشخصيتين، فالشهيد الأول عالمٌ وفقيه استثنائي فمكانته العلمية والسياسية والإجتماعية لا تقاس بالشيخ القبيسي ولا بكثير من علماء جبل عامل، والشيء الآخر أنّ الشهيد الأول هو مؤسّس الحضور العلمي في جبل عامل والذي تخرّج على يديه العشرات من المجتهدين، كما ينقل الحر العاملي في روايته: «أنه صلّى على إحدى الجنائز في إحدى القرى في عهد الشهيد الأول (سبعون مجتهداً)».
بينما الشيخ حسن القبيسي لم يؤسّس للحضور العلمي، وإنما عمل على إعادة العلماء والطلاب والحياة العلمية، ولم يتحوّل جبل عامل في عهده إلى مركز علمي مستقل عن النجف الأشرف، فكان الطلاب بعد نهاية المقدمات يتوجهون إلى النجف الأشرف للدرس على أساطينها.
إذاً، استفاد الشيخ القبيسي من مصلحة العثمانيّين بعودة الهدوء إلى جبل عامل، فعمد إلى تشييد مدرسة دينية ضمّت أكثر من عشرين غرفة مضافاً (لعليّة) خاصة بالشيخ القبيسي، وكانت تعتبر من المدارس المهمة والأساسية في تلك المرحلة.
إنضمّ إلى المدرسة الكثير من الطلاب وأهمّهم السيد علي إبراهيم الحسيني والشيخ عبد الله نعمة، ومن ثمّ غادر بعض هؤلاء الطلاب إلى النجف الأشرف لاستكمال التحصيل العلمي ومنهم السيد علي إبراهيم والشيخ عبد الله نعمة حيث عادا إلى جبل عامل وهما من أعاظم العلماء، حيث استطاعا أن يُعيدا الحياة العلمية من خلال (مدرسة الكوثرية) و(النميرية) التي شيّدها السيد علي إبراهيم في وقت لاحق، ومدرسة جباع التي أسّسها الشيخ عبد الله نعمة، ولم يتوقف العلم عند هذا الحد بل عمد طلاب هذه المدارس إلى تشييد المدارس في (يونين) البقاعية برئاسة الشيخ حسين زغيب، ومدرسة (حناويه) برئاسة الشيخ محمد علي عز الدين، ومدرسة (مجدل سلم) برئاسة الشيخ مهدي شمس الدين، وهكذا استمرّت المدارس والعلم في جبل عامل إلى يومنا هذا.
أقوال العلماء في الشيخ القبيسي:
قال السيد الصدر في التكملة بحقه: «كان الشيخ حسن من أجلاء العلماء الذين أحيوا البلاد بالعلم بعد خرابها من جهة الجزّار، وكان عالماً فاضلاً محقّقاً مدققاً، مدرّساً في أكثر العلوم في مدرسته بالكوثرية، التي تخرج عليه جماعة من الأفاضل».
أما آغا بزرك الطهراني فقال: «الشيخ حسن القبيسي العاملي، عالم كبير كان في النجف الأشرف من المروّجين للدين والساهرين على إعلاء كلمته، عمّر البلاد بعلمه فبنى مدرسة الكوثرية، بعدما طلب مساعدة الوالي سليمان باشا».
وهنا أن يطلب الشيخ القبيسي مساعدة الوالي العثماني ويستجيب الوالي لذلك، هذا يدل على مدى أريحية علماء جبل عامل وطيبتهم وأنّهم لا يحملون الحقد ولا العداوة، وأنّ المشكلة دائماً عند الآخرين، ولو أنّ العثمانيّين حكموا بالعدل لما رأوا ما يزعجهم من علمائنا وشعبنا، والشيء الآخر نفهم المدى الذي وصل إليه العثمانيون من الرضوخ للأمر الواقع، وفهمهم لحقائق الأمور ولو مؤقتاً.
وذهب السيد الأمين في الأعيان: «كان عالماً فاضلاً مشهوراً بالعلم والفضل والتقوى، وكانت له مدرسة في الكوثرية تخرّج فيها جماعة من علماء جبل عامل».
بعض أحواله: على ما يظهر لم يُرزق الشيخ القبيسي بذكور، وإنما أعقب بنتين: واحدة، تزوجها السيد علي إبراهيم بعدما توفيت زوجته الأولى والدة السيد حسن على طريق الحج، وأعقب السيد علي منها السيد محمد، الذي كان له باع في العلوم الطبيعية وكان أستاذاً في مدرسة النبطية التي شيّدها السيد حسن يوسف مكي وساهمت فيما يُطلق عليه بعصر النهضة، وكان للسيد محمد هذا الدور الأساسي في تفعيل وحضور واستمرار تلك المدرسة.
والبنت الثانية، تزوجها الشيخ محمد علي القبيسي الذي كان يسكن في كوثرية السياد وأعقب منها الشيخ جعفر صاحب الكرامة المعروفة على طريق زيارة الإمام الرضا Q.
كما حج الشيخ القبيسي بيت الله الحرام مرة واحدة سنة 1228هـ، فذهب إلى الحجاز عن طريق البر وعاد عن طريق البحر.
وفاته: المدة التي عاشها الشيخ القبيسي لا شكّ أنها كانت مليئة بالجهد والتعب، خصوصاً وحسب الظاهر فإنه تجاوز الثمانين من عمره الشريف، وكان عمراً مباركاً، ففي سنة 1258هـ وقبل رحيل السيد علي إبراهيم بسنتين إلتحق بالرفيق الأعلى إلى جوار النبي P والصدّيقين، ودفن في جبانة البلدة من (كوثرية السياد) ودُفن لاحقاً إلى القرب من ضريحه السيد علي إبراهيم سنة 1260هـ.
نظّمت جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي
بالتعاون مع النادي الحسيني لمدينة النبطية وبلديتها ندوة فكرية تحت عنوان:
«العلامة السيد حسن يوسف مكي {
ونهضة جبل عامل العلمية والأدبية والاجتماعية»
وتحدث في الندوة عضو المجلس المركزي في حزب الله سماحة الشيخ حسن بغدادي، ومما جاء في كلمته:
لقاؤنا اليوم هو استكمال لتكريم أعلام النبطية الذين أسّسوا مجدها وبنوا فيها العزة والشموخ، وحوّلوها إلى مشعلٍ يضيء الطريق في مدن وقرى جبل عامل مروراً بالبقاع وسوريا وصولاً إلى العراق حيث النجف الأشرف ومرقد مولى المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب Q، لتتصل عاصمة التشيّع في النجف بجبل عامل وتتكامل مع النهضة العلمية والأدبية والجهادية.
العلامة الفقيه السيد حسن يوسف مكي أحد أوتاد هذا الجبل، ومن الذين ساهموا في نهضته العلمية والأدبية الثانية، بعدما تمكن العثمانيون من النيل من إرادة أهله في سنة 1781م، موكلين المهمة في ذلك إلى الأسير الأجنبي والزنيم الغاشم الذي سموه (أحمد باشا الجزار)، ليسدد إلى جبل عامل بكلّ مكوناته العلمية والاقتصادية والاجتماعية ضربةً مؤلمةً، لم يعهد أن مرّت عليه من قبل.
ولد السيد حسن مكي في قرية (حبوش) القريبة من النبطية، وهي من القرى المتنورة، التي لها تاريخها العلمي والأدبي، حيث خَرَجَ منها العديد من العلماء: كالشيخ محمد علي نعمة والشيخ عبد الله نعمة والشيخ عبد الحسين نعمة، والسيد حسين مكي الذي خَلَفَ العالم المصلح السيد محسن الأمين في سوريا.
وكانت ولادته ـ السيد حسن مكي ـ سنة 1260هـ الموافق لـ 1844م، وهي السنة التي مات فيها العلامة السيد علي ابراهيم الحسيني في (النُميريّة) مسموماً عن خمس وأربعين سنة، مما اضطر طلاب مدرسته لمغادرة (النميرية) والتوجه إلى (جباع)، حيث مدرسة العالم العارف الشيخ عبد الله نعمة الكبير المتوفي سنة 1303هـ.
إنتسب السيد حسن يوسف مكي إلى مدرسة (جباع)، ودرس فيها المقدمات على الشيخ مهدي شمس الدين الذي كان من أحد فضلاء جبل عامل، ومن المشهود لهم بالفضل والتدريس، حتى أن الشيخ موسى أمين شرارة صاحب مدرسة بنت جبيل درس عليه القوانين في الأصول قبل سفره إلى النجف الأشرف.
هنا نلاحظ، أن السيد حسن يوسف مكي ورفاقه من أهل العلم، لم يكملوا تحصيلهم العلمي في جبل عامل بسبب عدم تفرغ بعض العلماء الأجلاء للتدريس بشكل مباشر، فالشيخ عبد الله نعمة مثلاً: خَرَجَ من النجف الأشرف وهو أحد فضلائها الكبار، وكان من تلاميذ الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) الذي أقسم ذات يوم أنه: لم يعطِ إجازةً بالاجتهاد إلاّ لأربعة منهم الشيخ عبد الله نعمة، مع العلم بوجود المئات من الفضلاء تحت منبره، والسبب في إعطائه إجازة الإجتهاد للشيخ عبد الله نعمة لأنه كان يراه مستوفياً كافة الشروط العلمية والأخلاقية، ولو قدر للشيخ عبد الله نعمة أن يشرع في تدريس الطلاب السطوح والبحث الخارج لاستغنوا بدرسه عن الذهاب إلى النجف الأشرف، لكن مشكلة هؤلاء العلماء أنهم استثمروا أكثر أوقاتهم في التبليغ والوعظ والإرشاد وإصلاح ذات البين وحلّ الخصومات ومواجهة الأحداث السياسية التي عصفت بجبل عامل وبالمنطقة.
وباعتقادي خيراً صنعوا، لأنهم لو انصرفوا للتدريس فقط لكان على حساب قضايا مجتمعهم، ولَعاد بالسلبية على المجتمع وجبل عامل بمختلف مكوناته.
درس السيد مكي في النجف على الأساطين، أمثال: الشيخ محمد حسين الكاظمي والشيخ حسن آل كاشف الغطاء والشيخ مرتضى الأنصاري والشيخ محمد طه نجف كبير فقهاء العرب، وعلى الشيخ محمد حسن آل ياسين. وميزة السيد حسن يوسف مكي في النجف الأشرف، أنه كان يكتب تقريرات أساتذته في الفقه والأصول، وكتابة التقريرات في ذلك الزمن تختلف عن كتابتها في عصرنا الحالي حيث يقوم أغلب الطلاب اليوم بنقل المطالب من شريط التسجيل (الكاسيت).
عاد السيد مكي إلى جبل عامل سنة 1309هـ، بعد رحيل الشيخ عبد الله نعمة
بـ ست سنوات، وسكن في (حبوش) لفترة من الزمن، ثم دعاه أهالي (النبطية التحتا) ليكون إماماً لهم. ولن أتحدث كيف استطاع السيد حسن يوسف مكي أن يحوّل النبطية إلى مركز قرار يتحدث فيها باسم جبل عامل، لأني سأترك الحديث عنها لسماحة الأخ الكبير الشيخ عبد الحسين صادق، وإنما أريد فقط أن أشير إلى أن قيمة النبطية بدأت بالسيد حسن يوسف مكي وتكاملت مع العلامة الراحل الكبير الشيخ عبد الحسين صادق.
ولعل الكثير من أهالي النبطية، لا يعرفون السيد مكي وإنجازاته، وإنما يسمعون ويرون إنجازات الشيخ عبد الحسين صادق، والذي ساهم في هذا هو استمرار أسرة (آل صادق) إلى اليوم، والمتمثلة بإمام مدينة النبطية سماحة الشيخ عبد الحسين صادق (حفظه المولى).
وكي لا أطيل عليكم، فنحن كتبنا بعضاً من سيرة السيد حسن يوسف مكي في إحدى نشرات التراث التي تصدر عن جمعيتنا ـ جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي ـ والتي ستوزع عليكم في نهاية هذا اللقاء.
لكن أقول وبشكل مختصر، أن السيد حسن يوسف مكي استطاع أن يحول مدينة النبطية من خلال المدرسة الدينية التي أسّسها إلى معلمٍ من معالم العلم والحضارة والأدب في جبل عامل، ولعل ميزة السيد حسن مكي أن حضوره العلمي والأدبي والاجتماعي واللغوي وتصدّيه للانحراف والظلم ومواجهة الطغاة لم يتوقف برحيله، وإنما استمر من خلال العلامة الشيخ عبد الحسين صادق الذي أشار السيد حسن يوسف مكي إلى بعض الأعيان بضرورة تركه بلدة (الخيام) ومجيئه إلى (النبطية)، كما استمر أيضاً الحضور الأدبي واللغوي والجهادي مضافاً للشيخ صادق بتلاميذه وأبرزهم: الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر، حيث شكلوا أسس النهضة الأدبية والأخلاقية واللغوية ليس في النبطية فقط، وإنما على صعيد جبل عامل والمنطقة برمتها، فكان منهم أعضاء في المجمع العلمي العربي بدمشق، وأرخوا وكتبوا باللغة، وصنّفوا القواميس، وحافظوا على الهوية التي ينتمي إليها مجتمعنا، كما واجهوا تداعيات نهاية الحكم العثماني بعد الحرب العالمية الأولى، وقيام الإنتداب الفرنسي الذي لم يكن مرحباً به في جبل عامل، فقام هؤلاء الطلاب ووقفوا خلف العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين صادق الذي كان من أبرز المطالبين بالوحدة العربية السورية وعدم التقسيم لأجل الوقوف في وجه الأطماع الفرنسية والبريطانية، إلى جنب الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين ذلك العالم المبادر الشجاع، وبقية العلماء الأعلام أمثال: الفقيه العالم الشيخ حسين مغنية والعلامة الشيخ موسى قبلان والعلامة السيد عبد الحسين نور الدين وغيرهم.
وعلى قاعدة ما أشبه اليوم بالبارحة، فالمسيرة التي قادها علماؤنا وضحّوا وجاهدوا في سبيلها لأجل المحافظة على الهوية والوجود تتشابه مع ما نخوضه اليوم في معركة الشرف ضد العدو الإسرائيلي والوحش الإرهابي الذي هو الوجه الآخر للكيان الإسرائيلي في المنطقة والورقة الأخيرة والمكشوفة أمام العالم، فالذي صنع اليهود في فلسطين والوهابية في السعودية وحلفائهما من داعش والنصرة وغيرها هو واحد: الصهيونية العالمية.
وكما انتصرت إرادة أهلنا على كل أعدائهم في كل المراحل الصعبة، فنحن إن شاء الله سوف ننتصر على كل هذا الطغيان والشرّ.
بالأمس حاول محور الشرّ أن يُصورّ للناس أن الأمور انتهت، وأن المقاومة هزمت من خلال التطورات الأخيرة التي حصلت في منطقة جسر الشغور وإدلب، ومن خلال محاولات العدوان المتكررة في منطقة القلمون، حيث خُيّل إليهم أنهم باتوا قاب قوسين أو أدنى من إسقاط النظام السوري ومحاصرة المقاومة الإسلامية في لبنان، فارتفعت الأصوات المأجورة من هنا وهناك مرحبةً ومتفائلة، وإذا بالرد الصاعق لأبطال المقاومة الإسلامية والجيش السوري في القلمون يخرسهم مع تقدمٍ واضحٍ في مناطق مختلفة من سوريا، ليقول لهم: لا تحلموا كثيراً، فسوريا لن تسقط بأيديكم، ولن تعود دمشق عاصمةً للإرهابيين، ولبنان لن يكون معبراً لمشاريع التفتيت والتقسيم، وسيبقى كما كان بلد العزة والكرامة والشموخ، ومعركة القلمون هي إحدى المحطات التي تجاوزت بإنجازاتها الحدود الجغرافية إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، والأيام القادمة سوف تكشف حجم الضرر الذي لحق بالمسلحين وبأسيادهم وبأتباعهم، (وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم كانت كلمة لرئيس بلدية النبطية الدكتور أحمد كحيل، ومما جاء فيها:
.. إن التاريخ مرآة تنطبع فيه حوادث الأيام ومساعي الرجال صالحها وطالحها وخيرها وشرها، وعلى المجتمع أن لا يضيع أفراده وأعلامه بضياع أثارهم، وأن لا نترك صفحات التاريخ خالية من تقييد أعمالهم الجليلة ومآثرهم النبيلة. لقد ترك لنا هؤلاء الأفراد والأعلام مصابيح نستضيء بها في غياهب السلوك ورتبوا لنا دروساً نتعلم منها كيف نجاهد ونجالد في ميدان الحياة. ولما كان السيد حسن بن يوسف بن ابراهيم المشهور بالمكي الحسيني العاملي من أفراد علماء جبل عامل وأكابر فضلائه ونبلائه، وكان ممن خدموا بلادهم خدمات يقدرها رجال الفضل، لذا قضت علينا الذمة وخدمة المجتمع والاعتراف بالجميل أن نقيم ندوةً فكريةً حول حركة السيد ونشاطه ومزايا وأثاره الطيبة. لقد ترك السيد بصمة وأثاراً طيبة قُيدت له في كتب التاريخ بدءاً من شخصيته الفذة إلى حركته الاجتماعية إلى اهتمامه بالعلم وإنشائه المدرسة الحميدية التي تخرج منها علماء أفاضل وكتاب وشعراء، وباتت موضع إعجاب الفضلاء ومحلاً لزيارة النبلاء.
إن بلدية مدينة النبطية تنطلق في برنامجها لتكريم العلماء والتعريف بهم متعاونة مع جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي لحفظ التاريخ العمراني والأدبي والفكري وذكر حالات أفراد من خدموا أمّتهم ومجتمعهم بمواهبهم، وسلكوا بها مسالك الخير والصلاح وما لذلك من الأثر الصالح في تربية النفوس وإعدادها لإنماء عاطفة الإقتداء بهم.
أتوجه بالشكر إلى جمعية الإمام الصادقQ وإلى النادي الحسيني في مدينة النبطية على الجهود المبذولة لإقامة هذه الندوة الفكرية حول الراحل الكبير العلامة السيد حسن بن يوسف مكي الحسيني العاملي تغمّده الله بواسع رحمته ونهدي إلى روحه الطاهرة وأرواح علمائنا ومراجعنا الكبار والشهداء وأموات الحاضرين الفاتحة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفي الختام، كانت كلمة لإمام مدينة النبطية سماحة الشيخ عبد الحسين صادق، ومما جاء فيها:
إنطلق السيد حسن يوسف مكي في الميدان الاجتماعي لخدمة المجتمع من خلال التبليغ والوعظ ومواصلة صلاة الجماعة والأخذ بيد الناس لمعرفة دينهم وممارسة أحكامه بأسلوبٍ سَلِسٍ وطيبٍ ومُرغّبٍ جداً، كما تشير بذلك شهادة الشيخ سليمان ظاهر على أن همَ السيد حسن مكي كان وحدة الكلمة بين الطوائف والمذاهب وأبناء مجتمعه، وكان أيضاً حريصاً على أن تكون هناك علاقة وطيدة وقوية ومتينة مع الأخوة النصارى والسنة، فأين نحن من هذه الشخصية مع تقدم الزمن والتكنولوجيا؟ وكم وُفق الذين بعده إلى تحقيقها وتكريسها على الأرض؟ وبتنا نحنُّ إليها ونتمناها أن تعود ثانيةً بحلةٍ بهيةٍ تعم هذا الوطن وترفع قامته شاهرةً اسم لبنان ومؤسسته وعلمائه وساسته عالياً..
ومن وفاء سريرة السيد مكي ونُبل عمله، أنه توجّه في كل ما يعمله إلى الله سبحانه وتعالى، وكان يعتبر رسالته هي لخدمة الدين وخدمة المجتمع، متعالياَ عن كل شيء اسمه الحرص، والشاهد على كلامنا هذا، العلاقة التي كانت تربطه مع الشيخ عبد الحسين صادق، الأمر الذي حمل السيد حسن يوسف مكي حين اقترب منه الأجل مع آخرين بالإشارة إلى أهل مدينة النبطية الحبيبة أن يستقدموا من بعده الشيخ عبد الحسين صادق، وفعلاً تم هذا الأمر وجيء بالشيخ عبد الحسين صادق إلى مدينة النبطية تلبيةً لرغبة السيد مكي.
أيها الأخوة الأعزاء، السيد حسن يوسف مكي هو حلقة من سلسلة طويلة لا حصر لها من علماء جبل عامل الذين تكاملوا في خدمة ساحته، وأثروا الخزينة الإسلامية بمؤلفاتهم ونتاجهم المعرفي في شتى العلوم الإسلامية وتعدوها إلى أمور علمية أخرى كالرياضيات والهندسة التي فاقت بهم إلى حد النبوغ والعبقرية، كالشيخ البهائي العاملي قدس الله نفسه الذي لا زالت بعض آثاره الهندسية العظيمة موجودة في إيران حتى اليوم، لترفع شاهداً عظيماً متألقاً في خدمة جبل عامل وكل البلاد الإسلامية الأخرى.
ويجب أن لا نغفل أيضاً عن النتاج العلمي الذي قدمه العلماء العامليون، ذاك النتاج العظيم المذهل والباهر والذي عبّرت عنه بعض المصادر ـ أمل الآمل ـ أنه بلغ في وقت من الأوقات خُمسَ نتاج ما قدمه علماء المسلمين الشيعة رضوان الله عليهم كاملاً، مع العلم أنّ حجم سكان جبل عامل في ذاك الزمن كان أصغر بكثير من ما قدمه من نتاج، وهذا الشيء لافت ومذهل، وفيه إشارة إلى عبقرية وعظمة هؤلاء العلماء الذين تباروا على مسرح جبل عامل، ولا غرابة في هذا النتاج الكبير والغزير الذي قدمه علماء جبل عامل للمكتبة الإسلامية والعربية، وكلنا يعلم أنّ الكتب التي أخذها أحمد باشا الجزار في فترة عدوانه الغاشم على جبل عامل بقيت تشعل أفران عكا لمدة ستة أو سبع أيام متوالية، من كتب ومخطوطات نفيسة كتبتها أقلام علماء الشيعة العامليين وسطعت في سماء الفكر والمعرفة ومنها على سبيل المثال: اللمعة الدمشقية التي ألفها الشهيد الأول في سبع أيام ولم يكن بحوزته أي مؤلف يساعده غير كتاب صغير اسمه «المختصر النافع»، شرح الشهيد الثاني لكتاب اللمعة الدمشقية في القرن العاشر والذي صار يعرف باسم « الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية» وهو كتاب في الفقه الإستدلالي ومن أهم وأبرز وأقوى الكتب الفقهية التي لازالت تعتمد في تدريس الحوزات العلمية اليوم، سواء في (النجف) أو (قم) وغيرهما، وكتاب «المعالم» للشيخ حسن بن الشهيد الثاني الذي أيضاً مازال يدرّس في الحوزات حتى اليوم، وكتاب «الوسائل» للحر العاملي الذي لا يمكن أن يصل درجة الإجتهاد أو أن يراهن في الاجتهاد أحدٌ من العلماء دون أن يقتني هذا الكتاب العظيم، وكتاب مفتاح الكرامة للسيد جواد الأمين وغيرها من المؤلفات التي لا يتسع المجال لذكرها.
هؤلاء علماؤنا الذين نعتز ونفتخر بهم، عاشوا في هذه الأرض الطيبة وأعطوا ليس فقط العلوم الدينية والمعارف، بل أعطوا من قلوبهم المحبة ودعوة الناس إلى البرّ، وزرعوا في النفوس حب الصبر والصمود والجلدَ أمام الأحداث، وكم مرّت على جبل عامل من أحداث، وعصفت به رزايا اقتضت منهم الوقوف صفاً واحداً أمامها، ووقفوا ببركة هذه العلوم وهذا الديدن الذي زرعه العلماء رضوان الله عليهم، كما زرعوا رضوان الله عليهم في النفوس حبّ التضحية ومواجهة الظالم، وهكذا كانوا وهكذا سجّل العامليون ببركة هؤلاء العلماء وغيرهم من ما أنبتته ربوع جبل عامل من روحٍ وطنية في نفوسهم جيلاً بعد جيل، وقد شهدنا لها شواهد بارزة وساطعة في عصرنا هذا في صمود جنوب لبنان وصمود هذه البلدة الطيبة وبلدة (حبوش) التي أنجبت من العلماء السيد حسن يوسف مكي المحتفى به اليوم، كل هذا الصمود والصبر والقوة الذي تميز به العامليون استقى ماؤه من مدرسة عاشوراء وصبر الحسين وزينب عليهم وعلى آبائهم أفضل الصلاة والسلام، ومن هذه المدرسة الحسينية الكربلائية إستطاع العامليون أن يدكوا رأس العدو على صخور جبل عامل ـ والأعظم من كل هذاـ العطاءات الجليلة والتضحيات العظيمة التي قدمها العامليون، والتي تنحني لها هامات الأحرار في كل العالم وأولها هامات العرب الذين تركوا قضيتهم ويتلهون مجتمعين على ضرب مهد الأمة العربية في اليمن، وا أسفاه! واعجباه على الحال التي وصل إليها هؤلاء الأعراب!
أخيراً، ما قام به العامليون من إنجازات وما قدّموه من انتصارات سيبقى، وستظل رايته شامخة كشموخ جباله العاصية على الغزاة، وستظل الأحرار والشعوب ترفع لهم التحية، ونحن أيضاً كلنا معهم لنحييّ الراية التي ارتفعت بدماء شهدائنا وصبر أبنائنا وتضحيات زهور أعمارنا من قوافل الشهداء التي قدمتها النبطية وساحات ربوع هذا الجبل الأشم جبل عامل.
صدر عن جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي كتاب:
(البهائي الفقيه العارف
جامع مختلف العلوم والفنون)
والكتاب الذي صدر في جزئين (800 صفحة حجم كبير)، عبارة عن مجموعة من الأبحاث العلمية والفكرية حول الشيخ البهائي، التي قدمها السادة العلماء والأساتذة في مؤتمر الشيخ البهائي الذي عقدته جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي في بيروت بالتعاون مع المستشارية الثقافية في إيران والمجمع العالمي لأهل
البيت R ومجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية.
سيصدر قريباً عن جمعية الإمام الصادقQ كتابٌ تحت عنوان:
(الفكر المقاوم عند علماء جبل عامل خلال مائة عام)
إلتقى م- الملف العديد من الشخصيات العلمائية والفكرية من مختلف المناطق، وذلك في مقر جمعية الإمام الصادقQ في بلدة أنصار الجنوبية.
كان يقول:«بيت العنكبوت كثير على من يموت»
سقطت داره على الأرض بعد دفنه
إنه العالم الزاهد الشيخ محمد بن خليل دبوق العاملي، كان من العلماء الفضلاء الزهاد العباد، درس في مدرسة الشيخ موسى أمين شرارة في بنت جبيل حتى وفاته سنة 1304هـ، ثم غادر بعدها إلى النجف الأشرف ولم يمكث طويلاً بسبب أوضاعه الصحية. عُرف عن الشيخ محمد خليل دبوق بين أهل العلم والناس بالعالم الزاهد الذي يعيش الخشونة في مأكله وملبسه، وصاحب الأخلاق الرفيعة والذوق السليم، كان شاعراً وأديباً، وكان كما ينقل رفيقه السيد الأمين في ترجمته في أعيان الشيعة: «يرفض الغيبة في مجلسه بشكل عجيب، ويرد المُغتاب بطريقة وأسلوب لا يزعجه ولا يخجله، وكان من صفاته أنه حاضر الذهنْ بحيث لا تحدث معه حادثة إلا وأنشد فيها شعراً في نفس اللحظة، فذات مرة أودع أمانه عند أحدهم، وهو كتاب مجلد بطريقة فاخرة، وعندما عاد ليأخذه منه وجده قد (قوّره) من الجانبين، وأخذ الجلد منه ووضعه لحجاب (عوذة) عنده، فأنشد الشيخ محمد خليل دبوق في ذلك بيتاً من الشعر:
وقد يُهلك الإنسان كثرة ماله |
كما يذبح الطاووس من أجل ريشه |
وأما منزله فكان خراباً، يكاد يقع على الأرض لشدة تصدّعه، وحاول معه كثيرون أن يعيدوا بناءه أو ترميمه، وكان يرفض قائلاً:«بيت العنكبوت كثيرٌ على من يموت».
وبعد موته حملوا جنازته في قرية خربة سلم ودفنوه في جبانتها سنة 1317هـ، وبعد وضع اللحد عليه، سقط سقف بيته على الأرض، فكان كما قال: «بيت العنكبوت كثير على من يموت»، وكأنه أراد أن لا يترك شيئاً في الدنيا، يسأله الله تعالى عنه يوم القيامة، فيكون كما قال سلمان الفارسي (رضوان الله عليه): «هكذا ينجو المخفونْ».
ففي يوم القيامة وعند الحساب عندما يسأله ـ للشيخ خليل دبوق ـ المولى عز وجل عن عمره فيما أفناه؟ فيجيبه: «أفنيته بالعلم والزهد والورع والعبادة»، وعن ماله من أين أتى به؟ وكيف أنفقه؟ فيجيبه الشيخ بالقول: «يا رب لا مال عندي ولا شيء من حطام الدنيا».