المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين
بيروت 2011م
المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين
بيروت 2011م
المؤتمر الوحدوي الثالث
الكتاب: |
المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين - بيروت 2011م |
إصدار: |
جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية |
تاريخ الإصدار: |
بيروت 2011م - 1432 هـ |
جميع حقوق الطبع محفوظة |
المؤتمر الدولي
في فكر الشهيدين
بيروت 2011م
الجزء الثاني
المؤتمر الوحدوي الثالث
ظاهرة التكفير
بحث فقهيٌ استدلالی مستنداَ الى رؤية الشهيدين (رحمهما الله)
الشيخ د. محمد مهدي التسخيري (*)
مقدمة:[1]
لقد شهد العالم الاسلامي في العقود الاولى من القرن الهجري الاخير حوادث خطيرة وعظيمة كان لها الاثر الكبير على خارطة العالم في مجالات حياة الانسان كافة، السياسية والثقافية و.... والذي يهمنا في هذا المقال الكلام عن «ظاهرة التكفير» التي اخذت دوراً كبيراً خاصة بعد انتصار الثورة الاسلامية الايرانية وخروج الغزو السوفييتي من افغانستان و استلام طالبان الحكم، وبعد وقوع حادثة 11سپتامبر2001، و من ثم الغزو الاميركي للعالم الاسلامي واخيراً انتفاضة الشعوب في اقطار العالم الاسلامي كافة.
ان استخدام الاصطلاحات الدينية في خدمة المشروع السياسي الذي تسعى الى تحقيقه الدول أو الاحزاب أو الشخصيات، قد فتح الباب امام اللعب بكل المصطلحات ورفع قدسية كثير منها. وقد جاء كثير من هذه المصطلحات لحماية الانسان والحفاظ على نفسه و كرامته وحياته الطبيعية. ولأن الانسان عندما يعجز عن الحوار المنطقي، يستخدم منطق القوة لازالة الخصم واثبات رأيه وارداته على الطرف الآخر.
ولسنا هنا بصدد كشف المؤامرات المحاكة من قبل الاستكبار ووسائل الاعلام السلطوية التي ساعدت على نشر وتوسيع فجوة التقريب في ما بين المسلمين، وان كان الحديث عن هذه المؤمرات هو امر ضروري لابد من الالتفات اليه في جميع بحوثنا السياسية وغيرها لكشف القرائن المقامية لكل هذه البحوث.
شاهدنا في الآونة الاخيرة كيف تجرأ الكثير من هواة العالم و قادة العنف و زعماء التطرف في عالمنا المعاصر بدعم مادّي و اعلامي و مدروس، تجرأوا في اصدار الكثيرمن الفتاوي التي تمس المذاهب الاسلامية و تؤجج الفتن في ما بينها، وتبيح دماء الاشخاص وترخص دم الشعوب ليكون النصر في النهاية لأعداء الاسلام، وهؤلاء المفتون قد يكون الكثير منهم يعيش في ظل انظمة تابعة لقوى الكفر العالمي والتي اصبحت اراضي دولها قواعد عسكرية لقوات الكفر. وهي تحمي الكافر في وجه المسلم، والمفتي غافل عن دور قوى الاستكبار في ايجاد الفتن والافتراق.
ان «ظاهرة التكفير» قد لا يُصرّح بها تارة، ولكن تعامل البعض مع ابناء المذاهب المختلفة خيردليل على قبول ثقافة التكفير في اوساط مجتمعنا الاسلامي. ونأسف كثيراً عندما نسمع ان هناك بعض العلماء قد انجروا الى هذا الوادي، تبعاً لعواطفهم او تبعية لواقع مفروض عليهم عاطفياً.
من هذا المنطلق تطرقنا في هذا المقال الى معنى الكفرواسبابه، في بحث استدلالي فقهي للوقوف على حقيقة هذا الامر. وقد استندنا الى اقوال العلماء وآرائهم، خاصة الشهيدين {. لاشك أن للايمان والكفر مراتب مختلفة. فالمتيقن من الاسلام، هو الاقرار بالشهادتين، مع عدم انكار شيء يعود الى انكار احدهما، وكل من لم يكن هكذا فهو كافر. ثم هل يشترط في الاسلام الاقرار اللفظي، أو يكفي الاعتقاد القلبي، وإن لم يظهر باللسان؟ فها هنا وجوه:
الوجه الأوّل:
اشتراط مقارنة الاعتقاد القلبي للاقرار اللفظي: فمع اختلال احدهما يخرج عن دائرة الإسلام.
الوجه الثاني:
كفاية الاعتقاد القلبي عن الاقرار اللساني. فيحكم باسلام من اعتقد التوحيد، واذعن برسالة خاتم المرسلين، ولو لم يبرز الشهادتين بلسانه.
الوجه الثالث:
كفاية الإقرار اللساني بالشهادتين، وإن لم يُعلم مطابقته للاعتقاد، بل وان عُلم عدم مطابقته.
الوجه الرابع:
عدم اشتراط أحد الأمرين، بل كفاية عدم الجحود القلبي، والانكار اللساني. وهذا القسم قد عده السيد الخوئي مفصّلاً بين من كان اسلامه تبعيّاً لأبويه، ومجتمعه، و من كان اسلامه استقلالياً،وهو المتولد من كافرين.
ففي الأوّل: لا يعتبرفي اسلامه شيء من الأمرين، فما لم يجحد، ولم يظهر الكفر، يحكم باسلامه، ويدل على ذلك السيرة المستمرة على معاملة الاسلام مع أولاد المسلمين من دون توقف على الزامهم بالاقرار بالشهادتين عند البلوغ، بل يكتفي بمجرد نشوئه من مسلمين أو مسلم واحد، إلاّ أن يظهرالكفرو الجحود، مضافاً إلى شهادة جملة من الروايات بذلك[2].
وهذا الوجه تحققه صعب. إذ إن قصد بالجحود الأعم من القلبي واللساني، فلا يمكن سلب الالتفات إلى مسألة واضحة، كالتوحيد والنبوة عن القلب. فإذا التفت الناشىء في بيئةٍ اسلاميّةٍ إلى هذين الموضوعين، لايخلو الأمر إما أنه يذعن بهما، فهوالوجه الأول، أولا، وهذا هو الجحود. إذ الجحود هنا لازم عدم الاعتقاد لا خصوص اعتقاد العدم، ومن لم ينعقد قلبه على التوحيد، ولاعلى عدمه، فصدق الايمان عليه لاوجود له.
وما استدل به من الاخبار قاصرة في معنى عن ابقاء مطلوبه، سوى رواية زرارة عن أبي عبدالله قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا، ولم يجحدوا، لم يكفروا» فانها مع غضّ النظر عن ضعف سندها بمحمد بن سنان، فإن الخبر لم يكن ظاهراً في ما ادعى، إذ انه يمكن أن يريد بان جحدهم يمنعهم من التفكر، والفحص، والتحقيق المؤدي ألى الايمان، فإذاً عند عدم جحودهم سيؤمنون، لوضوح البرهان، وقوة دليل الفطرة.
ويؤيد ما ذهبنا إليه روايات كثيرة، كموثقة حمران بن اعين، سألت أباعبدالله عن قوله عزوجل: }إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا{؟ قالQ: إما آخذ فهو مؤمن، وإما تارك فهو كافر». و كذلك صحيحة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر يقول:«كل شيء يجره الاقرار والتسليم، فهوالايمان، وكل شيء يجرّه الانكار والجحودُ فهو الكُفر».
أماالوجه الثاني:
وهو الاعتقاد القلبي غير المبرز باللسان، فالظاهر كفايته، لثبوت الايمان، وان كان لاثباته لابد من مبرز، كالتلفظ بالشهادتين، أو الالتزام بما يختص بالمسلمين.
واماالوجه الثالث:
فالظاهر من عبارة بعض الفقهاء كفايته، وان حصل العلم بعدم الاعتقاد القلبي، و يدل عليه السيرة النبويّة، إذ كان رسول الله يكتفي في الحروب بمجرد الاقرار بالشهادتين. ويحكم المسلمون باسلام هؤلاء، مع العلم بعدم اعتقاد اكثرهم، بل ان بعض المنافقين كانوا يظهرون الشهادتين باللسان، ولم يؤمنوا بالله طرفة عين ابداً. والله تعالى قد اخبررسوله بهم، ولكنه لم يحكم بكفرهم، والأدلة عليه من القرآن والسنة.
فمن القرآن قوله تعالى:}إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ{(63/1)[3].
قال الطبري في تفسيره جامع البيان:
«والله يشهد أن المنافقين لكاذبون في اخبارهم عن انفسهم انها تشهد أنك لرسول الله، وذلك انها لاتعتقد ذلك، ولاتؤمن به، فهم كاذبون في خبرهم عنها بذلك»[4].
وقوله تعالى:}قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ{(49/)[5].
واما الأخبار فهي كثيرة منها، ما عن طرقنا، كموثقة سماعة قال أبو عبدالله: «في الاختلاف بين الاسلام والايمان، الاسلام شهادة أن لااله إلاالله، والتصديق برسول الله، به حقن الدماء، وحُرمت المناكح، والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس، والايمان الهدى، وما يثبت في القلوب من صفة الاسلام، وما ظهر من العمل به، والايمان ارفع من الاسلام بدرجة، ان الايمان يشارك الاسلام في الظاهر، والاسلام لا يشارك الأيمان في الباطن، وان اجتمعا في القول والصفة»[6].
ومن اهل السّنة ما رواه البخاري عن النبيP:
«امرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منيّ دماءهم واموالهم»[7].
فاستظهر من هذه الأخبار كفاية الاقرار باللسان، حتى مع العلم بعدم مطابقة اللسان للجنان.
التحقيق:
و لكن التحقيق ان الاقرار اللساني اصبح حاقناً للدماء، و حافظاً للفروج، و محترماً للاموال، لكونه حاكياً عما في الضميرمما انعقد عليه القلب في الاعتقاد، وإلاّ فمجرد لقلقة اللسان من دون دلالته على معنى لا يفيد أي شيء، فضلاً عن اثبات الإسلام، وبناءاً على ماهو المحقق في محله من تبعّية الدلالة للارادة، فمثل المنافق الذي لم يعقد قلبه على ما جرى به لسانه، لم يكن مسلماً في الواقع، وهذا شيء غيرمختلف فيه.
وبما أنه لايمكن الاطلاع على باطن القلوب، والاحاطة بغايات الأفعال دائماً، إلاّ للاوحديين ممن اعلمهم الله بالغيب، فنحن مأمورون بحمل الباطن على الظاهر }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا{ (4/94)[8].
ويؤيده ما رواه القمي في تفسير قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله...{ انها نزلت لما رجع رسول الله من غزوة خبير، و بعث اسامة بن زيد في خيل، إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك، ليدعوهم إلى الإسلام، حيث كان رجل يقال له مرداس بن ناهيك الفدكي في بعض القرى، فلما احس بخيل رسول الله جمع اهله وماله في ناحية الجبل، فاقبل يقول: أشهد أن لاإله إلاالله، و ان محمد رسول الله. اخبر ذلك، فقال له رسول الله : «قتلت رجلاً شهد أن لاإله إلا الله، وان محمد رسول الله. فلا شققت الغطاء عن قلبه، ولا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت» فحلف بعد ذلك أن لايقتل أحداً شهد أن لا إله إلا الله وان محمدًا رسول الله، فتخلف عن علي في حروبه[9].
فما سبق إلى بعض الأوهام من أن الجحود والانكار لايكون منافياً للاسلام مع الاقرار باللسان، فهو خلط بين مقامي الثبوت والاثبات، لعدم نصب قرينة من المنافق والكذاب على خلاف ظاهر كلامه، بل يحلف بان ما جرى به لسانه مطابق لما انعقد عليه قلبه، ولهذا أقول: اكد المنافقون شهادتهم برسالة الرسول بالجملة الاسميّة، وبلام التوكيد.
قال التفتازاني في شرحه المطول على تلخيص المفتاح للزويني: «بان المعنى الكاذبون في الشهادة وادعائهم فيها المواطئة[10]، فالتكذيب راجع إلى قولهم نشهد[11]، باعتبار تضّمنه خبراً كاذباً، وهو ان شهادتنا هذه عن صميم القلب وخلوص الاعتقاد، بشاهدة أن، واللام، والجملة الاسميّة، ولاشك أنه غير مطابق للواقع، لكونهم المنافقين الذين يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم»[12].
محصل البحث:
فتحصل ان تجريد الاسلام من الاعتقاد النفسي والاذعان القلبي، غير موجّه، وان كان بعد لزوم حمل الباطن على الظاهر، وعدم الاعتمادعلى الظن بل الحدس في الحكم بعدم ايمان شخص أو كفره.
فبعد ما اتّضح لدينا معنى الاسلام، لابأس بالاشارة إلى منافيات الاسلام أي الأسباب التي تسلب عنوان الاسلام عن الناس، ولازمه ثبوت عنوان الكفر، بناء على عدم الواسطة بين الكفر والاسلام، فقد ذهبت المعتزلة إلى الواسطة بين الايمان والكفر، بارتكاب الكبائر[13].
أسباب الكفر
الأول: الجحود والانكار
لاشك أن الالحاد بالله سبحانه و تعالى، وانكار رسالة رسول الله، مساوق للكفر. ومن صدر منه بعد اسلامه، فهو مرتد. وهذا يتمثل في أصل انكار وجود واجب الوجود. وكذلك الاعتقاد بتعدّد الواجب المساوق لانكار التوحيد، الذي هو الشرك، وتكذيب رسول الله في آياته، ورسالته، سواءٌ اعتقد برسالة غيره من الرسل، أم لا. وثبوت الكفر لهذه الاصناف من ضروري الدين. واما الجحود ببعض اصول الدين، كالمعاد فالظاهر انه لا يختلف عن انكار رسالة الرسول P، و تكذيب صريح القرآن إذا كان في صورة انكار مطلق انواع الرجوع و البعث، واما انكار بعض اقسامه، كالجسماني منه، فإذا استلزم انكار الضروري فهو ملحق بمنكر الضرورة المبحوث عنه في القسم الثاني. و اما بناء على أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله كما ورد في موثقة سماعة المتقدمة، فلا وجه للتعدي عن اطلاق مثل هذه الأخبار، في اعتبار مدخليّة الاقرار باشياء أُخر في الاسلام. فالإعتقاد باليوم الآخر لايمكن غض النظر عنه، إذ لا يجتمع انكاره مع تصديق رسول الله بوجه من الوجوه. فالمحصل انه لا دخل للاقرار والايمان بغير التوحيد والنبوة في ثبوت أصل الاسلام.
نعم قد يرجع انكار بعض الضروريّات إلى انكار هذه الأركان.
الثاني: إنكار الضروري:
قال في مفتاح الكرامة: «ويدخل في الكافر كل من أنكر ضروريات الدين. قال في التحرير: ان الكافر كل من جحد ما يعلم من الدين ضرورة، سواء حربيين، أو أهل الكتاب، أو مرتدّين، وكذا النواصب، والغلاة، والخوارج. ومثله في الشرايع، ونهاية الأحكام، والارشاد، والذكرى، والتذكرة، والبيان، والروضة، والحاشية الميسيّة وغيرها، بل ظاهر نهاية الأحكام، التذكرة، والروض، الاجماع على ذلك بخصوصه»[14].
الإنكار النظري:
الظاهر من تفسيرالمشهور: أن الضروري هو ما عليه ثبوته من الدين ضرورة (أي من غير حاجة الى دليل لثبوته) بالتواتر، أو بالشهرة المستمرّة، في الاعصار المختلفة المتفوقة على التواتر، كوجوب الصلاة، وحُرمَة شرب الخمر، وباقي الأحكام المتفق عليها بين المسلمين في الجملة، حتى مثل نجاسة البول، والغائط، والمخالفة الشاذّة من بعض من لا يتّبع من المسلمين، لايُخرج المسألة عن مورد الاتفاق، وبالتشكيك في حرمة الربا، أو وجوب الستر، لايخرج المسألتين عن الضرورة.
قال العلامة في النهاية: «القصر جائز في الصلاة الرباعيّة بإجماع العلماء.... حتى أن جاحده كافر، لأنه جحد ما علم ثبوته من الدين ضرورة»[15].
وهل يعتبر في الضروري أن يكون يقينيًا ولو بالبرهان لدى المنكر، فلا يحكم بكفر المنكر شبهة، أو ان إنكار المجمع عليه مطلقاً، سواء أفاد اليقين، أو لم يُفد موجب الكفر؟
فالظاهر ممن اطلق كُفر منكر الضروري، هوالثاني.
التحقيق:
ولكن التحقيق: ان انكار من لم يتيقّن بثبوت حكم من الاحكام المجمع عليه لدى أهل الإسلام، إذا كان انكاره ناشئاً من كونه حديث الإسلام، أو جاهلاً بتفاصيل الأحكام، أو غريباً عن الاجواء الاسلامية، فالحكم بكفره مشكل.
أقوال العلماء:
قال صاحب الجواهر بعد ذكر كفر من جَحد ما يُعلم من الدين ضرورة: «بل تحقق الكفر بالاوّل (الخروج عن الإسلام كالارتداد) اجماعيّ، أو ضروري، بل وبالثاني (من انتحل الاسلام و جحد ضرورياً من الضروريات) ايضاً، بناءً على ان سببيّة الكفر لاستلزامه انكار الدين، وإلاّ فلا دليل على تحقق الكفر به لنفسه، ومن هنا لم يحكم بالكفر بانكار جديد وكل من احتمل وقوع الشبهة في حَقّه، لعدم ثبوت الاستلزام المذكور في شيء منها، الذي هو المدارُ، في حصوله»[16].
فظهر من صاحب الجواهر ان المدار في ثبوت الكفر، انكار ما يستلزم انكار الدين لدى المُنكر، فعلى هذا قد يتم الكفر غير ضروري؛ إذا قطع به المنكر بانه من الدين.
قال في الجواهر: «ولذا لو تحقق ولو بانكار غير ضروري، كالمقطوع به بالنظر حكم بكفر منكره ايضاً، مع فرض قطعه به»[17].
وقد نسب إلى مجمع البرهان: «ان المراد بالضروري الذي يكفُّر منكره، الذي ثبت عنده يقيناً انه من الدين، ولو بالبرهان، وان لم يكن مجمعاً عليه. إذ الظاهر من دليل الكفر هو انكار الشريعة، وانكار صدق النبي مثلاً في ذلك الإمر مع ثبوته يقيناً، وليس كل من انكر مجمعاً عليه يحكم بكفره، بل المدار على حصول العلم والانكار وعدمه؛ إلا أنه لما كان حصوله في الضروري غالباً، جعل ذلك المدار وحكموا به»[18].
ثم اشكل عليه: بان ذلك مناف لما هو الظاهر من الاصحاب، خصوصاً من عبر بالانكار منهم، و الظاهر من عطفهم جحود الضروري على الكفر، والخروج من الاسلام، مغايرته لهما.
نعم، قد اقتصر بعضهم: في ضابط أصل الكفر على انكاره الضرورة؛ لاندراج اسباب الكفر فيه، وقد يشهد له مكاتبة عبد الرحيم للصادق، قال فيها: «لا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال، ان يقول للحلال هذا حرام، و للحرام هذا حلال، ودان كذلك فعندها يكون خارجاً من الاسلام والايمان، داخلاً في الكفر، وكان بمنزلة من دخل الحَرَمَ ثم دخل الكعبة واحدث في الكعبة حدثاً، فاخرج عن الكعبة وعن الحرم، فضربت عُنقه»[19].
فما يوجب الكفر حينئذٍ، الاقوال المشعرة بعدم الاعتقاد بما ثبت يقينًا لدى المسلمين، وبعض الافعال كإهانة مقدّسات المسلمين، كما قال الاردبيلي في مجمعه:
«وعدم صدور شيء يوجب الكفر من فعل أو قول، مثل القاء المصحف في القاذورات استهزاء وإهانة، وانكار ضروري الدين»[20].
الانكار العملي:
اما الخروج العملي والشذوذ الظاهري، فلا دليل على ايجابه الكفر، و به وردت اخبار هذا مفادها، كالمروي في فقه الرضا: «تارك التقية كافر»[21]. وفي هداية الصدوق «من ترك واحدة من الخمس عمدأُ، فهو كافر»[22]. وروي عن أمير المؤمنين : «من جدّد قبراً، أو مثل مثالاً، فقد خرج عن الإسلام»[23].
قال السيد المرتضى: «ان مرتكبي هذه المعاصي المذكورة على ضربين: مستحل، ومحرم، فالمستحل لايكون إلا كافراً، وانما قلنا انه كافر، لاجماع الأمة على تكفيره، لأنه لايستحل الخمر والزنا مع العلم الضروري بان النبي حرمهما، وكان من دينه حظرهما؛ إلا من هو شاك في نبوته، وغير مصدّق به، والشك في النبوة كفر، فما لا بد من مصاحبة الشك في النبوة له، كفر أيضاً. فاما المحرم لهذه المعاصي مع الاقدام عليها، فليس كافر»[24].
وقال الأردبيلي معلقّاً على رواية أميرالمؤمنين المتقدمة: «واما الخروج عن الاسلام، فاما أن يكون للمبالغة، فكانه بمنزلتهم لكثرة الذنوب، أو مع الاستحلال بعد ثبوت التحريم بقول الإمام وغيره، فيكون من انكار الضروري في الدين، فيكفر»[25].
فتحصل من مطاوي ما ذكرنا:أن كل ما كان راجعاً إلى انكار الرسالة بصورة ظاهرة، فهو من انكار الضروري و ملحق بالكفر، وإلا فاستصحاب الإسلام و الايمان، ولزوم حمل عمل وكلام المسلم على الوجه الصحيح، يدفع الحكم بالكفر.
التحقيق:
إن اكثرهذه الآراء تستند الى الملازمات التي يستنبطها الآخر و قد لا يقبل بها فاعلها، فالمنكر العملي وان استلزم من عمله انكار الضروري بوسائط عديدة الا أنّه قد لا يكون يعلم بها أو قد لا يكون مؤمناً بهذا الاستلزام. لذلك كان الحكم عليه بالكفر مشكل، خاصة وان الحدود تدرأ بالشبهات، فكيف يجوزاتهام الشخص بالكفر، والايمان اساس كل شيء في حياته؟.
الثالث الإنحراف الاعتقادي:
وقد نقل الاجماع على كفر النواصب، الخوارج، والغلاة، كما نقله في مفتاح الكرامة من الروض، والدلائل[26]. ويمكن ارجاعه إلى انكار الضروري بجميع معانيه، إذ اتفق المسلمون على مودّة أهل البيت، فنصبُ العداء لهم مخالف لما اتفقوا عليه، وللغلاة معتقدات تنافي ضرورة الدين، كتأليه بعض الاولياء الذي هو عين الكُفر، ونسبة ما لم يثبت اشتراك غير الله سبحانه تعالى له فيها إلى بعض العباد كالرزق، وتدبير الأمور، والاحياء، والإماتة، والشفاء. فإذا قطع ثبوت احد هذه العناوين، يحكم بكفره وإلا، فلا. وظاهر حال الناس انها لا تقصد نسبة هذه الامور الى غير الله، لذلك الحكم عليهم بالكفر أمر مشكل ايضاً. وتفصيل هذه الاصناف هو:
الناصب:
ان الناصب هو المعادي، واصطلاحاً يطلق على المبغضين لعليّQ.
قال في القاموس: «والنواصب والناصبة واهل النصب المتديّنون ببغض عليQ، لأنهم نصبوا له، أي عادوا»[27]. فعلى هذا يصبح النصب المعاداة، مع اتخاذه ديناً، و شعاراً ورمزاً.
قال العالم المحدث الفقيه الشيخ فخر الدين الطريحي في مجمع البحرين: «والنصب أيضاً المعاداة، يقال نصبت لفلان نصباً إذا عاديته، ومنه الناصب وهو الذي يتظاهر بعداوة أهل البيت P، أو لمواليهم لأجل متابعتهم لهم... وقال البعض اختلف في تحقيق الناصبي، فزعم آخرون أنه من نصب العداوة لشيعتهم، وفي الأحاديث ما يصرّح بالثاني. فعن الصادقQ: انه ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنه لاتجد رجلاً يقول انا ابغض محمداً وآل محمدP، ولكن الناصب من نصب لكم، انتم من شيعتنا»[28].
والتحقيق أنّ وجود الناصبي في عالمنا المعاصر كاد ان يكون لاوجود له. نعم هناك من لهم عداء لاصل الاسلام وهم يحملون عنوان الاسلام وهؤلاء هم المنافقون ولاغير.
الخارجي:
واما الخارجي: قال ابن منظور في اللسان:«والخوارج الحروريّة والخارجية طائفةُ منهم لزمهم هذا الاسم لخروجهم عن الناس، والخوارج قوم من أهل الاهواء لهم مقالة على حدة»[29].
وقال في المجمع: «والخارجي واحد الخوارج، وهم فرقة من فرق الإسلام، سُموا خوارج لخروجهم على علي. وهل الانتماء الطائفي من دون اعتبار العداء، النصب واللعن، والشتم، كاف في صدق الاسم، ومن ثم سحب عنوان الكفر، وترتب احكامه؟ أم لا بد من الاتصاف بصفات خوارج زمن الإمام عليQ، والقرنين الأوّلين من القرون الهجرية؟ وجهان: من حيث صدق العنوان، وعدم ثبوت العداوة والبغضاء».
وبالتحقيق ايضاً ليس من البعيد ان يقال لا مصداق اليوم لوجود الخارجي وفقاً لمصطلح السلف في المجتمع الاسلامي.
الغال:
واما الغلاة: فهم على ما قاله الشهيد الثاني في روض الجنان: «والغلاة جمع غال، وهو مجاوزة الحد في شيء، والمراد هنا الذين زادوا في الأئمة R، واعتقدوا فيهم، أو في احدهم أنه إله، ونحو ذلك. ويطلق الغلو على من قال بإلهيَّة احد من الناس»[30].
ولكن المتتبع في كلمات الأصحاب يرى أن اطلاقهم عنوان الغلو على الأفراد والمقالات لم يكن سواء. فهذا محمد بن الحسن بن الوليد[31] الشيخ الثقة، الذي كان شيخ القميين و فقيههم، على ما ينقل عنه تلميذه الصدوق ما هذا نصه: «كان شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد يقول: اوّل درجة من الغلو نفي السهو عن النبي[32].
فعلى هذا، فهل صحيح ان نتهم الشيعة من الشيخ المفيد إلى يومنا هذا بالغلو؟، وهو واضح البطلان، حيث أن الغلو عند علمائنا في الصدر الأوّل من المحدثين، مختلف المعنى عما اصطلح عليه بعدهم، وهومما يوجب الكفر.
فقد قال المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني:«و من الواضح أن الغلو في الصدر الأوّل لارباب الحديث، ليس من الغلو الموجب للفسق، أو الكفر، فانهم يرون ان نفي السهو عن النبيP من الغلو، والله اعلم»[33].
التحقيق:
والتحقيق: ان المسألة لابد أن تبحث في علم التوحيد والكلام، وان يميز هناك ما لا يجوز عقلاً نسبته إلى الممكنات، عما يجوز، ثم ما ثبت اسناده إلى الممكنات، عما لم يثبت، أي في الواقع، مثل الوجوب بالنسبة للحوادث محال عقلاً، اما مثل الخلق والرزق استقلالاً محال وقوعاً، ثم في الأمور التي ليست مستحيلة كاسناد الأفعال إلى الأولياء، مع قيد اذن الله وامره.
فحينئذٍ لا بد من مبرر ومسوغ شرعي، وهو نقل الصادق المصدق، وفي كفاية مايفيد الظن في ذلك تأمل، ونظر. وكل هذا محال إلى محله من علم الكلام.
المجسمة:
أما القول بالتجسيم وفي الحاق القائلين به بالكفار، قول قد خالفه السيد اليزدي في العروة الوثقى قائلاً:
«وأما المجسمة، والمجبرة، والقائلون بوحدة الوجود من الصوفية، إذا التزموا باحكام الاسلام، فالاقوى عدم نجاستهم»[34].
وقد حكى في مفتاح الكرامة نجاسة المجسمّة عن المبسوط، والتحرير، والمنتهى، والدروس، البيان، والشرائع، والمسالك، وحكى الطهارة عن التذكرة، والمعتبر، والذكرى.
و كذلك حكى نجاسة المشبهة عن المبسوط، والتحرير، و المنتهى، وحكى طهارتهم عن المعتبر، والتذكرة و نهاية الإحكام، والذكرى[35].
والظاهر من جامع المقاصد عدم الخلاف في نجاسة المجسّمة. قال في جامع المقاصد:
«أما المجسمة فقسمان، بالحقيقة و هم الذين يقولون ان الله تعالى جسم كالأجسام، والمجسمة بالتسمية المجردة، وهم القائلون بانه جسم لا كالاجسام، وربما تردد بعضهم في نجاسة القسم الثاني، والاصح نجاسة الجميع. واذا تقرر ذلك فنجاسة هذه الفرق الأربع (الخوارج، والغلاة، والنواصب، المجسمة)، لاكلام فيها» [36]. والقول بالنجاسة فرع القول بكفره هذا على مبنى من قال بنجاسة الكافر.
وانكشاف الواقع والحق في هذه المسألة أيضاً يحتاج إلى بحث عقائدي عميق عن المراد بالتشبيه والجسم، ما شابهه، واليد، والسمع، والبصر، والخبر، والاختيار، والقلب، والارادة، وعندئذٍ ماكان منافياً لثوابت ومسلمات التوحيد والرسالة، فهو باطل، ملحق بالكفر، بل هو عين الكفر، وغيره مالم يكن استلزامه لما يفيد الكفر من النوع البين بالمعنى الأخص، فالأمر ههنا مشكل، والأصل الطهارة والاسلام.
المجبّرة:
اما المجبّرة الذاهبون إلى الجبر العام في التكوين، وسلب الاختيار مطلقاً عن العباد، فقد ذهب جمع إلى تكفيرهم. استناداً إلى بعض الأخبار، كالرضوي: «القائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك». وقول الصادق Q: «ان الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أن الله تعالى اجبرالناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله في حكمه، فهو كافر. و رجل يزعم ان الأمر مفوض اليهم، فهذا قد وهن الله في سلطانه فهو كافر»[37].
والظاهر أن هذه الأخبار كما قال الشيخ حسين الحلي: «لاتكون ظاهرة في إثبات الكفر لهم حقيقة، ولا تنزيلاً، بل وردت في مراتب الايمان و الكفر» [38].
واذا امعنا النظر في كثيرمن الاحاديث الواردة في خصوص الكفر والايمان نشاهد انها قد وردت في مقام بيان مراتب الايمان أو الكفر، ولم ترد لتبيين حقيقة الكافر والمؤمن كماهومصطلح عليه شرعاً.
فمحصل البحث ان كل ما انتهى إلى انكار ضروري من معتقدات الأمة، فهو كفر؛ والاّ فالحكم به صعب جداً.
[1](*) مستشار أمين عام مجمع التقريب بين المذاهب الاسلامية ورئيس وكالة أنباء التقريب.
[2] فقه الشيعة ج 3، ص 109.
[3] سورة المنافقون،الآية:1
[4] جامع البيان ج 28، ص 106
[5] سورة الحجرات، الآية: 14.
[6] اصول الكافي ج2، ص 25
[7] صحيح البخاري، ج1، ص13
[8] سورة النساء، الآية: 94
[9] تفسير القمي ص 176.
[10] بين القلب و اللسان.
[11] لا باعتبار نفسه.
[12] الموطل ص 39.
[13] امالي المرتضى ج1، ص 14.
[14] مفتاح الكرامة ج1 ص43.
[15] نهاية الأحكام ج2 ص163.
[16] الجواهر ج6، ص46
[17] الجواهرج6، ص 46.
[18] الجواهر ج6، ص47.
[19] اصول الكافي ج2، ص 27.
[20] مجمع الفائدة والبرهان ج6، ص51
[21] فقه الرضا، ج1، ص 338
[22] الهداية ج1، ص 12.
[23] الوسائل ب 43 من ابواب الدفن ج1.
[24] رسائل المرتضى ج1، ص 155.
[25] مجمع الفائدة والبرهان ج2، ص 499.
[26] مفتاح الكرامة ج1، ص144
[27] القاموس المحيط: مادة (نصب).
[28] مجمع البحرين: مادة (نصب).
[29] لسان العرب مادة (خرج).
[30] روض الجنان ج1، ص 163.
[31] رجال النجاشي ص 382.
[32] مختلف الشيعة ج2، ص 199، والذكرى ص 215.
[33] بحوث في الفقه ج2،ص 20.
[34] العروة الوثقى ج1، ص 54
[35] مفتاح الكرامة ج1، ص 145
[36] جامع المقاصد ج1، ص 164.
[37] الوسائل الباب العاشر من أبواب حد المرتدج28 ص 339 – 356.
[38] دليل العروة الوثقى ج1، ص 470.
صلاة الجمعة ووجوبها عينًا: إحدى استحداثات الشهيد الثاني (دراسة موضوعية في الأدلّة والأبعاد)
السيد عبد الله نظام (*)
أولاً: مقدمة في بيان أهمية صلاة الجمعة[1]
صلاة الجمعة فريضة عظيمة, ذَكَرها ربّنا في كتابه الكريم, وأحاطها بجملة من التشريعات, صيانةً لها من أن يتهاون الناس بها, فحرَّم البيع والمعاملة عند النداء, ونهى نبيّنا وأئمة أهل بيته, عن الاشتغال قبلها, بكل ما يحتمل فيه أن يكون مانعاً من أدائها, من السفر وطلب الحاجات, بل بكل ما لا يرتبط بها من الأعمال, ولعلَّه لا توجد فريضة في الإسلام, حثَّ المشرِّع عليها, وأكَّد الالتزام بها, كحثّه وتأكيده فريضة الجمعات, لما لها من الخصوصية من جهة إظهارها لعظمة وقوة الإسلام باجتماعها المهيب, وحضورها الواسع الذي يشمل سائر المكلَّفين, وإن في ما ذكره نبيّناP والأئمة من آل البيتR من تعظيم أمرها, والحثّ عليها, كقولهم عنها أنها حجّ الفقراء, وأنَّ مَنْ غابَ عنها ثلاث جُمَعٍ لا لعلّةٍ, كُتبَ منافقاً, وأن فيها موقفاً لإجابة الدعاء, ما بين نزول الإمام وتسوية الصفوف للصلاة, وغير ذلك, ما يؤكِّد أهميتها, ويشير إلى مكنون سرّها.
لقد جرت العادة أن يؤمّ الناس فيها ذوو الشأن منهم وأرباب العلم والسلطان, وهي منبر إعلامي عظيم, ومدرسة في الوعظ والإرشاد, وبيانٌ لما ينبغي على المسلمين أن يطلعوا عليه, وأن يلتفتوا إليه من أمور دينهم ودنياهم, وما يطرق باب حياتهم من نوازل وأحداث, فيشخَّص داءها, ويُعيَّن دواءها, ليكون الناس على معرفةٍ بما يتعلق بشؤون حياتهم.
ولعلّ ما أحيطت به هذه الفريضة من وجوب السعي إليها من مسافة بعيدة, وما لها من وقتٍ مضيَّق, يجعل حضور الناس لها في وقت واحد, يقدِّم حلاً عملياً للذين تشغلهم أعمالهم وشؤونهم الخاصة, فلا يحضرون في معظم أيامهم مجالس علم وتحقيق, ولا يستمعون إلى وعظٍ وإرشاد, يبني ذواتهم, ويهذِّب نفوسهم, فيتمّ لهم كل ذلك من خلال منبر الجمعة, الذي يشكَّل الفرصة المثلى والوحيدة أسبوعياً, ليحصل هؤلاء على نصيبهم من العلم والتوجيه والذكر وتليين القلوب.
وإن ما نعيشه في هذه الأيام من كثرة الانشغالات, وطول وقت العمل, يجعل صلاة الجمعة لقاءً وحيداً يجتمع فيه المؤمنون بإخوانهم, ويتداولون شؤونهم, ويستمعون فيه إلى ما يزكّي نفوسهم, وينظّف قلوبهم ويعمرها بالعلم والحكمة, بحيث يمكن القول إنه لو لم تكن هذه الفريضة مشرعة, فإنه يجب علينا أن نبحث في فرائض ديننا عمَّا يمكِّننا من جمع الناس لما يؤدي وظائفها, ويقوم مقامها, ولا أحسب أنه يوجد في تشريعات ديننا ما يحفظ الدين والأمّة, كما تحفظه هذه الفريضة.
لذا رأيت أن أؤكِّد على ما أكَّد عليه شهيدنا الثاني زين العابدين الجبعي العاملي, طيَّب الله ثراه, في بحث حكمها, من لزوم التمسّك بالدليل الواضح, والبرهان اللائح, لمن أخرج رقبته من ربقة التقليد للأسلاف, وسلك سبيل الحق بالإنصاف, وخاف الله تعالى في امتثال أمره, والوقوف معه, فإنه أولى من يخاف[2].
والتزاماً منَّا بما ذكرناه, فإنه ابتداءً لابدّ من التنبيه إلى خطأ منهجيّ في كثير من بحوثنا الفقهية, عندما نبدأ من استعراض الأقوال في المسألة قبل النظر في أدلّتها من الكتاب والسُنَّة, لأن ذلك يولِّد موقفاً قَبْلياً يتحكم بالباحث ويوجهه إلى فهمٍ خاص لتلك الأدلّة, الأمر الذي قد يصرفه عن الفهم العرفي للدليل, ويبعده عن الحيادية في بحثه العلمي, ليصبح معه وكأنَّه يتبنى موقفاً قَبْلياً يبحث له عن دليل, بينما ينبغي أن تكون الغاية الأساسية من ذكر الأقوال إنما هي مقابلة ما وصل إليه الباحث في المسألة, مع ما وصل إليه غيره من الباحثين, فيتيقن من الصحيح, ويقوِّم ما اعوجّ, جراء إحاطته بما استدلّ به أسلافه ومعاصروه.
لذا سأبدأ - قبل عرض الأقوال في المسألة - بذكر أدلّتها من الكتاب والسُنَّة, واستخلاص نتائجها, ثم أنتقل إلى مقارنتها مع ما وصل إليه الفقهاء في هذه المسألة.
ثانياً: الأدلة من القرآن الكريم
قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ{ (الجمعة).
بدأ الله تعالى كلامه في هذه الآيات المباركة بنداء إلى جميع المؤمنين, يشملهم فرداً فرداً, يأمرهم فيه بالسعي إلى ذكر الله عند النداء للصلاة من يوم الجمعة, وقد أجمع المفسِّرون على أن المراد بالسعي هو الإسراع بالإجابة بالتهيّؤ والحضور إلى المساجد, وقد وردت في هذا المعنى روايات عن أئمة أهل البيت تحثّ على المسارعة والبكور في الحضور, منها ما رواه الكليني عن أبي علي الأشعري, عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النَّضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: كان أبو جعفر يُبَكِّرُ إلى المسجد يوم الجمعة حين تَكونُ الشمس قيدَ رُمحٍ، فإذا كان شهر رمضان يكون قبل ذلك، وكان يقول: إنَّ لِجُمَعِ شهر رمضان على جُمَعِ سائر الشهور فضلاً كفضل شهر رمضان على سائر الشهور[3].
وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد, عن النَّضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان، عن حفص بن البختري, عن محمد بن مسلم, عن أبي جعفر Q قال: إذا كان يوم الجمعة نَزَلَ الملائكة المُقَرَّبون معهم قراطيسُ من فضة، وأقلامٌ من ذهب, فيجلسون على أبواب المسجد على كراسي من نورٍ, فيكتُبُون الناس على منازلهم, الأول والثاني, حتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام طووا صُحُفَهم, ولا يهبطون في شيءٍ مِنَ الأيام إلا يوم الجمعة، يعني الملائكة المقربين, ورواه الصدوق مرسلاً نحوه إلى قوله: طووا صحفهم[4].
كما أجمع المفسِّرون على أن المراد من ذكر الله الذي نصَّت عليه الآية المباركة, هو صلاة الجمعة بخصوصها, وقال بعضهم هو الخطبتان.
والنداء هو الآذان, فيجب عند سماعه المسارعة إلى تلبيته والذهاب إلى الصلاة, وقال الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان: وفرض الجمعة لازم على جميع المكلَّفين إلا صاحب العذر مِنْ سفر, أو مرضٍ, أو عمى, أو عرج, أو آفة, وغير ذلك, وعند اجتماع الشروط[5][6]ë.
وقد أشار الشهيد الثاني في رسالته في وجوب صلاة الجمعة إلى توهّمٍ مفاده: أن الأمر بالسعي إليها معلَّق على الآذان الخاص بها - صلاة الجمعة - لا مطلق الآذان, وبالتالي فإنه لو لم يكن نداء خاص بالجمعة, فإن وجوب السعي يكون معدوماً, بناء على أن المشروط عدم عند عدم شرطه, وأقول إنه لا داعي لدفع هذا الدخل, فإن كل من له معرفة بالعربية - إذا نظر في الآيات الكريمات - لا يتوهّم وجود تقييد حقيقي لوجوب السعي بسماع الآذان الخاص بالجمعة, إنما هو نحوٌ من الحثّ على المسارعة إلى الصلاة عند حلول وقتها؛ لخصوصية فيها من ضيقه, وللخطبتين, يؤيِّده ما ذكرناه من الروايات الحاضَّة على البكور إلى المسجد يوم الجمعة, بحيث إنه إذا سمع المكلَّف اذان الجمعة لا ينبغي له أن يشتغل بشيء سوى السعي إلى الصلاة.
كما أجهد بعضهم نفسه بتصوير دور في الآية يمنع من الاستدلال بها على وجوب صلاة الجمعة, خلاصته أن الأمر بها متوقف على النداء, والنداء متوقف على الأمر بها, فيلزم على ذلك ثبوت وجوبها من خارج الآية المباركة, أي بدليل آخر.
والجواب: إن الله عزَّ وجلّ إنما قال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ { (الجمعة), فإنه جلَّ شأنه إنما أشار إلى لزوم السعي إلى هذه الصلاة الواجبة عند سماع ندائها, ووجوب السعي والمسارعة إلى الشيء, غير فعله وغير مشروعيته, وبعبارة أخرى: وجوب السعي والنداء متوقف على المشروعية والوجوب, وهما غير وجوب السعي, فلا دور.
وقد غاب عن المستشكل أن ذات كلامه جلَّ شأنه يثبت وجوب الجمعة على كل حال, فإن الآية تدلّ بالملازمة على الوجوب, وتؤكِّد عليه وإن كان ثابتاً بدليل سابق, وروايات أسباب النزول تؤكِّد ذلك[7]. فإن المسلمين - على ما في تلك الروايات - كانوا قد انشغلوا عن أدائها بالبيع والشراء, لوصول قافلة إلى المدينة عند النداء, فنزلت هذه الآية المباركة لردّهم إلى طاعة الله والتزام أوامره جلَّ شأنه, ولو لم تكن تلك الصلاة واجبة وجوباً عينياً, لَما كان هنالك داعٍ لهذا النزول, وذلك لقيام رسول الله مع جماعة معه بها, كما أشارت إليه الآيات, ونصّت عليه الروايات5, فلا أقلّ من وجود مدلول التزامي لهذا الخطاب القرآني مفاده الوجوب العيني لتلك الصلاة, وإلا فلماذا كان الأمر بالسعي موجَّهاً إلى جميع المؤمنين, ومثله النهي عن البيع والشراء.
ولولا أن بعضهم قد ذكر هذا الإشكال في دلالة الآية, لَما كان ينبغي التعرّض له من أصله, وقد كان هذا التعرّض من أجل أن لا تبقى وسوسة في النفس, وتوهّم لِما يمنع الدلالة.
فدلالة الآية على وجوب السعي عند سماع اذان الصلاة في يوم الجمعة خالية من الإشكال, وسواء قلنا: إن الاذان هو اذان الجمعة بالخصوص, أو قلنا: الاذان بنحوٍ مطلق للصلوات في ذلك اليوم, فالجمعة منها على كل حال, ولأن تتمة الآية المباركة وما بعدها من الآيات, يظهر أن المقصود, وأنه صلاة الجمعة بالخصوص, فإن البيع والشراء في تلك الأيام لم يكن وقت انعقادهما واشتغال الناس بهما عند طلوع الفجر أو بعد الغروب, وإنما هو في وضح النهار, وصلاة الظهر والعصر ليستا مقصودتين إجماعاً, ولقوله تعالى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة (9) (الجمعة), فلو كان المسلمون مشغولين بالصلاة لما خرجوا, وإنما كانت الخطبة, مما يعني خصوص الجمعة.
وقد خصّ الله تعالى البيع بالذكر؛ لكونه الفرد الأكثر أهمية وشيوعاً في مشاغل الناس, ولكونه الحدث الذي كان السبب في نزول الآية حسب روايات أسباب النزول.
ثم إنه قد يعترض على الاستدلال بما مفاده أن الأمر بالسعي في الآية المباركة معلَّق على مطلق النداء للصلاة, الصالح لجميع أفراده, وخروج بعض الأفراد بدليل خارج, أو لعدم توفّر بعض الشرائط المفروضة فيه, لا ينافي الإطلاق في النداء, لذا فإن الآية لا تصلح لإثبات الوجوب العيني بنحوٍ مطلق لصلاة الجمعة على المسلمين, وإنما هو يتبع الشروط, والتي منها وجود الإمام المعصوم أو نائبه الخاص؛ لذا لا وجوب لها في عصر الغيبة, بل في كل عصر لا بَسْطَ لولايتهم فيه, فإن الصلاة المأمور بها في الآيات الكريمات إنما هي المستوفية لجميع الشرائط والأجزاء, والتي فرض الله تعالى إقامتها كذلك, لذا لا يمكننا الاستناد إليها لإيجاب السعي على جميع المؤمنين عند سماع النداء والقول بالوجوب العيني لصلاة الجمعة, لو كنَّا نحتمل شرطية شيء فيها, كاحتمال شرطية إقامة الإمام المعصوم لها أو نائبه الخاص, مع الالتفات إلى أنه لا ينبغي أن يراد من الاحتمال للشرطية مطلق الاحتمال, أي كيفما اتفق, لأن هذا يقدح في إمكانية استفادة وجوب أيّ شيء من الكتاب والسُنَّة, لإمكان توهّم شرطية شيء فيه, ونحن في الحقيقة يكفينا من الآيات المباركات ثبوت وجوب عيني في الجملة في زمن الرسول، ومع وجود روايات بيانية في المقام[8] خالية من اشتراط تصدي الإمام المعصوم أو نائبه الخاص, بل وحتى العام, في وجوب إقامتها, فإنه يمكننا الاستناد إلى إطلاقها بالنسبة إلى هذا الشرط, وبالتالي فإن القول بالوجوب العيني - الذي تدلّ عليه الآيات - في زمن الرسول, مستمرّ في عصر غيبة المعصوم, أو عدم بسط يده.
لذا على المُنكِر لهذا الوجوب, تقديم الدليل على شرطية حضور الإمام, أو إذنه للانعقاد.
ومع الالتفات إلى أن الشرط ينقسم إلى شرط واجب وشرط وجوب, فإن ما يكون من قبيل الثاني لا يجب على المكلَّف السعي إلى تحصيله, لخروجه عن القدرة, - كعدم كونه مريضاً, أو عبداً, أو كونه امرأةً, أو كونه على أزيَد من فرسخين, ومنها على القول به حضور الإمام أو نائبه الخاص - بخلاف شروط الواجب, التي يجب على المكلَّف السعي إلى تحصيلها, حتى لا يقع في المقدمة المفوّتة فيأثم, ومن شروط الواجب حضور الفقيه الجامع للشرائط, بناءً على شموله بالنيابة, فيصبح السعي واجباً عليه, وكذلك حال مَنْ يكمل به العدد من المؤمنين, فإنَّ تقاعس هؤلاء عنها مع توفّر بقية شروطها, يعتبر من المقدمة المفوّتة لا ريب, ويكونون به من العاصين.
ولنا أن نقول أيضاً ما ذكره الشهيد الثاني في رسالته الخاصة بوجوب صلاة الجمعة: مقتضى الآية أن الأمر بالسعي معلَّق على مطلق النداء للصلاة الصالح لجميع أفراده, وخروج بعض الأفراد بدليل خارج, واشتراط بعض الشرائط فيه, لا ينافي أصل الإطلاق, فكل ما لا يدلّ دليل على خروجه, فالآية متناولة له, وبه يحصل المطلوب[9].
والحق في الآية المباركة أن النداء المذكور فيها هو النداء الخاص بصلاة الجمعة, وهو الظاهر من سياق كلماتها, وإن كثرة الوسوسة في الأدلة, وإلقاء الاحتمالات كيفما اتفق, يشوّش المطلب, ويضيع معه أصل المسألة, فإن الآية الكريمة تخاطب المسلمين في زمن النبي, ومن ورائهم جميع المسلمين إلى قيام الساعة, وتأمرهم بالمبادرة إلى صلاة الجمعة وترك ما سواها من الأعمال, فالحديث والنداء إنما عنياها بخصوصها, وإن كان وقتها - الزوال - مشتركاً مع غيرها اي الظهر, ولا شكّ في أن حضورهP ليس من شروطها, لإقامتها في غير المدينة المنوّرة على عهده, ولعدم ذكر شرطيته في الروايات البيانية المتقدمة, والقول إن الإمام للجمعة كان يُنصب من قِبله P لخصوص القيام بذلك, هو نحو من الادعاء الذي لا يصمد أمام التحقيق والتدقيق, فإنه عندما كان يرسل أحد أصحابه إلى قوم لإدارة أمورهم, ورعاية شؤونهم, يكون قيامه بإمامتهم في صلاة الجمعة من قبيل الجري لقيامه بسائر شؤونهم, أو لعدم وجود غيره من العارفين بأحكامها, وليس عندنا نصّ واحد, ولا عند غيرنا من مذاهب المسلمين, أنه P قد نصب إماماً خاصاً للجمعة لا يقوم بها غيره, بحيث تظهر الخصوصية جليّةً في نصبه, إذ لا يكفي أن يقوم بها من أُرسل إلى قوم ليعلمهم أمور دينهم, أو لإدارة أمورهم, ليقال إنه نائب خاص أو حتى عام في هذا المقام, ثم ولو تنزَّلنا عن ذلك, فلا أقلّ من أن الناس كانوا مأمورين بصلاة الجمعة بحضوره P ونزل بوجوبها قرآن, كانت آياته خالية من أي شرط في وجوبها غير حلول وقتها, وعليه فإن أي شرط إضافيّ لابدّ له من دليل يصلح لتقييد الآية بشرطيته من خلال الروايات البيانية, وإلا فهي باقية على إطلاقها بالنسبة إليه, وهذا كله في مصلحة الوجوب العيني في زمن الحضور, وفي زمن الغيبة على السواء.
ثم أشار سبحانه إلى أن إجابة نداء المؤذِن لصلاة الجمعة, هو خير عند الله عزَّ وجلّ من البيع وما شابهه من الأعمال, وهذا أمر يرتبط بأصول ومرتكزات العقيدة الإسلامية, من أن جميع أمور الدنيا والآخرة بيده جلَّ شأنه, فهو الذي يقسِّم الأرزاق بين عباده, وهو الذي إليه مآبهم, وعليه حسابهم, لذا من الخير لعباده الالتزام بأوامره, وهو القادر على إيصال الخير لهم بنحو أحسن ممَّا قصدوه وتوجهوا إليه, دون أن ينافي ذلك أصل سعيهم, لذا نجده جلَّ شأنه قد أذن لعباده أن ينتشروا في الأرض - وهو التفرّق بعد الاجتماع - بعد أدائهم صلاة الجمعة, وأن يبتغوا من فضله, أي أن يعودوا إلى أعمالهم ويسعوا في كسب أرزاقهم ونِعَم ربّهم, مع أمرهم بدوام ذكره, لأنه أثناء القيام بكسب الرزق قد يفتح باب للشيطان, ولتسويل النفس الإنسانية كسب المال من غير حِلِّه, وما قد يحصل أثناء ذلك من التنازع الداخلي بين كسب المنافع الدنيوية ورعاية أحكام الله تعالى, حيث يمثِّل الذِّكر عاملاُ مهماً, وقوة رادعة, تحسم المسألة لصالح الأحكام الشرعية, ورعاية المسائل الإنسانية, فلا يستشري تحكّم الهوى وسلطان الأنانية, ويسيطرا على قلوب المؤمنين, وهو ما يظهر من قوله جلَّ شأنه: }فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{(الجمعة), وفي المأثور عن علي Q ما يشير إلى دوام حالة الذكر عندهQ: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله معه وقبله وبعده. وقد بيَّن الله تعالى في القرآن الكريم حالة أولي الألباب فقال عزَّ من قائل: }وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ{(آل عمران).
ثم إنَّ الله تعالى قد وجَّه اللَّوم إلى أولئك النفر الذين انفضّوا وخرجوا من المسجد أثناء خطبة الجمعة وتركوا النبيّP مع بعض المؤمنين, وأنَّبهم على عملهم, وبيَّن لهم مجدَّداً أن ما عنده جلَّ شأنه خير من اللهو ومن التجارة, وأنه خير الرازقين.
وخلاصة القول: إن الآيات المباركات تتحدث عن صلاة لا تؤدَّى إلا جماعة, بخلاف سائر الصلوات المفروضة الأخرى, وهو ما ذكرته الروايات عن أهل بيت العصمة[10].
فلا يصحّ الادّعاء هنا بأن الآية تتحدث عن مطلق الصلوات المفروضة, أو عن مطلق الذِكر, لبُعد ذلك عن سياق الكلام قطعاً, وعمَّا جاء في متون الروايات, ولنا أن نقول بعد ذلك: إن الأصل في تشريع صلاة الجمعة - بحسب التنزيل - هو الوجوب العيني في الجملة, إلا ما خرج بدليل.
وقد نصَّت الروايات البيانية على خروج المريض, والمملوك, والمسافر, والمرأة, والصبيّ, ومن كان على رأس فرسخين, للروايات المتقدمة وغيرها.
فما هو الدليل الذي حوَّل الوجوب العيني في زمنه P, إلى وجوب تخييري في زمان الغيبة, أو إلى عدم مشروعية, وبالتالي لا بدّ أن ينصَبّ البحث على وجود هذا الدليل الذي كان السبب في هذا التحوّل, وإلا فلا بدّ أن يكون العمل بموجب إطلاق الآية الكريمة, بعد نفي شرطية حضور المعصومQ أو إذنه, بالروايات البيانية التي لم تفرّق في عدم الشرطية بين زمنيّ الحضور والغيبة, وكذلك مناقشة الإجماع المدّعى على الشرطية, وهو ما سنناقشه في محله إن شاء الله.
ثالثاً: أدلة الوجوب العيني من الحديث الشريف
ورواه أيضاً في الخصال عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى مثله, إلى قوله: وهي الجمعة[12].
وأمَّا رواية الحكم بن مسكين, فإن الإعراض عنها أولى[25]؛ لعدم توثيق الحكم, ولعدم عمل الأصحاب بها, بل أجمعوا على عدم اشتراط حضور القاضي, والمدعي, والشاهدين, والمدعى عليه, والذي يضرب الحدود, بين يديّ الإمام.
وقال الحرّ العاملي في تعليقته على هذه الروايات: ويدلّ على ذلك جميعُ ما دلَّ على الوجوبِ من القرآن والأحاديث المتواترة الدَّالَّةِ بعمومها وإطلاقها مع عدمِ قيامِ دليلٍ صالحٍ لإثباتِ الاشتراط، وما تَضَمَّنَ لفظَ الإمام من أحاديثِ الجُمُعة, المرادُ به إمامُ الجماعةِ, مع قيدٍ زائدٍ, وهو كونُهُ يُحْسِنُ الخُطْبَتَين وَيَتَمَكَّنُ منهما لعدمِ الخوفِ، وهو أعمُّ من المعصوم، كما صرَّح به علماء اللغة وغيرهم، وكما يُفهم من إطلاقه في مقام الاقتداء، والقرائنُ على ذلك كثيرةٌ جداً، والتصريحاتُ بما يدفَعُ الاشتراطَ أيضاً كثيرةٌ، وإطلاقُ لفظ الإمام هنا كإطلاقه في أحاديث الجماعة, وصلاة الجنازة, والاستسقاء, والآيات, وغير ذلك من أماكن الاقتداء في الصلاة، وإنما المراد به هنا اشتراط الجماعة مع ما ذُكِرَ[26].
وأقول: إن الروايات المتقدمة فيها روايات بيانية, كالرواية الأولى والثانية والثالثة والسابعة والثامنة, وكلها كانت مطلقة من اشتراط حضور الإمام المعصوم أو نائبه, وحتى من شرط إذنه, وهي في ذلك توافق إطلاق آيات الكتاب الكريم, وإن أبت وجود إطلاق في الكتاب, لكون الصلاة المذكورة فيه بشرطها وشروطها, فإن الروايات البيانية تتكفّل ذلك, وتبيّن أن هذه الصلاة واجبة عيناً, وغير مشروطة بحضوره أو نائبه أو إذنه.
ومن المناسب أيضاً أن نورد هنا على سبيل التأييد نماذج من الروايات التي تتحدث عن أهمية صلاة الجمعة, وتبرز اهتمام الأئمة بحضورها, وبذكر بعض خصائصها, مع أن حال حضورهم كحال غيبة قائمهم, إذ لم يكونوا يؤمّون الناس, ولم يكن بمقدورهم تعيين نواب خاصين لإقامتها, وكانوا يعلمون أن هذه الحال ستكون مستمرة إلى عصر الظهور, فعن أي شيء كانوا يتحدثون؟, ولماذا كل تلك الروايات لو لم تكن هنالك أهمية لما يذكر فيها, ووجوب لفريضتها, وإمكانية التزام المؤمنين العملي بها؟.
وسأقتصر هنا على ذكر أهمّ الروايات مع تقسيمها إلى مجموعات رَوْماً للاختصار.
فلماذا كان يبكر إلى المسجد في يوم الجمعة؟, ولماذا كان يبكر أكثر في شهر رمضان ويقول: إنَّ لِجُمَعِ شهر رمضان على جُمَعِ سائر الشهور فضلاً كفضل شهر رمضان على سائر الشهور؟.
فانظر إلى هذا الحثّ على المسارعة إلى الذهاب إلى المسجد باكراً يوم الجمعة, حيث يكتب الناس على منازلهم في الحضور إلى المسجد: الأول, الثاني,... حتى يخرج الإمام, فمن هو الإمام الذي ذكر الإمام الباقر خروجه من المسجد وجعله حدَّا لكتابة الملائكة مراتب حضور الناس في صحفها؟, وهل كان Q يعيِّن أئمةً لصلاة الجمعة في تلك الأيام في ظلّ الدولة الأموية؟!, وإذا كان الأمر يتعلق بما سيأتي من الأيام خارج عصره، فمتى سيتمّ ذلك؟!.
وهذا إنّما يعني وجوب الالتزام بهذه الفريضة على كل حال, فإن كان إمام الجمعة ممَّن لا تصحّ خلفه الصلاة, فقد عالج الأئمة هذه المسألة كما سنبيّنه لاحقاً.
أ- محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النَّضر، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله قال: السَّاعَةُ التي يُسْتَجَابُ فيها الدُّعاء يوم الجمعة ما بينَ فراغِ الإمامِ مِنَ الخُطبَة إلى أن يَستويَ الناس في الصفوفِ, وساعةٌ أخرى من آخِرِ النهار إلى غروب الشمس[29].
ب- وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن معاوية بن عمار قال: قُلت لأبي عبد الله: الساعة التي في يوم الجمعة التي لا يدعو فيها مؤمنٌ إلاَّ استُجيب لهُ، قال: نعمْ, إذا خَرَجَ الإمام، قُلتُ: إن الإمامَ يُعجِّل ويُؤخِّر، قال: إذا زاغتِ الشمسُ, ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب، والذي قبله بإسناده عن الحسين بن سعيد, أقول: وتقدم ما يدل على ذلك, ويأتي ما يدلّ عليه[30].
فعن أيّ شيء تحدَّث الإمام الصادق في هاتين الروايتين؟!, وإذا لم تكن هنالك جمعة معتبرة بنحوٍ من الأنحاء, كيف يربط استحباب الدعاء بخروج الإمام إلى الخطبة حتى فراغه منها واستواء الصفوف, وهو يجيب عن سؤال مَنْ سَأَله عن ساعة إجابة الدعاء, ولم ينبهه على أن ذلك لا يكون إلا في عصر تمكّن المعصوم أو نائبه من إمامة هذه الصلاة؟!, ولا شكّ أنه Qكان عالماً بأنه ما بين عصره إلى خروج الإمام المهدي لن تكون هنالك جمعة يقوم بها إمام معصوم أو نائب خاص عنه, فحديثه إنما كان عن تلك الجُمَع المتعارفة في زمانه, والمستمرة إلى زماننا وحتى ظهور الحجة, ومن الواضح أنه لا علاقة لشخص إمام الجمعة بذلك كلّه, وإنما هو التوقيت, خصوصاً ما ورد في رواية معاوية بن عمار المتقدمة.
أ- ما روي عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن النَّضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله: فضَّل الله يومَ الجمعة على غيرها من الأيام، وإن الجِنان لتُزَخرف وتُزَيَّن يوم الجمعة لِمن أتَاها، وإنكم تتسابقون إلى الجنَّة على قَدر سبقكُم إلى الجمعة، وإن أبواب السماء لتُفتَّح لِصعُود أعمال العباد[31].
فما معنى قوله: وإنكم تتسابقون إلى الجنَّة على قَدر سبقكُم إلى الجمعة, فعن أيّ جمعةٍ كان يتحدث الإمام داعياً إليها مشجعاً على حضورها؟.
ب- محمد بن علي بن الحسين في (الأمالي), عن محمد بن موسى بن المتوكل، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البَزنْطي، عن مُفَضَّل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: إذا كان حيثُ يَبْعَثُ الله العباد أُتِيَ بالأيام يَعْرِفُها الخَلائِق باسْمِها وحِلْيَتها، يَقْدُمُها يَوم الجمعة لَهُ نورٌ ساطعٌ يتبعهُ سائرُ الأيام كأنَّها عروسٌ كريمةٌ ذاتُ وَقَارٍ تُهدى إلى ذي حِلْم وَيَسَار، ثم يكون يوم الجمعة شاهداً وحافظاً لمن سارعَ إلى الجمعة، ثم يدخلون (يَدْخُلُ) المؤمنين إلى الجنة على قَدْرِ سَبْقِهِمْ إلى الجُمُعة[32].
فعن أيِّ أُناسٍ كان يتحدث بقوله: إذا كان حيثُ يَبْعَثُ الله العباد أُتِيَ بالأيام... ثم يكون يوم الجمعة شاهداً وحافظاً لمن سارعَ إلى الجمعة؟!.
أ- وعن الحسين بن إبراهيم بن نَاتَانَة، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي زياد النَّهديّ، عن عبد الله بن بكير قال: قال الصادق جعفر بن محمد: ما مِنْ قَدَمٍ سَعَتْ إلى الجُمُعَة إلا حَرَّمَ الله جَسَدَها على النار[33].
ما المقصود من قوله: ما مِنْ قَدَمٍ سَعَتْ إلى الجُمُعَة إلا حَرَّمَ الله جَسَدَها على النار, وما مناسبة الحديث إذا كانت الجمعة لا تنعقد إلا بالإمام المعصوم أو نائبه الخاص؟, وهو ما لا يتمّ إلا في عصر الظهور, ويعلم Q أن بينه وبينه أكثر من ألف عام.
5.
أ- محمد بن علي بن الحسين بإسناده, عن السَّرِيِّ، عن أبي الحسن علي بن محمد قال: يُكرَهُ السفر والسعي في الحوائج يوم الجمعة بُكرةً من أجل الصلاة، فأمَّا بعد الصلاة فجائزٌ يُتَبَرَّك به[34].
لقد علَّلت الرواية كراهة السفر والسعي في الحوائج بأنه من أجل الصلاة, ومن الواضح هنا أن تلك الكراهة راجعة إلى تشاغل الساعي في حوائجه, والمسافر ببعده عن مكان أداء صلاة الجمعة, لأنه لا تأثير لذلك على صلاة الظهر كما هو معلوم, حيث يمكن أداؤها في السفر والحضر, وفرادى وجماعة, وفي جميع الأحوال, وإنما الكراهة لخوف ضياع فريضة خاصة لا تؤدى إلا جماعة وفي وقت مضيَّق خاصّ.
أ- إبراهيم بن علي الكفعمي في (المصباح), عن الرضا Q قال: ما يُؤْمِنُ مَنْ سَافر يوم الجمعة قبل الصلاة أن لا يحفظه الله تعالى في سفره، ولا يَخلُفه في أهله، ولا يَرزقه مِنْ فَضْلِه[35].
ب- محمد بن الحسين الرضي في (نهج البلاغة), عن أمير المؤمنينQ في كتابه إلى الحارث الهمداني قال: ولا تسافر في يوم الجمعة حتى تشهد الصلاة إلا ناصِلاً في سبيل الله، أو في أمرٍ تُعْذَرُ به[36].
فما معنى قولهQ: حتى تشهد الصلاة؟, وهل الشهود غير الحضور؟, والرواية مطلقة من حيث النهي عن السفر, لا تختصّ بحال دون حال, ولا خصوصية للحارث الهمداني فيها, فهي تشمل كل مؤمن, ويدلّ على ذلك جمع من الروايات, وكذلك فإن الحارث قد مات بعد شهادة أمير المؤمنين, حتى لا يقول قائل إنها خاصة بما كان في زمانهQ.
أ- عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد), عن عبد الله بن الحسن، عن جده علي بن جعفر، عن أخيه قال: سألتُهُ عن القعود في العيدَيْنِ والجُمُعة والأمامُ يخطبُ كيفَ يصنعُ يَسْتَقبِلُ الإمامَ أو يستقبلُ القبلةَ؟, قال: يستقبلُ الإمامَ, ورواه علي بن جعفر في كتابه[37].
فإذا لم تكن صلاة الجمعة ممكنة على وجهها في عصر الإمام الكاظمQ, وستبقى كذلك حتى عصر الظهور, فأي شيء مهمّ كان يشغل ذهن علي بن جعفر حتى سأل أخاه الإمام الكاظم؟.
أ- محمد بن علي بن الحسين قال: قال النبيP: كُلُّ واعظٍ قِبْلَةٌ، وكُلُّ مَوْعُوظِ قِبلة للواعِظ, يعني في الجمعة والعيدين وصلاة الاستسقاء, في الخُطبة يستقبلُهُمُ الإمام ويستقبلونَهُ حتى يفرُغَ من خُطبته[38].
ب- قال: ورويَ أنه كان بالمدينة إذَا أذَّنَ المؤذِّنُ يومَ الجمعةِ نادى مُنادٍ: حَرُمَ البيعُ, حَرُمَ البيعُ, لِقَوْلِه عزَّ وجلَّ: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ { (الجمعة), أقول: وتقدَّم ما يدلّ على ذلك[39].
لقد بيَّنا فيما تقدَّم أن الآية الكريمة تتحدث عن صلاة الجمعة بخصوصها, وأن النهي عن البيع جاء لئلاَّ ينشغل به الناس عنها لخصوصيتها, وضيق وقتها, وعدم إمكان تأديتها إلا جماعة, بحسب بعض الروايات المعلّلة المذكورة فيما تقدَّم.
أ- عبد الله بن جعفر في (قُرب الإسناد) عن أحمد بن إسحاق, عن بكر بن محمد, عن الصادق Q, عن آبائه R, قال: قال أمير المؤمنينQ: الناسُ على ثلاثة منازلَ في الجُمُعةِ: رجلٌ أتى الجمعة قبلَ أن يخرُجَ الإمام وَشَهِدَها بإنصاتٍ وسكونٍ, فإن ذلك كَفَّارةُ الجمعة إلى الجمعة, وزيادة ثلاثة أيام لقول الله عزَّ وجلّ: من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها وهم لا يظلمون (الأنعام - 160), ورجلٌ شَهِدَها بلغَطٍ وقلَقٍ, فذلك حَظُّهُ, ورجلٌ أتاها والإمام يَخطُبُ فقام يُصلِّي فقد خالَفَ السُنَّة, وهو يسأل الله عزَّ وجلّ إن شاء أعطاهُ, وإن شاءَ حَرَمَهُ[40].
ب- وعن عبد الله بن الحسن, عن جدِّه عليّ بن جعفر, عن أخيه موسى بن جعفر Q قال: سَألتهُ عن الإمامِ إذا خَرَجَ يومَ الجمعة هل يَقطَعُ خُرُوجُهُ الصلاة, أو يصلّي الناسُ وهوَ يخطُبُ؟, قال: لا تَصلُحُ الصَّلاةُ والإمامُ يخطُبُ إلاَّ أن يكونَ قد صلَّى ركعةً فَيُضيفَ إليها أُخرى, ولا يُصلّي حتى يَفْرُغَ الإمامُ مِنْ خُطْبَتِهِ. أقول: وقد تقدَّمَ ما يدلّ على ذلك[41].
فعن أيّ صلاة جمعة كان يسأل عليّ بن جعفر, فهل كانت غير الصلاة التي تقام في الأمصار في تلك الأيام والتي هي مستمرة ومتعارفة في هذه الأيام؟.
هل يعقل أن تكون الصلاة المذكورة يوم الجمعة صلاة تقام في مكان خاص ولا يحضرها إلا ثلَّة من الناس؟! أم أنها صلاة الجمعة على عظم مشهدها, وكثرة حضورها؟!.
كل هذه الروايات, وغيرها كثير, مضافاً إلى الآية الكريمة, تشير في الواقع إلى صلاة الجمعة المتعارفة في سائر الأمصار والأزمان حتى هذه الأيام, والتي ورد فيها جميعاً تشجيع الأئمةR الناس على حضورها, بأساليب مختلفة, مباشرة وغير مباشرة.
نعم, بقيت هنالك مجموعتان من الروايات:
أولاهما: ما ورد فيها من قولهم Q: والاجتماع إليها فريضة مع الإمام, وهما روايتان:
والإنصاف في هاتين الروايتين أن قوله: والاجتماع إليها فريضة مع الإمام, يحتمل فيه إرادة الإمام المعصوم, كما يحتمل فيه بيان حكم المكلَّف من جهة أنه إذا أقامها مَنْ تصحّ إمامته لها, وجب الحضور على المكلَّفين, وإذا حصل الاحتمال, بطل الاستدلال, مضافاً إلى أن ما ذكرناه من كلام صاحب الوسائل يقوِّي الاحتمال الثاني, وكذلك ما ظهر من الروايات البيانية من عدم هذا الاشتراط, وكذلك ما سيظهر من المجموعة الثانية من الروايات, وهي:
فإن ظاهر هذه الروايات عدم اشتراط حضور الإمام المعصوم أو نائبه, بل هو الصريح, لأنه أمر زرارة بها, وحثَّه عليها, وصرَّح بعدم الحضور عنده, مما ينفي ما احتمله بعضهم بأنه إذن خاص من الإمام له لإقامتها, وكذلك ظاهر رواية عبد الملك, بل فيها معاتبة ولوم, وكذلك صريح روايتيّ محمد بن مسلم, والفضل بن عبد الملك في إقامتها في القرى إذا كان هنالك مَنْ يخطب ممَّن يؤدّون الجماعة.
فالصحيح هو عدم الاشتراط, ويبقى الوجوب العيني على حاله كما نزل به القرآن الكريم؛ لعدم ما يصلح للتقييد.
فما ذكرناه في هذه العجالة يؤيِّد أن صلاة الجمعة كانت تقام في عصر الأئمة، وأنهم كانوا يدعون إليها دون أن يكونوا هم أو نوابهم الخاصّون أئمتها.
وليس ما ورد هنا إلاَّ نماذج من روايات مباركات, نشير من خلالها إلى أهمية هذه الفريضة وعظم مكانتها, وإلى أننا بحاجة إلى أدلّة قاطعة تناهض تلك الأدلة, تدلّ على عدم وجوبها في عصر الغيبة, فضلاً عن عدم مشروعيتها, ليمكننا بها تخصيص أدلة الوجوب العيني أو معارضتها, مع تأكيدنا أن ما ذكرناه هو كافٍ لردّ القول بعدم المشروعية, وإن كنَّا سنتحدَّث عن ذلك أيضاً عند البحث فيما ادُّعِيَ من الإجماع, وعند البحث في دلالة طائفة من الروايات تفيد أن صلاة الجمعة كانت تقام في عصر الأئمة, وأنهم كانوا يدعون أتباعهم إلى حضورها بنحوٍ عام.
والخلاصة: إن الآية الكريمة, وكذلك الروايات الواردة تحت عنوان الأدلة من السُنَّة، وخاصة البيانية منها, والتي اعتبرناها دليلاً, ظاهرةٌ في الوجوب العيني في عصر الغيبة, كما هو الحال في عصر الظهور، لعدم وجود ما يدلّ على اشتراط حضور الإمام أو نائبه الخاص في وجوب صلاة الجمعة. ولقد كان بإمكان الإمام فيما سمّيناه بالروايات البيانية التي تقيّد الوجوب, أن يذكر ضمن الموانع التي ذكرها، عدمُ حضوره Q أو نائبه, أو عدم إذنه, فكما قال: إن الجمعة واجبة إلا على خمسة: المرأة, والمريض, والمملوك, والمسافر, ومن كان على رأس فرسخين, كان بإمكانه أن يقول: ومَنْ لا يحضره الإمام أو نائبه الخاص أو العام, مع كون المسألة في ذلك الزمان عامة البلوى؛ لعدم بسط يدهمR, وملاحقة الظالمين لهم, بحيث يستبعد دعوته لإقامتها بنفسه, كما يستبعد إمكان نصب نواب له لإقامتها في بلدان العالَم الإسلامي وقراه في ذلك الزمان, فعندما وجدنا أنه Q كان يحثّ الناس عليها, ويحضّهم على إقامتها, بل على حضورها, ويبيّن لهم فضائلها وخصوصياتها, ودون أن يذكر لهم ما يتعلق بحضوره أو إذنه الخاص, عَلمنا أن حضوره أو نوابه أو إذنه ليس شرطاً.
نعم, بقي أن نشير إلى مسألتين هما: ادّعاء المشهور الإجماع على اشتراط إذنه Q, وكذلك وجود روايات ادّعيَ ظهورها فيه.
أولاً: مناقشة الإجماع
وإليك نبذة من أقوالهم؛ ليظهر لك اضطراب أقوالهم فيما أجمعوا عليه, عدا مَنْ أنكرَ شرطية الإذن والحضور, وأكتفي بهذا العرض ليتضح بطلان هذا الادّعاء, وعدم إمكان البناء عليه:
قال السيد جواد العاملي في مفتاح الكرامة، ناقلاً عن العلاّمة الحلّي في قواعده: الثاني: السلطان العادل أو من يأمره... اشتراط هذا الشرط في وجوبها مشهور بين الأصحاب, كما في المدارك, والذخيرة, ومحلّ وِفاق كما في التذكرة, ونهاية الإحكام, والتحرير, وكنز العرفان, وموضع من مجمع البرهان, وكشف اللثام,... وفي المعتبر نسبته إلى علمائنا[49].
فلاحظ كيف عدَّه مشهوراً عند بعض, ومحلّ وفاقٍ عند آخرين, مع تزلزل في الرأي أحياناً كما في مجمع البرهان.
كما نقل عن الغنية الإجماع على أن وجوبها يقف على حضور الإمام العادل أو مَنْ نَصبه وجرى مجراه. وكذلك نقل عن القاضي ذات العبارة, واستدلّ الإثنان على رأييهما بالإجماع.
ولنا أن نقول هنا: إن الإمام العادل لو كان يراد منه المعصوم, لكان ينبغي عليهم التصريح به؛ إذ لا مانع لدى هؤلاء من التصريح, وخصوصاً أن الخلاف إنما هو على المراد من هذه العبارة.
وثانياً: لو تنزَّلنا واعتبرنا أنه المعصومQ, فإن قولهم: وجرى مجراه, إنما هو توسعة باتجاه النيابة العامة, وهي للفقيه المجتهد العادل, وعندها لا أقلّ من وجوب إقامتها عليه, وهؤلاء - ولله الحمد - موجودون في سائر الأمصار والحواضر الإسلامية, ولاسيّما وأنهم نوابهQ, وتكليفهم بالنسبة إليها كتكليفه, فإن النائب كالأصيل, أو ليس إذا كان حاضراً متمكناً من إقامتها كانت واجبة عليه, فكذلك هي عليهم أيضاً.
ونقل عن الروض والروضةالإجماع على أن ذلك شرط مع حضوره, وفي المقاصد العليّةعلى أن ذلك شرط للوجوب العيني, أو مع حضوره, وفي المدارك إن من ادّعى الإجماع على اشتراط الإمام أو نائبه فإنما أراد اعتبار ذلك في الوجوب العيني, أو مع الحضور, لا مطلقاً[50].
وقال المفيد في المقنعة: ففرضها (الجمعة) - وفَّقك الله - الاجتماع, إلا أنه بشريطة حضور إمام مأمون على صفات, يتقدّم الجماعة ويخطبهم خطبتين, يسقط بهما وبالاجتماع, عن المجتمعين, من الأربع ركعات ركعتان, وإذا حضر الإمام وجبت الجمعة على سائر المكلَّفين, إلا مَنْ عَذَره الله تعالى منهم, وإن لم يحضر إمام سقطَ فرض الاجتماع, وإن حضر إمام يخلّ شرائطه بشريطة مَن يتقدّم فيصلح به الاجتماع, فحكم حضوره حكم عدم الإمام, والشرائط التي تجب فيمن يجب معه الاجتماع أن يكون حراً، بالغاً، طاهراً في ولادته، مجنَّباً من الأمراض, إلى أن قال: فإن كان كذلك واجتمع معه أربعة نفر وجب الاجتماع, ومَنْ صلَّى خلف إمامٍ بهذه الصفات وجب عليه الإنصات عند قراءته، والقنوت في الأولى من الركعتين في فريضة، ومن صلى خلف إمامٍ بخلاف ما وصفناه, رتَّب الفرض على المشروح فيما قدَّمناه، ويجب حضور الجمعة مع مَنْ وصفناه من الأئمة فرضاً، ويستحب مع مَنْ خالفهم تقيَّةً وندباً - إلى أن قال: - فإذا اجتمعت هذه الثمانية عشر خصلة, وجب الاجتماع في الصلاة يوم الجمعة على ما ذكرناه, وكان فرضها على النصف من فرض الظهر للحاضر في سائر الأيام، انتهى[51].
وقال في كتاب الإشراف فيما نقل: باب عدد ما يجب به الاجتماع في صلاة الجمعة: عدد ذلك ثماني عشرة خصلة: الحرية, والبلوغ, والتذكير, وسلامة العقل, وصحة الجسم والسلامة من العمى, وحضور المصر, والشهادة للنداء, وتخلية السرب, ووجود أربعة نفر مما تقدم ذكره من هذه الصفات, ووجود خامس يؤمُّهم, له صفات يختص بها على الإيجاب, ظاهر الإيمان, والطهارة في المولد من السفاح, والسلامة من ثلاثة أدواء: البرص, والجذام, والمعرة بالحدود المشينة لمن أقيمت عليه في الإسلام, والمعرفة بفقه الصلاة, والإفصاح بالخطبة والقرآن, وإقامة فرض الصلاة في وقتها من غير تقديم ولا تأخير عنه بحال, والخطبة بما يصدق فيه من الكلام، فإذا اجتمعت هذه الثماني عشرة خصلة, وجب الاجتماع في ظهر يوم الجمعة على ما ذكرناه, وكان فرضها على النصف من فرض الظهر في سائر الأيام، انتهى[52].
وغنيّ عن البيان أن ما ذكره من الصفات لا يصحّ ذكره في الإمام المعصوم؛ لعلوّه عن ذلك, وهو الإنسان الكامل التامّ, ولا في نائبه الخاص, بل ولا العام, خصوصاً ما ذكره من شرط الإيمان, وطهارة المولد, والمعرفة بفقه الصلاة, و... مما يقطع معه عدم إرادة المعصوم أو نائبه الخاص أو العام.
وأمَّا ما ذكره في الإرشاد في باب ذكر طرف من الدلائل على إمامة القائم بالحق محمد بن الحسن: من الدلائل على ذلك ما يقتضيه العقل بالاستدلال الصحيح من وجود إمام معصوم كامل غني عن رعاياه في الأحكام والعلوم في كل زمان، لاستحالة خلّو المكلَّفين من سلطان يكونون بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وحاجة الكلّ من ذوي النقصان إلى مؤدِّب للجناة, مقوِّم للعصاة - إلى أن قال: - مقيم للحدود, حامٍ عن بيضة الإسلام, جامع للناس في الجمعات والأعياد، انتهى, فتراه كيف جعل الجمع في الجمعات من منصب الإمام وخواصه كالعصمة والكمال والغنى عن رعاياه[53].
أقول: إنما يراد منه الدرجة الأعلى والحد الأكمل, وإلا فالقيام بالمهام المذكورة لا يقتصر على حضور الإمام, بل يقوم بها الفقهاء العدول, بل وبعضها يقوم به عدول المؤمنين عند فقد الفقهاء, بل وحتى فجَّارهم عند اللزوم, نعوذ بالله من التحكّم بفهم العبارات, واعتماد المنطلقات القبلية في استنباط الأحكام, والانسياق وراء العقل الجمعي الذي يُبعد الفقيه عن الاجتهاد.
وإلا ماذا يقول ذلك العالم الجليل في قول أمير المؤمنين: لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر, يعمل في إمرته المؤمن, ويستمتع فيها الكافر, ويبلغ الله فيها الأجَل, ويجمع به الفيء, ويقاتل به العدوّ, وتأمن به السُبل, ويؤخذ به للضعيف من القويّ حتى يستريح به برّ ويستراح به من فاجر[54].
وأمَّا ما ذكره صاحب مفتاح الكرامة من تفسيره لكلام الشيخ المفيد في كتابيه الإشراف, والمقنعة, من أن عدم ذكره لعدالة الإمام في شرط إمام الجماعة, فهو كعدم ذكره لشرطية السلطان العادل, وبيان أنه هو الإمام المعصوم, فهو لم يذكر الأول لعدم الخلاف فيه, وكذلك الثاني فأقول إنه لم يذكر أيضاً العدالة في شروط القاضي بشكلٍ صريح, وإنما اشترط كون القاضي ورعاً عن محارم الله عزَّ وجلّ, زاهداً في الدنيا, متوفراً على الأعمال الصالحات, مجتنباً للذنوب والسيئات, شديد الحذر من الهوى, حريصاً على التقوى[55], وعرَّف العدل في باب البينات بقوله: والعدل مَنْ كان معروفاً بالدين والورع عن محارم الله عزَّ وجلّ[56], فقد ميَّز بين إحراز العدالة في الناس, والتي يكتفى فيها بحسن الظاهر, وبين إحرازها من قِبل الإنسان في نفسه, والذي لابدّ منه لقبوله بمنصب القضاء مع اجتماع الشروط الأخرى, فالعدل مَنْ كان يعلم من نفسه الورع عن محارم الله عزَّ وجلّ, والزهد في الدنيا, والتوفر على الأعمال الصالحات, واجتناب الذنوب والسيئات, وشدة الحذر من الهوى, والورع عن المحارم.
بينما نجده قد اشترط { لإمامة الجمعة أن يكون الإمام مسلماً مؤمناً, معتقداً للحقّ بأسره في دينه, مصلّياً للفرض في ساعته, فإذا كان كذلك, واجتمع معه أربعة نفر, وجب الاجتماع, مما يظهر معه أن هنالك تفاوتاً في تعريف العدالة عنده بحسب التكليف والوظيفة, أو الجهة التي يلزمها إحرازها, وما ذكره في باب صلاة الجماعة هو الموافق للروايات, ومن المعلوم أن الفقهاء قبل الشيخ الطوسي إنما كان فقههم يعتمد على المأثور, وحيث إن الروايات لم تنصّ في شروط إمام الجمعة والجماعة إلا على صحة العقيدة كاملة, وعدم المجاهرة بالفسق, والمحافظة على الصلوات, فقد أخذه ونصّ عليه في شروط إمام الجمعة والجماعة كما هو مذكور في متون الروايات, فراجع ما رواه صاحب الوسائل من الروايات الدالّة على اشتراط كون إمام الجماعة مؤمناً موالياً للأئمة, وعدم جواز الاقتداء بالمخالف في الاعتقادات الصحيحة الأصولية إلا لتقيّة[57], وما رواه في باب عدم جواز الاقتداء بالفاسق, فإن فعل وجب أن يقرأ لنفسه, وجواز الاقتداء بمن واظب على الصلوات ولا يظهر منه الفسق[58].
فالمفيد لم يُعرض عن اشتراط العدالة كما نسبه إليه صاحب مفتاح الكرامة, وإنما ذكرها بما يعبّر عنها من متون الروايات, فلا يصحّ أن نعتبر أنه قد أعرض عن ذكرها, وكذلك عندما أعرض عن ذكر اشتراط حضور السلطان العادل أي الإمام المعصوم أو نائبه في صلاة الجمعة, فإنه لم يعرض عنه بناءً على أنه من المتسالم عليه, إنما لأنه كان يرى وجوبها في عصر الغيبة, وأن الحضور والنيابة ليسا من شروطها, وأنه يكفي في الإمام الشروط المعتبرة في متون الروايات, فما ذهب إليه صاحب مفتاح الكرامة وغيره, تحكّم في تفسير الكلام, وهو نوعٌ من الخضوع لتأثير المتبنيات القبلية والأحكام المسبقة التي يسعى الباحث أحياناً إلى جرّ النصوص إليها, وهذا من الأسباب الرئيسة لِما يرد أحياناً من مخالفات لظواهر النصوص في فقه المذاهب الإسلامية.
وكذلك قال الصدوق في المقنع: وإن صليت الظهر مع إمام بخطبة صليت ركعتين, وإن صليت بغير خطبة صليتها أربعاً، وقد فرض الله سبحانه من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، واحدة فرضها الله تعالى في جماعة وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير, والكبير, والمجنون, والمسافر, والعبد, والمرأة, والمريض, والأعمى, ومن كان على رأس فرسخين, ومَنْ صلاَّها وَحده فليصلِّها أربعاً كصلاة الظهر في سائر الأيام[59].
وقال في كتاب الأمالي - في وصف دين الإمامية -: والجماعة يوم الجمعة فريضة, وفي سائر الأيام سُنَّة، فمَنْ تَرَكها رغبة عنها وعن جماعة المسلمين, من غير عِلَّة فلا صلاة له, ووضعت الجمعة عن تسعة...[60].
وبه أيضاً قال الشيخ الطوسي في التهذيب, فإنه بعد ذكر ما رواه الكليني عن زرارة عن الإمام الباقر: إنَّما فَرَضَ الله عزَّ وجلَّ على الناس... وَوَضَعها عنْ تِسعةٍ:... ومَنْ كانَ على رأس فَرسَخين[61], علَّق على ذلك قائلاً: وهؤلاء الذين وضع الله عنهم الجمعة متى حضروها لزمهم الدخول فيها وأن يصلّوها كغيرهم, ويلزمهم استماع الخطبة والصلاة ركعتين[62], فلو لم تكن واجبة عيناً لانتفاء عندهم لِمَ قال: لزمهم الدخول فيها.
وقال أبو الصلاح الحلبي في كتابه الكافي: لا تنعقد الجمعة إلا بإمام الملّة، أو منصوب مِن قِبله، أو بمن يتكامل له صفات إمام الجماعة عند تعذّر الأمرين[63].
وقال أيضاً في باب الجماعة من كتابه الكافي: وأوْلى الناس بها إمام الملّة أو مَنْ ينصبه، فإن تعذَّر الأمران لم تنعقد إلا بإمام عادل, طاهر الولادة, سليم من الجنون والجذام والبرص[64].
ثم قال في صلاة الجمعة: فإذا تكاملت هذه الشروط انعقدت جمعة, وانتقل فرض الظهر من أربع ركعات إلى ركعتين بعد الخطبة, وتعيَّن فرض الحضور على كل رجل, بالغ, حرّ, سليم, مخلى السرب, حاضر, بينه وبينها فرسخان فما دونهما، ويسقط فرضها عن مَنْ عَدَاه، فإن حضرها تعيَّن عليه فرض الدخول فيها جمعة[65].
وقال القاضي أبو الفتح الكراجكي في تهذيب المسترشدين بعد أن ذكر جملة من أحكام الجمعة, وأنّ العدد المعتبر فيها خمسة, ما هذا لفظه: وإذا حضرت العدة التي يصحّ أن ينعقد بحضورها الجماعة يوم الجمعة, وكان إمامهم مرضيَّاً متمكِّناً من إقامة الصلاة في وقتها, وإبراز الخطبة على وجهها, وكانوا حاضرين آمنين, ذكوراً بالغين, كاملي العقل, أصحَّاء, وجبت عليهم فريضة الجمعة, وكان على الإمام أن يخطب بهم خطبتين, ويصلي بهم بعدهما ركعتين[66].
وهذه أيضاً من العبارات الظاهرة في عدم اشتراط حضور الإمام المعصوم أو نائبه في الوجوب العيني.
وقال الشيخ الطوسي في المبسوط, بعد أن ذكر ابتداء اشتراطها بالسلطان العادل أو من يأمره: ولا بأس أن يجمع المؤمنون في زمان التقية بحيث لا ضرر عليهم فيصلّون جمعة بخطبتين, فإن لم يتمكنوا من الخطبة صلّوا جماعة ظهراً أربع ركعات[67].
وهذه العبارة من الشيخ في المبسوط لا أقلّ من ظهورها في مشروعية إقامتها في عصر الغيبة, دون وجود إذن خاص أو عام من الإمام, ومجرد نفي البأس عنها, يعني نفي اشتراط حضور الإمام أو إذنه فيها, لاسيَّما وأنه كان معتمداً في نَفيه على ما رواه من أخبار صحاح خالية عن هذا الاشتراط, وهذا ما صرَّح به في كتابه الخلاف, حيث قال: فإن قيل: أليس قد رويتم فيما مضى وفي كتبكم أنه يجوز لأهل القرايا والسواد والمؤمنين إذا اجتمع العدد الذي تنعقد بهم أن يصلوا الجمعة؟, قلنا: ذلك مأذون فيه مرغوب فيه، فجرى ذلك مجرى أن ينصب الإمام مَنْ يصلّي بهم[68].
فإن الشيخ قد اعتبر ما ورد في الروايات من حثّ الأئمة على صلاة الجمعة, وأمرهم بإقامتها في القرى والسواد, بمثابة إذنٍ عام من الإمام بإقامتها, وهو مسلك تصالحي مع القائلين باشتراط النيابة أو الإذن, وهو يؤدي إلى ذات النتيجة من وجوب إقامتها في عصر الغيبة, كما هو ظاهر الروايات, ولاعتبار ذلك إذناً منهم R يكون بديلاً عن اشتراط حضورهم أو نائبهم.
ويجب أن نفرّق بين اشتراط الإذن فيها, وبين أن تكون مستحبَّة بمعنى استحباب اختيارها على الظهر, كما فسَّروا الوجوب التخييري, أو الذهاب إلى التخيير المطلق, والصحيح نفي التخيير بنوعَيه؛ لمخالفته لظواهر الآيات والروايات, ولعدم وجود مخصص للوجوب العيني في عصر الغيبة, أو دليل يصلح لتحويله إلى الوجوب التخييري, بعد إجماعهم على الوجوب العيني عند حضور المعصوم, ومن المعلوم أن هذا الحضور منه أو نائبه أو إذنه, هو مقتضى بسْط اليدّ وسلطنته, وإلا لماذا لم يتصدى لها الأئمة طيلة حياتهم إلا في خلافة أمير المؤمنين, وإنّ ما ادَّعوه من إجماع على الاشتراط, كان اشتباهاً منهم قدَّس الله أسرارهم, ونوعاً من العقل الجمعي, وإلا كيف يستقيم ادّعاء الإجماع بعد وجود المخالفين الذين يعتدّ بهم بين المتقدمين والمتأخرين, كالشيخ المفيد, والطوسي, وأبو الصلاح الحلبي, والصدوق, والكراجكي, والشيخ عماد الدين الطبرسي, والشهيدَين, وغيرهم.
وقد ظهر ممَّا تقدَّم الإشكال في اشتراط إقامتها بحضور الفقيه الجامع للشرائط, فإنه لا يوجد فيما ذكر من الآيات والروايات المتعلقة بصلاة الجمعة ما يدلّ عليه ألبتة, إلا إذا أردنا أن نلجأ إلى التحكّم في تفسير الأدلّة وبيان الكلام, كما ظهر أن الوجوب التخييري لا ذكر له ولا أثر يدلّ عليه في الآيات والروايات, ولم يقم عليه إجماع, فتبقى بعد ذلك عهدته على مدَّعيه.
هذا فضلاً عن أصل المناقشة في أصل إمكان تحصيل الإجماع مع كثرة الخلاف في نقل كلمات المتقدمين, وكذلك مع عدم إمكان إحصاء كل الكلمات والآراء من الناحية الواقعية, فضلاً عن احتمال كونه مدركياً؛ لوجود روايات في المقام, استند بعضهم إليها وزعم أنها تدلّ على الاشتراط, وهو ما سنناقشه في الفقرة الآتية.
ثانياً: الروايات المدَّعى دلالتها على اشتراط الحضور أو الإذن
قال صاحب مفتاح الكرامة: ومن الأخبار الدالَّة على الاشتراط؛ الخبر النبوي المشهور المنجبر بالعمل, وهو قوله: أربع للولاة: الفيء, والحدود, والصدقات, والجمعة, وفي آخر: إن الجمعة والحكومة لإمام المسلمين[69].
وأمَّا قوله: النبوي المشهور المنجبر بالعمل, فهو اعتراف منه بضعفه, ودعوى الانجبار بالعمل عهدتها على مدَّعيها, ولو كان المقصود من الولاة الأئمة المعصومون, فهذا يعني أنه لا تقام الحدود إلا مِنْ قِبلهم, وهذا خلاف ما رويناه من حال أمير المؤمنين علي في زمن الخلفاء من تصحيحه لأحكامهم التي كانت تتضمن حدوداً, كما يشهد على عدم العمل به ما ذهب إليه مشهور فقهائنا من إقامتها في عصر الغيبة مِن قِبَلهم, وكذلك قولهم بوجوب الزكاة وإنفاقها على مستحقيها في عصر الغيبة مِن قِبل مُخرجيها, وعدم لزوم الرجوع بها إلى النائب العام للإمام في زمن الغيبة.
ثم إذا استثنينا هذه الأربعة وخصصناها بالإمام المعصوم في زمن حضوره, مع أنه لم يكن مبسوط اليد, وملاحظة عصر الغيبة أيضاً, فكيف يكون العمل بالزكوات, والفيء, والحدود, في تلك الفترة, وهل إهمال هذا إلا هدم للدين في هذه المدة المديدة, ولماذا إذن كل تلك الأحكام إذا لم يكن بالإمكان تطبيقها إلا في عشرات من السنين من عمر الإسلام على أحسن الأحوال؟!.
وكذلك حال الرواية الأخرى التي جمعت بين الجمعة والحكومة, وذكرت أنهما لإمام المسلمين, فإنه من الطبيعي في حال وجود إمام مبسوط اليد أن يكون ذلك له ومن مختصاته, وهذا ممَّا لا إشكال فيه, ولكننا إنما نتكلم عن عصر الغيبة, وكذلك عن عصر عدم بسط يده ولو كان حاضراً, هذا مع غضّ النظر عن سند تلك الرواية.
واحتجّوا بموثقة سماعة, التي رويت بذات السند على نحوين:
أ- محمد بن يعقوب, عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عثمان بن عيسى, عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله عن الصلاة يوم الجمعة، فقال: أمَّا مع الإمام فركعتان، وأمَّا مَنْ يُصلِّي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر, يعني إذا كان إمامٌ يخطب، فإن لم يكن الإمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة, ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب مثله[70].
ب- وعن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله عن الصلاة يوم الجمعة، فقال: أمَّا مع الإمام فركعتان، وأمَّا لمن صلَّى وحده فهي أربعُ ركعات وإنْ صلّوا جماعة[71].
ومن المعلوم أنهم لا يقبلون العمل برواية فيها مثل هذا الخلل في المتن في استنباط حكم شرعي في أقلّ المسائل شأناً, فضلاً عن أن بعضهم لا يعمل إلا بالخبر الصحيح الذي يرويه العدل الإمامي عن العدل الإمامي, فما بالهم لم يلتفتوا إلى كل ذلك هنا.
كما أن بعضهم احتجَّ بدعاء للإمام السجَّاد, يقول فيه: اللهمَّ إنَّ هذا المقامَ لخلفائكَ وأصفيائِكَ ومواضعَ أُمَنَائِكَ في الدرجة الرفيعةِ التي اخْتَصَصْتَهمْ بها, قَدِ ابْتَزُّوها, وأنتَ المُقَدِّرُ لذلكَ[72], ومن الواضح أن المقام المذكور هو الولاية على الأمة, وأين هذا الحديث من صلاة الجمعة التي هي في زمن حضورهم ليست إلا فرعاً صغيراً من فروع ولايتهم.
كما احتجَّ بعضهم بما ورد في العلل: فإن قال: فلم صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع الإمام ركعتين, وإذا كانت بغير أمام ركعتين وركعتين, قيل: لعللٍ شتَّى, منها: إن الناس يتخطون إلى الجمعة من بعد، فأحبَّ الله أن يخفف عنهم لموضع التعب الذي صاروا إليه, ومنها: إن الإمام يحبسهم للخطبة وهم منتظرون للصلاة، ومن انتظر الصلاة فهو في الصلاة في حكم التمام, ومنها: إن الصلاة مع الإمام أتمّ وأكمل، لعِلمه وفقهه وفضله وعدله, ومنها: إن الجمعة عيد, وصلاة العيد ركعتين[73].
ويكفي في بيان عدم حجية هذا الكلام على ما أرادوه, تعليله بأن الصلاة مع الإمام أتمّ وأكمل لعِلمه وفقهه وفضله وعدله, فلو كان المراد من الإمام خصوص الإمام المعصوم, لكان عليه أن يقول: لإمامته, أو لعصمته, فإنها تكفي عن كل تلك الصفات المشتركة بينه وبين غيره, والمشككة في مراتبها.
ولأن ما ذكره من التعليل لتخفيف ركعتين في صلاة الجمعة, حيث علَّل ذلك أن الإمام يحبسهم للخطبة وهم منتظرون للصلاة، ومن انتظر الصلاة فهو في الصلاة في حكم التمام, لا يدلّ على ما يريد, لأنه يحصل خلف كل إمام, وكذلك إن الصلاة مع الإمام أتمّ وأكمل، فإنها كانت كذلك لما ذكره من صفات الإمام (إمام الجماعة), أمَّا قوله إن الجمعة عيد, وصلاة العيد ركعتان, فهو قياس سمج من المحال أن يكون قد صدر عن المعصوم, فإننا نجزم أن متن هذه الرواية يشعر بضعفها؛ لِما تقدَّم, ولأنه يمكننا أن نقول بناءً على مقايسة صلاة الجمعة بصلاة العيد من حيث عدد الركعات, لماذا لا يكون في ركعتيّ الجمعة ما في ركعتيّ العيد من عدد الركوعات؟!.
وخلاصة القول: إذا كانت أحكام الله تعالى ستصاب بمثل هذه التأويلات الغريبة, والخضوع للأحكام المسبقة, فإن هذا يعطي بياناً لبعد الشقة بين الأحكام الواقعية التي شرَّعها الله تعالى, وبين ما زُوِّقَ بأخطاء البشر وتحكّمهم بعملية الاستنباط التي طالما نُعيبُ على غيرنا إفساده لها بالاستحسان, والاستصلاح, والأقيسة المستنبطة العلة, وما شابه من الظنون.
نعم, بقيت عدة روايات تذكر أن الأئمة كانوا إذا اضطرّوا للصلاة خلف إمام لا يقتدى به, كانوا يقدِّمون ظُهرهم على الجمعة, أو ينوون الجمعةَ ظهراً, ويتمّوها بركعتين أخريين متصلتين بها لتكون ظهراً, ولكن هذه المسألة خارجة عن محلّ بحثنا؛ لأننا إنما نبحث عن حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة خلف إمام يصحّ الاقتداء به, حيث ذهب الشهيدان إلى وجوبها عيناً على المكلَّفين, مع المحافظة على الشروط المعتبرة في إمام الجماعة, والتي منها العدالة, مضافاً إليها القدرة على الخطبتين, وتوفّر الأمان لذلك, وقد صرَّح بذلك الشهيد الأول في الذكرى, حيث قال: الشرط الأول: السلطان العادل، وهو الإمام أو نائبه, إجماعاً مِنَّا، لِما مرَّ، ولأن النبي كان يعيِّن لإمامة الجمعة, ويشترط في النائب أمور تسعة... التاسع: إذن الإمام له - كما كان النبي يأذن لأئمة الجمعات وأمير المؤمنين بعده - وعليه إطباق الإمامية, هذا مع حضور الإمام, وأمَّا مع غيبته - كهذا الزمان - ففي انعقادها قولان، أصحَّهما - وبه قال معظم الأصحاب - الجواز إذا أمكن الاجتماع والخطبتان, ويعلَّل بأمرين: أحدهما: إن الإذن حاصل من الأئمة الماضين, فهو كالإذن من إمام الوقت، واليه أشار الشيخ في الخلاف, ويؤيِّده صحيح زرارة قال: حثَّنا أبو عبد الله على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك، فقال: لا، إنما عنيت عندكم, ولأن الفقهاء حال الغيبة يباشرون ما هو أعظم من ذلك بالإذن - كالحكم والإفتاء - فهذا أولى, والتعليل الثاني: إن الإذن إنَّما يعتبر مع إمكانه، أمَّا مع عدمه فيسقط اعتباره، ويبقى عموم القرآن والأخبار خالياً عن المعارض, وقد روى عمر بن يزيد - في الصحيح - عن الصادق: إذا كانوا سبعةً يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة, وفي الصحيح عن منصور, عن الصادق: يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد، والجمعة واجبة على كل أحد، لا يعذر الناس فيها إلا خمسة: المرأة، والمملوك، والمسافر، والمريض، والصبي, وفي الموثق عن زرارة, عن عبد الملك, عن الباقر، قال: قال: مثلك يهلك ولم يصلِّ فريضة فرضها الله, قال: قلت: كيف أصنع؟, قال: صلّوا جماعة, يعني: صلاة الجمعة، في أخبار كثيرة مطلقة, والتعليلان حسنان، والاعتماد على الثاني[74].
بينما مالَ في اللمعة والدروس إلى اشتراط إقامتها بالفقيه؛ لنيابته العامة, وقال في اللمعة الدمشقية: ولا تنعقد إلا بالإمام أو نائبه, ولو كان فقيهاً, مع إمكان الاجتماع في الغيبة, وذلك للنيابة العامة للفقيه الجامع لشرائط الفتوى.
وقال مثله في الدروس أيضاً.
وذهب الشهيد الثاني في الروضة إلى وجوبها في زمن الغيبة: وأمَّا في حال الغيبة - كهذا الزمان - فقد اختلف الأصحاب في وجوب الجمعة وتحريمها: فالمصنف هنا أوجبها مع كون الإمام فقيهاً؛ لتحقق الشرط, وهو إذن الإمام الذي هو شرط في الجملة إجماعاً, وبهذا القول صرَّح في الدروس أيضاً, وربما قيل بوجوبها حينئذٍ وإن لم يجمعها فقيه، عملاً بإطلاق الأدلة, واشتراط الإمام، أو نصبه, إن سلم, فهو مختص بحالة الحضور، أو بإمكانه، فمع عدمه يبقى عموم الأدلة من الكتاب والسنة خالياً عن المعارض، وهو ظاهر الأكثر, ومنهم المصنِّف في البيان، فإنهم يكتفون بإمكان الاجتماع مع باقي الشرائط[75].
ولولا دعواهم الإجماع على عدم الوجوب العيني لكان القول به في غاية القوة[76].
أقول: وقد بيَّنا عدم صحة دعوى الإجماع.
وقال في رسالة في وجوب صلاة الجمعة: اتفق علماء الإسلام في جميع الأعصار وسائر الأمصار والأقطار على وجوب صلاة الجمعة على الأعيان في الجملة, وإنَّما اختلفوا في بعض شروطها, وسيأتي تحقيق الكلام في موضع الخلاف إن شاء الله تعالى, ومع ذلك فالحثّ على فعلها والأمر به بضروب التأكيد في الكتاب والسُنَّة لا يوجد مثله في فريضة ألبتة, وسنورد عليك جملة منه, ثم إن الأصحاب اتفقوا على وجوبها عيناً مع حضور الإمام أو نائبه الخاص, وإنَّما اختلفوا فيه في حال الغيبة وعدم وجود المأذون له فيها على الخصوص, فذهب الأكثر حتى كاد أن يكون إجماعاً, أو هو إجماع على قاعدتهم المشهورة من أن المخالف إذا كان معلوم النَسب لا يقدح فيه, إلى وجوبها أيضاً مع اجتماع باقي الشرائط غير إذن الإمام, وهم بين مطلقٍ للوجوب كما ذكرناه, وبين مُصرِّح بعدم اعتبار شرط الإمام أو من نصبه خصوصاً, وربما ذهب بعضهم إلى اشتراطها حينئذٍ بحضور الفقيه الذي هو نائب الإمام على العموم, وإلا لم يصحّ, وذهب قوم إلى عدم شرعيتها أصلاً حال الغيبة مطلقاً, والذي نعتمده من هذه الأقوال ونختاره وندين الله تعالى به هو المذهب الأول[77].
وبعد ما تمّ عرض الأدلّة من الآيات والروايات, والمناقشة في الإجماع, فإنه يمكن الإشارة إلى الأقوال في المسألة ومناقشتها:
1. القول بالوجوب العيني
وهو الأوفق بظواهر الأدلّة وبإطلاق الوجوب في الآية المباركة, والأصل في الوجوب أن يكون عينياً تعيينياً.
لذا فإن العدول عنه بحاجة إلى دليل, بل حتى مع القول بعدم وجود إطلاق في الآية المباركة, وكون الصلاة المقصودة هي خصوص الصلاة الصحيحة التامّة الأجزاء والشرائط, بناءً على أن أسماء العبادات موضوعة لخصوص الصحيح أو من جهة تعلّق الأمر بالسعي, لإن الأمر به لا يتعلّق إلا لما يكون صحيحاً تامّ الشرائط, لذا فإننا نبقى بحاجة إلى دليل على اعتبار هذا الشرط.
ولابدّ هنا من الإشارة إلى أنه إذا قلنا بعدم اشتراط حضور المعصوم أو نائبه الخاص أو العام, وهو ما نلتزم به بحسب الأدلّة, فالأمر كما ذكرنا من الوجوب العيني.
أمَّا إذا استفيد من بعض الروايات وجود إذن عام من المعصوم لإقامتها في عصر الغيبة, فالأمر كذلك أيضاً كما ذكرناه من الوجوب العيني, وهي الروايات المتعلّقة بحثِّه لزرارة, وكذلك أيضاً خبر عبد الملك, والروايات المتعلقة بإقامتها في القرى إذا كان هناك مَنْ تصحّ إمامته, وكان قادراً على الخطبتين.
وأمَّا إذا استفيد أن اشتراط حضور الإمام أو نائبه, يشمل نائبه العام أيضاً, فإنه مبنيّ على صحة هذا الاشتراط وشموله, ونتيجته وجوب السعي على الفقيه الجامع للشرائط, فإن فعل, وجب السعي على سائر المكلَّفين عدا مَنْ استُثنيَ, وبالتالي فوجوب الاشتراط بحاجة إلى دليل, والشمول كذلك, وقد بيَّنا أنه لا يوجد دليل على ذلك.
2. القول بالوجوب التخييري
وله عدة أقسام:
أ- التخيير المطلق للإمام وللمكلَّفين, ولا يوجد دليل يدلّ عليه سوى ما ادَّعاه بعض من الإجماع, وقد عرفت الحال فيه.
ب- التخيير مع استحباب اختيار فرد الجمعة من فرديّ التخيير, ولا دليل عليه إلا ما ادَّعوه من الإجماع, وكذلك قد عرفت الحال فيه.
ج- التخيير للإمام, والوجوب العيني على المكلَّفين لو اختار من تصحّ إمامته صلاة الجمعة, وهذا أيضاً كسابقيَه عهدته على مدَّعيه, لم يدلّ عليه دليل, ولا قام عليه إجماع.
3. استحباب الجمعة
وقد فسَّروه بعدما أطلقه قوم بأنه استحباب اختيار الجمعة من فرديّ التخيير: الظهر أو الجمعة, فيرجع إلى سابقه
4. عدم المشروعية في عصر الغيبة
وهذا هو أردأ الأقوال, وقد استدلّوا له باشتراط وجوب الجمعة بحضور الإمام المعصوم أو نائبه الخاص, وهو غير ممكن في عصر الغيبة, وبأن مقتضى الاحتياط عند الشكّ في مشروعيتها؛ بناء على الاشتراط وعلى دوران الأمر بينها وبين الظهر, اختيار الظهر, وعدم الاجتزاء بالجمعة مطلقاً, وهو كما ذكرنا مبنيّ على ثبوت الاشتراط, وقد تقدَّم الكلام فيه.
مع إمكانية طرح تساؤل في المقام خلاصته: إن عدد الأحاديث الواردة في حكم صلاة الجمعة, وفضلها, وآدابها, وسائر أجزائها وشروطها, قد بلغ في الوسائل مئتان وثمان وستون حديثاً (268), ويوجد أيضاً أكثر من ضِعفها في المستدرك, وفي البحار, فلماذا أتعب الأئمة أنفسهم في بيان مسائل وتفاصيل عبادةٍ لا تقام في عصر الغيبة, وشغلوا بذلك فحول تلامذتهم, وهي من مختصات عصر الظهور, فتترك لصاحب الأمر كغيرها من مختصاته, فإنه كما لا يُستحسن تأخير البيان عن وقت الحاجة, كذلك لا يُستحسن البيان مع عدم الحاجة, وإن حكمة المعصومين تأبى ذلك بكلا شِقَّيه.
والنتيجة هي القول بالوجوب العيني بناءً على عدم اشتراط حضور المعصوم أو نائبه الخاص أو العام أو إذنه, ولعدم وجود إجماع على غيره, والله العالم.
[1](*) رئيس الهيئة العلمائية لأتباع اهل البيتR في سوريا
[2] الجبعي العاملي, زين الدين المعروف بالشهيد الثاني, رسائل الشهيد الثاني: طبعة حجرية, منشورات مكتبة بصيرتي, قم, إيران, رسالة في وجوب صلاة الجمعة, ص50-51.
[3] العاملي, محمد بن الحسن الحرّ, وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: ط1, مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت, 1427هـ, 2007م, مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب استحباب السبق إلى المسجد والمباكرة إليه, ص28, حديث2.
[4] وسائل الشيعة: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب استحباب السبق إلى المسجد والمباكرة إليه, ص28, حديث1.
[5] الطوسي, محمد بن الحسن, التبيان في تفسير القرآن: تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي, ط1, مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي, دار إحياء التراث العربي, ج10, ص8.
[6]سوف نؤجّل الكلام في تلك الشروط إلى محله إن شاء الله, فما يهمّنا هنا إثبات أصل الوجوب العيني لصلاة الجمعة كما هو ظاهر كلامه.
[7] راجع: الطبرسي, أبو علي الفضل بن الحسن, تفسير مجمع البيان: تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين, ط1, منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت, لبنان, 1995م, ج10, تفسير سورة الجمعة, وكذلك: الطوسي, أبو جعفر محمد بن الحسن شيخ الطائفة, التبيان في تفسير القرآن: تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي, ط1, دار إحياء التراث العربي, بيروت, لبنان, 1409هـ, ج10, ص9 وما بعدها, في تفسير سورة الجمعة, وغيرها من كتب التفسير وأسباب النزول.
[8] وسائل الشيعة: مج3, باب وجوب صلاة الجمعة على المكلَّف, ص5, الأحاديث: 1, 2, 3, وص6, الحديث14, وغيرها.
[9] رسائل الشهيد الثاني: ص53.
[10] راجع: وسائل الشيعة: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب وجوبها على كل مُكلَّف, الروايات: 1, 2, 8, 12, 14, 16, 19.
[11] وسائل الشيعة: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص5, حديث1.
[12] المصدر نفسه: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص5, حديث2.
[13] وسائل الشيعة: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص6, حديث6.
[14] المصدر نفسه: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص6, حديث14.
[15] المصدر نفسه: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص7, حديث16.
[16] المصدر نفسه: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص7, حديث19.
[17] المصدر نفسه: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب اشتراط وجوب الجمعة بحضور سبعة، ص8, حديث4.
[18] وسائل الشيعة: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب اشتراط وجوب الجمعة بحضور سبعة، ص9, حديث10.
[19] المصدر نفسه: باب وجوب الجمعة على أهل الأمصار وعلى أهل القرى وغيرهم, ص9, حديث1.
[20] المصدر نفسه: باب وجوب الجمعة على أهل الأمصار وعلى أهل القرى وغيرهم, ص9, حديث2.
[21] المصدر نفسه: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب عدم وجوب حضور الجمعة على من بعد عنها بأزيَد من فرسخين، ص10, حديث1.
[22] المصدر نفسه: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب عدم وجوب حضور الجمعة على من بعد عنها بأزيَد من فرسخين، ص10, حديث2.
[23] وسائل الشيعة: باب عدم وجوب حضور الجمعة على من بعد عنها بأزيَد من فرسخين، ص10, حديث5.
[24] المصدر نفسه: باب عدم وجوب حضور الجمعة على من بعد عنها بأزيَد من فرسخين، ص10, حديث6.
[25] محمد بن علي بن الحسين بإسناده, عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحكَم بن مِسْكين، عن العلاء, عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر قال: تجبُ الجمعة على سبعةِ نفرٍ من المسلمين (المؤمنين)، ولا تجب على أقلَّ مِنهُم: الإمامُ، وقاضِيهِ، والمُدَّعي حَقَّاً، والمُدَّعَى عليه، والشاهِدان، والذي يضرِب الحُدودَ بينَ يدَي الإمام, ورواه الصَّدُوق مرسلاً, بإسناده عن محمد بن مسلم مثله[الوسائل: مج3, باب اشتراط وجوب الجمعة بحضور سبعة، ص9, حديث91.
[26] المصدر نفسه: باب عدم اشتراط وجوب الجمعة بحضور السلطان العادل أو من نصبه, ص11.
[27] وسائل الشيعة: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب استحباب السبق إلى المسجد والمباكرة إليه, ص28, حديث2.
[28] وسائل الشيعة: مج3, باب استحباب السبق إلى المسجد والمباكرة إليه, ص28, حديث1.
[29] المصدر نفسه: مج3, باب استحباب الدعاء يوم الجمعة, ص30, حديث1.
[30] المصدر نفسه: مج3, باب استحباب الدعاء يوم الجمعة, ص30, حديث2.
[31] وسائل الشيعة: مج3, باب استحباب السبق إلى صلاة الجمعة, ص44, حديث1.
[32] المصدر نفسه: باب استحباب السبق إلى صلاة الجمعة, ص44, حديث2.
[33] وسائل الشيعة: مج3, باب استحباب السبق إلى صلاة الجمعة, ص45, حديث3.
[34] المصدر نفسه: باب كراهة السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة, ص53, حديث1.
[35] المصدر نفسه: باب كراهة السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة, ص54, حديث5.
[36] المصدر نفسه: باب كراهة السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة, ص54, حديث6.
[37] وسائل الشيعة: مج3, باب استحباب استقبال الخطيب للناس, ص54, حديث2.
[38] المصدر نفسه: مج3, باب استحباب استقبال الخطيب للناس, ص54, حديث3.
[39]المصدر نفسه: مج3, باب استحباب استقبال الخطيب للناس, ص54, حديث4.
[40]وسائل الشيعة: مج3, باب عدم جواز الصلاة والإمام يخطب, ص57, حديث1.
[41]المصدر نفسه: مج3, باب عدم جواز الصلاة والإمام يخطب, ص58, حديث2.
[42]المصدر نفسه: مج3, باب كراهة تخطّي رقاب الناس في الجمعة, ص58, حديث1.
[43]وسائل الشيعة: مج3, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص6, حديث8.
[44]المصدر نفسه: مج3, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص6, حديث12.
[45]المصدر نفسه: مج3, باب عدم اشتراط وجوب الجمعة بحضور السلطان العادل أو من نصبه, ص11, حديث1.
[46]المصدر نفسه: مج3, باب عدم اشتراط وجوب الجمعة بحضور السلطان العادل أو من نصبه, ص11, حديث2.
[47]وسائل الشيعة: مج3, باب وجوب الجمعة على أهل الأمصار وعلى أهل القرى وغيرهم, ص9, حديث1.
[48]المصدر نفسه: مج3, باب وجوب الجمعة على أهل الأمصار وعلى أهل القرى وغيرهم, ص9, حديث2.
[49]العاملي, محمد جواد, مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاَّمة: نشر دار التراث, بيروت, لبنان, ج5, ص994.
[50]مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاَّمة: ج5, ص994.
[51]المفيد, محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد, المقنعة: ط2, مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة, إيران, 1410هـ, ص162, وما بعدها, إلى قوله: أكثر من فرسخين.
[52]مفتاح الكرامة: ج5, ص998-999.
[53]مفتاح الكرامة: ج5, ص999.
[54]نهج البلاغة (مجموع ما اختاره الشريف الرضيّ من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب): شرح الأستاذ الإمام محمد عبده, ط1, دار المعرفة للطباعة والنشر, بيروت, لبنان, 1412هـ, ج1, من كلام له في الخوارج يبيّن أن لابدّ للناس من أمير, ص91.
[55]المقنعة: ص721, كتاب القضاء والشهادات والقصاص والديات.
[56]المقنعة: ص725, كتاب القضاء والشهادات والقصاص والديات, باب البينات.
[57]راجع: وسائل الشيعة: مج3, ص232, الأحاديث 1, 5, 6, 8, 9, 11.
[58]المصدر نفسه: مج3, الباب الحادي عشر من أبواب صلاة الجماعة, الأحاديث: 1, 3, 5, وغيرها من الروايات.
[59]نقلاً عن مفتاح الكرامة: ج5, ص1001.
[60]القمي, أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي المعروف بالصدوق, الأمالي: ط5, مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت, لبنان, 1410هـ, 1990م, ص513.
[61]وسائل الشيعة: مج3, أبواب صلاة الجمعة وآدابها, باب وجوبها على كل مكلَّف, ص5, حديث1.
[62]الطوسي, أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي شيخ الطائفة, تهذيب الأحكام: حققه وعلَّق عليه: السيد حسن الموسوي الخرسان, ط4, دار الكتب الإسلامية, طهران, إيران, 1365ش, ج3, ص21.
[63]الحلبي, أبو الصلاح, الكافي في الفقه: تحقيق: رضا أستادي, نشر مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي العامة, أصفهان, إيران, ص150-151.
[64]الكافي في الفقه: ص143.
[65]الكافي في الفقه: ص151.
[66]نقلاً عن مفتاح الكرامة: ج5, ص1000-1001.
[67]الطوسي, أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي شيخ الطائفة, المبسوط في فقه الإمامية: صححه وعلَّق عليه: السيد محمد تقي الكشفي, المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفرية, ج1, ص151.
[68]الطوسي, أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي شيخ الطائفة, الخلاف: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة, إيران, 1407هـ, ج1, ص626.
[69]مفتاح الكرامة: ج5, ص1017-1018.
[70]وسائل الشيعة: مج3, باب عدم اشتراط وجوب الجمعة بحضور السلطان العادل, ص11, الحديث3.
[71]المصدر نفسه: مج3, باب كيفية صلاة الجمعة وجملة من أحكامها, ص13, الحديث8.
[72]الطوسي, أبو جعفر محمد بن الحسن, مصباح المتهجد: ط2, مؤسسة الأعملي للمطبوعات, بيروت, لبنان, 1425هـ, 2004م, ص267, الدعاء بعد صلاة الجمعة والعيدين.
[73]القمي, أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي المعروف بالصدوق, علل الشرائع: ط1, مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت, لبنان, 1408هـ, 1988م, ج1, ص307-308.
[74]العاملي, محمد بن جمال الدين مكي العاملي الجزيني المعروف بالشهيد الأول, ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة: تحقيق: مؤسسة آل البيت R لإحياء التراث, ط1, قم, إيران, 1419هـ, ج4, ص100-105.
[75]العاملي, محمد بن جمال الدين مكي المعروف بالشهيد الثاني, الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: تصحيح وتعليق السيد محمد كلانتر, مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت, لبنان, ج1, ص299.
[76]الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: ج1, ص301.
[77]رسائل الشهيد الثاني: ص51, رسالة في وجوب صلاة الجمعة.
قراءة في الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية القيمة، المنهج، التطبيق
الشيخ عبد الكريم حبيل (*)
بطاقة مجد:
ينتمي الشهيد الثاني زين الدين بن الشيخ نور الدين علي بن أحمد العاملي الشامي إلى أسرة راسخة في قواعد العلم والفضل شامخة في سماء الشرف والمجد. أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. فلقد مارس أبناؤها التعلم والتعليم زمناً طويلاً، كابراً عن كابر، وأسهموا في إرساء أصول وقواعد وآداب وعلوم مدرسة أهل البيتR، حتى غدت تلك الأسرة تعرف باسم (سلسلة الذهب)، لتسلسل العلم فيها زمناً طويلاً.[1]
يقول صاحب روضات الجنان «ومن العجب أنه كان بمنزلة النقطة المتوسطة المحاطة بدائرة المعارف والعلوم أو مركزاً تؤول إليه نسبة غير واحدة من كرات فضائل أرباب الفواضل على النهج المنظوم، إذ ان كلاً من آبائه الستة المذكورين كانوا من الفضلاء المشهورين، وكذلك أبناؤه النبلاء الذين لم ينقضوا هذه العادة إلى هذا الحين «روضات الجنان جـ 3 صـ337».
نشأته ومكانته العلمية:
كما ذكرنا في التعريف بذلك البيت العريق أنه بيت علم وفضل، فأبوه من كبار علماء عصره وكذلك كما ذكرنا في التعريف بذلك البيت العريق أنه بيت علم وفضل فأبوه من كبار علماء عصره وكذلك جداه، جمال الدين والتقي وجده الأعلى الشيخ صالح الذي يعد من تلامذة العلاّمة الحلي {. ففي ذلك البيت تفتحت عينا ذلك الشهيد العظيم وتبلورت ذهنيته وانشرح صدره وزكت نفسه، فكان له الأثر الكبير في صناعته الذهنية والنفسية، ناهيك عن البيئة المفعمة بالعلم والمعرفة، حيث كان يشارك في مجالس العلم والفقه ويستمع إلى تلك الحوارات والمطارحات التي تدور بين والده ورجال العلم من أقرانه. وكان الشهيد مع ما يملك من عبقرية مبكرة يأنس بتلك المجالس ويحشر نفسه فيها فاجتمعت كل العوامل – البيت والتربية والمحيط - في تكوين شخصيته وصناعتها على عين الله. فلا عجب إذن من ذلك العظيم أن يكون محباً للعلم مكثراً من دراسته ومراجعته، قاطعاً لمراحله الواحدة تلو الأخرى بتلهف واشتياق، طامحاً في خوض غماره، سباقاً للوصول إلى قمة مجده، حتى منّ الله عليه بأن يكون فارس رهانه الذي لا يجارى، وزعيمه الذي تتكسر أجنحة صقوره في الوصول إلى ذروة عليائه السامقة.
كلمات العلماء في حقه:
حسب ذلك الشهيد العظيم رتبة أن دانت له أكابر العلماء بالفضل، فسطروا أبلغ كلمات المدح والثناء في حقه، من الخاصة والعامة،ولا يعرف الفضل إلا أهله يا أيها الأمي. حسبك رتبة في العلم أن دانت له العلماء. فلنسمع ما قاله أولئك الأكابر في حق ذلك العظيم.
أ- ابن العودي:
«شيخنا ومولانا ومرجعنا ومنقدنا من الجهالة وهادينا ومرشدنا إلى الخيرات ومربينا بديع زمانه ونادرة أوانه وفريد عصره وغرة دهره الشيخ الإمام الفاضل والحبر العالم العامل والنحرير المحقق الكامل خلاصة الفضلاء المحققين وزبدة العلماء المدققين» الدر المنثور جـ 2 صـ 150.
ب- الحر العاملي:
«أمره في العلم والفضل والزهد والعبادة والورع والتحقيق والتبحر وجلالة القدر وعظم الشأن وجمع الفضائل والكلمات أشهر من أن يذكر ومحاسنه وأوصافه الحميدة أكثر من أن تحصى وتحصر ومصنفاته مشهورة... وكان فقيهاً مجتهداً نحوياً حكيماً متكاملاً قارئاً جامعاً لفنون العلوم..».. أمل الآمل جـ 1 صـ 85.
ت- صدر المتألهين الشيرازي:
«ناهج مسلك الورع واليقين وقدوة المجتهدين «شرح أصول الكافي صـ 156.
ث- العلاّمة الأميني:
«من أكبر حسنات الدهر وأغزر عيالم العلم زين الدين والملة وشيخ الفقهاء الأجلّة مشارك في علوم مهمة من حكمة وكلام وفقه وأصول وشعر وأدب وطبيعي ورياضي وقد كفانا مؤونة التعريف به شهرته الطائلة في ذلك كله» شهداء الفضيلة صـ 132.
ونكتفي بهذا القدر إذ ليس بحثنا مسوقاً لهذا الهدف.
4- المدرسة التي ينتمي إليها الشهيد الثاني{:
ينتمي الشهيد الثاني إلى مدرسة جبل عامل والتي أرسى قواعدها الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي المستشهد أواخر القرن الثامن الهجري سنة 786 للهجرة وتلك المدرسة العامرة كانت امتداداً لمدرسة الحلة التي هي الأخرى تعتبر من أكبر مدارس الفقه الإمامي التـي وضع حجر أساسها إبن إدريس الحلي ونمت نماءً مباركاً وتوجت تلك المدرسة بعلماء أفذاذ ملؤوا الدنيا علماً وعطاءً كابن نما الحلي وابن طاووس والمحقق الحلي والعلامة الحلي وابنه فخر المحققين وابن سعيد الحلي وابن فهد الحلي واستمر عطاء تلك المدرسة إلى أواخر القرن التاسع الهجري.
5- أبرز علماء مدرسة جبل عامل:
أ- الشيخ علي بن عبد العال العاملي الكركي المتوفى عام 940هـ:
المعروف (بالمحقق الثاني) ذكره السيد النفرشي في رجاله وقال عنه شيخ الطائفة وعلاّمة وقته صاحب التحقيق والتدقيق كثير العلم نقي الكلام جيد التصانيف: «من أجلاّء هذه الطائفة».من مؤلفاته:
جامع المقاصد في شرح القواعد وهو من أساتذة الشهيد الثاني وقد اعتنى به عناية خاصة لما وجد فيه من النبوغ والكفاءة والذهنية المتوقدة والذكاء. نقد الرجال صـ 238.
ب- الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي المتوفى عام 984هـ:
والد الشيخ البهائي وهو من تلامذة الشهيد وقد وصفه بقوله: «الشيخ الإمام العالم الأوحد المرقى عند حضيض التقليد إلى أوج اليقين عضد الإسلام والمسلمين في الدنيا والدين حسين بن الشيخ الصالح العالم العامل المتقي خلاصة الأخيار الشيخ عبد الصمد بن الشيخ الإمام شمس الدين محمد الشهير بالجبعى الحارثي الهمداني «طبقات أعلام الشيعة ج1 صـ 88.
أ- الشيخ جمال الدين الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني المتوفى عام 1011هـ:
ابن الشهيد الثاني وأحد تلاميذه انتقل للنجف الأشرف وحاز قصب السبق فيها واشتهر بكتابه معالم الدين وملاذ المجتهدين في علم الأصول الذي أصبح لقرون منهجاً دراسياً في الحوزات العلمية وقد ترجم هذا الحبر أكابر العلماء وأمطروه مدحاً وثناءً، يقول في حقه الحر العاملي: «كان عالماً فاضلاً عاملاً كاملاً متبحراً محققاً ثقة فقيهاً وجيهاً نبيهاً محدثاً جامعاً للفنون أديباً وشاعراً زاهداً عابداً ورعاً جليل القدر عظيم الشأن كثير المحاسن وحيد دهره أعرف أهل زمانه بالفقه والحديث والرجال «أمل الآمل ج1 صـ 57.
أ- السيد محمد صاحب المدارك المتوفى عام 1011هـ: وهو السيد محمد بن علي بن الحسين الموسوي العاملي الجبعي سبط الشهيد الثاني وزميل خاله الشيخ حسن ترجمه سيد الأعيان فقال في حقه كان عالماً فاضلاً متبحراً ماهراً محققاً مدققاً زاهداً عابداً ورعاً فقيهاً محدثاً كاملاً جامعاً للفنون والعلوم جليل القدر عظيم المنزلة» أعيان الشيعة ج46 صـ 103.
6- أشهر علماء ومدارس الشيعة في عصر الشهيد الثاني:
الشهيد الثاني { أحد أعلام القرن العاشر الهجري الذي يعد من العصور العتيدة لمدرسة أهل البيتR، إذ وافق قيام الدولة الصفوية التي أرست قواعد المذهب الحق وفوضت الأمور إلى الفقهاء الأعلام فازدهرت العلوم الإسلامية وآب العلم إلى باب مدينته النجف الأشرف كما ظهرت إلى جانب النجف وجبل عامل مدارس أخرى ومن أشهرها مدرسة أصفهان فبرز جمع من أساطين العلم ورجاله وكان من أبرزهم:
أ- المحقق الكركي أستاذ الشهيد نفسه وقد مرّ الحديث عنه.
ب- الشيخ إبراهيم القطيفي المتوفى عام 945هجرية.
وقد عرّفه صاحب الرياض قائلاً: «الإمام الفقيه الفاضل العالم الكامل المحقق المدقق المعاصر للشيخ علي الكركي العاملي المعروف بـ (المحقق الثاني) وكان هو والشيخ عز الدين الآملي والشيخ علي الكركي شركاء الدرس عند الشيخ علي بن هلال الجزائري وكان زاهداً عابداً ورعاً مشهوراً تاركاً للدنيا برمتها» رياض العلماء ج1 صـ 15.
ج- المحقق أحمد الأردبيلي المتوفي عام 993هجرية.
قال عنه صاحب الروضات «أمره في الثقة الجلالة والفضل والنبالة والزهد والديانة والورع والأمانة أشهر من أن نؤدي مكانه أو نتصدى بيانه وقدسية ذاته وملكية صفاته مما يضرب به الأمثال في العالم» روضات الجنات ج1 صـ88.
وقد خلّف أثرين عظيمين في الفقه قلّما يوجد لهما من مثيل وهما:
مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان.
زبدة البيان في أحكام القرآن.
د- السيد محمد الموسوي العاملي صاحب المدارك وقد مرّ ذكره.
ه- عبد الله ابن الحسين التستري المتوفى 1021هجرية.
يعرفه تلميذه النفرشي في كتابه نقد الرجال بقوله «عبد الله بن الحسين التستري مدّ ظله شيخنا وأستاذنا الإمام العلاّمة المحقق المدقق جليل القدر عظيم المنزلة دقيق الفطنة كثير الحفظ وحيد عصره وفريد دهره......». الخ نقد الرجال صـ 197.
7- ملامح مدرسة جبل عامل:
قلنا إن تلك المدرسة الذائعة الصيت تعد امتداداً لمدرسة الحلّة وبعد أن ذكرنا أبرز علماء تلك المدرسة نريد أن نتعرّف على أهم ما تمتاز به تلك المدرسة لنتمكن من قراءة كتاب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية قراءة مدرسية دقيقة.
أما أهم ملامح ومميزات تلك المدرسة نلخصها فيما يلي:
ترتيب أبواب الفقه وتنظيمها تنظيماً دقيقاً بحسب موضوعاتها. ومع أن الشيخ الطوسي M قد اضطلع بهذا الدور إلا أنه لا تزال تجد تشويشاً وخلطاً بين فروعها وناهيك ما ترى في كتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي من تقسيم رباعي معتمداً في ذلك طريقة القسمة الثنائية القائمة على أساس النفي والإثبات فقسمه إلى أربعة أقسام هي: العبادات، العقود، الإيقاعات والأحكام.
تهذيب الأحكام الخاصة بالمذهب وبلورتها وتدوين أصولها وقد كان للشهيد الأول دور بارز في تثبيت أركان الفقه الإستدلالي التفريعي وتشييد معالمه متبعاً في ذلك خطى العلاّمة الحلي ومن قبله المحقق ففتح بذلك آفاقاً واسعة كانت من أسباب ازدهار الفقه وتطوره وكتاب الدروس أكبر شاهد.
الاهتمام الكبير بالفقه الاستدلالي المقارن وبالأخص بين آراء علماء الشيعة أنفسهم بدلاً من علماء السنة، إذ كثر الاختلاف بينهم إما لابتعادهم عن عصر النص أو لتوفرهم على فهم الآيات والروايات بشكل أعمق، فكتبت في ذلك الموسوعات الجامعة لآراء العلماء ليتسنى للفقيه الإطلاع عليها، إذ لا بد له أن يلم بها حتى يستطيع أن يحكم في المسأله برأيه. ومن أبرز الكتب في ذلك كتاب المختلف للعلاّمة الحلي { والتذكرة له كذلك. وللشهيد الأول حاشية على كتاب (الذكرى) للعلامة الحلي.
تنقيح الاستدلال على مباني وقواعد علمية استنبطها العلماء من روايات أهل البيت R، وكان باكورة هذا الإبداع على يد الشهيد الأول { في كتابه القواعد والفوائد وتبعه في ذلك الشهيد الثاني {، فأكثر من تطبيقات القواعد الفقهية في شرح اللمعة وبالأخص في قسم المعاملات منها.
كتابة الموسوعات الفقهية الكبيرة:
ككتاب (مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام) للشهيد الثاني. و(جامع المقاصد في شرح القواعد) للمحقق الكركي و(مدارك الأحكام) للسيد محمد العاملي... وغيرها.
تدوين علم الحديث أو ما يعرف بعلم الدراية:
فقد كانت لمؤلفات الشهيد الثاني الدور الكبير في ترسيخ قواعد هذا العلم واستقراره. يقول العلاّمة الدكتور الفضلي (حفظه الله): «وفي القرن العاشر الهجري كانت مؤلفات الشيخ زين الدين العاملي الشهيد الثاني والتي بها استقر تدوين هذا العلم وعنها نهل من جاء بعده» أصول الحديث صـ 27.
ومن تأليفاته في هذا العلم:
ناهيك عما كتبه غيره من علماء تلك المدرسة، ككتاب وصول الأخيار إلى أصول الأخبار، للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي(توفي 984هـ).
تطوير علم أصول الفقه والاهتمام به:
فقد كان لمدرسة جبل عامل باع طويل بهذا العلم كما كان للشهيد الثاني وابنه الشيخ حسن الدور البارز في تدوين هذا العلم والإبداع فيه، فقد كتب فيه الشهيد الثاني كتابه المعروف بـ (تمهيد القواعد الأصولية والعربية)، وكتاب ابنه معالم الدين أعرف من أن يعرف وأشهر من أن يوصف. هذه أهم ملامح تلك المدرسة العتيدة وأهم أدوارها.
إحاطته بعلوم عصره:
كل من ترجم الشهيد الثاني { أكبر فيه غزارة علمه وسعة اطلاعه واستيعابه لكثير من فنون الثقافة في عصره واتصاله بكثير من المدارس العلمية المعاصرة ومزاحمته للعلماء وتجشمه عناء السفر بحثاً عن أكابر علماء العصر وجهابذة العلم، فدرس الفقه وأصوله والأدب والقراءة والتفسير وعلم الحديث والرجال والفلسفة والطب والرياضيات والهيئة وغيرها، فكان عالماً موسوعياً بحق مع ما يمتلك من دقة ملاحظة وعمق نظر ناهيك عن إحاطته بالمذاهب الإسلامية ودراسته على يد أكابر علمائها، فسافر إلى دمشق ومصر، وهما يوم ذاك أكبر حاضرتين علميتين في العالم الإسلامي، فدرس الفقه والأصول والحديث والتفسير والتجويد وعلم القراءات والصحيحين والمنطق والفلسفة ونال قصب السبق وأجيز من أكابر علمائها. يقول الشيخ محمد مهدي الآصفي وهو يتحدث عن هذه السمة في الشهيد الثاني: «قليل أولئك اللذين يجمعون بين دقة الملاحظة وعمق النظر والاختصاص في حقل من حقول العلم وبين الإحاطة بحقول المعرفة البشرية. وقد أتيح لشيخنا (الشهيد) وهو من تلك الفئة الفذة في تاريخ الإنسانية أن يجمع بين الإحاطة بثقافة عصره والمذاهب الإسلامية وبين دقة الملاحظة والتعمق في الفقه «مقدمة الروضة البهية ج1 صـ 168. ويدلك على ذلك ما انبثق من سلسبيل يراعه، إذ كتب في شتى حقول المعرفة وأبدع في أنواع المعارف والعلوم، وكذلك دقة ملاحظته وبعد نظره ومحافظته على استقلالية أصول وقواعد فقه أهل البيتR في مقام الاستنباط، وعدم تأثره بما يلقى في تلك المدارس الأخرى.
التعريف بكتاب الروضة البهية:
هو شرح مزجٍ إستدلالي مختصر لكتاب اللمعة الدمشقية للشهيد الأول {، التزم فيه (الشهيد الثاني) اختصار العبارة و قوتها وإشارته في أكثر الأحيان إلى الدليل وبعض الأراء الفقهية التي لها أهميتها.
و قد وصفه هو بنفسه فقال: فهذه تعليقة لطيفة و فوائد خفيفة أضفتها إلى المختصر الشريف والمؤلف المنيف المشتمل على أمهات المطالب الشرعية الموسوم بـ (اللمعة الدمشقية)... جعلتها جارية له مجرى الشرح الفاتح لمغلقه و المقيد لمطلقه و المتم لفوائده و المهذب لقواعده ينتفع به المبتدئ و يستمد منه المتوسط و المنتهي» الروضة البهية ج 1 صـ5.
و تكمن أهمية هذا الشرح المبارك في كونه دورة فقهية تضم أبواب الفقه ولذا صار كتاباً دراسياً منذ قرون و ما زال يدرس في الحوزات الشيعية إلى يومنا هذا.
أما بالنسبة إلى طريقة الشهيد في شرحه هذا فهي كالتالي:
ولابد لنا من بيان منهج علمائنا الأبرار في الاستدلال على الأحكام الشرعية ليتسنى لنا معرفة منهج الشهيد في شرح اللمعة.
يقسم الدكتور الفضلي في كتابه أصول البحث المنهج التأملي الذي ينتمي إليه مباحث الإستنباط في الفقه الإمامي إلى قسمين:
أ- المناهج العامة: وهي القواعد المنهجية العامة التي يرجع إليها عند البحث في أي حقل من حقول نوع عام من أنواع المعرفة.
ب- المناهج الخاصة: وهي مجموعة من القواعد وضعت لتستخدم في حقل خاص من حقول المعرفة أو علم خاص من العلوم.
و يعتبر الشيخ الفضلي المنهج الإستدلالي المتبع في مباحث الفقه الإمامي منهجاً خاصاً مختلفاً عن المناهج الأخرى.
أما مادته فهي:
النصوص الشرعية من الكتاب و السنة.
القواعد:
أ- اللغوية.
ب- الأصولية بقسميها الاجتهادي و الفقاهتي.
ج- الفقهية.
د- الرجالية.
القرائن:
أ- التاريخية الاجتماعية.
ب- التفسيرية.
أما خطواته فهي:
تعيين موضوع البحث ويشترط أن يكون واضحاً جلياً.
تحديد موضوع الحكم.
جمع النصوص المرتبطة بالحكم والملابسة لها.
دراسة النصوص من خلال:
أ- تقسيم السند اذا كان النص رواية.
ب- تقويم المتن سواء كان آية أو رواية.
ج- استفادة دلالة النص على الحكم.
د- استخلاص الحكم.
ه- صياغة الحكم.
في حالة فقدان النص أو إجماله أو تعارضه مع نص آخر تعارضاً محكماً يرجع إلى:
أ- الأصول العملية.
ب- القواعد الفقهية التي يرجع اليها في موضع الشك.
أصول البحث للدكتور الفضلي ص 66 -145-146-147.
أشهر كتب الفقه الإمامي في عصر الشهيد:
امتاز القرن العاشر بغزارة الانتاج الفقهي من كتابة متون أو شرح لمتون أخرى سابقة فظهرت الموسوعات الفقهية الكبرى كما تنوعت الكتابة في علم الفقه من كتب جامعة للخلافيات وآخرى في الفقه المقارن وثالثة أولت إهتماماً خاصاً بفقه القرآن و رابعة برصد القواعد الفقهية وتطبيقاتها، ومن أبرز كتب الفقه الإمامي في ذلك العصر هي:
جل الشروح الأخرى للمعة كانت في القرن الثالث الهجري وكثير منها غير تام وبعضها لمجاهيل وقد أجمع العلماء على أن أفضلها هو كتاب الروضة البهية للشهيد الثاني.
مميزات الروضة البهية:
تمتاز الروضة على غيرها من الشروح بمميزات عدة منها:
أقدم شرح للمعة، فببركته لفت الشهيد الثاني أنظار العلماء إلى أهمية ذلك المتن الفقهي القيم.
شرحه مؤلفه شرحاً مزجياً رائعاً قل نظيره من حيث رصانة السبك وسلاسة التعبير حتى لا تكاد أن تميز بين المتن و الشرح وهو أول شرح مزجٍ في الفقه الإمامي قال عنه سيد الأعيان أن مؤلفه أول من أدخل هذا اللون من الشرح على مؤلفات الإمامية.
مختصر تميز بمتانة الاستدلال و تركيز الدليل و تجنب الخوض في المناقشات المطولة.
استيعابه لكل أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات، ولهذا أصبح من الكتب الدراسية منذ القرن العاشر إلى يومنا هذا.
صلاحيته لتدريب طالب العلم المبتدئ على طريقة الاستدلال والاستنتاج الفقهي وتزويده بالقدرة اللازمة لهذا الغرض.
تطبيقاته للقواعد الفقهية والأصولية والرجالية وغيرها، وبالأخص في كتب المعاملات ما لا تجد له نظيراً في الأعمال الفقهية التي سبقته.
تطبيقاته للقواعد الفقهية:
لقد أكثر الشهيد من تطبيقات القواعد الفقهية في شرحه هذا حتى أصبحت ميزة خاصة به، وسنضرب بعض الأمثلة على ذلك:
قاعدة الإحسان: ما على المحسنين من سبيل.
المراد من القاعدة أنه لو تصرف شخص في مال الغير بقصد إيصال النفع إليه وكان تصرفه موجباً للنفع واقعاً، لكن اتفق التلف في الاثناء فلا يؤاخذ المحسن على فعله ذلك لا تكليفاً ولا وضعاً.
وقد طبقها الشهيد الثاني في كتابه الوديعة على الودعي، فلو أنه ادعى رد الوديعة وأنكر المالك فالقول قول الودعي لأنه محسن.
قال: «ويقبل قوله بيمينه في الرد «وأنه كان مدّعياً بكل وجه على المشهور لأنه محسن وقابض لمحض مصلحة المالك والأصل براءة ذمته. الروضة البهية ج 4 صـ 250.
قاعدة التلازم بين قصر الصلاة والصوم: «كل سفر يجب فيه قصر الصلاة يجب فيه قصر الصوم وبالعكس».
وقد طبقها الشهيد في كتاب الصوم. قال في المجلد الثاني من الروضة ما نصه: «وكلما قصرت الصلاة قصر الصوم».
قاعدة الفراش: «الولد للفراش وللعاهر الحجر».
وقد طبقها الشهيد الثاني في الروضة فقال: «ولو فجر بها، أي بالزوجة الدائمة، فاجر، فالولد للزوج، وللعاهر الحجر (ولا يجوز له نفيه لذلك) للحكم بلحوقه بالفراش شرعاً وإن أشبه الزاني خلقة». الروضة البهية ج 5 ص ـ 436.
تطبيقاته للقواعد الأصولية:
فقد كان للشهيد الثاني باع طويل في علم الأصول فهو يعد من أولئك الأصوليين الأفذاذ وقد راعى تطبيقات قواعد هذا العلم في مقام الاستنباط كما راعى ذلك في القواعد الفقهية.
من الأمثلة على ذلك:
مرجعية العرف في تشخيص موضوعات الأحكام التي لم يتصد الشارع لتشخيصها:
فإن العرف هنا يكون قرينة على حمل مقاصد الكلام عليه سواءً كانت قرينة عادة أو غلبة أو شيوعاً أو مجازاً مشهوراً إذا اقترنت بالكلام من معاملة وغيرها، فمتى أو جبت ظهوراً في الكلام على ما قامت عليه العادة وأشباهها كان الظاهر حجة، وقد طبقها الشهيد في الروضة في كتاب التجارة فقال: «الثالث فيما يدخل في المبيع» عند إطلاق لفظة (و) الضابط أنه يراعى فيه اللغة أو العرف أو الخاص». الروضة البهية ج3 صـ529530-.
وقال كذلك في نفس الكتاب: «الخامس إطلاق الكيل والوزن». والنقد (ينصرف إلى المعتاد) في بلد العقد لذلك المبيع إن اتحد (فإن تعدد فالأغلب استعمالاً وإطلاقاً). الروضة البهية ج3 صـ 543.
تطبيق المعومات في مواردها: العام والخاص من المعاني المرتكزة إجمالاً في الأذهان في كل لغة ومحاوره والعموم عند العرف متقوم بالشمول و السريان بخلاف الخصوص الذي هو في مقابله، و الألفاظ المتداولة في العموم خمسة: لفظ كل وما بمعناه والنكرة في سياق النفي أو النهي والمحلى باللام جمعاً أو مفرداً.
وقد طبق الشهيد هذه القاعدة كثيراً في شرحه، منها على سبيل المثال ما جاء في كتاب الإجارة إذ قال:(ويجوز اشتراط الخيار لهما أو لأحدهما) مدة مضبوطة لعموم المؤمنين عند شروطهم ولا فرق بين المعينة والمطلقة عندنا.
قاعدة النهي في غير العبادات لا يقتضي الفساد إلا إذا كان إرشادًا إلى فسادها:
طبقها الشهيد الثاني في كتاب الطلاق في مبحث من طلق مرات في طهر واحد، كأن يطلق ثم يراجع ثم يطلق ثم يراجع وهكذا ثلاثًا بعد أن صحح وقوعه ثلاثًا.
ذكر رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق Q فقال: «ولا معرضًا لها إلا رواية عبد الرحمن ابن الحجاج عن الصادق Q في الرجل يطلق امرأته له أن يراجعها قال: لا يطلق التطليقة الأخرى حتى يمسها وهي لا تدل على بطلانها نظراً الى أن النهي في غير العبادة لا يفسد» .
تطبيقاته للقواعد الرجالية:
يعتبر الشهيد الثاني رجالياً بامتياز فقد كتب في علم الدراية وتلقى وحضر دروس الحديث وأصوله على عدد من مشايخ الحديث شيعة وسنة و استجازهم في الرواية واثنوا عليه ثناءً بليغاً ومن يسبر غور كتابه الروضة البهية يجده ذا باع طويل وفارس من فرسان هذا المضمار، ولئلا أطيل في هذه النقطة أحيل القارئ الكريم إلى كتاب الطلاق من شرح اللمعة المجلد السادس صفحة 39 في مناقشته قول الشيخ بأن الصحابة أجمعت على تصحيح ما يصح عن عبد الله بن بكر وأقروا له بالعفة والثقة.
تطبيقه لمنهجية البحث الفقهي:
ذكرنا منهجية البحث في الفقه الإمامي والآن نرى تطبيق الشهيد الثاني لذلك المنهج واتّباع خطواته وسنأخذ مبحثاً من مباحث الروضة البهية من كتاب الصلاة في مسألة جواز السجود على القرطاس.
ويجوز السجود على القرطاس في الجملة اجماعاً للنص الصحيح الدال عليه، وبه خرج عن أصله المقتضي لعدم جواز السجود عليه لأنه مركب من جزأين لا يصح السجود عليهما: وهما النورة وما مازجها، من القطن والكتان، وغيرهما، فلا مجال للتوقف فيه في الجملة، والمصنف هنا خصه بالقرطاس (المتخذ من النبات) كالقطن والكتان والقنب، فلو اتخذ من الحرير لم يصح السجود عليه وهذا إنما يبني على القول باشتراط كون هذه الأشياء مما لا يلبس بالفعل حتى يكون المتخذ منها غير ممنوع، أو كونه غير مغزول أصلاً إن جوزناه فيما دون المغزول، وكلاهما لا يقول به المصنف، وأما إخراج الحرير فظاهر على هذا لأنه لا يصح السجود عليه بحال، وهذا الشرط على تقدير جواز السجود على هذه الأشياء ليس بواضح، لأنه تقييد لمطلق النص أو تخصيص لعامه من غير فائدة، لأن ذلك لا يزيله عن حكم مخالفة الأصل، فإن أجزاء النورة المنبثة فيه بحيث لا يتميز من جوهر الخليط جزء يتم عليه السجود كافية في المنع، فلا يفيده ما يخالطها من الأجزاء التي يصح السجود عليها منفردة، وفي الذكرى جواز السجود عليه إن اتخذ من القنب واستظهر المنع من المتخذ من الحرير، وبنى المتخذ من القطن والكتان على جواز السجود عليهما، ويشكل تجويزه القنب على أصله لحكمه فيها بكونه ملبوساً في بعض البلاد وأنّ ذلك يوجب عموم التحريم وقال فيها أيضاً: في النفس من القرطاس شيء من حيث اشتماله على النورة المستحيلة من اسم الأرض بالاحراق.
قال: إلا أن نقول: الغالب جوهر القرطاس أو نقول جمود النورة يرد إليها اسم الأرض.
وهذا الإيراد متجه لولا خروج القرطاس بالنص الصحيح وعمل الأصحاب وما دفع به الإشكال غير واضح، فإن أغلبية المسوغ لا يكفي مع امتزاجه بغيره وانبثاث أجزائهما بحيث لا يتميز وكون جمود النورة اسم الأرض في غاية الضعف، وعلى قوله - M - لو شك في جنس المتخذ منه – كما هو الأغلب – لم يصح السجود عليه للشك في حصول شرط الصحة.
وبهذا ينسد باب السجود عليه غالباً وهو غير مسموع في مقابل النص وعمل الأصحاب.
لنرى تطبيق الشهيد لخطوات ذلك المنهج:
أولاً: تعيين الموضوع وهو السجود على القرطاس.
ثانياً: تحديد موضوع الحكم وهو المراد من القرطاس.
ثالثاً: جمع النصوص المرتبطة بالحكم وهي ما عبر عنه بقوله «للنص الصحيح الدال عليه».
رابعاً: الاستدلال بالإجماع.
خامساً: دراسة النص.
سادساً: مناقشة آراء أقرانه من العلماء.
سابعاً: استخلاص الحكم الشرعي وصياغته.
وبهذا نكون قد أتينا على نهاية بحثنا في شرح الروضة البهية.
[1](*) من علماء القطيف - السعودية.
مكانة حكمة الأحكام في الفقه التحليلي عند الشهيد الأول
الشيخ حسنعلي علي أكبريان (*)
يبحث هذا المقال عن المكانة التي تحتلّها حكمة الأحكام في الفقه التحليلي عند الشهيد الأول، لكن من الضروري أولاً بيان المراد من «الحكمة» المدعاة في هذا المقام لكي نقف علي البحث بكلّ زواياه.
إنّ المراد منها هو تصوّر الشهيد الأول لمكانة حكمة الحكم في جغرافيا الفقه الإمامي، وتحليل المفاهيم الفقهية علي ضوء ذلك. ولذا فهذه المقالة لا تتعرّض إلی حكمة كلّ حكم خاص، من قبيل حكمةالصلاة والصوم و... الواردة في آثار هذا الفقيه، وإنّما تتناول المسائل التحليلية بهدف تحديد مكانة الحكمة في الفقه، هذه المسائل ولخصائص فيها تصبّ في خانة العلوم، وتدوّن كجزء من فلسفة الفقه.
والفقه التحليلي هو في قبال الفقه الاستدلالي، ودراسة مكانة حكمة الأحكام في الثاني يعني البحث في الدور الذي تلعبه حكمة الأحكام في عملية الاستنباط إلی جانب القواعد وأصول الاستنباط التي تعين المجتهد علی ممارسة وظيفته. والبحث في هذا الأمر له مجاله المستقلّ عن مقالنا هذا.
مفهوم حكمة الأحكام
إنّ المصطلح المتداول على ألسنة المعاصرين «فلسفة الحكم»[1] وهي تعني ما نحن بصدده، وقد تطلق أيضاً لفظة حكمة التشريع، وعلّة التشريع، ويراد منها المصطلح.
وتُعرَّف بأنّها هی المصلحة ـ بمعنی جلب المنفعة ودفع الضرر ـ المقصودة للشارع في تشريع الحكم[2].
ومن أهمّ خصائص الحكمة هي أنّ للحكمة بالنسبة إلی الحكم أكثر من جانب ثبوتي، حتّی يتبيّن الجانب الإثباتي له، بمعنی أنّه حتّی ينكشف علّة جعل الحكم من جانب الشارع، لا علّة كشف الحكم للفقيه المجتهد. ولذا نجد العمل لا يكاد يجري بسهولة في الفقه الإمامي، وأنّ ثمة محدودية وشروط صعبة لكشف الحكم، بينما العكس في ظلّ الفقه السنّي، حيث يصبّ مستند الأحكام في قوالب من قبيل: الاستحسان والاستصلاح (المصالح المرسلة)[3].
ولا يلزم كون حكمة الحكم جامعاً، ولها وجود كلّ مصاديقه، لذا فمن الممكن أن يوجد حكم في مكانٍ لا تتحقّق فيه حكمته. كما لا يلزم كونه مانعاً؛ لأنّ الحكمة ليست علّة تامة للحكم[4]، لذا فمن الممكن أن تتحقّق الحكمة، لكن بسبب فقدان سائر أجزاء العلّة التامة لا يكون الحكم موجودًا[5].
ولعدم لزوم الجامعية والمانعية فنسبة الحكمة وموضوع الحكم ليس من الضروري أن تكون متساوية، ومع ذلك فيعتقد بعض أنّه يلزم وجود الحكمة في غالب مصاديق الحكم، وأنكر آخر لزوم الغلبة، و حتی الشيوع أيضاً[6].
مباني حكمة الأحكام
قبل الخوض في هذا البحث يلزم ذكر بعض المباني المختلف عليها في هذا الإطار:
1. تبعية الأحكام للمصالح
ثمة نزاع في هذه المسألة، وقوامه هو هل للحكم الواقعي، بقطع النظر عن دليله، مصلحة قديمة كان قد جعل الشارع حكمه علی أساسها أم لا؟ وهنا ثلاثة أقوال:
أوّلها: إنكار التبعية، ذهب إليه الأشاعرة[7].
ثانيها: التبعية في متعلّق الحكم، ذهب إليه المعتزلة ومشهور الشيعة[8].
ثالثها: التبعية في الجعل، أو التبعية في الجملة، إمّا في المتعلّق أو في الجعل، وهذا منسوب إلی الآخوند الخراساني[9].
هذا في الأحكام التكليفية، أمّا الأحكام الوضعية فقد اتّفق الإمامية علی تبعيتها للمصالح في جعلها، لا في متعلّقها[10].
وقد نوقشت مسألة التبعية أيضاً علی صعيد الحكم الظاهري ـ وهو الحكم الذي يؤخذ في موضوعه الشكّ ـ علی أنّ الأشاعرة والمعتزلة لم يتصوّروا حكماً بهذا الاسم ويقع مقابلاً للحكم الواقعي.
والشهيد الأوّل كسائر فقهاء الإمامية يری أنّ للأحكام مصالح ومفاسد، والشريعة معلّلة بغاية، وكان يری أنّ المحلّ الأصلي لهذه المسألة إنّما هو في علم الكلام، يقول: «لمّا ثبت في علم الكلام أنّ أفعال الله تعالی معلّلة بالأغراض، وأنّ الغرض يستحيل كونه قبيحاً، وأنّه يستحيل عوده إليه تعالی، فثبت كونه لغرض يعود إلی المكلّف. وذلك الغرض: إمّا جلب نفع إلی المكلّف أو دفع ضرر عنه، وكلاهما قد ينسبان إلی الدنيا وقد ينسبان إلی الآخرة. فالأحكام الشرعية لا تخلو من هذه الأربعة»[11].
ويقول أيضاً في موضع آخر: «الشرع معلّل بالمصالح، فهي إمّا في محل الضرورة، أو محلّ الحاجة، أو التتمة، أو مستغنی عنها، إمّا لقيام غيرها مقامها وإمّا لعدم ظهور اعتبارها»[12].
2. سببية الدليل لإيجاد المصلحة
إنّ الدليل الذي يستند إليه الفقيه هل يساهم في إيجاد المصلحة في الحكم أم لا؟ والكلام يدور هنا حول المصلحة بعد الحكم لا قبله. وفيه أربعة أقوال:
أولها: ما ذكره الأشاعرة من أنّ وجود الدليل علی الحكم هو بنفسه سبب وجود المصلحة في متعلّق الحكم[13].
ثانيها: ما ذكره المعتزلة من أنّ الدليل في موارد مخالفة الدليل مع الحكم الواقعي، سبب المصلحة في متعلّق الحكم[14].
ثالثها: سببية المصلحة السلوكية وهو أنّ المصلحة في اتباع الدليل وسلوكه لا في متعلّقه، وهو ما قال به الشيخ الأعظم[15].
رابعها: الطريقة المحضة، وتتلخّص بأنّ وجود الدليل علی الحكم ليس سبباً لإيجاد المصلحة، إذ المصلحة في الأحكام الواقعية فقط[16]. وهو ما ذهب إليه مشهور الإمامية، وبه قال الشهيد الأول.
ولكن يقول في مسألة النذر: «الأفعال لها وجوه واعتبارات تقع عليها، لأجلها تكون موصوفة بالأحكام الخمسة. فكيف جاز انقلاب أحدها إلی الآخر؟ والنذر قالب؛ لأنّه يجعل المكروه حراماً، والندب واجباً... وقد علم أنّ السببية أيضاً تابعة للمصلحة، فمن أين نشأت هذه المصالح بسبب النذر؟![17].
ثم يجيب علی هذا الإشكال بقبول نوع من السببية لفعل النذر، فيقول: «أنّه ليس من الممتنع أن تنشأ في الندب بسبب النذر مصلحة يساوي فيها الوجوب»[18].
ويضيف قائلاً: «ولا يجب علينا بيان تلك المصلحة علی التفصيل لأنّا لما علمنا أنّ النذر موجب، وعلمنا أنّ الإيجاب يتبع خصوصيات المصالح، علمنا هنا تحقّق خصوصية مصلحة الوجوب»[19].
ولا يخفی أنّ السببية التي يعرضها الشهيد هنا تختلف عن تلك التي يعرضها الأشاعرة والمعتزله، فسببية هؤلاء للأدلّة التي يستند إليها الفقيه في استنباط أحكام الله تعالی، ولكن سببية النذر هو بعد إقامة الدليل علی وجوب الوفاء به، والناذر لا يری أبداً الحكم الجديد للمنذور حكم الله.
وهناك جواب آخر للمسألة وهو أنّ الواجب بعد النذر هو عنوان الوفاء بالنذر، لا عنوان المنذور، فلا انقلاب في حكم المنذور.
3. التخطئة والتصويب
ومن المسائل التي شغلت اهتمام الفقهاء، بعد السببية والطريقية هي مسألة التخطئة والتصويب، وملخّصها: هل الفتوى التي يصدرها المجتهد علی أساس دليل معتبر هي حتماً صحيحة، أم من الممكن أنّها مخالفة للواقع؟ في هذا ثلاثة أقوال:
أولها: التصويب الأشعري، من أنّه لا وجود لحكم وراء الأحكام المأخوذة من الأدلّة[20].
ثانيها: التصويب المعتزلي، من أنّه إذا قام دليل معتبر يقام علی خلاف الحكم الواقعي فتوجد مصلحة غالبة في الحكم المأخوذ من الدليل، بحيث تبعث علی جعلها وفعليتها، وعدم فعلية الحكم الواقعي[21].
ثالثها: التخطئة، بأنّ الأحكام الواقعية مشتركة بين العالم والجاهل[22]، وإذا تمسّك المجتهد في استنباط حكم شرعي بدليل معتبر مخالف للواقع، فعل الرغم من أنّ الحكم المستند بهذا الدليل يكون بالنسبة إليه منجزاً ومعذراً، ولكنّه مخالف للواقع.
ويری فقهاء الامامية بالاتفاق التخطئة، بل وحتّی سببية المصلحة السلوكية لا يرونها تصويباً[23].
والشهيد الأول يصرّح في عباراته بالتخطئة، يقول: «ويجوز تعدّد القضاة، إمّا بالتشريك أو بالتخصيص بمحلة أو نوع من القضاء. ولو شرط اتفاقهما في الأحكام ففيه نظر، من ضيق موارد الاجتهاد، ومن أنّه أوثق في الحكم، وخصوصاً عندنا، لأنّ المصيب واحد»[24].
ولا يخفی أنّ النزاع فقط علی صعيد استنباط الحكم الشرعي، أمّا في مجال العقائد فالجميع يقولون بالتخطئة[25].
4. إمكان اختلاف حكمة الأحكام بين الشريعة الإسلامية والشرائع السابقة
إنّ حكمة الأحكام في الشرائع السابقة متفاوتة مع ما في شريعة الإسلام، وهذا التفاوت إنّما هو بدليل كمال شريعة خاتم الأنبياءP.
وقد أشار الشهيد إلی هذا الأمر في بحثه في مسألة تعدّد الزوجات الدائمة ومحدوديتها إلی أربع زوجات في الإسلام، وذكر أنّ هذه المحدودية وإباحة أربع زوجات إنّما هو مراعاة للزوج والزوجة معاً، وليس كما عليه شرع موسی Q غير المحصور مراعاة للرجال فقط، ولا كما عليه شرع عيسی Q المحصور بزوجة واحدة فقط مراعاة للنساء فقط[26].
5. ارتباط عالم المصالح والمفاسد وملاكات الأحكام بحكمة الحكم
ذكرنا أنّ رأي العدلية حول جعل الأحكام الشرعية بأنّه يقوم علی أساس الملاكات والمصالح والمفاسد، لكن السؤال هنا: ما المقصود من هذه الملاكات والمصالح والمفاسد؟ هل المقصود منها علّة الحكم أم حكمة الحكم؟ فإن كان المقصود الأول، فالنسبة بين الحكم وبين هذه الملاكات تكون متساوية، وإن كان الثاني فلا يلزم مثل هذا التساوي.
وقد عبّر الفقهاء حول هذه المسألة بتعابير مختلفة، فبعضهم رأی أنّ المصالح هي نفس الملاك ومناط الحكم[27]. وآخرون يصرّحون خلاف ذلك إذ يقولون: إنّ المراد من المصالح والمفاسد هو حكمة الحكم[28].
ويؤيد هذا الرأي الثاني أنّ تعريف الحكمة بأنّها الحكمة المقصودة للشارع.
ويؤيده ما لو قارنّا بين مبنی تبعية الأحكام للمصالح ومبنی تبعيتها للأسماء فالنتيجة التي نحصل عليها هي كذلك. وتوضيحه أنّ القاعدة الأولی متعلّقة بعالم الثبوت، والقاعدة الثانية متعلّقة بعالم الإثبات. أمّا هاتان القاعدتان لا تنطبقان علی بعضها البعض. أي أنّ الشارع يمكنه ـ لأسباب يعلمها هو ـ أن يجعل موضوع الحكم أكبر أو أصغر من دائرة المصالح، والفقيه بدوره يمكنه إثبات موضوع الحكم من إطلاق وعموم الأدلّة.
هذا في حال أنّ المراد من العلّة هو في مقابل الحكمة، وهو أمر منطبق دقيقاً علی الموضوع، ويمكن أن يقوم مقامه[29].
مكانة مقاصد الشريعة في الفقه الإسلامي
يری الشهيد الأول أنّ مقاصد الشريعة بمثابة المحور الأصلي في جعل الأحكام، وتقديمها وتنظيمها في عالم الفقه. وقد وردت بضع مصطلحات قريبة من مصطلح مقاصد الشريعة في كلمات الشهيد، تستدعي ملاحظتها والوقوف عليها، من قبيل: المقصود الأصلي، جلب النفع ودفع الضرر، المصالح، الضروريات.
ولتوضيح مفهوم مقاصد الشريعة ومقارنتها بالمصطلحات الأخری، نجد من الضروري التعرّض إلی بعض النقاط:
الأولی: من وجهة نظر الشهيد الأول أنّ جعل جميع الأحكام هو لاجل جلب المنفعة أو لدفع الضرر. وهذا النفع أو الضرر يمكن أن يكون دنيوياً أو يكون أخروياً، وأيضاً هو ممكن أن يكون مقصوداً أصلياً أو مقصوداً تبعياً[30].
وجدير بالذكر أنّ الشهيد الأول يری أنّ المقصود الأصلي يرتبط بدفع الضرر فقط. يقول: وأمّا دفع الضرر المقصود بالأصالة فهو حفظ المقاصد الخمس...[31].
الثانية: عندما يتكلّم الشهيد عن الوسائل التي لها مقصود تبعي، فرغم أنّه يقتصر علی إحداها في مجال حفظ المقاصد، إلا أنّه بالتأمل في سائر الوسائل نجدها جميعاً تشارك في هذا المنوال، يقول: «الوسائل خمس: أحدها أسباب تفيد الملك... الثانية: أسباب تسلّط علی ملك الغير... الثالثة: أسباب تقتضي منع المالك من التصرف في ماله... الوسيلة الرابعة: وسيلة حفظ المقاصد الخمسة وهي النفس والدين والعقل والنسب والمال التي لم يأت تشريع إلا بحفظها وهي الضروريات الخمس... الوسيلة الخامسة: ما كان مقوياً لجلب المنفعة ودفع المفسدة، وبهذه المقاصد والوسائل تنتظم كتب الفقه»[32].
الثالثة: أنّ الشهيد بعد تقسيمه لمتعلّقات الأحكام إلی المقصود بالذات وأخری ما يوصلنا إليها، يعرّج علی بيان فضائلها، وأنّها تتفاوت بحسب المقاصد، فكلّ أفضل كانت الوسيلة إليه أفضل[33].
الرابعة: بعد أن يصرّح الشهيد بأنّ للشريعة علل وغايات، وهي المصالح، يقوم بتقسيم هذه المصالح إلی خمسة أقسام: المصلحة الضرورية، المصلحة الحاجيّة، والمصلحة التمامية، والمستغنی عنها إمّا لقيام غيرها مقامها، وإمّا لعدم ظهور اعتبارها[34].
لكنّه في موضع آخر يقسّمها إلی ثلاثة أقسام: ضرورية وحاجية وتمامية، ولم يذكر الآخرين[35].
وعلی كلّ حال، السؤال هنا: ما هي النسبة بين المصالح والمقاصد علی رأي الشهيد؟
والجواب: ثمة شاهدان يشهدان علی أنّ مراده منهما واحد لا اثنين.
إضافة إلی أنّ الفاضل المقداد في معرض تحرير عبارات الشهيد الأول قد أشار إلی كلام الشهيد بأنّ كتب الفقه تنتظم علی أساس جلب المنفعة ودفع الضرر[37]، وهو ما يدلّ علی ما ذكرناه.
الخامسة: هل المقاصد الخمس مرتّبة أم لا؟ الشهيد الأول احياناً يرعی الترتيب في ذكرها، وأخری لم يرع ذلك. إلا أنّه دائماً يذكر العقل ثم النسب والمال، ويردها في آخر القائمة، ويقدّم النفس علی الدين مرة، ومرة أخری علی العكس[38].
تقسيم متعلّق الأحكام إلی مقصود بالذات وبالتبع
من النقاط الجدير بالذكر هو تقسيم الشهيد لمتعلّق الأحكام في موضوعين من كتابه، يقول: «متعلقات الأحكام قسمان: أحدهما: ما هو مقصود بالذات، وهو المتضمن للمصالح والمفاسد في نفسه، والثاني: ما هو وسيلة وطريق إلی المصلحة والمفسدة»[39].
إلا أنّه يقسّم الوسائل إلی خمسة أقسام مرّة، قال: «الأول: ما اجتمعت الأمة علی تحريمه... الثاني: ما اجتمعت الأمة علی عدم منعه... الثالث: ما اختلف فيه... الرابع: ماكانت الوسيلة فيه مباحة بالنسبة إلی أحد المتعاطيين حراماً بالنسبة إلی الآخر... الخامس: الوسيلة إلی المعصية حرام كالمتوسّل إليه»[40].
ومرّة أخری يقسّمها إلی ثلاثة أقسام، قال: «الأوّل: قسم اجتمعت الاُمة علی منعه... الثاني: ما اجتمعت الاُمة علی عدم منعه... الثالث: ما فيه خلاف»[41].
هذا وأنّ اصطلاح (وسيلة) أقرب إلی (ذريعة). والذريعة هي الوسيلة التي توصل إلی الواجب أو الحرام أو المستحب أو المكروه أو المباح. وعلی ضوء هذا قُسِّمت الأحكام إلی خمسة أقسام.
تقسيم الأحكام إلی معاملات وعبادات علی أساس الحكمة الأهم
قسّم الفقهاء الأحكام إلی قسمين: العبادات والمعاملات، ما يميّز بينهما هو لزوم أو عدم لزوم قصد القربة[42]. وهذا الملاك الذي يتمايز علی أساسه هذان القسمان ليس إلا معياراً فقهياً صرفاً، ومتعلّقاً بالامتثال، ولا ينظر إلی واقع التفاوت بين حكم عبادي وآخر معاملي، ولا التمييز بين نوع الملاك وحكمته.
لكن الشهيد الأول في معرض بيان معيار التمايز بين هذين الحكمين ينظر إلی حقيقة وملاك وحكمة كلّ حكم، ولا يكتفي في التمييز علی المشهور. فهو يعتقد أنّ كلّ حكم يمكن أن يكون له أغراض متعددة دنيوية وأخروية[43]. وعليه فكلّ حكم شرعي يكون الغرض الأهمّ منه الدنيا، سواء لجلب منفعة أو دفع ضرر دنيوي، يسمّی معاملة، وإذا كان الغرض الأهم منه الآخرة، إما لجلب النفع أو لدفع الضرر فيها، يسمی عبادة[44].
والشهيد الأول في هذا المعيار لا يفرّق في جلب النفع الدنيوي أو الأخروي، وكذلك دفع الضرر الدنيوي والأخروي بين المقصود الأصلي للشارع ومقصوده التبعي، وإنّما مراده من المقصود الأصلي في جلب النفع هو ما يدرك بالحواس الخمس، وفي دفع الضرر بحفظ المقاصد الخمس: الدين والعقل والنفس والنسب والمال. ومراده من المقصود التبعي هو الوسائل التي توصله إلی المدرك أو إلی المقصود الأصلي[45].
وفي بيان آخر له يشير إلی أنّ الأحكام الشرعية ـ أعم من التكليفي والوضعي ـ منحصرة في أربعة أقسام: عبادات وعقود وإيقاعات وأحكام وفي بيان هذا الحصر أيضاً استخدم عنصر الغرض من الأحكام[46].
تقسيم الواجب إلی عيني وكفائي علی أساس نوع حكمته
إنّه تقسيم معروف، ومعيار التمييز بينهما هو سقوط التكليف عن الآخرين إذا أتی به شخص في الواجب الكفائي، وعدم سقوطه في العيني. وعليه فالواجب الكفائي تكليف واحد علی الجميع، بينما العيني تكاليف متعدّدة بتعدّد المكلّفين[47].
وهذا المعيار معيار فقهي في مقام الإمتثال، إلا أنّ الشهيد يری أنّ معيار التمييز بين هذين الواجبين يجب أن يتعلّق بعالم الملاك والحكمة. يقول: «فرض العين: شرعيته للحكمة في تكراره، كالمكتوبة فانّ مصلحتها الخضوع لله عزوجل... وكلّما تكررت الصلاة تكررت هذه المصالح الحكمية. أمّا فرض الكفاية فالغرض إبراز الفعل إلی الوجود، وما بعده خالٍ عن الحكمة كانقاذ الغير»[48].
ومن الأمور الشاهدة علی اهتمام الشهيد بتحليل المفاهيم الفقهية علی أساس عالم الحكمة، كلامه حول الكبائر. فالمعيار الأول الذي يعرضه هذا الفقيه علی صعيد تحديد الذنوب بالكبائر يقول: «كلّ ما توعّد الشرع عليه بخصوصه فإنّه كبيرة»[49]. ثم يورد بعضاً آخر فيقول:
ثمّ يضيف قائلاً: «وهذه الكبائر المعدودة عند التأمّل ترجع إلی ما يتعلّق بالضروريات الخمس التي هي مصلحة الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال»[52].
فهو بهذا البيان قد أرجع كلّ الكبائر إلی هذه المصالح الخمس، وهذا يشعر باهتمامه بالمقاصد في تفسير القضايا الفقهية.
تفسير شرط الحكم علی أساس تقيّدات عالم الحكمة
يری الشهيد الأول M أنّ تفسير شرط الحكم يعود أيضاً إلی مناسبات الحكمة الكامنة وراء الحكم، يقول: «شرط الحكم هو كلّ ما اشتمل علی حكمة يقتضي عدمها نقيض حكمة السبب، مع بقاءحكم السبب كالطهارة للصلاة، فإنّ عدم الطهارة مع الاتيان بالصلاة يقتضي نقيض حكمة شرعية الصلاة؛ لأنّ شرعيتها للثواب، وفعلها بغير طهارة سبب في استحقاق العقاب»[53].
وبعد قرون من هذا الكلام نهض الأصوليون عند تفسير شرط الوجوب والواجب (شرط الحكم وشرط متعلّق الحكم) من خلال الاستفادة من قيود عالم الحكمة والملاك[54].
تفسير شرط السبب علی أساس تقيّدات عالم الحكمة
ويفسّر الشهيد أيضاً شرط السبب علی أساس قيود عالم الملاك والحكمة. و«السبب» في كلامه أحد أقسام الأحكام الوضعية[55].
وكان M يری أنّ السبب هو كلّ وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل علی كونه معرفاً لإثبات حكم شرعي، بحيث يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، ويمتنع وجود الحكم بدونه. وتخلّف الحكم عنه يكون إمّا لوجود مانعٍ أو فقد شرط[56].
والسبب ـ كما يراه ـ إمّا وصف بحيث يكون مستلزماً لحكمة باعثة علی شرعية الحكم المسبّب؛ كاليد التي هي سبب للضمان، وإمّا وقت فيكون مقتضياً لثبوت الحكم الشرعي كمواقيت الصلاة[57].
وعلی كل حال، السبب مثل الحكم، له شرط. وجاء في تعريف الشهيد لشرط السبب أن قال: «شرط السبب ما يخلّ عدمه بحكمة السبب كالقدرة علی التسليم في صحة البيع الذي هو سبب ثبوت الملك، ويشتمل علی مصلحة وهي الانتفاع بالمبيع، وهي متوقّفة علی التسليم الذي هو بدوره متوقّف علی القدرة علی التسليم. إذن عدم القدرة يخلّ بحكمة المصلحة»[58].
تفسير مانع الحكم علی أساس تقيّدات عالم الحكمة
إنّ الشهيد الأول في تفسيره لمانع الحكم، قد قارن بين حكمة المانع مع حكمة الحكم، وبسبب أهمية الأولی بالنسبة إلی الأخری، فإنّه يعتقد أنّ الشارع قد رجّح حكمة الأهم (حكمة المانع) علی حكمة المهم (حكمة الحكم) من منطلق الأهم ثم المهم، يقول: «مانع الحكم هو كلّ وصف ظاهر منضبط مستلزم لحكمة مقتضاها نقيض حكم السبب، مع بقاءحكمة السبب، مثل الدين المانع من وجوب الخمس في المكاسب، فإنّ الحكمة في الخمس نفع أهل البيت عليهم السلام... لكن الوجوب في المكاسب إنّما هو في ما فضل من قوت الشخص المكلّف وعياله، والوفاء بالدين أهم منه... إذن فالدين لهذه الحكمة مانع من وجوب الخمس وإن كانت الحكمة باقية في الخمس»[59].
توجيه معيار إفساد وعدم إفساد الشرط الفاسد علی أساس حكمة العقد
من الأمور التي يمكن طرحها بعنوان تحليل القضايا الفقهية علی أساس عالم الحكمة هو بيان معيار صحة وبطلان العقد بدليل الشرط الفاسد. فالحكمة المعروضة في العقود هي واحدة بين مقصود طرفي العقد ومقصود الشارع وإن كان ثمة تفاوت في حكمة العقد عند الطرفين ومقصودهما إجراء العقد، وعند الشارع ومقصوده إمضاء وتصحيح العقد.
وعلی كلّ حال، فقد قسّم الشهيد الأول حكمة العقد إلی أصلي وفرعي، فقال: «كلّ عقد شرط فيه خلاف ما يقتضيه، مع كونه ركناً من أركانه، فهو باطل، مثل: تسليم المبيع إلی المشتري، والثمن إلی البائع، أو الانتفاع بأحدهما للمنتقل إليه. وإذا لم يكن ركناً من أركانه، ولكنّه من مكملاته، مثل: شرط نفي خيار الحيوان، فعندنا يصحّ؛ لأنّ لزوم العقود هو المقصود الأصلي، وأمّا الخيار فعارض... وهو مقصود ثانوي لا أولي»[60].
فهو M في هذا المعيار يفسّر مقتضی العقد بالحكمة الأصيلة للعقد.
ولا يخفی أنّ بحث شرط العقد وفساده وإفساده، وتعابير من قبيل: مقتضی العقد، مصلحة العقد، مصلحة المتعاقدين، قد وردت في كلمات الفقهاء المتقدمين علی الشهيد، كالشيخ الطوسي، والمحقق والعلامة الحلّيين[61]. إلا أنّ تعبير مقصود المتعاقدين لم يرد في كلماتهم كما يظهر للمتتبع، وقد انتشر هذا المصطلح بين الفقهاء بعد الشهيد الأول، وأضحت عبارات الشهيد وأمثلته ترد في كلمات بعض الفقهاء في معرض البحث في معيار إفساد وعدم إفساد الشرط الفاسد، وأنّ منهم من أورد المصطلح من دون لفظة «مقصود»[62]. ومنهم من أورده كاملاً[63] كما بيّنه الشهيد M.
كلمة الختام
وفي الختام نركز علی أربعة امور:
[1](*) عضو الهيئة العلمية للمركز العالي للعلوم والثقافة الاسلامية - قم.
علی سبيل المثال راجع: آية الله گلپايگاني، جامع المسائل، ج 1، ص 106؛ لطف الله الصافي، مجموعة الرسائل، ج 1، ص 224؛ المحمدي الريشهري، ميزان الحكمة، ج 1،ص 132.
[2]. محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 310.
[3]. راجع: الشاطبي، الاعتصام، ج 2، الباب الثامن، ص 373 – 409؛ وهبة الزحيلي، أصول لفقه الإسلامي، ج 2، ص 752 – 757؛ مصطفی ديب البغا، أثر الأدلة المختلف فيها، ص 28 – 53.
[4]. ابوالقاسم الخوئي، كتاب الطهارة، ج 9، ص 220؛ ناصر مكارم، القواعد الفقهية، ج 1، ص 197.
[5]. ناصر مكارم، القواعد الفقهية، ج 1، ص 197؛ ومحمد حسين الأصفهاني، حاشية المكاسب، ج 4، ص 169.
[6]. ناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية، ج 1، ص 50.
[7]. ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ج 8، ص 566، حقي، تفسير حقي، ج 14، ص 223؛ الرازي، تفسير الرازي، ج 14، ص 328.
[8]. في مقابل القول الثالث.
[9]. الآخوند خراساني، كفاية الأصول، ص 308؛ محمد سرور البهسودي، مصباح الأصول، ج 2، ص 438؛ محمد علي الكاظمي، فوائد الأصول، ج 3،ص 58؛ أبوالقاسم عليدوست، فقه و مصلحت، ص 161.
[10]. ابوالقاسم عليدوست، تبعيت يا عدم تبعيت احكام از مصالح ومفاسد واقعي، مجله فقه و حقوق، شماره 6، پاييز 84.
[11]. القواعد والفوائد، ج 1، ص 33، قاعدة 4.
[12]. المصدر السابق، ص 218، قائدة 64.
[13]. ابوالقاسم الخوئي، أجود التقريرات، ج 2، ص 67.
[14]. المصدر نفسه.
[15]. الشيخ الانصاري، فرائد الأصول، ج 1، ص 112.
[16]. آقا ضياء العراقي، نهاية الأفكار، ج 2، ص 18؛ بهاء الدين الحجتي البروجردي، حاشية علی كفاية الأصول (تقريرات درس آية الله حسين بروجردي)، ج 2،ص 52.
[17]. الشهيد الأول، القواعد والفوائد، ج 2، ص 211، القاعدة 223.
[18]. المصدر السابق، ص 212.
[19]. المصدر نفسه.
[20]. الغزالي، الدر المستصفی، ص 58 و 358؛ الفخر الرازي، المحصول، ج 6، ص 33.
[21]. علي الضويحي، آراء المعتزلة الأصولية، ص 595؛ ابوالقاسم الخوئي، كتاب الاجتهاد والتقليد، ص 39؛ وأجود التقريرات، ج 2، ص 67.
[22]. آقا الضياء عراقي، نهاية الافكار، ج 4، ص 231؛ محمد علي الكاظمي، فوائد الأصول، ج 1، ص 349؛ جعفر السبحاني، تهذيب الأصول، ج 2، ص 103.
[23]. محمد علي الكاظمي، فوائد الأصول، ج 3، ص 96؛ أبوالقاسم الخوئي، أجود التقريرات، ج 2، ص 67.
[24]. الشهيد الأول، الدروس، ج 2، ص 67.
[25]. الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، ص 468 وقال: اتفقت الكلمة علی التخطئة في العقليات واختلفت في الشرعيات.
[26]. الشهيد الأول، القواعد والفوائد، ج 2، ص 128، القاعده 191.
[27]. محمدرضا المظفر، أصول الفقه، ج 1، ص 219: ان مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي نفسها ملاكات أحكام الشارع لا تندرج تحت ضابط نحن ندركه.
[28]. علي الغروي التبريزي، كتاب الطهارة، ج 3، ص 486؛ محمد علي الكاظمي، فوائد الأصول، ج 4، ص 284.
[29]. محمد حسين البجنوردي، القواعد الفقهية، ج 3، ص 184: والضابط في الفرق بين ما هو علة الحكم وبين ما هو حكمته هو أن العلة لا تكون لانّه مسكر، فيصح أن يقول: لا تشرب المسكر. وأما فيما إذا لا يمكن ذلك كقوله عليه السلام: يجب علی المطلقة المدخولة أن تعتد بثلاثة أقراء لعدم تداخل المياه واختلاط الانساب. فهو من قبيل حكمة الحكم، ولا اطراد فيه، كما أنه لو علمنا أنّها عقيمةولا تحبل فمع ذلك يجب عليها أن تعتد.
[30]. شهيد أول، القواعد والفوائد، ج 1، ص 35، قاعده 6.
[31]. المصدر السابق.
[32]. القواعد والفوائد، ج 1، ص 36، قاعدة 7.
[33]. المصدر السابق، ص 60، قاعدة 30.
[34]. المصدر نفسه، ص 218، ص قاعدة 64.
[35]. المصدر نفسه، ج 2، ص 138، قاعدة 200.
[36]. المصدر نفسه، ج 1، ص 33، قاعدة 4.
[37]. مقداد سيوري، نضد القواعد الفقهية، ص 7، القاعدة الثانية.
[38]. انظر القواعد والفوائد، ج 1، ص 38، 226.
[39]. المصدر السابق، ص 60، قاعدة 30 وراجع أيضاً: ج 2، ص 81، قاعدة 174.
[40]. المصدر نفسه، ج 1، ص 60، قاعدة 30.
[41]. المصدر نفسه، ج 2، ص 81، قاعدة 174.
[42]. الوحيد البهبهاني، حاشية علی مجمع الفائدة والبرهان، ص 37.
[43]. شهيد أول، القواعد والفوائد، ج 1، ص 33، قاعدة 4.
[44]. المصدر السابق، ج 1، ص 35، قاعدة 6 و ص 34، قاعدة 5.
[45]. المصدر نفسه، ص 34، قاعدة 5.
[46]. المصدر نفسه، ج 1، ص 30، قاعدة 2.
[47]. محمد رضا مظفر، أصول الفقه، ج 1، ص 85.
[48]. الشهيد الأول، القواعد والفوائد، ج 2، ص 33.
[49]. المصدر السابق، ج 1، ص 224، قاعدة 68.
[50]. المصدر نفسه، ج 1، ص 225.
[51]. المصدر نفسه، ج 1، ص 226.
[52]. المصدر نفسه.
[53]. المصدر نفسه، ج 1، ص 64، قاعدة 34.
[54]. الشهيد الصدر، دروس في علم الأصول، ج 2، ص 223.
[55]. القواعد والفوائد، ج 1، ص 39، قاعده 8.
[56]. المصدر نفسه، ج 1، ص 39، قاعدة 9.
[57]. المصدر نفسه، ج 1، ص 40، قاعدة 10.
[58]. المصدر نفسه، ج 1، ص 64، قاعدة 33.
[59]. المصدر نفسه، ج 1، ص 67، قاعدة 37.
[60]. المصدر نفسه، ج 2، ص 242، قاعدة 242.
[61]. الشيخ الطوسي، المبسوط، ج 2، ص 149؛ محقق الحلي، شرائع الاسلام، ج 3، ص 619؛ علامه الحلي، قواعد الاحكام، ج 2، ص 389.
[62]. مثل: ابن أبي جمهور، الأقطاب الفقهية، ص 114.
[63]. مثل: محقق الكركي، جامع المقاصد، ج 4، ص 312.
المنهج الإستدلالي عند الشهيد الأول من خلال كتاب «الذكرى»
الشيخ مصطفى جعفر پيشه (*)
نتعرض في هذه الدراسة المقدمة لهذا المؤتمر المبارك للمنهج الاستدلالي عند الشهيد، ولا شك في أن دراسة المناهج الاستدلالية تعطي بعدا مهما للبحث وتقدم نموذجا لطريقة التفكير الفقهي لدى الشخصية التي تتناولها الدراسة. والنظر إلى مجموع النتاج الفقهي للفقيه يختلف عن النظر الجزئي إلى مسائل متشتتة.[1]
وللتعرف على منهج الاستدلال للشهيد الأول في كتابه الشهير «ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة»، نذكر أمور عدّة:
الأمر الأول: التعريف بالكتاب:
للشيخ محمد بن مكي الجزيني، الملقب بالشهيد الأول، أثار متعددة وكثيرة لعلّها تبلغ سبعة وعشرين مؤلفاً، ومن بين هذا الميراث الضخم، فإنّ لكتاب الذكرى ميزة خاصّة.
فهذا الكتاب وإن لم يشمل جميع أبواب الفقه فقد احتوى على بعض أبواب العبادات من الطهارة والصلاة فقط، والمؤلف لم يوفق لإكمال سائر أبواب الفقه من المعاملات والسياسات، ولكن من خلال التأمل في المنهج المتبع للكتاب يبدو أن المؤلف الشهيد(ره) كان بصدد تأليف موسوعة كبيرة في الفقه الإسلامي، يُدرج فيها الأقوال والآراء المختلفة للمذاهب الإسلامية، مع ذكر الأدلة والمستندات لكل منها ثم ترجيح بعضها على البعض، واتّخاذ الرأي الصواب من بينها، ولأجل متابعة هذا المنهج فقد بلغ الكتاب الذكرى الموجود بأيدينا المشتمل على باب الطهارة والصلاة أربعة مجلدات في ثوب طبعه الجديد ولو أن المصنف وفق لإكمال هذه الموسوعة إلى آخر أبواب الفقه من القصاص والديات لكان بلغ عدده إلى عشرة مجلدات.
فلو قايسنا كتاب الذكرى مع كتابه الآخر وهو الدروس الشرعية الذي لم يكتمل أيضاً فقد وصل إلى أبواب الرهن فقط وما إن انتهى الى آخر الفقه ولكن باب الطهارة والصلاة من كتاب الدروس بحسب الكم قد يبلغ إلى ثلث مجلد واحد من المجلدات الثلاثة مع أن هذا المقدار من المباحث، ففي كتاب الذكرى تصل إلى أربعة مجلدات.
والمهم أنه قد انتهى الشهيد من كتابه الذكرى في شهر صفر من سنة مائة وأربع وثمانون من الهجرة، قبل استشهاده بسنتين تقريباً، وفي ذلك الزمان ما كان يتجاوز عمره من حوالي خمسين سنة، فالشهيد في هذا السن الذي يعدّ من سنين الشباب لكل محقق وباحث لكن الشيخ محمد بن مكي، قد وصل في الخمسين من عمره إلى رتبة عالية من العلم والتحقيق يكون بقدرته أن يأتي بآثار كثيرة مفخرة للطائفة بل للمسلمين كافة ولا تزال تكون حيّة يستفاد منها في المكتبات والحوزات العلمية والجامعات.
الأمر الثاني: تأليف الكتاب ووجه تسميته:
يقول الشهيد في التعريف عن كتاب الذكرى:
فهذا كتاب «ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة» أوردت فيها ما صدر عن سيد المرسلين بواسطة خلفائه المعصومين مما دل عليه الكتاب المبين وإجماع المطهّرين والحديث المشهور والدليل المأثور تجديداً لمعاهد العلوم وتأكيداً لمعاقد الرسوم وتأييداً للمسائل الفقهية وتخليداً للوسائل الشرعية تقرباً إلى بارىء البرية.
ولكن هناك سؤالان: ماهو المقصود الأساسي لتأليف الكتاب؟ وما هو الوجه في تسميته بالذكرى؟
أما بالنسبة إلى السؤال الأول فمن التأمل بالكتاب من أوله إلى آخره يظهر أن «ذكرى الشيعة» بمنهجه وخصائصه لا يوجد له مثيل وبديل في تراثنا الفقهي، فإن الذكرى وإن عد ضمن الكتب المؤلفة في الفقه المقارن ومع أن كثيرا من علماء الإمامية، من القدماء إلى المتأخرين كالسيد علم الهدى والشيخ الطوسي والمحقق والعلامة الحلي قدّس الله أسرارهم، قد ألّفوا في الفقه المقارن تصانيف ذات قيمة كبيرة ولكن للذكرى ميزة خاصّة في هذا المجال تختلف مع سائر الكتب المؤلفة في الفقه المقارن فالذكرى إلى حدّ ما تشابه تذكرة الفقهاء للعلامة من جهة استقصاء الآراء وذكر الأقوال ولكن مع ذلك فإنه من حيث استقصاء الأدلة وذكر أخبار الفريقين للذكرى ميزة خاصة، فمن خلال دراسة هذا المنهج ففي مقام الإجابة عن السؤال الأول يمكن أن يقال:
إن غرض الشهيد الأول من تأليف موسوعة الذكرى أن يضع مرآة كاملة من الأراء ومستنداتها وأدلتها، في كل مسألة حتى يسهّل الأمر لمقايسة الآراء بعضها ببعض ولاتخاذ الرأي، فكل محقق منصف خبير بإمكانه مع مشاهدة الأقوال ودراسة دليل كل منها أن يرى رأي الصواب من خلال الأقوال المختلفة المتهافتة.
ومن هنا يمكن أن نجد الجواب للسؤال الثاني وهو أنه ما هو الوجه في تسمية الكتاب بالذكرى، فإنه اقتباس من الآيتين من الذكر الحكيم:
الأولى: قوله تعالى: }إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ{، ق/ 37.
والثانية: قوله تعالى: } وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ{.
فبالنظر إلى مضمون كتاب ذكرى الشيعة والتأمل في منهجه الاستدلال من خلال الآراء المطروحة في كل مسألة ودراسة أدلتها يتمكن من له قلب والقي السمع ويريد الفهم أن يستفيد منه ويتذكر وينتفع به للوصول إلى مبتغاه.
الأمر الثالث: إشارة إلى بعض مبانيه الأصولية المهمّة:
من مباني الأصول المهمة في الذكرى التي اتخذها كمنهج لاستدلالاته في جميع الكتاب، نذكر في هذا المجال والفرصة القليلة المتاحة، مبنيان:
المبنى الأول:
الاعتماد على الروايات الموجودة في جوامعنا الروائية الروايات المشهورة، فإن الشهيد وإن اعترف بأن جلّ أصحابنا القدماء ينكرون حجّية خبر الواحد ولكن مع ذلك يبني على العمل بالأخبار الموجودة بأيدينا ولتوضيح هذا الأساس يصرح: كأنهم يرون أن ما بأيديهم متواتر أو مجمع على مضمونه وإن كان في حيّز الآحاد.
فلأجل اعتقاد الأصحاب بتواتر هذه الأخبار أو لاجماعهم على العمل بمضمونها، لا إشمال في اعتبار الروايات الموجودة في إيدينا.
ومشياً على هذا المنهج ينصّ الشهيد بأنه قد كفانا السلف رحمهم الله مؤونة نقد الأحاديث.
فالشهيد الأول خلافاً لمنهج المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك وصاحب المعالم وخلافاً لمنهج الإخباريين قد يتخذ مسلكاً وسطاً يتجنب عن الإفراط والتفريط.
فيرى كثيراً من الأخبار الموجودة في الجوامع الروائية بعين الاعتبار ولا يرى لزوم التدقيق في السند ولكن مع ذلك يشترط في هذا الاعتبار الاجماع على مضمونه لا كل رواية موجودة في الجوامع الروائية.
ومع ذلك كله فهو لا ينسى البحث عن السند والرجال الورادة في طريق بعض الأخبار أحيانا كما أنه يتكلم عن حسن بن محبوب وعلي بن يقطين وصفوان بن يحي وغيرهم.
المبنى الثاني: الاعتقاد بالشهرة العملية والفتوائية.
فإن الشهيد يعتقد بالشهرة ويلتزم بها، ويعلّل الوجه في ذلك بقوله: لقوة الظن بها.
ولعل مراده من الظن هنا هو الظن المتاخم للعلم وهو الاطمئنان.
الأمر الرابع: حجية المذهب الفقهي لأهل البيت ووجوب التمسّك به:
الشهيد- مع غضّ الطرف عن المباحث الطويلة الكلامية حول مسألة الإمامة وشرائطها- ففي مجال الفقه، لأجل تأسيس بناء أصيل لمنهجه الاستدلالي المتّبع في الذكرى ففي المقدمة، في الإشارة السابعة يذكر تسعة أدلة لإثبات وجوب التمسك بمذهب أهل البيتR، حيث يقول: يجب التمسك بمذهب الإمامية لوجوه تسعة وفي عداد هذه الأدلة التسعة نشير إلى بعضها.
في الوجه الثالث يتكلم عن الروايات المنقولة عن الفريقين في تفسير آية التطهير فينقل ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قال: خرج النبي ذات غداة عليه كِساء مرحّل من شعر فجاء الحسن بن علي فأدخله فيه[2].
ثم جاء الحسين فأدخله فيه ثم جاءت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
ثم الشهيد بعد ذكر عدة من الروايات المروية في الجوامع الروائية لأهل السنة، كالمناقب لأحمد بن حنبل يقول روى الترمذي في الجامع عن عمر بن أبي سلمة، ربيب رسول اللهP قال: نزلت هذه الآية على رسول الله، }إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا{ في بيت أم سلمة فدعى النبي فيه فاطمة وحسنا وحسيناً فجللهم بكساء، وعلى خلف ظهره ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله قال أنت على مكانك وأنت الى خير.
ثم قال الشهيد في الوجه السادس: أن النبي قرنهم بالكتاب العزيز الذي يجب اتباعه.
فروى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه فإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فتمسكوا بكتاب الله عزّ وجلّ، وخذوا به. فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال: وأهل بيتي اذّكر الله تعالى في أهل بيتي ثلاث مرات.
ثم في ذكر الوجه التاسع لوجوب التمسّك بمذهب الامامية يقول:
التاسع: اتفاق الأمة على طهارتهم
ولتوضيح ذلك يذكر مقدمتين
الأولى: اتفقت الأمة على طهارة أهل البيتR وشرف أصولهم وظهور عدالتهم
الثانية: اشتهر النقل والنقلة عنهم يزيدأضعافاً كثيرة عن النقلة من كل واحد من رؤساء المذاهب.
فالانصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم اليهم R فحينئذٍ نقول:
فالجمع بين عدالتهم وثبوت هذا النقل عنهم مع بطلانه مما يأباه العقل ويبطله الاعتبار بالضرورة وهذا مع ما شاع عنهم من انكار ما عليه سائر المذاهب من القياس والاستحسان ونسبة ذلك الى الضلال والقول في الدين بغير الحق.
الأمر الخامس: تسلط الشهيد على الجوامع الروائية للفريقين
فالشهيد اضافة الى تسلطه على الروايات المروية في كتب الامامية فان له تسلط ممتاز على الروايات الموجودة في الصحاح والسنن المشهورة لأهل السنة كصحيح البخاري ومسلم والترمذي وسنن أبي داوود ومستدرك الصحيحين وسنن كبرى ومسند أحمد وسنن دار القطني وسنن ابن ماجة وسنن الدارمي وسنن النسائي وغيرها ينقل عن جميع هذه الكتب في أبواب مختلفة، كلها تدلّ على سعة علمه وقوة تحقيقه.
فعلى سبيل المثال:
حينما يذكر مسألة النياحة على الميت يقول:
لا يعذّب الميّت بالبكاء عليه سواء كان مباحاً أو محرماً لقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى.
أمّا في البخاري ومسلم في خبر عبدالله بن عمر: ان النبي P قال: إنّ الميت ليُعذّب ببكاء أهله عليه، مؤوّل.
ثم يأتي الشهيد بأجوبة لهذه الرواية منها:
قد روي عن عائشة رحم ابن عمر: والله ما كذب ولكنه أخطأ أو نسي، إنّما مرّ رسول اللهP على يهودية وهم يبكون عليها فقالP: إنّهم يبكون وإنّها لتعذّب في قبرها ثم قال فهذا نسبه الراوي الى الخطأ وهو علة من العلل المخرجة للحديث عن شرط الصحّة.
و في جوابه الآخر يقول: ولك أن تقول ان الباء بمعنى مع أي يعذّب مع بكاء أهله عليه يعني أن الميت يعذّب بأعماله وهم يبكون عليه فما ينفعه بكاؤهم ويكون زجراً عن البكاء لعدم نفعه.
الأمر السادس: محاربة البدع ومواجهة الانحراف
ان الشهيد الاول كان من ابناء زمانه ومن العلماء العارفين بزمانهم وفي سبيل العمل على ما كلّف الله العلماء به من عدم السكوت في مقابل البدع والأقوال الضّالّة والمضلّة.
حينما يرى بعض البدع فيستفيد من علمه لإخمادها. فعلى سبيل المثال: ينقل حديث شد الرحال: حيث أن أبي هريرة ينقل عن النبي P لا تشدّ الرحال إلّا الى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى. ثم في تفسير هذا الخبر يقول:
أجمع العلماء: إلّا من شذّ على أن المراد بهذا النفي بالنسبة الى المسجد أي لا يصلح ذلك الى مسجد غير هذه الثلاث لتقارب المساجد سواها في الفضل وهذا النهي يراد به نهي التنزيه لانعقاد الاجماع على عدم تحريم السفر الى غير هذه المساجد المذكورة لتجارة أو قربة من القرب. وأمّا ما يُقال من أن المراد منها تحريم زيارة الأنبياء والصالحين متمسّكاً بهذا الخبر على مطلوبه فهو تحكّم محض لأسباب:
أولاً: إباحة الشدّ للأسفار المطلقة يستلزم أولوية إباحته لما هو عبادة، إذ أن العبادة أرجح من نظر الشرع من السفر المباح ويلزمه عدم السدّ لزيارة أحياء العلماء وطلب العلم وصلة الرحم وقد جاء: من زار عالماً فكمن زار بيت المقدس،واطلبوا العلم ولو بالصين، وسر سنتين برّ والديك.
ثانياً: ان جميع المسلمين مجمعون على زيارة النبيP منذ نقله الى دار عفوه ومحل كرامته الى هذا الزمان، ففي كل سنة يعملون المطي ويشدّون الرّحال ولا ينصرفون إلّا بعد السلام عليه.
وانعقاد الإجماع في هذه الأعصار قبل ظهور صاحب هذه المقالة الشنيعة وبعده حجّة قاطعة على هذا المقام وأي حجّة أقوى من إجماع جميع أهل الاسلام على زيارة النبيP بأعمال المطي وشدّ الرحال في كل عام.
وأمّا الاخبار الواردة في زيارتهP فهي كثيرة جدّاً قد ضمّنها العلماء في كثير من كتبهم المأثورة وسننهم المشهورة، مثل ما رواه أبو داوود في سننه عن أبي هريرة أنّ النبيP قال: ما من رجل يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام.
ولم يزل الصحابة والتابعون كلّما دخلوا المسجد يسلّمون على النبي ولا حاجة الى الاستدلال بالأخبار في هذا المقام المجمع عليه فإنّه عدول عن يقين الى شك ومن علم الى ظنّ.
الأمر السابع: إشارة الى منهج الشهيد في الفقه السياسي من خلال الذكرى:
يعني الشهيد عناية خاصّة بالفقه السياسي والتكاليف الموجّهة الى المجتمع فضلاً عن الفرد، وعلى سبيل ذلك يذكر كثيراً -حتى في أبواب الطهارة والصلاة الموجودة في الذكرى- من الاحكام المرتبطة بالمجتهد وبإمام المسلمين والسلطان العادل في الصلاة على الميت وأحكام تجهيز الشهيد وصلاة الجمعة.
ففي صلاة الجمعة يقول: من شرائط صلاة الجمعة السلطان العادل وهو الامام أو نائبه إجماعاً منّا، ثم أنه بالنسبة الى حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة يقول: أمّا مع غيبته –كهذا الزمان- ففي انعقادها قولان: أحدهما وبه قال معظم الأصحاب الجواز اذا أمكن الاجتماع والخطبتان لأن الاذن حاصل من الأئمة الماضين فهو كالإذن من إمام الوقت ولأنّ الفقهاء حال الغيبة يباشرون ما هو أعظم من ذلك بالإذن كالحكم والإفتاء فهذا أولى. وبذلك يُصرّح الشهيد بولاية الفقيه على الحكم والإفتاء.
الفقه التقريبي والمقارن في شرح اللمعة الدمشقية
الشيخ عبد الكريم بي آزار شيرازي (*)
مقدمة
دليل انتخابنا كتاب اللمعة الدمشقية لمتن الفقه التقريبي والمقارن، ان مؤلفه الشهيد لم يكتف بالثقافة التي تلقاها في بلده جزين وسائر الحوزات الشيعية في الحلة وكربلاء، بل نفر إلى اهم مراكز الثقافة والحوزات السنية بمكة والمدينة وبغداد ومصر وبيت المقدس ودمشق ومقام ابراهيم الخليل و....[1]
وبعد هذه المرحلة الطويلة والتنقل في مدارس العلم عند الشيعة واهل السنة استطاع ان يتحول إلى رمز كبير في العالم الإسلامي، فهو بطل الوحدة الاسلامية ومؤسس الحوار بين المذاهب والرافض لفكرة رفض الآخر لمجرد الاختلاف[2].
وهذا التلاقح أفاده كثيرًا في توسيع فكره وتمكينه من التجديد والتطوير والتعمق، خصوصًا في كتاب اللمعة الدمشقية، ولذا صار هذا الكتاب كتابًا تدريسيًا منذ تأليفه إلى الآن.
وهذا الكتاب ليس لمعة ومصباحا للحوزات العلمية الشيعية فحسب، بل لعالم الاسلام، ومنبع من منابع بعض كتب أهل السنة، كموسوعة الفقه الإسلامي للدكتور رواس قلعه جي[3].
فقد طبع كتاب اللمعة الدمشقية مع مقدمة احد علماء الأزهر الشيخ عبد الله السبيتي ومقدمة دار التقريب في مصر، لعلماء وطلاب الأزهر وجاء في مقدمة دار التقريب: «إنه فقه الإسلام وحسب».
أما خصائص شرحنا لهذا الكتاب:
نقل روايات اهل البيت من طرق أهل السنة التي استند إليها فقهاء أهل السنة وتخريج الروايات النبوية الصحيحة المذكورة في صحاح أهل السنة التي استند إليها الشهيد الأول (ره).
الشهيد الأول مؤلف اللمعة الدمشقية
الشهيد شمس الدين محمد بن مكي العاملي(م 786)، الذي يعتبر من أكثر الفقهاء الذين درسوا عند اهل السنة. نقح قواعد وأصول اساسية للفقه الشيعي في كتابه القواعد والفوائد وكتب اخرى، واستخدمها بصورة علمية في متون الفقه الشيعي بحيث غيّر محتواها ومنحها صورة وهوية مستقلة.
وكانت آثاره الفقهية كـ: الالفية، القواعد، البيان، الدروس الشرعية، غاية المراد، ذكرى الشيعة واللمعة الدمشقية، تدل على خصوصية الفقيه في تلك المرحلة.
ولد سنة 734 هـ وتلمذ على والده العلامة اوائل بلوغه، واجازه فخر المحققين، سنة 751 في الحلة، وهو لم يكتف بالثقافة التي تلقاها في بلده جزين وسائر الحوزات العلمية الشيعية في الحلة وكربلاء، بل نفر إلى أهم مراكز الثقافة وةالحوزات السنية.[4]
كذلك نقل المجلسي { صورة هذه الإجازات، كإجازة شمس الأئمة الكرماني القرشي الشافعي له: [5]
«بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعد. فقد استجاز المولى الأعظم إمام الإئمة صاحب الفضلين، مجمع المناقب والكمالات الفاخرة، جامع علوم الدنيا والآخرة، شمس الملة والدين محمد بن الشيخ العالم جمال الدين بن مكي، الدمشقي..»..
وأُتيح للشهيد الأول عن طريق هذه الأسفار أن يندمج في أطر ثقافية مختلفة، ويعرض وجوهًا مختلفة من الفكر ويتفاعل مع الاتجاهات الفكرية المتضاربة، ويدل على صلته بالاتجاهات الفكرية السنية وعلى معرفته التامة بآرائها وأفكارها، إجازته لابن الخازن:
«واما مصنفات أهل السنة، ومروياتهم فإني أروي على نحو أربعين شيخًا من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام ابراهيم الخليل، فرويت صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بسندهم الى بخارى، وكذا صحيح مسلم ومسند ابن داوود، وجامع الترمذي ومسند أحمد، ومسند الدار قطنى ومسند ابن ماجة والمستدرك على الصحيحين إلى غير ذلك».
نقل روايات أهل البيت التي استند إليها فقهاء اهل السنة.
ومن خصوصيات شرحنا لكتاب اللمعة الدمشقية نقل روايات أهل البيتR التي استند بها فقهاء أهل السنة في كتبهم الفقهية.
كذلك فإن شيخ الشريعة الأصفهاني(ره)(1266 – 1339هـ) من كبار مراجع الشيعة الإمامية، اجتمع خلال سفره إلى الحج، بجماعات من أكابر علماء السنة والجماعة، وجرت بينهم مناظرات وعجبوا من إحاطته ومعرفته العميقة بفقه المذاهب الأربعة. وكان يقول:» إني اثبت لهم من كتبهم وطرقهم علم الامام جعفر بن محمد الصادقQ، وفضله وعمقه، ورجوع أئمة المذاهب اليه وقبولهم صحة روايته عن جده المصطفى محمد P ولكن قالوا: لا نعرف حديثه ولم تروِه رجال حديثنا. فقلت لهم: انا اكتب لكم كتابًا في الفقه يشتمل على أحاديث الإمام جعفر الصادقQ المروية في كتبكم من طرقكم الصحيحة أذكر فيه الأحاديث نقيا بسندها ومتنها المقبول عندكم. فقالوا حبّذا هذا الذي تذكر، وأظهروا غاية المحبة لهذا المؤلَف وشدة الطلب له». [6]
ولتحقق هذا الفكر التقريبي من مرجع كبير نقلنا كثيرًا من رويات أهل البيتR التي استند إليها فقهاء أهل السنة، وكان اكثرها مشتركًا مع روايات الشيعة. كما فعل المولى محسن الفيض الكاشاني في تفسير الصافي، وقال في مقدمته: «فان ظفرنا بحديث معتبر عن أئمة أهل البيتR في الكتب المعتبرة من طرق أصحابنا(رض) أوردناه وإلا اوردنا ما روينا عنهمR من طرق أهل السنة نظيره في الأحكام ما روي عن الصادق Q: «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها في ما يروى عنا فانظروا الى ما رووه عن عليQ فاعملوا به». رواه الشيخ الطوسي في العدة[7].
استناد الشهيد إلى روايات أهل السنة
ومن خصوصيات شرحنا لكتاب اللمعة الدمشقية تخريج الروايات النبوية الصحيحة المذكورة في صحاح أهل السنة التي استند بها الشهيد(ره).
جمع ابن ابي جمهور 198 رواية رواها الشهيد الأول محمد بن مكي في بعض مصنفاته تتعلق بأحوال الفقه رواها عنه بطرقه اليه، في آخر المجلد الأول من كتابه عوالي اللآلي، مئة حديث منها رواها الشهيد الأول من صحاح السنة. [8] منها الحديث النبوي: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». ومنها حديث:» ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن».[9]
الشهيد الأول وفقه المقاصد
من خصوصيات فقه الشهيد الأول (ره) اعتقاده بفقه المقاصد والضروريات الخمس. قال في الوسيلة الرابعة والوسيلة الخامسة من كتابه القواعد والفوائد في الفقه والأصول
الوسيلةالرابعة: ما هو الأصل في حفظ المقاصد الخمسة، وهي: النفس، والدين، والعقل، والنسب، والمال، التي لم يأت تشريع إلا بحفظها، وهي (الضرورات الخمس).
فحفظ الدين بالجهاد وقتل المرتد.
وحفظ العقل بتحريم المسكرات والحد عليها.
وحفظ النسب بتحريم الزنا واتيان الذكران والبهائم وتحريم القذف والحد على ذلك.
وحفظ المال بتحريم الغصب، والسرقة، والخيانة، وقطع الطريق والحد والتعزير عليها.
الوسيلة الخامسة: ما كان مقويًا لجلب المصلحة ودفع المفسدة وهو القضاء والدعاوى، والبينات، وذلك لأن الاجتماع من ضروريات المكلفين، وهو مظنة النزاع، فلا بد من حاسم لذلك وهوالشريعة ولا بد من سائس وهو الإمام ونوابه، والسياسة بالقضاء وما يتعلق به. [10]
كذلك فإنه يعتقد بان الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد:
وينقسم في قاعدة متعلقات الأحكام إلى قسمين:
احدهما: ما هو مقصود بالذات، وهو المتضمن للمصالح والمفاسد في نفسه.
والثاني: ما هو وسيلة وطريق إلى المصلحة والمفسدة.[11]
وحكم الوسائل في الاحكام الخمسة حكم المقاصد، وتتفاوت في الفضائل بحسب المقاصد، فكلما كان أفضل كانت الوسيلة إليه أفضل.
وقد مدح الله تعالى على الوسائل كما مدح على المقاصد بالذات: «ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح»[12].
فمدح على الظمأ والمخمصة، كما مدح على النيل من العدو، وإن لم يكن الظمأ والمخمصة بقصد المكلف، لأنه إنما حصل بسبب وسيلته إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله تعالى، واللتان هما وسيلتان إلى رضوان الرب تبارك وتعالى[13].
من احد مميزات كتاب الفقه التقريبي والمقارن في شرح اللمعة الدمشقية، إحياء فقه المقاصد من خلال الفصول، كما جاء في كتاب اللمعة الدمشقية وشرحه: «ان من سنن الطواف الوقوف عند الحجر والدعاء مستقبلا واستلام الحجر وتقبيله مع الإمكان وعدم الزحام والاشارة اليه ان تعذر للازدحام»[14].
وهذا ما قرره المجمع الفقهي الاسلامي، لرابطة العالم الاسلامي لحل ازمة الزحام في الحج على ضوء مقاصد الشريعة، على الرغم من ان الإمام الشافعي قال في كتاب الام:» الا في اول الطواف وآخره، فأحب له الاستلام ولو مع الزحام». وروى عن الامام مالك مثله[15].
الشهيد الأول والقواعد الفقهية
ومن مميزات كتاب اللمعة وشرحه الفقه التقريبي والمقارن، الاهتمام بالقواعد الفقهية وتبيينها بعنوان المثال:
قاعدة(1)
استحباب الخروج من الخلاف والتقوى من الاختلاف:
وقع الاختلاف في بعض الاحكام بسبب ما طرأ على تفسير القرآن ورواية الحديث من ضياع بعض النصوص او غموضها أو كذبها أو.... فقبل الاسلام هذا الاختلاف واعتبر رأي كل مجتهد، لكنه حرصًا على اصابة الحكم المطلوب واقعًا، فقد حث كلا من المجتهد والمقلد على العمل بما اصطلح عليه بـ«الاحتياط» عند اختلاف الراي. وهو الأخذ بالرأي الجامع بين الآراء المختلفة كالتزام جانب الترك عند افتاء أحد من المجتهدين بالاباحة والآخر بالحرمة، وهذا هو الذي يسمى عند المذاهب الإسلامية برعاية الخلاف، وأن الخروج من الخلاف مستحب[16].
كما أن في المذهب المالكي الجهر بالبسملة مكروه، ولكن يستحب لحفظ الوحدة. وقال الشيخ عليش من المالكية انه لا تكره البسملة في الفرض إذا قصد بها الخروج من خلاف من أوجبها (منهج الجليل، ج1، ص160) وفي الإمامية:
قال الشهيد الأول في مبحث الاناء: «فان ولغ فيه كلب قدم عليها مسحة بالتراب ويستحب السبع فيه. قال الشهيد الثاني: اي ويستحب السبع بالماء في الولوغ، خروجًا من خلاف من أوجبها[17]، أي لان تخرج عن عنوان المخالفة التامة مع من اوجب السبع كابن الجنيد[18].
اللمعة الدمشقية كتاب مدرسي
احتلت «اللمعة» القمة بين النصوص الفقهية، إذ جمعت الوجازة والاختصار الى روعة التعبير، وتنسيق الأبواب بشكل منظم وتعميق النظر والفكر، وقد كان مؤلفه الشهيد اديبًا وشاعرًا كما نشاهد نموذجًا من نثره الموزون في مطلع الكتاب جامعًا علوم الشيعة والسنة ولم تكن معلوماته مقصورة على الفقه والاصول.
وقد حاول الشهيد في هذا الكتاب ان لا يجمد على العبارات الفقهية المتداولة في وقته، وان يحدث بعض التغيير في صياغة العبارات ويجيد في صياغتها.
ونلفت نظر الباحثين الى دقة الشهيد الفائقة في تحديد المصطلحات الفقية وهذه المحسّنات كانت وراء سر خلود كتاب اللمعة في الحوزات العلمية والجامعات وكتابة شروح كثيرة عليها، منها الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني.
اللمعة الدمشقية فقه لعالم الإسلام
وهذا الكتاب ليس لمعة ومصباحًا للحوزات العلمية الشيعية فحسب، بل لمعة ومصباحًا لعالم الإسلام[19]. فقد طبع هذ الكتاب مع مقدمة العلامة الشيخ عبد الله السبيتي ومقدمة دار التقريب في مصر لعلماء وطلاب الأزهر، وجاء في مقدمة دار التقريب: «انه فقه الاسلام وحسب، إلا ان العادة جرت ان يوزع الفقه على المذاهب، كانما هو ملك لمذهب خاصة، بينما هو في واقعه ملك للمسلمين جميعًا، وما كان يصح ان يبتلى الفقه بالتعصب، وأن يختص لفريق دون فريق، لأنه نتاج حكم الله الكريم والسنة النبوية الشريفة، والكتاب لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ولا تختص به طائفة دون طائفة، والنبي الكريم بيّن بسنته للناس دينهم، وأوضح بها مجمل أحكام القرآن: }وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ{. والمسلمون لا يشكّون في كتابهم، ولا يترددون في الأخذ بما ثبت من سنة نبيهم، ولا فرق في ذلك بين سنيهم وشيعيهم، وهم ان اختلفوا فإنما يختلفون نتيجة لطبيعة الاجتهاد والاستنباط والادلة والقرائن والظروف. فالخلاف الفقهي في اصله غير صادر عن الهوى والتعصب، إنما عن اصول الشريعة وأدلتها التي يجب على المسلمين أن يتكلوا عليها في معرفة دينهم والتعبد بما شرعه الله لهم.
فإن القارئ يرى في هذا الكتاب من الوفاقيات مع بقية المذاهب كثرة غالبة، ومن الخلافيات قلة محدودة. والوفاق في الوفاقيات يثبت ان الأصول تتحكم ولا يهملها أحد. كذلك فإن الخلاف يدل على ان مجال النظر في ما يصح فيه الاجتهاد يحترم ويقدر[20].
وهذه المحسنات دليل انتخابنا هذا الكتاب للفقه التقريبي والمقارن.
التبويب العصري في شرح المعة الدمشقية
عقدت شعبة الحقوق مؤتمرًا في جامعة باريس سنة 1915م، تحت شعار «اسبوع الفقه الإسلامي، وأصدر المؤتمر التوصية الآتية لفقهاء الإسلام في العصر الحالي:
إخراج موسوعة للفقه الإسلامي تعرض فيها المبادئ والنظريات مبوبة تبويبًا عصريًا[21].
من وجهة نظر فقهاء أهل السنة، تقوم امور الدين على الاعتقادات والآداب والعبادات والمعاملات والعقوبات وذلك هو الفقه الأكبر.
والعبادات خمس: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد.
والمعاملات خمس: القصاص، وحد السرقة والزنا والقذف والردة[22]. أما من وجهة نظر فقهاء الإمامية:ان اقدم تجربة لتبويب فقه الشيعة كان في كتاب المراسم لسلار بن عبد العزيز الديلمي(م448) والمهذب قاضي عبد العزيز بن براج(م 481) والكافي ابو الصلاح الحلبي(القرن الخامس الهجري). قسّم ابو الصلاح الفقه على ثلاثة أقسام: العبادات، المحرمات، والأحكام، وعدّ ابواب النذر والعهد والوصايا من ابواب العبادات[23].
ورتب ابن براج في المذهب الأحكام الشرعية إلى قسمين: الأحكام العامة والاحكام الخاصة والأول كالعبادات[24].
وصنف سلار الفقه على قسمين: العبادات والمعاملات. وهذه على قسمين: العقود والأحكام، وهي ايضًا على قسمين: أحكام الجزاء، وسائر الأحكام[25].
ثم رتب المحقق الحلي{ كتبه «شرائع الاسلام» و «المختصر النافع» على اربعة أقسام:
العبادات 2- العقود 3- الايقاعات 4- الأحكام[26].
وقد اقترح الفاضل المقداد(م 826هـ) لترتيب وتنظيم ابواب الفقه اقتراحين كلاهما اقتباس من كتاب القواعد للشهيد الأول[27]، احدهما اقتراح تقسيم الفقه على خمسة محاور، والتي كانت وظيفة الفقه حراستها:
الدين 2. النفس 3. المال 4. النسب 5. العقل
وقسم الفيض الكاشاني كتابه الوافي[28]، ومعتصم الشيعة ومفاتيح الشرائع[29] إلى قسمين:
الأول: في العبادات والسياسات.
الثاني: في العبادات والمعاملات[30].
وأخيرًا قسّم الشهيد العلامة السيد محمد باقر الصدر الأحكام إلى اربعة أقسام:
العبادات 2. الأموال، ويشتمل على: الأموال العامة والأموال الخاصة. 3. السلوك الخاص 4. السلوك العام[31].
ولكن التقسيم في كتاب الشرائع المشار إليه هو المتعارف عليه في مؤلفات الإمامية منذ عصر المؤلف إلى الآن، وهذا التقسيم يخلو من المنهجية الموضوعية، إذ:
إن بعض العناوين كالعقود والايقاعات ليس محورًا يرتبط بمجموعة من الأحكام بعضها مع بعض بل فارق بعض الأحكام المرتبطة كمفارقة مبحث الطلاق من النكاح، والجعالة من الاجارة بدليل أن عقد النكاح والاجارة من الطرفين والطلاق والجعالة من طرف واحد(إيقاع). وهكذا انفصل بحث السبق والرماية من مبحث الجهاد؛ لأن الجهاد لا يشتمل على عقد والسبق والرماية يشتملان[32].
جمع كتب القضاء، والأطعمة والأشربة والإرث في مجموعة بدون أي ارتباط؛ بصرف النظر أنها ليست من العبادات والعقود والايقاعات[33].
إن عددًا من الأحكام دُسّ في أبواب أجنبية عنه لأدنى مناسبة لأنها لم تكن تحت هذه العناوين الأربعة كاحكام الاموات في مبحث الغسل.
لا يشتمل هذا التقسيم كثيرًا من الأحكام المستحدثة كأحكام التلقيح والتوليد الصناعيين وتغيير الجنس والتشريح والترقيع، ومسألة تحديد النسل وسائر الاحكام الصحية و...
منهجنا في تبويب اللمعة:
من اهم اهدافنا في تبويب اللمعة تطوير منهجية الاحكام بشكل علمي متناسب ومتناسق في محاور اولية اقترحها الشهيد الأول في كتابه، القواعد (المحاور الخمس)، ومحاور ثانوية تشمل الحاجات العصرية.
القسم الأول: الدين والعبادة (المسائل العبادية)
الطهور والطهارة(مفتاح قربة الله ومناجاته) – 2. الصلاة (تسبيح ومعراج) – 3. الصوم (معالجة بطن الآدمي من أكل الشجرة لضيافة الله)- 4. الحج (رمز التوبة والرجوع إلى الله وجنته) – 5. الزكاة (والتزكية).
القسم الثاني: النفس والصحة (المسائل الصحية)
الطهارة والاصحاح – 2. الاحكام الصحية في الصلاة – 3. الصوم والصحة – 4. الأحكام الصحية في الصيد والذبائح – 5. الطب الوقائي في الأطعمة والأشربة – 6. إرضاع اللباء ومدة الرضاع – 7. تغيير الجنس – 8. التشريح والترقيع – 9. الطب النفساني في الفقه الإسلامي – 10. آداب المريض والمحتضر والأحكام الصحية والنفسية للأموات.
القسم الثالث: المال والعدالة (المسائل الاقتصادية)
العدالة الاقتصادية في توزيع ما قبل الانتاج – 2. العمل المصدر الثاني للانتاج – 3. الاقتصادي التصنيعي – 4. الاقتصادي الزراعي – 5. الاقتصادي التجاري – 6. العقود الاقتصادية والبنك اللاربوي – 7. الاقتصادي العبادي والسياسي – 8. التأمين والضمان الاجتماعي – 9. التكافل الاجتماعي- 10. الاعتدال في الاستهلاك.
القسم الرابع: النسب والعائلة (المسائل العائلية)
النكاح وتكوين الأسرة – 2. القضاء العائلي – 3. الطلاق – 4. الخلع والمباراة – 5. الحقوق الاقتصادية في الأسرة – 6. الحقوق التربوية للأطفال.
القسم الخامس: العقل والسياسة(المسائل السياسية والحقوقية)
مقدمة: لزوم الحكومة الاسلامية
حكومة أحكام الله مع ولاية الفقيه- 2. حكومة الأمة الإسلامية مع رقابة الأمة(الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) – 3. حكومة الأمة الإسلامية مع الرباط وحفظ الثغور – 4. حكومة الامة الاسلامية مع الدفاع العام – 5. حكومة العدل الالهي مع قانون القضاء – 6. حكومة العدل مع قانون العقوبات.
[1](*) رئيس جامعة المذاهب الاسلامية في طهران – إيران.
بحار الانوار للمجلسي، ج 25 ص 39
[2] رؤى التقريب عند الشيخ محمد بن مكي الجزيني (الشهيد الأول) الشيخ حسن بغدادي رسالة التقريب سنة 1424، العدد 40، ص 174 - 175
[3] راجع كتابه: موسوعة فقه علي بن ابي طالب، دمشق، دار الفكر، سنة 1407، ص 25 و 42
[4] رسالة الاسلام، المجموعة الثانية، محرم – رجب 1382هـ، العددان 51 و52، ص 346 - 344
[5] الفقه على المذاهب الخمسة، لمحمد جواد مغنية، ص 478 - 479
[6] شيخ الشريعة: بقلم عبد الحسين الحلي، بيروت، دار القارئ 1426، ص 31.
[7] تفسير الصافي ج 1 ص 64، مقدمة 13
[8] عوالي اللآلي لابن ابي الجمهور، قم، مطبعة سيد الشهداء 1403 هـ ص، 380 - 457
[9] مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 379
[10] القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، محمد بن مكي العاملي(الشهيد الأول) ت 786 هـ، تحقيق د. السيد عبد الهادي الحكيم، قم، ايران، منشورات مكتبة المفيد.
[11] في (كـ): الحكم
[12] التوبة: 120
[13] انظر في هذه القاعدة: القرافي/ الفروق: 2/33، وابن عبد السلام / قواعد الأحكام: 1/ 124 - 125
[14] الروضة في شرح اللمعة للشهيد، ج2، ص 255 والمسائل العبادية ص 268
[15] مشكلةا لزحام في الحجر، المجمع الفقهي رابطة العالم الاسلامي 1423 هـ ج1 ص 203
[16] الاشباه والنظائر للسيوطي، ط حلبي، ص 136، والموسوعة الفقهية الكويتية، كلمة خلاف
[17] شرح اللمعة الدمشقية، ج1، ص 63
[18] والشافعي ومالك واحمد بن حنبل
[19] ومنبع من منابع بعض كتب أهل السنة، كالدكتور رواس قلعه جي الباحث في موسوعة الفقه الإسلامي. راجع كتابه «موسوعة فقه علي بن ابي طالب» ط، دمشق، دار الفكر، 1407، ص25 و43
[20] رسالة الاسلام، السنة العاشرة، العدد الرابع، ربيع الأول1378هـ، مقالة»تقديم لكتاب شرح اللمعة الدمشقية»، ص 341 - 351
[21] مقدمة كتاب شرحالنبل، علي منصور، ج1، ص 32
[22] رد المحتار، ج1 ص 73 والفقه الاسلامي وادلته، الدطتور وهبة الزحيلي، ج1 ص 213
[23] الكافي في الفقه، الحلبي1-2 ينقل من كتاب مقدمة على فقه الشيعة، د. حسين المدرسي الطباطبائي، ص20
[24] المهذب، ابن البراج، 123.
[25] المراسم، سلار، 28
[26] قيل في وجه الحصر: ان المبحوث عنه في الفقه اما ان يتعلق بالامور الاخروية اي معاملة العبد مع ربه، أو الدنيوية فإن كان الأول فهو عبادات. أما الثاني: فما ان يحتاج الى صيغة أو لا، فغير المحتاج الى صيغة هو الاحكام كالديات والميراث والقصاص و الأطعمة، وما يحتاج إلى صيغة فقد يكون من الطرفين او من طرف واحد، فمن طرف واحد يسمى الايقاعات كالطلاق والعتق ومن الطرفين يسمى العقود ويدخل فيها المعاملات والنكاح، وتبدأ العبادات بكتاب الطهارة كمقدمة للعبادات. فقسم العبادات يبدأ بكتاب الطهارة وينتهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقسم العقود يبدا بكتاب الطلاق وينتهي بكتاب النذر وقسم الاحكام يبدأ بالصيد والذباحة وينتهي بالديات.
[27] القواعد، للشهيد الأول: 4 – 6.
[28] الوافي للفيض 1/6
[29] مفاتيح الشرائع، للفيض 1/14
[30] اقتبس الفيض الكاشاني هذا التقسيم من كتاب إحياء علوم الدين للغزالي
[31] الفتاوى الواضحة، للسيد محمد باقر الصدر16
[32] العلوم الإسلامية ، 3 اصول الفقه والفقه، الشهيد مرتضى مطهري، ص 129.
[33] المصدر السابق، ص 129
النظريّة العامّة لفقه الغيبة
عند الشهيد الأوّل
الشيخ محمد سروش محلاتي (*)
المقدّمة[1]
لقد أدّت غيبة الإمام الثاني عشر، إلى ظهور مجموعةٍ من الأسئلة في الفقه وفي علم الكلام عند الإماميّة، وقد نجم عن ظهور هذه الأسئلة ومحاولات الإجابة عنها، تمايز بين حقبتين في تاريخ الفقه الإماميّ، هما فقه (عصر الحضور) وفقه (عصر الغيبة). والمحور الأساس وقطب الرحى في دائرة هذا التمايز والاختلاف، هو الأسئلة التي تدور حول دور الإمام في المجتمع الإسلاميّ، وأهمّ الأسئلة كانت تنتهي إلى سؤال مركزيّ هو: ما حكم الوظائف والمهامّ التي كان الإمام يقوم بأعبائها، في المجتمع الإسلاميّ عموماً والإماميّ على وجه التحديد؟ هل يصدر حكم عامٌّ وشاملٌ بالتعطيل لكلّ هذه المهام، بحجّة غياب الوليّ الأصيل؟ ويتفرّع من هذا السؤال سؤال آخر يدور حول المهامّ التي تُصنَّف داخل دائرة (الضرورات الاجتماعيّة) التي لا يمكن تعطيلها، فمثل هذه المهامّ على عهدة من تقع، ومن يقوم بها؟ ثمّ هل لهذه الضرورات حكم واحدٌ؟
وقد تصدّى الشهيد الأوّل، كما غيرُه من الفقهاء للبحث في هذه الأسئلة، بمناسبة البحث عن بعض المسائل التي تَمَتّ إلى هذه الأسئلة بصلةٍ دون أن يخصّص لها مسألة خاصّة يعالج أبعادها جميعاً. وسوف نحاول في هذه المقالة جمع شتات هذه المعالجات المتفرّقة، وضمّ بعضها إلى بعضها الآخر، من أجل استخراج الرؤية العامّة الكلية إلى هذه المسائل مستعينين بمواقفه المتفرّقة، وببعض الإشارات العامّة التي صدرت عنه بمناسبات مختلفةٍ، لتكوين ما سوف نسمّيه (نظريّة فقه الغيبة) في مدرسة الشهيد الأوّل. وتنقسم هذه المقالة إلى أقسامٍ ثلاثةٍ، خصّصنا القسم الأوّل منها لاستعراض المواقف التي يشترك فيها الشهيد الأوّل مع غيره من فقهاء الإماميّة كلّهم أو بعضهم على الأقلّ، وأعني بذلك المواقف التي ترتبط بما نحن بصدد الحديث عنه، وهو جواز تصدّي الفقهاء لبعض المهام في عصر الغيبة. وخصّصنا القسم الثاني من المقالة لاستعراض المواقف التي يرى جواز تصدّي الفقهاء لها، على خلاف الرأي السائد بين فقهاء الإماميّة. والقسم الأخير من المقالة خصّصناه لتحليل هذه المواقف المتفرّقة واستخراج النظريّة العامّة عند الشهيد الأول، في ما يتعلّق بالولاية في عصر الغيبة.
القسم الأوّل: الشهيد ومشتركاته مع الفقهاء
يتّفق الشهيد الأوّل مع عددٍ من فقهاء الإماميّة، على أنّ للفقيه في عصر الغيبة تولّي بعض مهام الإمام المعصوم الغائب. وأحد هذه الموارد التي يبدو أنّها موضع وفاقٍ بين الفقهاء جميعاً، حالة القضاء؛ حيث يرى أكثر الفقهاء إن لم نقل كلّهم، يرون جواز تصدّي الفقيه للقضاء بين الناس في عصر الغيبة: «وفي الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء».[2] ومن الموارد التي يرى الشهيد جواز تصدّي الفقيه لها الحدود والتعزيرات، إن توفّرت الظروف التي تسمح للفقيه بالتصدّي وتولّي هذه المهامّ. ولا يكتفي الشهيد بفتح باب التصدّي لمثل هذه الأمور إن توفّرت الظروف، بل يُفتي بوجوب مساعدة الفقهاء للقيام بهذا الدور، لرفع العوائق التي يضعها الحاكم الظالم في وجه الفقهاء ليحول بينهم وبين القيام بواجباتهم على هذا الصعيد: «والحدود والتعزيرات إلی الإمام ونائبه ولو عموماً، فيجوز حال الغيبة للفقيه إقامتها مع المكنة ويجب علی العامة تقويته و منع المتغلّب عليه مع الإمكان»[3]. ويصرّح الشهيد في هذا النصّ بأنّ إقامة الحدود من مهامّ الإمام المعصومQ، وتدخل هذه المهمّة في حدود صلاحيّات الفقهاء، بدليل (النيابة العامّة). وفي قضيّة صلاة الجمعة، يرى الشهيد أيضاً جوازَ تولّي الفقهاء إقامة هذه الشعيرة، في عصر الغيبة، فيقول: «وفي الغيبة تجمع الفقهاء مع الأمن»[4]. وفي هذا المورد أيضاً يُشير إلى دخول إقامة صلاة الجمعة في صلاحيّات المعصوم، وما تولّي الفقهاء له في عصر الغيبة، إلا من باب النيابة العامّة الثابتة للفقهاء: «ولا ينعقد إلا بالإمام أو نائبه ولو فقيهاً مع إمكان الاجتماع فی الغيبة»[5]. وفي الخُمس، يرى الشهيد أنّ للمكلّف الحقّ في صرف سهم السادة على مستحقّيه من السادة، وأمّا سهم الإمام من الخمس، فلا يجوز صرفه إلا بإذن من الفقيه بوصفه (نائب الغيبة)، فيجوز للفقيه صرفه على مصارفه ومنهم السادة لسدّ حاجتهم إن لم يفِ سهمهم بذلك، ونائب الغيبة هو الفقيه الجامع للشرائط، على حدّ تعبيره، في النصّ الآتي: «والأقرب صرف نصيب الأصناف عليهم، والتخيير فی نصيب الإمام بين الدفن والإيصاء وصلة الأصناف مع الإعواز بإذن نائب الغيبة وهو الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوی».[6] وأمّا في الزكاة، فيرى الشهيد عدم وجوب تسليمها إلى الإمام أو نائبه، إلا إذا طالبا بها فيجب ذلك على الملكّفين، وفي الفقيه يقول: «ويجب دفع الزكاة إلی الإمام أو نائبه مع الطلب، وإلا استُحبّ وفي الغيبة إلی الفقيه المأمون»[7]. وعلى هذا الأساس يمكن للفقيه تكليف جباةٍ لجمع الزكاة وتوزيعها، ويصرف عليهم من (سهم العاملين عليها)، وإن لم يتسنّ للفقيه القيام بذلك، سقط هذا السهم في عصر الغيبة: «وتسقط مع الغيبة أيضاً إلا مع تمكّن الفقيه من نصبه»[8].
القسم الثاني: المواقف المنفردة للشهيد في فقه الغيبة
لا ينحصر (فقه الغيبة) عند الشهيد الأوّل بالمسائل التي تعرّض لها أسلافه من الفقهاء، وأفتوا فيها. بل فتح باب البحث في عددٍ من المسائل التي لم تكن مطروحةً من قَبْل. ومن هذه المسائل الجديدة، البحثُ حول حجّيّة حكم الحاكم في إثبات الهلال. فالبحث حول طرق إثبات الهلال من المسائل المطروحةِ قديماً في الفقه الإماميّ، إلا أنّ البحث حول حكم الحاكم في هذا المجال، من المسائل التي لم أجد قبل الشهيد الأول من تعرّض لها، وذلك في حدود اطلاعي؛ ومن هنا، نجد أنّه عندما يعرض لهذه المسألة يعالجها بشيء من الاحتياط والتحفّظ، فيتساءل قائلاً: «وهل يكفي قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟»، ثمّ يجيب: «الأقرب نعم»[9].
ومن الموضوعات التي يمكن نسبة الابتكار فيها إلى الشهيد الأوّل، قضيّة (الولاية على الحجّ)، فهذه المسألة لم تُطرَح قبله، بل قلّما عرض لها الفقهاء اللاحقون أيضاً. والكتاب الذي بحث فيه هذه المسألة هو كتاب (الدروس)؛ حيث خصّص لها موضعاً من الكتاب وعالجها فيه بالتفصيل. وهو يعالج في كتابه المشار إليه، هذه المسألة من جهاتٍ عدّةٍ، تشمل زمن الحضور وزمن الغيبة على حدٍّ سواء، ويرى أنّ للإمام الحقَّ في تعيين من يتولّى (إمارة الحجّ)، وإدارة شؤون الحجيج، بوصفه هذا المعيَّن نائباً عن (الإمام الأعظم): «ينبغي للإمام الأعظم إذا لم يشهد الموسم نصب إمام عليه فی كلّ عام»، ويشترط في أمير الحجّ، بحسب الشهيد الأوّل، أن يتّصف بـ(العدالة) و(المعرفة بفقه الحجّ)، والتحلّي بالكمالات الأخلاقيّة التي تساعده على القيام بأعباء الدور المنوط به، ومن هذه الكمالات: الشجاعة، والقدرة على التأثير في الحجيج، والمعرفة بإدارة شؤون الحجيج. ولأمير الحجّ مهمّتان هما: إرشاد القوافل، والإشراف على كيفيّة أداء المناسك لتُؤدّى وفق الشروط الشرعيّة.
وهاتان المهمّتان يمكن أن يقوم بهما شخص واحدٌ، كما يمكن أن يتولّاهما شخصان، إذا رأى الإمام تفويض ذلك إلى شخصين: «ويجوز أن يتولّی الإمام الواحد وظائف السفر وتأدية المناسك وأن يفوّضا إلی إمامين». ويشير إلى وجوب طاعة أمير الحجّ وعدم جواز مخالفته في ما يأمر به أو ينهى عنه: «وعلی الناس طاعته فی ما يأمر به ويكره التقدّم بين يديه فی ما ينبغي التأخّر عنه وبالعكس ولو نهی حَرُم». وممّا يهتمّ الشهيد بمعالجته على صعيد البحث الفقهيّ حالة الاختلاف الفقهيّ بين الأمير وبين سائر المكلّفين، فهل يجوز للأمير إلزام الحجيج بما يراه من رأي في تفاصيل أحكام الحجّ وشروط مناسكه، أم ليس له ذلك، بل يجوز لكلّ مكلّف العمل بما يراه اجتهاداً أو تقليداً؟ يجيب الشهيد عن هذا السؤال بالنفي، فلا يجوز لأمير الحجّ إلزام الحجيج بما يراه من رأي فقهيّ؛ ولكنّه يستثني من ذلك موردين، أحدهما أنّه يعطي للأمير صلاحيّة منع الحجيج من العمل بالفتاوى الشاذّة التي هي واضحة الخطأ، والمورد الثاني هو صلاحيّة إلزام الناس بالعمل وفق رأي (الإمام الأعظم): «ولو كان الحكم مختلَفاً فيه بين علماء الشيعة، فليس له أن يأمرهم باتّباع مذهبه إذا لم يكن الإمامَ الاعظمَ أو من أخذ عنه، إلا أن يكون الخطأ ظاهراً فيه لندور القول، فله ردّ معتقدِه»[10]. وبما أنّه يتحدّث في عصر الغيبة، يمكن أن يكون مراده من مصطلح (الإمام الأعظم) غير الإمام المعصوم، وبالتالي يمكن أن يكون ما يرمي الإشارة إليه، هو الفقيه الجامع للشرائط وذلك للحيلولة دون (تشتّت الآراء)، ومن أجل تنظيم أمور الحجّ وحسن سير أداء المناسك. مع الالتفات إلى أنّه يشترط (الأعلميّة) في كلّ من القاضي والمفتي على حدّ سواء[11]. وعليه ليس فقط لا يبعد استفادة هذا المعنى من كلامه، بل توجد مؤشّرات تدلّ على أنّ الهدف من هذه القيود نظم أمور الشيعة في الحجّ من خلال جمعهم على رأي فقيه واحدٍ.
ومن المسائل المبتكرة التي تكشف عن نظرةٍ مختلفةٍ إلى المسائل الاجتماعيّة، تعريفه للقضاء. فالقضاء من وجهة نظر الشهيد الأوّل ليس هو (فصل الخصومة)، وحلّ النزاع بين الناس فحسب، بل يكتسب القضاء في فقهه بعداً أوسع، فيصبح ولاية على الحكم في (المصالح العامّة): «ولاية شرعية علی الحكم في المصالح العامّة من قِبَل الإمام».[12] ومن الواضح وفق هذا التعريف الجديد نسبياً أنّ دائرة القضاء تتّسع لتدخُل، في صلاحيّات القاضي الذي يقوم بهذا الدور نيابةً عن الإمام، كثيرٌ من الأمور التي لا تدخل في دائرة القضاء بمعنى حلّ الخصومة ورفع النزاعات. فالتعبير بـ (المصالح العامّة) يوسّع صلاحيّات القاضي ويبدّل الطابع السلبيّ والمنفعل للقاضي، إلى دور الفاعل الذي يجب عليه تأمين المصالح العامّة. وعلى أساس هذه الرؤية يدخل في صلاحيّات القاضي مجموعة من المهامّ، مثل إقامة الحدود وتنفيذ قانون العقوبات الإسلاميّ، حتّى لو لم يكن نزاع، مثل شرب الخمر، بل يدخل في صلاحيّاته مسائل من قبيل الحكم بثبوت الهلال، والولاية على أمورِ المحجور عليهم، والدليل الذي يدلّ على سعة دائرة صلاحيّات القاضي، هو دليل التنصيب العامّ للفقيه في عصر الغيبة. وهذا في مقابل الرأي القائل بانحصار صلاحيّات القاضي في (فصل الخصومة)، وعدم شمولها حتّى لمثل إجراء الحدود، أو إدارة شؤون المحجور عليهم، كالقاصرين وغيرهم من الممنوعين من التصرّف في أموالهم أو أنفسهم.
ومن الأبحاث التي استرْعَتْ انتباه الشهيد الأوّل، قضيّة (عزل الحاكم). حيث يرى أنّ الحاكم الذي عيّنه الإمام يمكن عزله في بعض الحالات، منها حالة ما لو توفّر مَنْ هو أكثر كفاءةً منه للقيام بالدور المنوط به، ومنها حالة ما لو مال الناس إلى غيره ورغبوا عنه في إدارة أمورهم. ففي مثل هذه الحالات يصبح من يرغب فيه الناس أولى بالولاية عليهم، حتّى لو كان المنصوب أفقه وأجمع للشرائط؛ وذلك لأنّ الهدف من الإمامة هو المصالح العامّة، وبالتالي ينبغي مراعاة ما من شأنه الحفاظ على هذه المصالح: «يجوز عزل الحاكم مع كراهية الرّعيّة وانقيادهم إلی غيره، وإن لم يكن أكمل إذا كان أهلاً؛ لأنّ نصبه لمصلحتهم فكلّما كان الصلاح أتمّ كان أولی».[13] إذاً، يطرح الشهيد إمكانيّة عزل الحاكم، إذا رغب الناس عنه، بينما نرى أنّ غيره من الفقهاء لم يطرحوا هذا السؤال، بل حصروا إمكانيّة العزل ببعض الحالات، مثل: (فقدان الشرائط)، و(توفّر الأصلح منه). والمثير للانتباه في هذا الموقف الفقهيّ من الشهيد، هو التفاته إلى أنّ الدولة وإدارة شؤون الناس لا يكفي فيهما توفّر الشروط الواقعيّة في الحاكم، بل لا بدّ من النظر إلى موقف الناس ورضاهم به حاكماً، ولست أقصد أنّ غيره من الفقهاء لا يراعون فكرة المصلحة في إدارة الشؤون العامّة؛ كيف وكثير من الفقهاء يصرّح بأنّ للإمام عزل الحاكم إذا رأى في ذلك مصلحةً؟ إلا أنّ هذا الموقف المتطوّر يكشف عن نظرة خاصّةٍ إلى مفهوم المصلحة في فقه الشهيد الأوّل، فضلاً عن أنّ بعض الفقهاء، كصاحب الجواهر مثلاً يرى أنّ البحث في مثل هذه الأمور لا جدوى له، بحجّة أنّ الإمام عندما يظهر يعرف تكليفه وما يجب عليه القيام به!! بل يرى أنّ مثل هذه الأبحاث تسرّبت إلى الفقه الإماميّ من الفقه السنّي، وفقهاء السنّة بحثوا في مثل هذه الأمور بهدف تضخيم أحجام كتبهم، وطمعاً بجوائز السلاطين![14] وتكشف المقارنة بين هذين التصوّرين عن التفاوت في النظرة بين المدرستين، بين مدرسةٍ منفتحةِ الآفاق، ومدرسةٍ ترى أنّ مثل هذه الأبحاث نظريّة لا فائدة عمليّة منها، لبعدها عن متناول يد الفقيه.
القسم الثالث: النظرية العامة لفقه الغيبة عند الشهيد
بعد هذا الاستعراض المتقدّم، هل يمكن للباحث أن ينسب أو يستنتج ممّا تقدّم، أنّ الشهيد الأوّل يؤمن بالولاية المطلقة للفقيه؛ أي يرى أنّ من صلاحيّات الفقيه كونه على (رأس السلطة) وأنّ كلّ صلاحيّات الإمام تثبت له بوصفه نائباً عن الإمام؟ أجاب عدد من الباحثين المعاصرين، بالإيجاب عن هذا السؤال، ونسبوا إلى الشهيد مثل هذا الرأي.
وبين يدي البحث في مثل هذه النسبة، وإسناد مثل هذا الرأي إلى الشهيد، أو نفيه عنه لا بدّ من الإشارة إلى وجود اتّفاق بين الفقهاء على أصل نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم، إلا أنّهم لم يتّفقوا على صيغة واحدةٍ لتبرير حدود هذه الصلاحيّات وسعته، أو لتبرير ثبوتها للفقيه. وعلى الأقلّ توجد رؤيتان في هذا المجال، فبعض الفقهاء يرون أنّ للفقيه الحقّ في التصدّي للسلطة، وإدارة أمور المجتمع في الأطر التي يتصدّى لها السلطان العرفيّ، وذلك في الشأن السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ، وفي المقابل يوجد تيّار آخر يحصر صلاحيّات الفقيه في حدود ما تدلّ عليه الأدلة التي تعطي للفقيه الحقّ في النيابة عن الإمام ويرَوْن أنّ هذه الأدلّة تحصر النيابة في حدود القضاء وإقامة الحدود. فالشيخ الطوسي مثلاً، من أنصار النظرية الثانية؛ حيث يرى وعلى خلاف غيره من الفقهاء الذين فسّروا مفهوم (السلطان العادل) بالإمام أو نائبه ولا يرون مشروعيّة تولّي السلطة لغيرهما، يرى هو أنّ مفهوم (السلطان العادل) أوسع من الإمام ونائبه. ويرى أنّ تولّي بعض الأمور تحت ولاية السلطان العادل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والذي يدير الأمور على ما ينبغي أن تُدار به جائزٌ، ويقول: «تولّي الأمر من قِبَل السلطان العادل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الواضع للأشياء مواضعها جائز مرغّب فيه»[15]. ومثل هذا الكلام من الشيخ الطوسي لا يمكن حمله على الحديث عن الإمام المعصوم أو الفقيه، بل هو ظاهرٌ في الحديث عن غيره من الحكّام. وإذا انتقلنا من عصر الشيخ الطوسي، إلى ما يقارب عصرنا هذا، فإنّنا سوف نرى أنّ الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي يوافق سلفه في الرأي، حول الولاية للفقيه، فهو يرى أنّ الدولة ضرورة اجتماعيّة، فيقول: «إنّ حفظَ بيضة الإسلام ودفع المفاسد عن أهله وحفظ نفوسهم وأعراضهم وأموالهم يتوقّف علی وجود ذي شوكة كان له يدٌ علی نوعِ أهلِ صقعٍ يتمكّنون أهل ذلك الصقع فی ظل حمايته ويتعيّشون في فيء كفايته ورياسته، والتوقّف المذكور فی هذه الأعصار أعني أعصار الغيبة لا شبهة فيه»، ولكنّه بعد ذلك يضيف، عدم إمكان القول بإيكال مثل هذه الولاية إلى الفقهاء من الإمام المعصوم؛ وذلك لأنّ دور الفقهاء وحدود صلاحيّاتهم يدور في فلك القضاء وإقامة الحدود، ولا تتّسع صلاحيّاتهم المستمدّة من النيابة عن الإمام إلى ما هو أوسع من هذه الدائرة: «ما كان شأناً للفقيه الجامع للشرائط هو إجراء الحدود والإفتاء والقضاء والولاية علی الغُيّب والقُصّر وأين ذلك من تصدّي حفظ ثغور المسلمين عن تعدّي أيدي الفسقة والكفرة وإدارة أمر معاشهم وحفظ حوزتهم ورفع أيدي الكفرة عن رؤوسهم»[16].
والمحقّق السبزواري بدوره يؤمن بأنّ السلطان العادل هو السلطان الشرعيّ، ولكنّه يرى أنّ عليه أن يولّي شأن القضاء والأمور الحسبيّة كتسيير أمور المحجور عليهم، إلى الفقهاء[17]. وأخيراً ضمن هذا التيّار تمكن الإشارة إلى الشيخ يوسف البحراني، صاحب (الحدائق) الذي يستخدم تعبير النيابة عن الإمام في وصف الفقهاء، إلا أنّه يرى انحصار صلاحيّاتهم في حدود الفتوى والقضاء[18].
وفي مقابل هذه الرؤية توجد رؤيةٌ أخرى توسِّع دائرة صلاحيّات الفقيه إلى حدودٍ أوسع يعبَّر عنها بـ (عموم النيابة)، بحيث يعطي أصحابها للفقيه صلاحيّات واسعةٍ يستثنون منها بعض الموارد مثل البدء بالجهاد، وكلّ هذه الصلاحيّات والمهام تكون على عهدة الفقيه بوصفه نائباً عن الإمام، وأبرز من تبنّى مثل هذه الرؤية في التراث الفقهيّ الإماميّ، هو المحقّق الكركي. وقد نسبت مثل هذه الرؤية إلى الشهيد الأوّل وممّن نسبها إليه الشيخ آذري قمي الذي يرى أنّ الشهيد الأوّل يؤمن بالولاية العامّة للفقيه، ومن أبرز المؤشّرات التي يستند إليها تعبيره عن الفقيه، بـ(النائب العامّ) عن الإمام المعصوم[19].
نقد ودراسة: تحفظات الشهيد على بعض الموارد
والإشكاليّة التي تواجه استفادة هذا الرأي من الشهيد الأوّل، هو تحفّظ الشهيد على تدخّل الفقيه في بعض الموارد التي لا ينبغي الاحتياط أو التردّد في تصدّي الفقيه لها، بناءً على الولاية والنيابة العامّة، ولتوضيح الصورة لا بدّ من استعراض نماذج نذكرها في ما يأتي:
النموذج الأوّل
يعالج الشهيد في كتاب اللمعة في مبحث الزكاة، قضيّة مطالبة الإمام أو نائبه بها، فيرى وجوب الدفع إليه في ما لو طلب ذلك، ويطرح فرضيّة طلب الفقيه إيّاها، وفي موقفه من هذه الفرضيّة تجده يتحفّظ ويستخدم تعبير(قيل) للإشارة إلى رأي من يرى وجوب الدفع إلى الفقيه، ومن المعروف أنّ استخدام هذا التعبير في لغة الفقهاء يدلّ بالحدّ الأدنى على عدم تبنّي مضمون هذا القول، إن لم يدلّ على تضعيفه، وهاك نصّ كلامه: «ويجب دفعها إلی الإمام مع الطلب بنفسه أو بساعيه، قيل: والفقيه في الغيبة».[20] هذا في حال أنّ الدفع إلى الفقيه في حال المطالبة، ينبغي أن يكون من الأمور المسلّمة عند من يؤمن بنظريّة النيابة العامّة، أو الولاية المطلقة للفقيه. ومن الملفت أنّه مع هذا التحفّظ يأتي من ينسب إلى الشهيد الأوّل القولَ بالولاية المطلقة، استناداً إلى استخدامه تعبير «قيل» وعدم ردّه مضمونه، وكأنّهم يكتفون بسكوته عن تضعيف هذا القول لإثبات مضمونه إليه![21]
النموذج الثاني
يرى الشهيد استحبابَ دفع الزكاة إلى الفقيه ولو لم يطالب بها، والأمر عينه يصدق في حالة الإمام المعصومQ، إلا أنّه لا يبرّر الفتوى باستحباب الدفع إلى الفقيه بدليل النيابة. ولا يستدلّ بأنّه ما دام تسليم الزكاة إلى الإمام المعصوم مستحبّاً، فينبغي أن يكون الدفع إلى الفقيه (نائب الإمام) مستحبّاً أيضاً، بل يستند في تبريره لذلك الرأي إلى خبرة الفقيه وحُسْن تشخيصه لمصارف الزكاة: «الدفع إلی الإمامQ أو الفقيه فهو أفضل عندنا... لمعرفته (أي الفقيه) بمصرفها».[22] وفي هذا المورد أيضاً يُلاحظ أنّ الشهيد عَدَلَ عن الاستدلال بما كان يستدِّلّ به غيره من الفقهاء المؤمنين بالنيابة العامّة، إلى أمرٍ آخر وهو الخبرة بمصارف الزكاة، وهذا يكشف مخالفتهم في المبنى. فالعلّامة الحلّي مثلاً، ولا شكّ في توفّر كتب العلّامة بين يدي الشهيد الأوّل، يبدو أنّ عدوله عن فكرة النيابة إلى غيرها، مقصود وناتج عن موقفٍ يتبنّاه وليس عن غفلة، فهذا العلامة الحلّي يقول: «لأنّه (أي الفقيه) أعرف بمواقعها ولأنّه نائب الإمامQ، فكان له ولاية ما يتولّاه».[23]
النموذج الثالث:
في إقامة صلاة الجمعة، يرى الشهيد الأوّل أنّ إقامتها من شؤون الفقيه وصلاحيّاته في عصر الغيبة؛ ولكن يستند في هذه الفتوى إلى دليل النيابة عن الإمام في جميع مهامّه وصلاحيّاته، كما نلاحظ عند المحقّق الكركيّ؟ فالمحقّق الكركي والشهيد الثاني، يستندان في مثل هذه الموارد إلى فكرة النيابة العامّة عن الإمام، فها هو الشهيد الثاني يقول: «إنّ الفقيه الشرعيّ منصوبٌ من قبل الإمام عموماً لقول الصادق فی مقبول عمر بن حنظلة: فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»[24] والمحقّق الكركيّ بدوره يتحدّث عن التعيين العامّ من قبل الإمام للفقهاء، ويقول: «لا يقال: الفقيهُ منصوبٌ للحكم والإفتاء، والصلاةُ خارجٌ عنها...؛ لأنّ الفقيه منصوبٌ من قبلهم R حاكماً كما نطقت به الأخبار».[25]
هذا ولكنّ الشهيد الأوّل يستند لتبرير إقامة الفقهاء صلاة الجمعة، إلى دليلين آخرين، أحدهما دليل الأولويّة، وهو أنّ من الثابت أنّ للفقهاء الحقّ في التصدّي لما هو أهمّ من إقامة صلاة الجمعة وإمامتها، فلا شكّ في جواز تصدّيهم لها: «لأنّ الفقهاء حال الغيبة يباشرون ما هو أعظم من ذلك بالإذن كالحكم والإفتاء فهذا أولی».[26] إذاً عدل الشهيد الأوّل عن الاستناد إلى مفهوم (النيابة العامّة) إلى دليل الأولويّة، ومن البيّن أنّ من يؤمن بالنيابة العامّة لا يستند إلى فكرة الأولويّة، أو ليس بحاجة إليها؛ وبالتالي نحن ندّعي ظهور مثل هذا الاستدلال في تحفّظ الشهيد الأوّل على (النيابة العامّة والولاية المطلقة)؛ وذلك لأنّ مفاد هذا الاستدلال هو: لمّا كانت ولاية الفقيه وسلطته محصورة بالأدلّة الخاصّة التي دلّت على جواز ممارسته لبعض الصلاحيّات، ولما كانت هذه الأمور أقلَّ خطراً وأهميّة من إقامة صلاة الجمعة، يثبت بالأولويّة جواز تصدّي الفقهاء لما هو أقلّ أهمية. والدليل الثاني الذي يستند إليه الشهيد هو عدم وجوب (الاستئذان) من الإمام المعصوم Q في عصر الغيبة، وذلك لأنّ استئذان الإمام واجبٌ في حال حضوره، وأمّا في حال الغيبة وعدم إمكان الاستئذان فلا يجب، وفي مثل هذه الحالة يرجع إلى إطلاقات الآيات والروايات التي لا تفيد حصر إقامة صلاة الجمعة وصحّتها في حال القدرة على الاستئذان[27].
وفي تقويمه للدليلين يرى الشهيد أنّ هذا الدليل الثاني أولى وأجدر بالقبول من الأوّل، رغم صحّة الأوّل أيضاً، ومهما يكن من أمرٍ فإنّ هذا الدليل (الثاني)، يكشف عن اعتقاد الشهيد الأوّل بعدم ثبوت الإذن العامّ في ممارسة جميع صلاحيّات الإمام، ولكن مع ذلك يجوز للفقيه وعلى الرغم من عدم ثبوت عموم الإذن، ممارسة بعض المهامّ التي هي أقلّ أهمية ممّا ثبت فيه الإذن. وما يدعو إلى الأسف، أنّ بعض الباحثين يريدون من جميع الفقهاء الاعتقاد بـ(الولاية العامّة)؛ ولذلك استندوا إلى هذا المورد أيضاً لينسبوا إلى الشهيد القول بها![28]
لا شكّ في أنّ الشهيد يميّز بين مفهومين هما: (النائب العامّ) في مقابل (النائب الخاصّ)، فالفقيه (نائب عامّ) عن الإمام في ممارسة بعض المهام التي يتصدّى لها الإمام في حال حضوره، ولكنّ السؤال هو: النيابة الثابتة للفقيه هي نيابةٌ عامّة أيضاً؛ بحيث تتّسع إلى حدود ولاية الإمام وتقف عند ما دلّ الدليل على عدم شمولها له؟ أي هل ينوب الفقيه (النائب العامّ) عن الإمام في القضاء والفتوى وإقامة الحدود فحسب؟ أم تتسع صلاحيّاته إلى ما هو أوسع من ذلك الإطار وأشمل؟ والمؤسف هو أنّ بعض الباحثين والكتّاب خلطوا بين المفهومين الأخيرين؛ أي مفهومي: (النائب العامّ) و(النيابة العامّة)، واستندوا لإثبات اعتقاد الشهيد الأوّل أو غيره من الفقهاء بـ(النيابة العامّة) إلى استخدامه تعبير (النائب العام) في وصف الفقهاء، مثلاً يرى الشهيد جواز تولّي الفقيه الذي هو نائب عامّ وليس خاصّاً، إقامة الحدود والتعزير: «والحدود والتعزيرات إلی الإمام Q أو نائبه ولو عموماً فيجوز فی حال الغيبة للفقيه إقامتها»[29] فمثل هذه العبارة تدلّ على قبول صاحبها بأنّ الفقيه نائب عامّ عن الإمام، ولكنّ دلالتها على (عموم النيابة) أمر آخر دونه صعوبات، وبعبارة أخرى: تدلّ مثل هذه العبارة على قبول النيابة العامّة في الجملة، وأما دلالتها على قبول النيابة بالجملة يحتاج إلى نقاش.
ويميل بعض الذين عالجوا كلام الشهيد الأول، إلى نسبة توسعة حدود سلطة الفقيه وتعميم النيابة، والحال أنّه حتّى لو فُرِض ظهور كلامه في هذا المورد أو غيره في هذا المعنى المنسوب إليه، إلّا أنّه لا يمكن إغفال قرائن وعبارات تدلّ على غير ذلك، وتصرِف مراده إلى معنى مختلفٍ عمّا يُدّعى له. والمثير للعجب استناد بعض الباحثين إلى فكرة النيابة العامّة المشار إليها أعلاه، لإثبات عموم النيابة وسعة دائرة حدودها، لتضمّ بين ثناياها النيابة عن الإمام في إدارة أمور المجتمع على الصعيد الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وغيرها. ووجه الغرابة هو دعوى صراحةِ الشهيد في تبنّي مثل هذا الموقف![30]
نقد ودراسة: تبعيض الاستئذان من الفقيه
يوجد تلازم قهريّ بين القول بالنيابة العامّة وبين تكليف العامّة بالاستئذان في المسائل ذات الطابع الاجتماعيّ والسياسيّ، قبل أن يقدِم أحدهم على عمل؛ وبعبارة أخرى: الفقيه الذي يرى ثبوت الولاية العامّة للفقهاء في عصر الغيبة، لا بدّ من أن يفتي لعامّة الناس بوجوب الاستئذان من الفقيه في كلّ أمر كان يجب عليهم الاستئذان من الإمام فيه، في عصر حضوره، وذلك كلّه تحت عنوان مفهوم النيابة عن الإمام.
وأمّا الفقيه الذي لا يؤمن بالنيابة العامّة، فآراؤه تختلف من مورد إلى آخر، ففي بعض الموارد يرى وجوب الاستئذان من الفقيه، كما في حالة الحدود، وفي حالات أخرى يفتي تبعاً لإطلاق أدلّة بعض التكاليف والواجبات، بجواز إقدام عامّة المكلّفين على التصدّي لهذه الواجبات، وفي مجموعة ثالثة من الموارد يرى وجوب تعطيل بعض التكاليف إذا كان دليلها الخاصّ يدلّ على توقّف أدائها على إذن الإمام، وبالتالي لا بدّ من تعطيلها في حالة غيابِ الإمام وتعذّرِ تحصيل الإذن منه، وذلك كما في حالة الجهاد الابتدائيّ. والموقف في كلّ موردٍ من هذه الموارد مرهونٌ بالدليل الخاصّ الذي يدلّ على وجوبها المطلق، أو تقييدها بإذن الإمام أو تقييدها بإذن الفقيه الجامع للشرائط. وهذا الاختلاف المورديّ والتردّد يُلاحَظ وجوده عند الشهيد الأوّل، ما يكشف عن عدم اعتقاده بالنيابة العامّة للفقيه. فهو يرى أنّ القضاء والحدود من الأمور التي تدخل في صلاحيّة الإمام بالدرجة الأولى وبعده في دائرة صلاحيّات نائبه ولو كان نائباً عامّاً، ولكنّه في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقيّد يدَ الفقيه، عندما يصل الأمر إلى الجرح والقتل، ويرهن القيام بذلك بإذن الإمام، ولا يرى كفاية إذن النائب العامّ؛ أي الفقيه:«أمّا الجرح والقتل، فالأقرب تفویضهما إلی الإمام... والحدود والتعزيرات إلی الإمام ونائبه ولو عموماً فيجوز حال الغيبة للفقيه»[31]. ومن المثير للعجب، أنّه في كتاب آخر من كتبه، لا يقيّد جوازَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإذن الإمام معلِّلا ذلك بعموم الأدلّة. وهو بالتالي يرجِّح فتوى الفقهاء الذين لم يقيِّدوا الأمر والنهي بالإذن، ومن هؤلاء الفقهاء: السيّد المرتضى، والشيخ الطوسي في التبيان، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي، والعلامة الحلّي في المختلف[32]. وقد استند هؤلاء جميعاً إلى أدلّةِ عموم الولاية، كما يعبِّر الشيخ النجفي: «وفي جوازه لنائب الغيبة ـ مع فرض حصول شرائطه أجمع التي منها أمن الضرر والفتنة والفساد لعموم ولايته عنهم R ـ قوةٌ..».[33] وأمّا الشهيد فإنّه لم يبنِ فتواه على عموم النيابة أو الولاية المطلقة.
ومن الفتاوى الغريبة للشهيد في هذا المجال، تعليقه جوازَ مواجهة الظالمين إذا ترتّب عليها خطرٌ على إذن الإمام، ولمّا لم يعطف النائب العامّ عليه، فيُستفاد من كلامه عدم الاكتفاء بإذن الفقيه، ويترتّب على ذلك عدم تأييده للحركات الثوريّة التي ترتِّب الضرر على الثوّار، حتّى لو اندرجت هذه الحركات تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي فهي كالجهاد الابتدائي، لا تُشرَّع دون إذن الإمام. ويستعرض في كتاب القواعد، أدلّةَ القائلين بالجواز، وينتقدها، قائلاً:
«لو أدّى الإنكار إلى قتل المنكِر، حُرُم ارتكابه؛ لما سلف. وجوّزه كثيرٌ من العامّة، لقوله تعالى: «وكأيِّن مِنْ نبِيّ قاتَل معه ربِّيّون كثير.».. مدحهم بأنّهم قُتِلوا بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا مسلّم إذا كان على وجه الجهاد.
قالوا: قُتِل يحيى بن زكريا Q لنهيه عن تزويج الربيبة؛ قلنا: وظيفة الأنبياء غير وظائفنا.
قالوا: قال رسول الله P: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطانٍ جائرٍ» وفي هذا تعريض لنفسه بالقتل، ولم يفرّق بين الكلمات أهي نصّ في الأصول أو الفروع، من الكبائر أم الصغائر؟ قلنا: محمولٌ على الإمام، أو نائبه أو بإذنه، أو على من لا يظنّ القتل.
قالوا خرج مع ابن الأشعث جمع عظيم من التابعين في قتال الحجّاج، لإزالة ظلمه وظلم الخليفة عبد الملك، ولم ينكر ذلك عليهم أحد من العلماء. قلنا: لم يكونوا كلّ الأمّة. ولا علمنا أنّهم ظنّوا بالقتل، بل جوّزوا التأثير ورفع المنكر. أو جاز أن يكون خروجهم بإذن إمام واجب الطاعة، كخروج زيد بن عليّ Q، وغيره من بني عليّ Q[34].
وعلى عكس الحركات الثوريّة ومحاولات الخروج على الحاكم التي لا يقرّها الشهيد دون إذن الإمام، يرى أنّ بعض التصرّفات التي تتوقّف على الإذن في زمن الحضور، لا تحتاج إلى إذن في زمن الغيبة، بل يرى جوازها مطلقاً دون الحاجة إلى إذن الفقيه، مع تصريحه بالحاجة إلى الإذن من الإمام فيها في زمن حضوره. مثلاً في الأراضي المفتوحة عنوةً، لا يجيز الشهيد أيّ تصرّفٍ فيها دون إذن الإمام في عصر الحضور، لا ببيع ولا وقف ولا غير ذلك من أنحاء التصرّف. وأمّا في عصر الغيبة، فالتصرّف فيها جائزٌ ونافذٌ: «ولا يجوز التصرّف فی المفتوحة عنوةً إلا بإذن الإمام Q سواء كان بالوقف أو بالبيع أو غيرهما، نعم فی الغيبة ينفذ ذلك.».[35] وينطبق هذا الموقف على الأنفال أيضاً؛ حيث يجوز التصرّف فيها في زمن الغيبة مطلقاً، مع توقّفه في زمن الحضور على إذن الإمام[36].
والكلام عينه يقال على إحياء الموات، فلا يجوز تملّكها بالإحياء في زمن الحضور إلا بإذن الإمام، بينما يصحّ ذلك في زمن الغيبة دون حاجةٍ إلى إذن من أحدٍ: «ويتملكّه من أحياه مع غيبة الإمام، وإلا افتقر إلی إذنه».[37]
نقد ودراسة: خصوصية القضاء عند الشهيد
عالج الشهيد مباحث القضاء وما يرتبط به، بنظرة أوسع بكثير وأقلّ تحفّظاً ممّا يلاحظ عند غيره من الفقهاء، ما دعا بعض الباحثين في فكره وتراثه، إلى الاعتقاد بأنّه من القائلين بالولاية العامّة أو المطلقة. وقد نقلنا عنه سابقاً قوله: إنّ «القضاء ولايةٌ على المصالح العامّة»، ولمّا كان الفقيه من وجهة نظره منصوباً للقضاء، لا بدّ من أن يكون له ولايةٌ مّا على ميدان المصالح العامّة. وبما أنّ إدارة البلاد وتدبير أمور الدولة من المصالح العامّة؛ إذاً لا بدّ من أن تكون مثل هذه الأمور داخلةً ضمن نطاق ولاية الفقيه وسلطته[38].
لا شكّ في أنّ (القضاء) شأن من شؤون الولاية، ولا يمكن حصر الولاية في دائرة القضاء، والشهيد نفسه ملتفتٌ دون ريبٍ إلى هذه النكتة، فهو يشير بعبارةٍ صريحةٍ إلى أنّ بعض التصرّفات كالجهاد وتدبير أمور بيت المال من شؤون الإمامة، وأنّ فصل الخصومات من شؤون القضاء.[39] وبناء على التمييز بين الشأنين، أعني شأن الإمامة وشأن القضاء، لا يمكن نسبة تبنّي الولاية المطلقة إلى كلّ فقيهٍ يرى الولايةَ على القضاء للفقيه، بحيث ننسب إليه إعطاءه صلاحيّة قيادة الجيوش والفتوحات، أو أن ننسب إليه تجويزه له (للفقيه) صلاحيّة التصرّف في بيت المال.
إنّ ما يرمي إليه الشهيد من تعبير (الحكم في المصالح العامّة) هو أنّ ولاية القاضي لا تنحصر في حلّ النزاعات والنظر في الدعاوى، بل تتجاوز ذلك إلى السلطة على أموال الأيتام، أو الحكم بثبوت الهلال وبدايات الشهور القمريّة. ولأجل الدلالة على توسعة مفهوم القضاء استخدم تعبيراً عامّاً، ولكن لا ينبغي أن يدعونا ذلك إلى الحكم بالتساوي في المعنى بين هذا التعبير العامّ وبين مفهوم (إمام) أو (قائد). ومن هنا نلاحظ أنّ الفقهاء الذين أتوا بعد الشهيد، لم يستخدموا تعبيره المشوب بشيء من التسامح، حذراً من هذا اللبس الذي يوجبه ذلك التعبير، سواء كان هؤلاء الفقهاء يرون الولاية المطلقة أم لا يرونها. والملفت هو أنّ الشهيد في كتاب القواعد، حدّد بشكل كامل الموارد التي يرى جواز تصرّف الفقيه فيها، وسردها دون أن يذكر بينها بعض التصرّفات التي تقع خارج دائرة القضاء، كبعض التدبيرات الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة التي هي من مقتضيات الولاية المطلقة ولوازمها التي يصعب أن تنفكّ عنها؛ واكتفى بل ربّما يمكن القول إنّه حصر ولم يتجاوز حدود الصلاحيّات التي تُمنَح للقاضي في الفقه الإسلاميّ: «في ضبط ما يحتاج إليه الحاكم: كل قضيّة وقع التنازع فيها بين اثنين فصاعداً فی إثبات شيء لأحدهم أو نفيه أو كيفيّته، وكل أمرٍ فيه اختلاف بين العلماء كثبوت الشفعه مع الكثرة، أو احتيج فيه إلی التقويم كالأرش وتقدير النفقات، أو إلی ضرب المدة كالإيلاء، أو إلی الألفاظ كاللعان والقصاص والحدود»[40].
نقد ودراسة: حدود رأي الشهيد
جرت في العقدين الأخيرين محاولات حثيثة بين كتّاب الجمهوريّة الإسلاميّة لإدخال اسم الشهيد الأوّل في عداد الفقهاء المنظّرين لفكرة (الدولة في عصر الغيبة)، أو للقول إنّه من روّاد هذا الطرح. ولا يخفى أنّ البيئة الفكريّة التي استجدّت بعد الثورة تركت أثرها على بعض الأعمال العلميّة، بشكل واعٍ أو غير واعٍ. مثلاً طبعت (مؤسّسة الدراسات الإسلاميّة) (بنياد پژوهشهای اسلامی) التابعة لإدارة المشهد الرضويّ، كتاب (الدروس) للشهيد الأوّل، طبعةً محقّقةً، وفي مقدّمة الكتاب عالج كاتب المقدّمة الأسباب التي دعت إلى الحكم على الشهيد بالإعدام، ونيله مرتبة الشهادة، فرأى المقدِّم أنّ أحدَ أهمّ الأسباب هو اعتقاد الشهيد بولاية الفقيه وفكرة الدولة الإسلاميّة، واحتمل كاتب المقدّمة أنّ الشهيد هو أوّل من استخدم تعبير (نائب الإمام) للإشارة إلى الفقيه[41].
هذا ولكنّ هذا التحليل يفتقر إلى الدقّة العلميّة؛ وذلك لأنّ الشهيد لم يتجاوز الحدود التي جال ضمنها غيره من الفقهاء، على مستوى إعطاء الولاية للفقيه، كما أنّ هذا الموقف من الفقيه وصلاحيّاته ضمن هذه الحدود لم يكن يسبّب لغيره من الفقهاء الموافقين له مشكلةً مع الأنظمة الحاكمة. فهذا هو الفقه الإماميّ مليء بالحديث عن صلاحيّة الفقهاء ضمن دائرة القضاء وفصل النزاعات، بل وإجراء الحدود وقد قيّدوا ذلك بقولهم: «مع الأمن». فهل كان الشهيد أو النظام الحاكم المعاصر استثناءً بحيث أدّى ذلك إلى التضارب بين الطرفين؟ لا يبدو أنّ أحداً من الباحثين استطاع إثبات مثل هذا الاستثناء. أضف إلى ذلك أنّ تعبير «نائب الإمام» وما شابهه، هو تعبير متداول في الفقه الإماميّ قبل الشهيد. فالعلّامة الحلّي يستخدم التعبير عينه، ومن محاسن الصدف والاتّفاقات أنّه يعطي الفقيهَ جميع صلاحيّات الإمام: «ولو تعذّر الإمام فالأولی صرفها إلی الفقيه المأمون وكذا حال الغيبة؛ لأنّه نائب الإمام Q فكان له ولاية ما يتولاه»[42]. بل نجد هذا التعبير في التراث الفقهي لابن إدريس الحلّي وهو متقدّم على العلّامة بسنوات، في بحثٍ له حول حدود صلاحيّات الفقيه، بعنوان: «شروط النائب عن الإمام»[43]. وإلى هذين الفقيهين يضاف أيضاً الفقيه السابق على ابن إدريس وهو أبو الصلاح الحلبيّ الذي يقول: «فهو نائبٌ عن ولي الأمر فی الحكم»[44]
وقد قرأت لكاتب آخر يقدّم صورة رسمها في ذهنه للشهيد الأوّل، دون أن يرى نفسه مضطراً إلى تقديم الأدلّة والمستندات الكافية للإثبات، يخلص فيها إلى أنّ كتابَ (اللمعة) هو (برنامج عمل حكومي)، والشهيد بوصفه من القائلين بجواز تدخّل الفقهاء في شؤون الدول والحكومات بما في ذلك (الجهاد)! يكون أوّل الفقهاء الذين افتتحوا عهداً جديداً في الفقه الإماميّ، نقل موقع الفقهاء من موقع المشارك في الحكم إلى موقع النائب عن الإمام فيه. وليت مثل هؤلاء الباحثين والكتّاب قدّموا لنا تقريراً وافياً يكشف عن الخصائص الموجودة في «اللمعة» وغير الموجودة في الكتب الفقهيّة السابقة عليها، في مجال فقه الدولة والسلطة؛ لنعلم ما هو المعيار الذي دعاهم إلى تصنيف الشهيد في لائحة الفقهاء المؤسّسين لفقه الدولة! ويرى هذا الكاتب أنّ الشهيد أبدع وفتح باباً جديداً في الفقه الإماميّ عندما ميّز بين (الولاية الخاصة) و(الولاية العادية)؛ فالفقيه هو (النائب الخاصّ) للإمام، ويثبت له في غياب الإمام، كل ما كان ثابتاً للنائب الخاص في زمن حضور الإمام. وكتاب اللمعة الدمشقیة الذي دوِّن على أساس نظريّة (الولاية الخاصّة) الثابتة للفقيه، قد افتتح في تاريخ الفقه الإمامي فصلاً جديداً، وكان هذا الكتاب بحقّ أوّل دستور للدولة المشروعة في عصر الغيبة، في فقه أهل البيتR[45].
وبالعودة إلى الشيخ آذري قمي، فقد نقلنا عنه أنّه ينسب إلى الشهيد الأول الاعتقاد بالولاية العامّة للفقيه. وتعليقاً على تلك الإشارة نقول هنا إنّ الشواهد التي أشرنا إليها في هذه الدراسة تكشف عن عدم صحّة هذه النسبة، وعلى افتراض صحّة النسبة ودلالة بعض عبارات الشهيد على هذا المعنى، إلا أنّها لا تسلم من عبارات معارضةٍ تدلّ على معنى معاكس، يعيقنا ويحول بيننا وبين مثل هذا الاستنتاج. وحبّذا لو أنّ هؤلاء الكتّاب أشاروا إلى تعبير (السلطان ذي الشوكة) الذي يتردّد في فقه الشهيد الأوّل، في سياق حديثه عن نفوذ تصرّفات مثل هؤلاء السلاطين؛ حتّى لو كانوا من الجائرين، علماً أنّه يهتمّ بهذا الأمر أكثر من غيره من الفقهاء. فهو مثلاً يرى نفوذ المعاهدات التي يعقدها (ذو الشوكة) مع (أهل الكتاب)، ويرى أنّه لا بدّ من وجود مثل هذه المعاهدات والاتفاقيّات في عصر الغيبة، كما ينبغي أن توجد في العصور السابقة، وإذا اقتضتها الحاجة ووجدت لا بدّ من احترامها: «وفي زمن الغيبة يجب إقرارهم (أي نصاری تغلب مع أنّهم تنصّروا فی الإسلام) علی ما أقرّهم عليه ذو الشوكة من المسلمين كغيرهم»[46]. وقد فهم الفقهاء من هذا الكلام وجوب الحفاظ على أمن أهل الكتاب حتّى ولو لم يفوا بتعهداتهم: «فعلى هذا فإن فعلوا ما يوجب الخروج عن الذمّة، فلا يجوز قتلهم ولا استرقاقهم... والحاصل أنّ كونهم تحت حكم المسلم الجائر وصدورهم على مقتضى رضاه في معنى الأمان لهم، فلا يجوز التعرّض لهم...»[47] ولأجل هذه التوسعة في فتوى الشهيد، الذي لا يوافقه صاحب الجواهر عليه، ردّه بقوله: «كما ترى»[48].
[1](*) باحث متخصص في الفقه الإسلامي- إيران
[2] الشهيد الأوّل، اللمعة الدمشقية، ص 89؛ ويقول في:الدروس، ج2، ص 67: «وفي غيبة الإمام ينفذ قضاء الفقيه الجامع للشرائط ويجب الترافع إليه وحكمه حكم المنصوب من قبل الإمام خصوصاً».
[3] الشهيد الأوّل، الدروس، ج2، ص 48.
[4] المصدر نفسه، ج1، ص 186.
[5] الشهيد الأوّل، اللمعة الدمشقية، ص 41.
[6] الشهيد الأوّل، الدروس، ج1، ص 262؛ ويقول في كتاب: البيان، ص351: «ومع الغيبة أقوال أصحّها صرف النصف إلی الأصناف الثلاثة وحفظ نصيب الإمام إلی حين ظهوره، ولو صرفه العلماء إلی من يقصر حاصله من الأصناف كان جائزاً بشرط اجتماع صفات الحكم فيهم».
[7] الشهيد الأوّل، الدروس، ج1، ص 246.
[8] المصدر نفسه، ص 248.
[9] المصدر نفسه، ص 286.
[10] المصدر نفسه، ص 497.
[11] المصدر نفسه.
[12] المصدر نفسه، ج2، ص 65.
[13] الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد، ج1، ص 406.
[14] محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج40، ص 62 و 63.
[15] الشيخ الطوسي، النهاية، ص 356.
[16] محمد علي الأراكي،المكاسب المحرمة، ص 94.
[17] المحقّق السبزواري، روضة الأنوار، ص 32 و 561.
[18] الشيخ يوسف بحراني، الحدائق الناضرة، ج12، ص 470.
[19] الشيخ أحمد الآذري القمي، ولايت فقيه از ديدگاه فقهای اسلام (ولاية الفقيه عند فقهاء الإسلام)، ص 271.
[20] الشهيد الأوّل، اللمعة الدمشقية، ص 54.
[21] محسن الأراكي، نظریة الحكم فی الإسلام، ص 172: بعد نقل هذه العبارة عن صاحب الجواهر الواردة في: (الجواهر، ج15، ص421) والتي ينقلها بدوره عن الشهيد الأوّل قوله:: «قيل وكذا يجب دفعها إلی الفقيه فی الغيبة لو طلبها بنفسه أو وكيله؛ لأنّه نائب الإمام كالساعي بل أقوی منه لنيابته عنه فی جميع ما كان للإمام والساعي إنّما هو وكيل للإمام Q فی عملٍ مخصوص»، بعد هذا النقل يعلق مؤلّف كتاب «نظرية الحكم» قائلاً: «وعدم مناقشة الشهيد بهذا الاستدلال يكشف عن قبوله بالكبری أي كبری نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم نيابة عامة فی جميع ما كان للإمام Q». هذا ولكن مضافاً إلى غرابة هذا الاستنتاج من العبارة المنقولة، يظهر بالتدقيق أنّ عبارة الشهيد الأول هي فقط قوله: «قيل والفقيه فی الغيبة»، وأما بقيّة العبارة والحديث عن كون نيابة الفقيه أقوى من نيابة الوكيل هي من شرح اللمعة للشهيد الثاني، وتعليل الأقوائيّة من عبارة صاحب الجواهر: «لنيابته عنه فی جميع ما كان للإمام». وبالتالي فعبارة الشهيد الأوّل هي عبارة مختصرة ليس فيها سوى الإشارة إلى قول لا يُعلم هل يتبنّاه الناقل أم لا.
[22] الشهيد الأوّل، البیان، ص 323.
[23] العلامة الحلي، نهایة الإحكام، ج2، ص 417؛ وانظر: تذكرة الفقهاء، ج5، ص 402، حيث يقول: «لأنّهم أبصر بمواقعها ولأنهم نوّاب الإمام Q».
[24] الشهيد الثاني، روض الجنان، ص 290.
[25] المحقّق الكركي، جامع المقاصد، ج2، ص 375.
[26] الشهيد الأوّل، الذكری، ج4، ص 104.
[27] المصدر نفسه: «إنّ الاذن إنّما يعتبر مع امكانه أمّا مع عدمه فيسقط اعتباره ويبقی عموم القرآن والأخبار خالياً عن المعارض».
[28] الشيخ مصطفی وهبي العاملي، اتفاق الكلمة بين علماء الأمة علی ولاية الفقيه العامّة، ص 122.
[29] الشهيد الأول، الدروس، ج2، ص 47.
[30] محسن الأراكي، نظرية الحكم فی الإسلام، ص 172: «يبدو للمتأمل من عبائر الشهيد، ذهابه إلی ثبوت الولاية العامة للفقيه من خلال ما يظهر من آرائه... خاصة تصريحه بكون الفقيه «نائباً عاماً للإمام» لقوله والحدود والتعزيرات إلی الإمام ونائبه ولو عموماً».
[31] الشهيد الأول، الدروس، ج2، ص 47.
[32] الشهيد الأوّل، غایة المراد، ج1، ص 509.
[33] محمد حسن النجفی، جواهر الكلام، ج21، ص 385.
[34] الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد، ج2، ص 206.
[35] الشهيد الأول، الدروس، ج2، ص 41.
[36] الشهيد الأوّل، البیان، ص 352؛ وانظر: الدروس، ج1، ص 262.
[37] الشهيد الأول، اللمعة الدمشقية، ص 352؛ وانظر: الدروس، ج1، ص262.
[38] انظر: مالك مصطفی وهبي العاملي، اتفاق الكلمة بين علماء الأمة علی ولاية الفقيه العامة، ص 122.
[39] الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد، ج1، ص 214.
[40] المصدر نفسه، ج1، ص 405؛ الفاضل المقداد، نضد القواعد الفقهية، ص 491.
[41] الشهيد الأوّل، الدروس، ج1، ص 65.
[42] العلامة الحلي، نهاية الإحكام، ج2، ص 417.
[43] ابن إدريس، السرائر، ج3، ص 357.
[44] أبو الصلاح الحلبي، الكافي، ص 421.
[45] محمد كريمی زنجاني اصل، مقالة «جايگاه ولايت در فقه سياسی إماميه» (موقع الولاية في الفقه السياسي الإمامي)، (گنجينه شهاب، ج3، ص 268).
[46] الشهيد الأوّل، الدروس، ج2، ص 35.
[47] الميرزا القمي، جامع الشتات، ج1، ص 410.
[48] محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج21،ص 276.
أعمال جلسات المؤتمر
اليوم الأول:
الثلاثاء 31 أيار 2011 – قرية الساحة التراثية - طريق المطار - بيروت
الجلسة الرابعة
برئاسة الشيخ ماهر حمود
نائب الرئيس الشيخ محمد سالار
المواطنة عند الشهيدين
د. خضر نبها (*)
يعتبر هذا البحث جزء من خطة أكبر، أريد من خلالها الإستوفاء لنقاط الفكر وفواصله، لحركاته وسكناته، ليس أن أختمه نهائيًا، ولكن لأمارس شرط التحرير للفكر الأسير في إتجاه واحد، لا في إتجاهات عدة. ومن هذه الممارسات تبيان موقف فقهاء الإمامية من المواطنة، وتحديدًا موقف الشهيدين.[1]
وحاولت ضغط هذا البحث ضمن العناوين الآتية:
مدخل سؤالي، وإطار البحث.
المواطنة والفقهاء: ضرورة العمل على نظرية فقهية معاصرة.
مفهوم «المواطنة» في بحثنا.
مواطنة «الشهيدين» والدعوة للإنتماء والتعايش.
الإمامية والعمالة، مقالة مملّة.
الشهيد الثاني وقبول الآخر.
الإمامية و «الأرشيف» و«النبذ» و «الهمّ الوطني».
في حركة هذه العناوين تدور ورقتي ومقاربتي.
مدخل سؤالي وإطار البحث:
ما هي علاقة فقهاء الإمامية اللبنانيين بالوطن؟ هل هي علاقة عرضية وزائلة،أم أنها جوهرية ودائمة، وبلفظ آخر: هل أن الشيعي الإمامي اللبناني ينتمي إلى الوطن إنتماءً حقيقياً،أم أنّ صفة المواطنة غائبة عنه وبعيدة المنال؟
وبالاحرى، هل أنّ المواطنة والإنتماء للوطن هو شعور راسخ عند الشيعة الإمامية أم أنّه شعور على دَخَن، يتجاوز الوطن إلى أوطان أخرى؟
ونتساءل أكثر: هل نجد عند فقهاء الإمامية القدامى ما يشير إلى (حب الوطن) (والتعلٌق به)، و(الدفاع عنه)؟ أم أنّه لا أثر لذلك في سيرهم العملانية ومقالاتهم الفكرية؟ ويا ترى، بماذا نفسّر ما أصاب هؤلاء الفقهاء من اضطهاد وتشريد. بل من قتل واستشهاد على يد السلطات الحاكمة؟ فهل هو نتيجة «العمالة» و «الخيانة» لأوطانهم، لأسباب وعوامل أكثر تعقيداً وخطورة؟
هذا ما سوف أحاول أن أبيّنه في بحثي المضغوط هذا، مبتدئاً بالفقيه المؤسس الشهيد محمد بن مكّي الجزيني (ت784 هـ/ 1382 م) والمشهور «بالشهيد الأول «، ومنتهياً بالفقيه الوحدوي عنيت به زين الدين بن علي الجباعي (ت965 ه /1558 م)، والأكثر شهرة بـ «الشهيد الثاني». وهذه المحاولة تستغرق ما يقرب من قرنين من الزمن، إذ تبدأ من أواخر القرن الثامن الهجري، وتنتهي أواخر القرن العاشر الهجري، باستشهاد الشهيد الثاني خارج وطنه وأرضه.
المواطنة والفقهاء: ضرورة العمل على نظرية فقهية معاصرة
أشار الفقهاء إلى نوعين من الأوطان: الوطن العرفي والوطن الشرعي[2]، وبيّنوا محددات كل واحد منهما.
ولكن، من المهم اليوم بيان الرؤية الفقهية تجاه هذه المقولة (الوطن والمواطنة)، والتي هي ليست علاقة عاطفية فحسب، بل هي علاقة قانونية؛ دستورية، سياسية، إقتصادية، اجتماعية، ثقافية تتطلب صياغة «نظرية فقهية معاصرة» تجاه هذا الموضوع أو الظاهرة الإنسانية المعاصرة، لأن الشعور الوطني أضحى اليوم من الحقائق الدستورية، والقانونية، والسياسية الهامة. والأمة الإسلامية، اليوم موزعة في أوطان متعددة، وقوانين مختلفة. والإنسان، عادة، ينتمي إلى دوائر إنسانية عديدة، ومنها دائرة الوطن فكيف السبيل إلى التوفيق بين هذه الدوائر (الأسرة، القبيلة، المذهب، الوطن، الإنسانية....) وإمكانية انفتاح الإنتماء الوطني على الإنسانية، لتصبح الإنسانية أكثر نبلاً، بدلاً من الإنغلاق والتصحّر الإنساني؟
مفهوم المواطنة في بحثنا
لن أدخل هنا في عمل معهود ومشهور ، أي الحديث عن تعريف الوطن، والمواطنة،لأن في ذلك بساطة ورتابة، وهو في الأخير متوفّر وبشكل موسّع في الدراسات المختصّة،والقواميس،والموسوعات،لا سيّما أن مصطلح (المواطنة) لا ينفك في يومنا،وببداهة،عن ربطه بالوطن والموطن[3]، والحقوق والواجبات، فلذلك، فضّلت في ورقتي هذه، أن أترك هذا الجانب، والغوص رأساً في المقصود من (المواطنة) عند الشهيدين ،لأن مفهوم (الوطن) (والمواطن) في عصر هؤلاء، لا يعني بالتمام ما هو مقصود منه في عصرنا الحاضر، فقديماً اعتبر بهاء الدين العاملي (ت 1030 هـ / 1621 م) «أن الوطن هو ذلك المكان الذي لا إسم له[4]». فلذلك ، ومنذ البداية، أعني بـ «المواطنة والوطن» عند الشهيدين «الكيان الثقافي» وليس «الكيان السياسي المعروف» لعدمه في حينه [5]. أعني بذلك أن المواطنة عندهم تعني النشأة، والمولد، والإنتماء للأرض والناس، والدفاع عنهم،والتشديد على رابطة التعايش السلمي بين أفراد يتشاركون أرضاً واحدة،لأن «الهوية المذهبية» عند الشهيدين وغيرهم طبعاً، لم تكن قاعدة أو منطلقاً للصراع بين الأفراد والجماعات، بل غدت وعياً عميقاً في المسؤولية تجاه انتماءاتهم، فلذلك، قاتلوا، وجاهدوا، بل واستشهدوا في سبيل هذا الوعي. ومن المؤسف حقاً،أن ما يحصل اليوم هو تمزيق «للذاكرة الجماعية» أو إعدام وجودها، فنرى بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد،بل الأمة الواحدة، على قاعدة الإنتماء الحقيقي أو العمالة.
مواطنة الشهيدين و «الدعوة للإنتماء والتعايش»
إن العقل العاملي يبتعد عن صيغة التجزئة كما يبتعد عن منطق الأحادية في التفكير. هو عقل تركيبي تعددّي يهتم بالكليات وكذلك بالجزئيات. والعقل العاملي عقل موزّع، وفي توزيعه وحدة، كما ينشد وحدة متكاملة في المعرفة،فلا تتجدد أفكاره داخل حقولها الخاصة المنتجة فيها، بل أيضاً من حركة الإنفتاح المزدوج على بقية الحقول المعرفية والقطاعات المجتمعية. وبالتالي تساهم في صنع الأحداث وتفاعل الأفكار[6].
ولأن الإنسان في جوهره له عقل يدرك ويرتّب ويعي،فإنه يكشف العلاقات وأسباب الإنبثاق[7].
هذا ما اشتغل عليه الشهيدان، حيث نجد أثناء قراءتنا للفكر العاملي عامة، عملاً تأسيسيّاً «لوحدة العقل المختلف ـ المؤتلف»، الذي يعمل على خلخلة ما هو مستوطن في الساحات الثقافية،ثم يعمل على ترتيبها وتنسيقها ضمن أفق معرفي خاص.
هذا ما نميّز به الشهيدان، حيث توسّع نشاطهما خارج جباع وجزين،فانتقلا إلى دمشق والقاهرة والحجاز،والآستانة والقدس والحلّة والنجف... يستجمعان أوصال ما تقطّع بين الشيعة والسنة، ولكن الصراع على الأفكار كان مطية للأذى الذي لحق بهما فيما بعد، وهو ما أدى إلى إعدامهما.
وكمثال حيوي عن منظومة الشهيد الأول في التعايش والحوار، نجده يستخلص تجربته الشخصية في وصية كتبها لأخوانه، وفيها التركيز على الوحدة،والتعايش،والإنتماء،وقبول الآخر،فيقول الشهيد الاول ما نصّه: وأوصيهم (أي أخوانه) أنا لا يذكروا أحداً من المسلمين إلا بخير على ما يعتقد فيه من بدعة أو شبهة، ولا يفتحوا على أنفسهم باب التأويل للوقيعة في المسلمين[8]. وأما الآخر غير المسلم،فسئل الشهيد الأول يوماَ عنه إذا وجد تاجراً في بلاد الإسلام،فهل يحلّ ماله أم لا؟. فأجاب الشهيد الأول بالنفي، وحرّم الإعتداء عليه، وأخذ ماله، فقال ما نصّه: «لا ريب في حرمة مال حربيّ دخل بأمان إلى بلاد الإسلام،وإن كان المؤمن سلطاناً متغلّباً،لانّه شبهة. ويثبت في الذمة ماله. ومال الذمّي وكل كافر حرام. ويكون المطالب به يوم القيامة ذلك المأخوذ منه[9]... فهل هناك دعوة للتعايش، واحترام الآخر، أكثر من ذلك»؟
وإذا ما تركنا نصوص الشهيد الأول، وتأمّلنا سيرته العملية، نجده مثالاً يحتذى به في الصدق، والإخلاص، والإنتماء الوطني. فهو رفض أي تعامل أو تآمر مع السلطة المملوكية المصرية الناشئة حديثاً، وفضّل الولاء لسلطان دمشق «بيدمر»، بل أظن أن حربه مع تلميذه «اليالوش» الذي خرج عليه، ووقعت بينهما معركة حامية في مدينة النبطية، وسقط فيها العديد من الشهداء، (معركة بين يالوش والشهيد الأول) حتى عرفت بمعركة الشهداء، وأعتقد أن هذه المعركة كانت من ضمن هذا السياق، أي رفض التآمر على السلطة الحاكمة مع سلطة أجنبية في طور التكوين والنشوء.
ولكن،من المؤسف له حقاً، أنّ هذا الإخلاص للسلطة الحاكمة في دمشق لم يشفع له، بل نجد «بيدمر» سلطان دمشق، وبعد أن يدرك إرهاصات ولادة جديدة حاكمة،أعني بهم مماليك مصر، يسرع الخطى نحو السلطة الجديدة، ويقيم حلفاً معها وتفاهمات سياسية. ومن هذه التفاهمات كانت «صفقة دنيئة»، تقضي بإعدام الشهيد الاول القائد والفقيه الذي يعد مصدر إزعاج وحرج للسلطة الجديدة. وبالفعل، وبعد شهرين من عودة «بيدمر» سلطان دمشق من مصر، نجده ينفذ حكم الإعدام في صديقه القديم، من دون أن تشفع عنده تجربة الشهيد المخلصة، ولا ولاؤه الحقيقي له، فضلاً عن رفضه التحولات السريعة مع تبدلات الحكام، لا سيّما أن الشهيد نفسه رفض عرضاً جاءه من الأمير علي بن مؤيد الخرساني للذهاب إلى إيران، ومساعدة أميرها في حكمه،فنرى الشهيد يفضّل المكوث في وطنه، والعمل لأجل أهله، واكتفى بتسطير كتاب «اللمعة الدمشقية» وإرساله للأمير للإستعانة على نشر الشريعة بين أتباعه[10]. فهل هناك أكثر إنتماء ووطنية من هذا الموقف.
الإمامية والعمالة: مقالة ممّلة:
وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، فهذه الطائفة الإمامية اليوم في لبنان تقاتل وتستشهد من أجل الوطن، وحرصاً منها على إنتمائها الوطني، ورغم ذلك نجد بعض الاصوات العالية تتهمها بالخيانة والعمالة لإيران وسوريا،وتخدش بانتمائها الوطني. ولو أنّ الإمام المغيّب موسى الصدر عرض عليه سابقاً صفقة التعامل مع إسرائيل، على قاعدة توحّد الأقليات (يقصد بذلك تعاون الموارنة، والشيعة، وإسرائيل باعتبارهم من الأقليات في الوطن العربي).والصفقة تقضي أن تعيش الطائفة الشيعية بأمن وسلام،مقابل التعاون، فنجد الإمام الصدر يرفض هذه الصفقة (على عكس غيره ممن يتشدّق اليوم بالوطنية والإستقلال) ويجيب السائل أن الإمام الحسينQ منذ ما يقرب من 1400 سنة، علّمنا أن في الحياة طريقين: طريق الكرامة وطريق السلامة، وفضّل الإمامQ طريق الكرامة على السلامة وكذلك هو يسير على الخطى نفسها[11].
الشهيد الثاني وقبول الآخر:
ومهما يكن،فإذا تركنا الشهيد الأول جانباً، وأتينا إلى الشهيد الثاني (ت965 ه) وبعد مرور ما يقارب من القرنين من الزمن، نجد السيرة ذاتها في التعاطي مع قضايا الوطن، وهموم الناس. فها هو الشهيد الثاني ورداً على سؤال من أحد أتباعه، سائلاً إياه عن الصلاة خلف المخالف له في المذهب، يجيبه بما نصّه: «وأما الصلاة خلف المخالف ففيها ثواب عظيم، بل هي أفضل وأكثر ثواباُ من جماعة المؤمنين[12]».
بالطبع هذه دعوة للتعايش،وقبول الآخر بل نجد الشهيد الثاني ورداً على سؤال يجيز المقاضاة عند قاضي الجور[13] . فليست هذه الأجوبة وغيرها إلا دعوة للإنتماء, والعيش بسلام مع أفراد الوطن الواحد، بل نرى الشهيد الثاني،حتى في المسائل العقيدية الخاصة بمذهبه،يحاول تخفيف مدلولاتها للتناسب مع العيش المشترك، فنراه عندما يسأل عن الناصبي، فيحصره الشهيد بمن أعلن العداوة لأحد الأئمةR،لا من يجحد إمامتهم[14]. ويعلق بعد ذلك بما نصّه: «وعلى هذا فالناصبي قليل الوجود في الدنيا[15]».
هذا درس عملي في التقريب، والتعايش السلمي، وقبول الآخر والوفاق. فتفريق الشهيد بين «عداوة الأئمة» والإعتراف بإمامتهم ، وتقريره بأن المعادي للأئمة R قليل الوجود في دنياه، لهو «نهج تأسيسي للعيش المشترك، والوفاق الوطني».
وليس هذا بالغريب عن نهج الشهيد الثاني، وهو ممن عرف عنه تدريس الفقه على المذاهب الخمسة ، في المدرسة النورية في بعلبك[16]، فكان يفتي لكل مذهب على مذهبه، بل وصف الشهيد الثاني نفسه، هذه المرحلة من حياته، فعدها «أياماً ميمونة وأوقات بهجة [17]»، وأنه «صاحب أهلها على إختلاف آرائهم احسن صحبة وعاشرهم أحسن عشرة[18]».
إذن، عمل الشهيد الثاني على بناء مجتمع على صورته، تلتقي فيه المذاهب والآراء لقاءً مبنياً على التعارف والمعرفة، في مقابل التناكر والإنكار.
ولكن لم يشفع منهج الشهيد التقريبي هذا له،بل نجد السلطة العثمانية الحاكمة،تلقي القبض عليه وتعدمه، بل تجعل موته لغزًا، إذ لا قبر له ولا مدفن، ولا ذنب له إلا العمل على التقريب، والدعوة إلى التعايش والسلم الأهلي، مثلما نعبّر اليوم.
هذه هي خلاصة سيرة فقهاء إثنين من الإمامية، مع السلطات الحاكمة في حينه. يعملون على الوفاق فيطاردون، ويسعون للتعايش والتقريب وترسيخ الإنتماء، فيعدمون ويحرقون. وبعد كل ذلك يتهمون بالعمالة والخيانة؟!
في نهاية المطاف:
إذا كان لا بد من خاتمة موجزة لهذا البحث المختصر والمضغوط فإنّ لي فيها أمنيتين:
أن تتسع صدور المخالفين، بحيث يتم التعامل مع هذه الآراء بشفافية وشعور عال بالمسؤولية.
أن نتخلى عن الأحكام المسبقة بحق بعضنا بعضاً. وبحق فقهاء الإمامية والطائفة الشيعية عامة، لأنه ليس المهم أن يتربّع حاكم على كرسي حكم بائس لعقد أو عقدين من السنين، ثم ينتهي بعدها إلى مزبلة التاريخ تلاحقه لعنة الاجيال والأمم، إنما المهم أن تبقى كلمات ومواقف رجل لم يتسن له أن يمارس الحكم، أو مارس الحكم فترة محدودة، ولكنه يظل حيّاً في ضمائر الناس، يمارس عليهم سلطته الفكرية والروحية، ويستنهضهم دائماً وأبداً للثورة ضد الجبابرة والطغاة، وكأنه حيّ لم يمت، على الرغم من مرور قرون طويلة على إستشهاده.
هذا هو حالنا مع الشهيدين، وعلى الرغم من عدم استلامهم السلطة، ولكنهم بقوا أحياء في قلوبنا وما زالوا مصدر الثورة فينا؟
7. الإمامية و «الأرشيف» و «النبذ» و «الهم الوطني»
أعتقد أنّ المذهب الإمامي، وفي لبنان تحديداً،لن يجنح نحو التخلّي بصمت عن إرادة أن يكون ذاتاً فاعلة، ولن يدمن إلى حد الهوس بما أسماه دريدا «مرض الارشيف» أي العيش على ذكريات النضال القديم. إذ يتحوّل الماضي إلى مأوى لأحلامه المجهضة أو المعذورة.
نعم، في معركة التغيير، تعرضت الإمامية إلى ما أسماه فوكو بـ(عملية النبذ) باشكال شتى، فكان من غير المسموح لها البوح بما تريده أو بأي شيء، ولا تعبّر عن نفسها في أي شكل، وبقيت وما زالت تناضل كيفما تطابق بين وعيها، وهويتها، ووظيفتها، وهذا لا يعني أننا ننظر إلى المواطنة عند فقهاء الإمامية كحالة مذهبية أو سجال مذهبي، إنما ننظر إليها باعتبارها «مشكلة وطنية»، لان السجال المذهبي إن فتح لن يغلق بسهولة أبداً،فأرجو أن نرتقي على المذهبية، ولا نجعل أعداء الوطن ينتهزون هذه الفرصة ويجعلون المذهبية أو الطائفية علاقة يعلّقون عليها مشكلاتهم.
إن معالجة هذا المشكل الوطني هو في التوجه نحو الإصلاح السياسي الشامل في الوطن، لأن الإصلاح الشامل يحتاج إلى تراكم الجهود، وينبغي للشعب وللمجتمع الأهلي أن يكون له الدور الكبير.
نحن لا نريد أن يتضخّم لدينا «المشكل الطائفي» و «الهم الطائفي الخاص» على حساب «الهم الوطني العام»، لأننا نرى ميلاً لدى الشعوب العربية إلى التدافع الطائفي[19].
أعتقد أنّ هذا ما تكوّن في عقلي فقيهينا الجليلين، وعملا على تحقيقه فقدّما روحيهما فداء لذلك. ويظهر أن التشيّع عند فقهائنا هو «رؤية وسلوك» «وإجتهادات ومواقف» وليس مشروع سلطة أو دولة مستقلة عن منظومة الامة أو الوطن[20]. ويدلّل على ذلك أكثر، وثيقة حزب الله الأخيرة. فلنعمل سوياً على ترسيخ الهم الوطني، لأنه كلما ارتقى الإنسان بمشروعه وبهمّه، أصبح في موقعية متقدمة، واستطاع أن يخدم همّه الخاص خدمة أفضل[21].
والحمد لله رب العالمين
[1](*) أستاذ الفلسفة وعلم الكلام في الجامعة اللبنانية.
[2] راجع حسين مرعي: القاموس الفقهي دار المجتبى، لبنان، ط1، سنة 1922م، ص 222،223،224 وأيضاً آية الله المشكيني،مصطلحات الفقه،دفتر نشر الهادي،قم ط1،1377ه،ق،ص561و562 مع الإشارة إلى أن آية الله المشكيني ذهب في كتابه إلى أن الفقهاء قسّموا الاوطان إلى ثلاثة أقسام،الوطن الاصلي والوطن المستجد،والوطن الشرعي...إلخ
[3] راجع تفريق د.نصاّر بين المواطن والمواطنية على أساس الوطن والموطن وتعريفاته للوطن وغيرها. ناصيف نصّار في التربية والسياسة دار الطليعة البنيان،ط1 سنة 2000م ص 14 وما بعدها
[4] يقول الشيخ البهائي في ديوانه الفارسي (مثنوي نان وحلوا) ما نصّه: ليس الوطن هو مصر والعراق والشام بل الوطن هو ذلك المكان لاذي لا إسم له،راجع الدين والعلم: مطارحات في ديننة العلم،مجموعة من الباحثين تعريب الشيخ محمد زراقط، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي،لبنان،ط1 سنة 2008،ص206
[5] راجع عن هوية لبنان وتشكّله ككيان سياسي دراسة د.غسان طه: هوية لبنان،المركز الإسلامي للدراسات الفكرية،لبنان ط1،سنة 2009 م
[6] علي حرب: تواطؤ الاضداد، الدار العربية للعلوم ناشرون، مؤسسة الإختلاف،ط1،سنة 2008،ص61.
[7] كمال البكاري: ميتافيزيقا الإرادة، دار الفكر العربي لبنان، ط1،سنة 2000،ص41
[8] رسائل الشهيد الاول،مركز الابحاث والدراسات الإسلامية،قم،ط1،سنة 1433 ق، ص300 (الوصية)
[9] رسائل الشهيد الاول،ص 274 – 275 (م.س).
[10] هذا التحليل لا يقبله بعضهم،بل يذهب إلى أنّ الشهيد الاول لم يكن على علاقة بالسلطة، بمعنى أن عمله كان فردياً وخارج سياق السلطة الحاكمة. وأظن أن هذا الميل هو جنوح في الحكم، وبعيد عن واقعية الأحداث، راجع حول هذا الموضوع وسيرة الشهيد عامة: ستة فقهاء أبطال للشيخ جعفر المهاجر؛ وأيضاً كتاب المؤسسة الدينية الشيعية للدكتور جودت القزويني؛ ومجموعة مقالات المؤتمر العالمي للشهيدين وتحديداً مقال الصديق الدكتور يوسف طباجة. الصادر عن مركز العلوم والثقافة الإسلامية، قم، ط1،سنة 2009، وغيرها الكثير من الدراسات.
[11] فضلاً عن أنّ الإمام الصدر يبيّن للسائل الهدف من هذا العرض، وهو إشعال فتنة سنية وشيعية أولاً،ومن ثم الإستعانة بالشباب الشيعي للقضاء على السلاح الفلسطيني في وقته.راجع نص السؤال الذي طرح على الإمام في ليبيا وفي آخر مؤتمر صحفي له قبل غيابه واختطافه من النظام الليبي. ولاحظ جواب الإمام الصدر عنه.راجع موسوعة الإمام موسى الصدر،سنة 1978.
[12] رسائل الشهيد الثاني، صادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، ط1،سنة 1421 ق، ج1 /585
[13] م. ن. 1/589
[14] م. ن. 1/592
[15] م. ن.
[16] وما زالت آثار هذه المدرسة في مدينة بعلبك، وهي خربة، ولطالما تمنينا أن يعاد ترميم هذه المدرسة. وأن تحمل اسم الشهيد الثاني عليها، بل تحمل نهجه التقريبي،آملاً في المستقبل القريب ترميم هذه المدرسة وتحقيق حلم الشهيد في التقريب.
[17] علي بن محمد العاملي:الدر المنثور، ج2/ 182.
[18] م.ن.
[19] مجلة المستقبل العربي،عدد 364،حزيران 2006،بحث نيفين مسعد،ص 76.
[20] راجع الشيخ حسن الصفّار: المشكل الطائفي والمسؤولية الوطنية،دار الإنتشار العربي،ط2،سنة 2009،ص32.
[21] موسوعة الإمام موسى الصدر، محاضرات في العقيدة،ج11، ص155
رسالة ابن العَوْذيّ _ بالذال المعجمة _
دراسة رجالية تاريخية
أ. حامد الخفاف (*)
تمهيد:
تعتبر رسالة ابن العوذي، المسمّاة «بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد»، من أهم المصادر المعتمدة التي تناولت حياة الشهيد الثاني منذ ولادته وحتى استشهاده، خصوصاً وأنّ المؤلف قد لازم الشهيد الثاني طيلة سبعة عشر عاماً (945 هـ - 962 هـ)، وتلمّذ على يديه.
هذه الدراسة المتواضعة الموجزة هي لتسليط الضوء على هذه الرسالة القيمة، وإبراز خصائصها، وتبيين مميزاتها، والتعريف بمؤلفها.
نهدف من خلال ذلك إلى إثراء النقاش حول شخصية الشهيد الثاني، ومحاولة رصد نقاط بحثية نظن أنها لم تطرق من قبل.
والله هو المستعان على كل شيء.
من هو ابن العوذي:
هو الشيخ بهاء الدين محمد بن علي بن الحسن العودي العاملي الجزيني، تلميذ الشهيد الثاني، وصفه الحر العاملي بـ «الفضل والصلاح»[1]وأنه كان أديباً شاعراً[2]. وعبّر عنه الشيخ النوري في جنة المأوى بـ «الشيخ الفاضل الأجل»[3]، ووصفه الخونساري في الروضات بالتلميذ «المؤيد»[4].
وقد عدّه السيد علي البروجوردي (1313 هـ) في كتابه طرائف المقال من علماء الطبقة الثامنة[5].
وانفرد السيد حسن الصدر في كتابه تكملة أمل الآمل[6] بإسهابه في وصف ابن العودي، حيث قال: «فاضل اديب، شاعر لبيب، ناثر عجيب، متبحر في العلوم التاريخية والعربية والرجال، وله الخبرة التامة في مسالك الفقهاء واختلاف مشاربهم، وهو أُصولي محدّث، على جانب عظيم من التقوى والورع، ومحبّ للعلم والعلماء. له الخبرة في علم المعقول، والتبحر في علم الأوائل، وكذلك الخبرة في علوم القرآن». والظاهر أنّ السيد حسن الصدر قد استنتج هذه الأوصاف من خلال رسالة ابن العودي.
ولم تُشر كل كتب التراجم – في حدود ما استقصيناه – إلى أيّ نتاج علمي لابن العودي سوى رسالته في ترجمة استاذه، ومقطوعة شعرية في رثائه. لذلك لم يتجاوز كل من ترجم له حدود ذكره بالاسم، وتلمّذه على الشهيد الثاني، والاشارة إلى رسالته الشهيرة، وبعض المعلومات التي أُخذت منها عن المترجَم تتعلق بفترة تلمّذه على الشهيد، وقراءته عليه. وقد أشار السيد محسن الأمين إلى أن ابن العودي كان حياً سنة 975 هـ، وتفرّد بالاشارة إلى أنّ المترجَم «مدفون فوق قرية كفركلا» في جبل عامل وعليه قبة في مكان نزه مشرفٍ عالٍ، والناس يسمونه «العَويذي» بالذال المعجمة والياء، والمذكور هو «العودي» بالدال المهملة بدون ياء[7]. وقد راجعنا في ترجمته - على سبيل المثال لا الحصر - المراجع التالية:
أمل الآمل للحر العاملي، رياض العلماء للشيخ عبد الله افندي، الكنى والألقاب، وسفينة البحار للشيخ عباس القمي، لؤلؤة البحرين للشيخ يوسف البحراني، روضات الجنات للسيد الخونساري، تكملة أمل الآمل للسيد حسن الصدر، معجم رجال الحديث للسيد الخوئي، أعيان الشيعة وخطط جبل عامل للسيد محسن الأمين. الذريعة إلى تصانيف الشيعة للشيخ الطهراني، طرائف المقال للسيد علي البروجوردي، بلدان جبل عامل للشيخ ابراهيم سليمان، جبل عامل في التاريخ للشيخ محمد تقي الفقيه[8].
كنيته أو لقبه:
لقد كانت اشارة السيد محسن الأمين إلى لقب جديد لابن العودي، حينما قال في أعيان الشيعة: «والناس يسمونه بالعَويذي» بالذال المعجمة والياء، كانت تلك الاشارة مدعاة لفضولنا، خصوصاً وأنّ لقب وكنية ابن العودي قد رسخت في كلّ المصادر والمراجع التي أشارت إليه أو تحدّثت عنه.
هذا الفضول قادنا إلى ما يلي:
لقد وجدنا السيد الأمين يذكر الموضوع ثانية وبإسهاب في كتابه خطط جبل عامل، فيقول:
«العَوِيْذِي: بعين مهملة مفتوحة، وواو مكسورة، ومثناة تحتية ساكنة، وذال معجمة مكسورة وياء، مشهد على قمة جبل عال، فوق قرية «كفركلا» في مرجعيون. المشهور فيه قبر الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسن العودي العاملي الجزيني، تلميذ الشهيد الثاني، ونسبته العودي بالدال المهملة، إذاً فالعَوِيْذِي بالذال المعجمة تصحيف، وزيادة الياء تحريف، وله رسالة في أحوال شيخه المذكور ورثاء فيه.
وبنو العودي، بيت علم في جبل عامل، منهم الشيخ أحمد بن الحسين العودي العاملي الجزيني، وذكر الذهبي في تاريخه الشيخ نجيب الدين بن العودي العاملي الجزيني في أثناء ترجمة الشريف النقيب أحمد بن محمد جعفر الحسيني الاسحاقي، لكنه قال: ابن العود بدون ياء، فلعلها سقطت من النساخ، ويوجد في قرية برعشيت طائفة يعرفون بآل عودي، فيمكن كونهم في ذريته.
وفي صور من آل العودي وفي برعشيت».
إلى هنا انتهى كلام السيد الأمين في كتابه خطط جبل عامل، والذي نقله عنه بدون تعليق بما يشبه التبنّي الشيخ ابراهيم سليمان في كتابه بلدان جبل عامل[9].
ويتّضح من ذلك أنّ السيد الأمين قد حكم على لقب «العَوِيْذِي» بالتصحيف، بعد أن قدّم لحكمه هذا بتلقيب الناس له بذلك.
ولعلّنا هنا لا نتفق مع هذا الكلام، فاسحين المجال للبحث العلمي أن يثير بعض النقاط نراها ضرورية لتسليط الضوء على هذا الموضوع بالذات وصولاً إلى الحقيقة.
لقد تبيّن لنا بعد مراجعة كتب الأنساب، أنّها حددت لِلقب (العودي) صيغة واحدة، وهي أن يكون اللقب، بضم العين المهملة وسكون الواو، وفي آخرها الدال المهملة. هذه النسبة إلى العُود، وهو خشبة تلقى على النار ليتضوع كريح المسك. واشتهر بهذا اللقب كثيرون[10].
وذكروا في كتب الأنساب لقب (العَوْذِي) بفتح المهملة وسكون الواو، في آخرها الذال المعجمة.
هذه بالنسبة إلى بني عَوذ، وبنو عَائذة وهم بطن من الأزد. قال أحمد بن الحباب: عَوْذ وعايذ وعياذ بنو سُود بن حجر بن عمران بن عمرو بن عامر ماء السماء[11].
وقد أسهب الزَبيدي في تاج العروس في مادة (عَوذ) حول هذه النسبة فقال – باختصار وتصرف -: «وبنو عائذة وبنو عوذة، وبنو عوذي بطون... وكذلك (عَيّذُالله)، يقال: هو من بني عَيّذالله... وسمّوا: عَائذاً وعَائذة ومُعاذاً وعَوْذًا أو عياذاً ومُعَوذاً».
وقال: والعَيْذِيّون في الصحابة والرواة كثيرون، نسبوا إلى عَيَّذ الله المتقدم ذكره، وفي النسبة يخفف[12].
وقد ذكر السمعاني والزَبيدي كثير ممن لقب بالعَوْذي، منهم: حبيب بن قرفة العوذي، وأبو عبدالله بن يحيى بن دينار الازدي العوذي، وغيرهم[13].
وبعد هذا العرض فإننا نجد أنفسنا أمْيَل إلى تبنّي لقب (العَوْذِي) – بالعين المهملة المفتوحة والذال المعجمة المكسورة، بينهما واو ساكنة – لصاحبنا المترجم، وذلك للأسباب الآتية:
إنّ كل من ذكره بلقب (العودي) - بالدال المهملة - هو اعتماداً على ما وجده في كتاب الدر المنثور لحفيد ابن الشهيد الشيخ علي، عند نقل رسالته الشهيرة في ترجمة الشهيد الثاني في كتابه المذكور.
وإذا عرفنا أن سقوط نقطة (الذال) هي من أبسط الأمور في النسخ المخطوطة القديمة، حينها يزول الإشكال وتتوضح الأمور، خصوصاً وانه لا يوجد أي ضبط حرفي لِلّقب في أيّ مصدر أو مرجع قديم.
لم يُعرف عن صاحبنا المترجم، صَنعة «العُود» وبيع البخور، أو على الأقل رواج تلك الصنعة في جبل عامل في القرون الغابرة، إذ أننا لو ارتضينا هذا اللقب، يجب أن نضمّ العين، وإلاّ فلا يوجد في كتب الأنساب لقب (العَودي) بفتح العين، وهو ما يعني العود أي الرجوع!!
إن تسمية الناس - كما أشار السيد الأمين وكما سمعت من أهالي بلدة كفركلا عند زيارتي لمرقد ابن العودي شخصياً - لحدّ الآن لصاحب المرقد بـ (العَوِيْذِي) لم يأتِ اعتباطاً، ولعلهم تناقلوه عن آبائهم وأجدادهم، وهو ما يتناسب مع كثرة لقب (العَوْذِيّ) و(العَوِيذِي) في كتب الأنساب وأصالته العربية.
كل ذلك يجعلنا نميل إلى القول: أن لقب (العَودي) لصاحبنا المترجم والشهرة التي أخذها طيلة أربعة قرون هو أمر مشكوك فيه وهو تصحيف، ولعل الصحيح هو (العَوْذِي) بالذال المعجمة. هذا ما نؤمن به منذ الآن وحتى إشعار آخر.
رسالة ابن العوذي:
لقد ألف ابن العوذي رسالة في ترجمة الشهيد الثاني، أسماها: «بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد». وقد ذكر فيها تاريخاً كاملاً لاستاذه الشهيد الثاني منذ ولادته وحتى استشهاده، وهي مرتبة على مقدمة وفصول وخاتمة. وقد ضاع أكثرها، ولم يبق منها وللأسف الشديد إلا القليل، الذي ظفر به الشيخ علي بن محمد بن الحسن بن زين الدين، أي حفيد ابن الشهيد، وأودعه في كتابه «الدر المنثور من المأثور وغير المأثور»[14] الذي صدر عام 1398 هـ في مدينة قم المشرفة، من دون تحقيق ولا ضبط.
وقد اعتمدت مراجع رجالية كثيرة على هذه الرسالة، نظراً لأهميتها وفرادتها خصوصاً وأنّ ابن العوذي، كان قد ضمّنها، رسالة خاصة كتبها الشهيد الثاني في ترجمة نفسه.
فقد عنونه الشيخ أقابزرك الطهراني في حرف الباء تحت عنوان «بغية المريد..».[15] وتأسّف على ضياع أكثر فصول الكتاب، هذا الأسف لازم أغلب العلماء الذين ذكروا الرسالة وعنونوها.
ونقل عنها الشيخ النوري في كتابه «جنة المأوى في من فاز بلقاء الحجة الكبرى»[16]، الحكاية التاسعة والأربعون، وهي استفادة تاريخية خارج نطاق اختصاص الرسالة بترجمة الشهيد كما لا يخفى.
وقد صرح الحر العاملي في كتابه أمل الآمل بأنه رأى «قطعة»[17] من الرسالة، ونقل منها، فلا ندري هل أنّه رأى الرسالة مستقلة، أي كانت لديه نسخة منها، أو أنّه رآها ضمن كتاب الدر المنثور؟ وفي الحالتين فإنّه قد اعتمد عليها ليس كمصدر لترجمة الشهيد الثاني - كما درجت العادة - وإنّما كمصدر أساسي ووحيد في ترجمة بعض الأعلام من تلامذة الشهيد الثاني، كما حدث عندما ترجم للشيخ علي بن زهرة العاملي الجبعي[18].
ونقل السيد الخونساري في الروضات معظم فصول الرسالة[19].
ولم نعثر في حدود ما استقصيناه على نسخة مخطوطة للكتاب - خارج كتاب الدر المنثور- نأمل أن يوفق الله المهتمين بهذا الفن لذلك.
وبالإجمال، فإن رسالة ابن العوذي قد لازمت كل المصادر والمراجع الرجالية والتاريخية التي ترجمت للشهيد الثاني، فهي بحق كما قال أحد المحققين المعاصرين: «أول وأحسن مصدر لترجمة الشيخ الشهيد»[20].
خصائص الرسالة:
يُصنّف هذا النوع من الرسائل تحت عنوان التراجم الخاصة - إنْ صحّ التعبير - وهو لون شاع في كتب التراث، وأخذ حيزاً من اهتمام التراثيين، وهو أنْ يؤلف تلميذٌ كتاباً في ترجمة أستاذه، أو أن يؤلف مؤلفٌ كتاباً خاصاً في ترجمة أحد الأعلام.
وهذا النوع من التأليف - ورسالة ابن العوذي نموذج على ذلك - يمتاز بما يلي:
يبدو تأثّر المؤلف واضحاً بالمترجم له، وذلك لقربه منه وتلمّذه عليه، وأخذه عنه، ونتذكر هنا كلاماً للشيخ أقابرزك الطهراني عندما بدأ بكتابة ترجمة لأستاذه الشيخ النوري صاحب المستدرك.
يقول أقابرزك الطهراني - وهو الذي كتب الآلاف من التراجم - ما نصه:
«إرتعش القلم بيدي عندما كتبت هذا الإسم، واستوقفني الفكر عندما رأيت نفسي عازماً على ترجمة أُستاذي النوري، وتمثّل لي بهيئته المعهودة بعد أن مضى على فراقنا خمس وخمسون سنة، فخشعت إجلالاً لمقامه، ودهشت هيبة له، ولا غرابة فلو كان المترجم له غيره لهان الأمر، ولكن كيف بي وهو من أُولئك الأبطال غير المحدودة حياتهم وأعمالهم..».[21] إلى آخر كلامه. وهذا المعنى يبدو واضحاً في رسالة ابن العوذي.
استخدم ابن العوذي لغة سليمة، وسجعاً مرصوفاً، يدلاّن على بيان رفيع، وبلاغة مميزة، ومنطقٍ جمع بين عرض التفاصيل ودقة التعبير.
إن المأساة التي تعرّض لها الشهيد الثاني بالطريقة المبهمة التي استشهد بها، قد خالطت مداد ابن العوذي، فغدت الرسالة مسكونة بالألم، مملوءة بوجع يختفي وراء السطور، فجاءت الكلمات صادقة مخلصة، وتبدّى التعبير على ضخامة بعض الوصف، منطقياً موضوعياً عفوياً، لا يقارب المبالغة، ولا يبتعد عن الحقيقة.
إن النقص الموجود في رسالة ابن العوذي، من خلال فقدان معظمها، يجعلنا نتردد في تقييم مستوى الاستيعاب والاستقصاء الذي قام به المؤلف لحركة الشهيد الثاني الفكرية والاجتماعية، إلا أننا نجزم بأنّها سلطت الضوء على نقاط ما كانت لتبرز، لولا نص ابن العوذي، المرتكز على خصوصية الملازمة - سبعة عشر عاماً - ومعرفة القرب، وشدة العلاقة.
إنّ رسالة ابن العوذي قد عرفتنا على كثير من خصوصيات الشهيد الثاني، ويا ليتها عرفتنا أكثر على ابن العوذي، ذلك التلميذ المخلص الذي لا نزال نجهل الكثير عنه، وعن مستواه العلمي، وعن حركته الثقافية.
قبر ابن العوذي حالياً:
وقد زرت مرقد (ابن العوذي) في بلدة كفركلا مرتين. الأولى في صباح يوم الاربعاء المصادف 30 أيار 2001م، الساعة الحادية عشرة، وقد صعدت إلى التلّة بصعوبة فوجدت المرقد كما وصف السيد الأمين على قمة جبلٍ عالٍ خارج البلدة.
وكانت اسرائيل قد حولته في فترة الاحتلال الغاشم لجنوب لبنان إلى مركز عسكري نظراً لموقعه الاستراتيجي المطل على المنطقة كافة، بما فيها مستعمرة (المطلة)، إلا أنها تركته بعد فترة. وسمعت من بعض أهالي المنطقة ان الاسرائيليين تركوا الموقع بعد أن ظهرت كرامات لصاحب القبر منعتهم من البقاء.
والظاهر أنه بعد الانسحاب الذليل للعدو الاسرائيلي من جنوب لبنان قام الاسرائيليون بتهديم المقام، وما شاهدته في تلك الزيارة هو اطلال آثار، وركام من الصخور والحجارة لعل تحتها قبر (ابن العوذي)، لكن الآثار تدل بوضوح على وجود المقام المحاط بمنطقة ملغومة بشكل كثيف.
والناس في بلدة كفركلا يسمونه (النبي العَويذي) جهلاً منهم بصاحب القبر، إلا انهم - وبالاجماع - يتلفظون لقبه بشكل صحيح وهو (العَويذي) بفتح العين. وقد تعمدت أن ألفظه أمامهم بصيغ أخرى عندما كنت أسأل عن مكان المقام، فكانوا يصححون لي اللقب ويؤكدون ان اسمه (العويذي) وهو ما يؤكد أيضاً ما ذهبنا إليه في بحثنا عن لقب المترجم له. وما سمعته من الناس يمكن أن يُصنّف من باب التاريخ الشفهي الذي تتناقله الاجيال عبر السنين. وبما ان الفترة التي تفصلنا عن مرحلة ابن العوذيّ تتعدى القرون الأربعة بقليل تقريباً، وهي فترة قصيرة نسبياً، فهو عنصر يضاف إلى أدلتنا السابقة في تأكيد ما ذهبنا إليه.
وقد زرت القبر ثانية بعد مرور عشر سنوات على زيارتي الأولى، وذلك في يوم الثلاثاء المصادف 12/4/2011، الساعة الخامسة عصراً. فوجدت - وللأسف - ان الآثار التي كانت تدل بوضوح على وجود المقام والتي رأيتها في زيارتي الأولى قد أزيلت وتهدمت وتحولت إلى ركام كبير بسبب المعارك التي دارت في المنطقة ابان العدوان الاسرائيلي في تموز 2006. وهذا يدعونا إلى توثيق آثارنا الإسلامية بشكل علمي ومنهجي، ومنها بالتأكيد قبور العلماء. إن ما يمكن توثيقه اليوم قد لا يتيسر غداً.
ومن المؤسف أن نفقد في مطلع الألفية الثالثة، ألفية العولمة وحوار الحضارات والتطور الهائل في وسائل التوثيق السمعي والبصري، أن نفقد تراثاً حُفظ على مدى أجيال، نتيجة عدوان همجي جاهل.
رحم الله الشهيد الأول، ورحم الله الشهيد الثاني، وتلميذه المجهول ابن العوذي.
[1](*) باحث ومدير مكتب سماحة السيد السيستاني في لبنان.
أمل الآمل ج 1 ص 166 ترجمة رقم 169
[2] أمل الآمل ج 1 ص 166 ترجمة رقم 169
[3] جنة المأوى، عنه في بحار الأنوار ج 53 ص 296
[4] روضات الجنات ج 3 ص 339
[5] طرائف المقال ج 1 ص 83 / 267
[6] تكملة أمل الآمل ص 353
[7] أعيان الشيعة ج 9 ص 424
[8] أمل الآمل ج 1 ص 166، رياض العلماء ج 5 ص 131، الكنى والألقاب ج1 ص 368، سفينة البحار ج 1 ص 724، لؤلؤة البحرين ص 29، روضات الجنات ج 3 ص 339، تكملة أمل الآمل ص 353، معجم رجال الحديث ج 7 ص 372، أعيان الشيعة ج 9 ص 424، خطط جبل عامل ص 286، الذريعة ج 3 ص 136 / 462، طرائف المقال ج 1 ص 83 / 267، بلدان جبل عامل ص 557، جبل عامل في التاريخ ص 95
[9] خطط جبل عامل ص 268، بلدان جبل عامل ص 557
[10] الأنساب للسمعاني ج 4 ص 256
[11] الأنساب للسمعاني ج 4 ص 256
[12] تاج العروس - مادة عوذ - ج 9 ص 445
[13] تاج العروس - مادة عوذ - ج 9 ص 445
[14] الدر المنثور ج 2 ص 149
[15] الذريعة ج 13 ص 136 / 463
[16] جنة المأوى عنه في بحار الأنوار ج 53 ص 296
[17] أمل الآمل ج 1 ص 166 / 169
[18] نفس المصدر ج 1 ص 120 / 125
[19] روضات الجنات ج 3 ص 339
[20] الشيخ رضا المختاري في مقدمته لمنية المريد ص 11
[21] مستدرك الوسائل ج 1 ص 41
البعد الأخلاقي للتربية والتعليم
عند الشهيد الثاني بحث مقارن بين منية المريد والتربية والتعليم المعاصرين
د. طلال عتريسي (*)
تمهيد[1]
الشهيد الثاني هي الصفة التي أطلقها عليه محبّوه وأهله من سكَّان جبل عامل، عندما بلغهم نبأ استشهاده على يد أحد السلاطين العثمانيين في عام 965 هـ ـ 1558م. وكان زين الدّين بن علي بن أحمد من مشاهير الفقهاء العظام الذي ترك بعد رحلةِ عمره القصيرة (54 عاماً) نحوا من سبعين كتاباً ورسالةً في مختلف الموضوعات الفقهيَّة والأخلاقيّة والتربويّة. وفي كتب الرجال والأنساب والشروح والتحقيق والتفسير والأحكام الشرعيّة، بقيت زاداً وكنزاً ثميناً لمن خلفه من العلماء والدّارسين.
تنقَّل الشهيد الثاني في الأمصار الإسلاميَّة، شأن العلماء المسلمين الذين دأبوا على الحلّ والترحال بحثاً عن المعرفة وحباً بالعلم الذي أوصى رسول الله P بتحصيله والفوز به، وجعله مع الحكمة ضالّة المؤمن. إلا أنَّ ما تميَّز به الشهيد الثاني في رحلته الدائمة عن المعرفة أنَّه درس المذاهب الإسلاميّة كافَّة، ولم يقتصر على المذهب الإماميّ فقط. بل ـ وهذا هو الأكثر أهميَّةً ـ أنَّه درَّس طلابه حيث أقام هذه المذاهب، وقارن بينها، وأدلى بدلوه وأفتى برأيه فيها. وكانت معرفته بفقه هذه المذاهب الأربعة واطِّلاعه على كتب أحاديثهم «أعلى من معرفتهم بمذاهبهم». وكان لافتاً في حياة هذا الفقيه والعابد والمجتهد الشيعيّ أنْ يتنقل في بلاد الدولة العثمانيّة في زمن التشدّد والعصبيّة والمذهبيَّة، حاملاً لواء التقريب والوحدة. ولولا هذه القدرة على الصبر والتحمّل لما سطع على الأرجح نجمه وخلد أثره، كما يقول العارفون به. خصوصاً وأنَّ الشهيد الثاني نشأ في بيئةٍ تلازم العلم مع تاريخها في جبل عامل. حيث ازدهرت الحوزات الدينيّة التي تخرَّج منها المجتهدون الكبار والعلماء الأفذاذ... قبل أن تضرب في تلك المنطقة يد الجور والاستبداد لتبدِّد حصيلة ما جُمِعَ في القرون السابقة.. ما أدَّى إلى هجرة العلماء وإقفال الحوزات بعدما حرقت الكتب والمكتبات... إلى أن ورثت المدرسة الحديثة في مطلع القرن العشرين الحياة التعليميَّة في جبل عامل.
القطيعة بين التعليم القديم والحديث
اشتهرت كتب الشهيد الثاني ورسائله في الموضوعات كافّة التي كتب فيها، خصوصاً في أوساط الحوزات العلميّة المختلفة. إلا أنَّ القطيعة التاريخيَّة بين نظام التعليم الحديث ونظام التعليم في الحوزات الدينيّة، الذي نجم عن تحوّلات سياسيّة وعسكريّة وثقافيّة انتهت بتقدّم الغرب في بلاد المسلمين وبهيمنته على مقدَّراتها المختلفة، بعد انهيار الدولة العثمانيَّة، حرم طلاب هذا التعليم الحديث من الاطِّلاع على ما دوَّنه الفقهاء، وما تركه العلماء والمجتهدون من أفكار وموضوعات فكريَّة وفلسفيَّة وإنسانيّة وتربويّة. ولهذا الأمر علاقةٌ مباشرة بذلك الاختلال في موازين التقييم والتقدير الناجمة عن التقدّم الغربيّ الذي أشرنا إليه، وما رافقه من تراجعٍ نفسيٍّ وثقافيٍّ تجاه ما تركه علماء المسلمين وتجاه تجربتهم السابقة في التعليم وفي تحصيل العلم، وحتّى في مكانة هذا العلم ودوره. حتّى طرح المرحوم شكيب أرسلان تساؤله الشهير: «لماذا تقدَّم الغرب وتراجع المسلمون؟» وأجاب عن ذلك بقوله: إنَّ السبب هو في نظام التعليم؛ لأنَّ في هذا النِّظام العلَّة التي يُمكن بواسطتها استعادة سبل التقدّم والنهضة. وبسبب هذا التفوّق الغربيّ بات (من الطبيعيّ) أن يعرف طلاب الجامعات في بلادنا الإسلاميّة، علماء الغرب، ومدارسهم ومناهجهم في التربية والاجتماع والفلسفة وباقي العلوم، أكثر ممَّا يعرفون النظريَّات والأفكار التي تركها علماء المسلمين. وبات روسو وديوي ومونتسوري وبستالوتزي وسواهم ممّن قدّموا إسهامات مهمّة في عالم التربية في الغرب أكثر شيوعاً من أفكار وتجارب الغزاليّ والقابسي وابن جماعة والشهيد الثاني وأمثالهم ممَّن كتب الرسائل المهمَّة في التربية والاجتماع. وبذلك حرم هؤلاء الطلاب من تراثٍ عظيم من المعرفة لم يكن ملكاً لأيِّ طائفةٍ أو دين أو مذهب. ومن أبرز ما حرم منه هؤلاء الطلاب ذلك السفر النفيس في علوم التربية والأخلاق وفي ممارستهما العمليّة أعني به كتاب (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد)، الذي عاش مؤلِّفه قبل أكثر من خمسة قرون، وتوفّي قتلاً بسبب مذهبه الإمامي في عام 1558، وهو لم يتجاوز الرابعة والخمسين من العمر.
فما هو هذا السفر؟ وما هي أهميّته التربويّة والأخلاقيّة مقارنةً مع أُسس التربية الحديثة وأدبيَّاتها المختلفة؟
تعريف بالكتاب
(منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) كتاب في بيان قيمة العلم وتكاليف التلامذة والأساتذة، والمفتي والمستفتي، وآداب المناظرة والكتابة، وآداب التعليم... وقد أنهى المؤلِّف هذا الكتاب وهو في نحو الرابعة والأربعين من العمر بعد أن قضى معظم سنيِّ حياته متنقلاً بين الحوزات الدينيّة ومجالس العلم، ومراكز التعليم. فجمع في كتابه هذا إلى خبرته العمليّة، وإلى ما شاهده من واقع حال المعلِّمين والمتعلِّمين، في دمشق ومصر وبيت المقدس والقسطنطينية، والعراق، معرفته الفلسفيَّة والنظريَّة ومعارفه الحِكَميّة التي كوَّنها من تآليفه في علوم القرآن والفقه والأخلاق والتفسير... وهذا الكتاب كما قال بعض من عرفه: «من أحسن كتب الإماميّة في كيفيّة البلوغ إلى أقصى الغاية والترقّي إلى المقامات العالية، وبيان فضل العلم وأهله، وآداب تعليمه وتعلّمه، وشرائط الفتوى والمفتي وآدابهما، وغير ذلك ممّا يتعلَّق بالعلم والعمل وتهذيب الأخلاق الإنسانيّة، والوصول إلى الدرجات الملكية، واللحوق بالنفوس الكاملة القدسية...».
قسَّم المؤلِّف كتابه إلى مقدِّمةٍ في فضل العلم من الكتاب والسنة، ودليل العقل،وإلى أربعة أبواب، وخاتمة. الباب الأوّل منها في آداب المعلِّم والمتعلِّم، والثاني في آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، والثالث في المناظرة وشروطها وآدابها وآفاتها. أمَّا الباب الرابع فكان في آداب الكتابة والكتب التي هي آلة العلم. وجعل الخاتمة في مطالب مهمَّة، منها أقسام العلوم الشرعيّة ومراتب أحكام العلم الشرعيّ، وترتيب العلوم بالنظر إلى المتعلِّم، وأضاف في تتمّة الكتاب نصائح مهمّة لطلاب العلوم.
مكانة العلم مقارنة بين اتّجاهين
(القراءة هي أساس كلِّ علمٍ ومدار كلِّ معرفة). وهي أوَّل منَّةٍ امتنّ بها الله على ابن آدم بعد خلقه. إذ قال في أوّل سورةٍ أنزلها على نبيّه محمد P: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ (العلق، 1ـ 5). وقرن العلم بالحكمة فقال:}وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا{ (البقرة، 269)، كما فضَّل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، ورفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات. ثمَّ ذكر في بيان فضل العلم الأحاديث الشريفة، كما في قوله P: «فضل العالم على العابد سبعون درجة». و«من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع». و«قليل من العلم خير من كثير من العبادة». ثم يذكر المؤلِّف روايات مشابهة لا تخرج في مضمونها عمَّا ذكرته الآيات والأحاديث الشريفة. من ذلك على سبيل المثال ما روي عن الإمام علي Q:«يا كميل العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق».
تَطرح فكرة تفضيل العلم على العبادة التي يُشير إليها الشهيد الثاني استناداً إلى أحاديث نبويّة عدَّة قضيةً أخرى موازية مطروحة بقوّة في عالم اليوم هي العلاقة بين العلم والعمل. وهذه القضية لا تختلف في جوهرها عن علاقة العلم والمال التي يُشير إليها الإمام علي Q مفضِّلا العلم على المال. إنَّ لقيمة العلم بالنسبة إلى الإسلام وأئمّته قيمة عليا لا تضاهيها قيمة حتّى لو كانت العبادة نفسها، فكيف إذا كانت جني المال؟! هذه القضية تُناقَش في كثيرٍ من الأدبيَّات التربويَّة والاقتصاديَّة من باب وظيفة العلم. هل هذه الوظيفة هي لخدمة ما يُطلق عليه (سوق العمل)؟ أم أنَّ العلم نفسه هو قيمة من دون أن يكون لذلك أيّ ارتباط بأيِّ سوق. أم أنَّ وظيفة العلم هي المعرفة من جهةٍ وهي من جهةٍ ثانية التقرّب إلى الله وإلى الناس من خلال التعرَّف على حاجاتهم ومشاكلهم؟... هذا ما يُطلق عليه أيضاً (إعادة التفكير في وضع التعليم ووظيفته). وهذا هو ما يستحقُّ المقارنة بين هدف التعليم في الإسلام وبالنسبة إلى الشهيد الثاني وبين المسار الغربيِّ الحديث كما تعبِّر عنه دعوات العولمة في المجالات التعليميّة والتربويّة والاقتصاديّة وسواها... وتنطبق هذه الدعوات خصوصاً على التعليم العالي؛ لأنَّ هذا التعليم هو مرحلة التخصّص في مجالات المعرفة. وهو الذي يفترض أنّ يؤدِّي إلى سوق العمل. لذا إنّ إعادة التفكير في وضع التعليم العالي اليوم له علاقة مباشرة بهذه العولمة التي طرحت وبشكل جذريّ البحث في كثيرٍ من المفاهيم التي عرفتها أجيال سابقة، مثل الترابط بين الزمان والمكان في العمليّة التعليميّة، ومثل الهدف من التعليم، إلى وظيفة الجامعة، وإنتاج المعرفة، وقيمة المعرفة، وسوق العمل، وأدوار الفاعلين الجُدد المحليّين والخارجيّين غير الرسميّين وغير التربويّين وغير الجامعيّين في التعليم العالي... (أدوار أهل الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا...).
تواجه الجامعة اليوم، وهي مقرّ التعليم العالي، تحدياً مهماً لا يمكن تجاهل تأثيراته على دورها ومهامها. فعليها في ظلِّ التطوّرات الاقتصاديّة العالميّة وفي ظلِّ تغيّر الأفكار حول دور الجامعة أن تخضع من جهةٍ لمطالب سوق العمل. بحيث تنسجم برامجها ومناهج التعليم فيها ومقرَّراتها الدراسيّة مع حاجات هذا السوق. أي ما يتناسب مع ما بلغه السوق من تطوّرٍ في البيع و في جني الأرباح، ومن خلق الحاجات المختلفة للاستهلاك. وبسبب الترابط العولميّ الراهن بين الأسواق سيكون علينا عندما نفكِّر في علاقة الجامعة بسوق العمل المحلي أن لا نتجاهل علاقة هذا السوق وحاجاته المفترضة مع تحوَّلات الأسواق العالميّة. لكن على الجامعة من جهةٍ ثانيةٍ، وفي ظلِّ التطوَّرات العلميَّة والتكنولوجيّة، أن تكون مكاناً لإنتاج المعرفة. خصوصاً وأنَّ أحد أبرز تجليَّات العولمة هو ما يُطلق عليه (إقتصاد المعرفة). وعلى التعليم العالي يقع العبء الأساس في هذا المجال. أي في مجال إنتاج المعرفة.
لذا يُصبح السؤال المهمّ الذي تواجهه الجامعة هو كيف سيتسنَّى لها أن توفِّق بين دورين متناقضين:
التكيّف مع السوق من جهة، وهو تكيّف لا يعني سوى الخضوع لإملاءات من يتحكَّم بهذا السوق من قوىً سياسيّة واقتصاديّة (أي من لاعبين غير تربويِّين ومن مصادر غير تربويّة محليّة ودوليّة...).
دورها من جهةٍ ثانيةٍ في إنتاج المعرفة، (أدوار التربويِّين والمفكِّرين). وهذا الدور يتجاوز السوق إلى ما هو أبعد من ذلك بكثيرٍ. أي إلى حيث تحصل المعرفة على قيمتها لذاتها وإلى حيث يُمكن أن تتجاوز حدود الزمان والمكان أيضاً. يبرِّر أنصار ربط الجامعة بسوق العمل بالتكاليف التي تتكبَّدها الدولة للإنفاق على الجامعة، ولذا يُريد هؤلاء خفض عدد طلاّب الجامعة وعدد أساتذتها وزيادة رسوم الانتساب إليها، وصولاً إلى التفكير بخصخصتها. وفي ذلك، كما يبدو، للوهلة الأولى، تناقضٌ صارخٌ بين منطقين: منطقٍ حديثٍ يبحث في الجامعة عن منظومة ربحيَّة تجاريَّة (منطق السوق)، ومنطقٍ تقليديّ يريد للجامعة دوراً أخلاقياً وعلميّاً ومعرفيّاً. وهذا تماماً ما يريده الشهيد الثاني من التعليم بغضِّ النظر عن المرحلة التي يتعلَّم فيها الطالب. لكن من الواضح أنَّ هذا الهدف يتَّصل بالتعليم في مراحله العليا وليس في المراحل الدنيا التي لا تتّضح فيها معالم التخصّص أو المعرفة.
إنَّ التفكير في ربط أهداف التعليم بالسوق وحصرها بذلك أو جعل العلاقة مع هذا السوق أولويَّة على ما عداه من أهداف هو الذي أدَّى إلى ذلك التحوّل في النظر إلى قيمة العلم نفسه. فقد ارتفعت القيمة المعنويّة والماديّة لكلِّ ما له علاقة بالتخصّص الذي يؤدِّي إلى وظيفة في السوق. وتراجعت في الوقت نفسه على المستوَيَين المعنويّ والماديّ قيمة أيِّ تخصصٍ قد لا يجد له مكاناً في سوق البيع والشراء وجني المال والأرباح. ساهم في الترويج لهذا الفكرة الأخيرة التحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة طوال العقود الماضية التي جعلت من المصرف ومن السوق المرتبط بالمصرف محور الحياة في المدينة، ثمَّ محور الحياة والعلاقات والقِيَم الاجتماعيّة في المجتمع. وتحوَّلت بعد ذلك قيمة الإنسان تدريجاً إلى ما يملك وليس إلى ما يَعرف أو ما يكون. وهو ما عبَّر عنه إريك فروم في كتابه الشهير (بين الملكيّة والكينونة) الذي انتقد فيه المجتمع الغربيّ الحديث الذي بات يمجِّد قيمة الملكيّة أكثر من أيِّ قيمةٍ إنسانيَّة أُخرى (قيمة الكينونة).
مع هذا التراجع القِيَميّ في النظرة إلى التعليم لم يعد هذا الأخير قيمة إنسانيَّة عليا بحدِّ ذاتها بغضِّ النظر عن الوظيفة التي سيحصل عليها المتعلّم. لم يكن الأمر كذلك في كلِّ الحضارات العظيمة التي رفعت شأن العلم والعلماء. فلم يسأل أحد يوماً ماذا كان يعمل سقراط أو أفلاطون أو الغزالي أو ابن عربي أو روسو أو فولتير أو جمال الدين الأفغاني، أو السيد الطباطبائي أو العلامة المجلسيّ... أو سواهم من العلماء والفلاسفة، ومن المفكِّرين والمصلحين... حتَّى أنَّ بعض العلماء عاب على أقرانه قبول الأجر على التعليم؛ لأنَّ العلم أسمى من أيِّ أجرٍ يُمكن الحصول عليه. وقال آخر: إنَّ رتبة العلم أعلى الرتب. وهذا ما لخَّصه الإمام علي Q بقوله الشهير: «العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم، والعلم يزكو بالإنفاق والمال تنقصه النفقة...» والمقصود من ذلك كله أنَّ العلم هو الحاكم وهو المرجعيَّة الأساس قبل أيِّ مرجعيّةٍ أُخرى. إنَّها بتعبيرٍ آخر أصالة العلم، وأصالة المعرفة. وليست أصالة السوق، أو أصالة البيع والشراء. وهذا ما أراد الشهيد الثاني أن يؤكِّد عليه في رسالته التربويّة من خلال البرهان على أنَّ «كلَّ الأديان والحضارات، وكذلك علوم الأوّلين، جعلت العلم في مكانة سامية».
وظيفة التربية في العملية التعليميّة
لا يكتفي الشهيد الثاني بذكر الآيات والأحاديث الشريفة التي تحضّ على طلب العلم وعلى سموِّ مقاصده. بل يعود إلى الحكمة القديمة، في تأكيدٍ منه على تواصل المعرفة، التي يأخذ منها ما يتعلَّق أيضاً بالعلم وفضله. فيذكر ما قاله لقمان لابنه ودعوته له لمجالسة العلماء، ثمَّ يذكر مثلاً آخر من التوراة، وفيه دعوة إلى تعليم الحكمة، ومن الزبور، لمحادثة الناس الأتقياء والعلماء، ومن الإنجيل «ويل لمن سمع بالعلم ولم يطلبه». ثمَّ يروي الشهيد الثاني ما ذكره بعض المحقِّقين والعلماء، ثم يعود إلى دليل العقل على فضل العلم. وبهذا يكشف مؤلِّف منية المريد في كتابه، سعةً في العلم، واطِّلاعاً على ما جاء في علوم الأوّلين، ويبرهن للطالب وللقارئ سمة العلم وعلوِّ شأنه عند جميع الأديان وفي جميع الحضارات، فلا يترك مجالاً لشكٍ أو تردّد. وهذا التركيز على مكانة العلم السامية، ليس مجرّد مقدِّمة تقليديّة لكتابٍ عن العلاقة بين العالم والمتعلِّم، بل هو مدخل فلسفيّ، لا يمكن أن ندرك كلَّ ما سيرد فيه من آداب إذا لم نطَّلع على هذه المقدّمة، وإذا لم نعرف مكانة العلم الفريدة في الإسلام. وهي مكانة لم تذكرها في الواقع أيٌّ من أدبيَّات التربية الحديثة ولم يشدِّد عليها أيٌّ من علماء التربية المرموقين في عالم الغرب؛ لأنَّ وظيفة التربية،وكذلك العلاقة بين العالم والمتعلِّم، ليست مجرَّد نصائح أو إرشادات تقنيَّة أو منهجيّة... بل هي تعبير عن فلسفةٍ شاملةٍ لمعنىً الوجود الإنسانيّ، ولدور الإنسان على هذه الأرض وفي هذا الوجود الذي لا يتحقَّق إلا بالعلم في المقام الأوَّل. أمَّا شرط تحصيل هذا العلم،فهو إخلاص النيّة. وبهذه الدعوة يبدأ الشهيد الثاني حديثه عن آداب المعلِّم والمتعلِّم في القسم الأوَّل من كتابه.
وتثير هذه القضية حول إخلاص النيَّة في طلب العالم أسئلةً كثيرةً في عالم اليوم. وعندما يجعل الشهيد الثاني من النية شرطاً لتحصيل العلم ويربط ذلك بآداب المعلِّم والمتعلِّم فإنَّما يعيد للعلم مكانته السامية التي تحوَّلت اليوم إلى مكانةٍ تجاريَّة أو اقتصاديَّة بغضِّ النظر عن الأهداف الإنسانيّة أو الأهداف المعنويَّة. إنَّها المرَّة الأولى في تاريخ التربية والتعليم التي توضع فيها الشروط لآداب العالم وآداب المتعلِّم. أي إنَّ التعليم ليس مجرَّد معلومات تنتقل من شخصٍ إلى آخر. بل هي علاقة تفاعل وتأثير وتأثّر سلوكيَّة وأخلاقيّة ومعنويّة. ولم تلحظ الأدبيَّات التربوية الغربيَّة في تاريخ التربية مثل هذا الاهتمام بالعلاقة بين العالم والمتعلِّم أو بالشروط المطلوبة في كلِّ واحدٍ منهما. خصوصاً وأنَّ التعليم في الغرب لم يعد يهتمّ بأيِّ أهداف معنويَّة في تحصيل العلم، ولا حتّى في جوانب الحياة كافَّة، بعدما فقد الدور المرجعيّ الذي كان للدّين، وانتقل بعدها الغرب إلى مرجعيَّةٍ أُخرى هي مرجعيَّة المصلحة والرغبة والفرديّة بعيداً من أيِّ صلةٍ بالجوانب المعنويّة أو الأخلاقّية.
لقد اهتمَّ الغربيِّون بالتقنيّات التي تجعل العمليَّة التعليميَّة أكثر نجاحاً. واستفادوا في هذا المجال من الاختراعات العلميَّة التي تقدَّمت كثيراً. كما أنَّهم اهتمّوا أيضاً بالبيئة التعليميَّة من الصفِّ إلى الوسائل السمعية والبصريّة... لكنَّهم لم يهتمّوا بالجانب الأخلاقيّ عند المعلِّم ولم يتحدَّثوا عن الشروط المطلوبة في هذا الجانب. كما أنَّهم لم يضعوا الشروط أو النظريَّات حول آداب المتعلِّم. بل شدَّدوا على مستوىً آخر على مجانيَّة التعليم أو على إلزاميّته على سبيل المثال. لكن كيف يتصرَّف المتعلِّم مع معلِّمه لم تكن ضمن الاهتمامات التي شغلت بال المفكّرين والتربويّين الغربيّين. كذلك لم تكن النية مطلباً في تحصيل العلم. خصوصاً وأنَّ النية مفهوم له علاقة بالمقاصد الدينيّة والأخلاقيّة التي لم يعد الغرب يعيرها أي اهتمام في النشاط الإنسانيّ عموماً. وانطلاقاً من هذا الارتباط بين الأعمال والنيّات، يستمرّ الشهيد الثاني في رؤيته الفلسفيّة إلى كلِّ ما يريد قوله أو عمله؛ لأنَّ النية المطلوبة ينبغي أن يُقصد بها من العلم «وجه الله تعالى، وامتثال أمره، وإصلاح نفسه، وإرشاد عباده إلى معالم دينه، ولا يقصد بذلك عرض الدنيا من تحصيل مالٍ أو جاهٍ أو شهرةٍ، ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة..» هنا أيضاً يتجاوز الشهيد الثاني ما كتبه علماء التربية في عصرنا الحديث. فلا يشاركهم أهداف (التربية الوظيفيّة)؛ لأنَّ وظيفة العلم بالنسبة إليهم باتت لتحصيل الشأن أو المعاش. بينما أرادها الشهيد الثاني باباً للتقرّب إلى الله في المقام الأوّل. والفارق كبيرٌ والهوّة شاسعة بين الرؤيتين وفي الواقع بين الفلسفتين, وإذا كانت التربية الحديثة عموماً لم تلتفت إلى هذه القيمة المعنويّة لطلب العلم ولم تشدّد على مكانته السامية، فإنَّ الشعوب القديمة كانت أكثر اهتماماً بهذا الشأن وبهذه القيمة للعلم. فقد روي أنَّ أحد الحكماء المصريين القدماء قال لابنه: «امنح قلبك للعلم وأحبّه كما تحب أمَّك، فلا يعلو على الثقافة شيء».
وإلى إخلاص النيَّة كشرطٍ لتحصيل العلم، يضع الشهيد الثاني في الباب الأوّل نفسه ثلاثة أنواع من الآداب:
الأوَّل مشترك بين العالم والمتعلِّم: وفيه أن يكون الغرض من طلب العلم هو العمل به للهدف نفسه. وتجنّب الغرور في هذا الطلب، والتوكّل على الله والاعتماد عليه. ثمّ يشترط عليهما أن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم مطلوبهما ورأس مالهما...
الثاني، يختصُّ به المعلِّم: وأوَّل هذه الآداب أن يكون هذا المعلِّم أهلاً للتدريس، «لأنَّ من تصدَّى قبل أوانه فقد تصدَّى لهوانه». وثانيها أن لا يُذلَّ العلم فيُبذل لغير أهله. وثالثها أن يكون عاملاً بعلمه حتَّى لا يكون كمن يأمرون الناس بالبرِّ وينسون أنفسهم، ولا يحرِّم شيئاً ويفعله... ثمَّ يُضيف إلى ذلك حسن الخلق، والتواضع، وإظهار الحقّ بحسب الطاقة، من غير مجاملة أحدٍ من خلق الله تعالى».
أمَّا آدابه مع طلبته: فعليه أن يؤدِّبهم بالتدريج على الآداب السنيّة، وعلى رياضة النفس بالآداب الدينيّة، وأن يرغِّبهم بالعلم، وأن يحبَّ لهم ما يحبّ لنفسه، وأن يزجرهم عن سوء الخلق، وأن يتواضع لهم، ولا يتعاظم عليهم،... ثمَّ يضيف إلى هذه الآداب تفاصيل عمليّة التعليم نفسها، وملاحظة ما يسمَّى اليوم (الفروق الفرديّة) بين الطلاب. فيرى أنَّ على المعلِّم أن يُخاطب كلَّ طالبٍ بحسب فهمه وإدراكه، ولا يُعطيه ما لا يحتمله ذهنه... وأن يطالبهم بعادة محفوظاتهم، ويسألهم عمَّا ذكره لهم... وأن لا يفضِّل بعضهم على بعض في مودَّة أو اعتناء. وان لا يقبِّح لهم العلوم الأخرى التي لا يدرِّسها (كما يتَّفق ذلك كثيراً لجهلة المعلِّمين)... وعندما ينتقل إلى الحديث عن آداب المعلِّم في درسه، لا يشذّ في رؤيته لهذه الآداب عن سياق ما سبق من التواضع، ومن رفعة شأن العلم، والإخلاص، واحترام الطلاب... ولذا على المعلِّم أن لا يخرج إلى الدرس إلا مع ما يوجب له الوقار والهيبة في اللباس، والنظافة في الثوب والبدن. وأن يسلِّم على من حضر إذا وصل إلى المجلس، وأن يجلس بسكينةٍ ووقار... وأن يحسِّنَ خلقه مع جلسائه، وأن يراعي مصلحة الجماعة في تقديم وقتٍ لحضوره أو تأخيره في النهار... وأن يصون مجلسه عن اللغط. وأن يقول لا أعلم إذا سئل عن شيء لا يعرفه... وان يختم مجلسه بالدعاء. وأن يمكث قليلاً بعد قيام الجماعة... وهي آدابٌ لا تنفصل عن رؤية الشهيد الثاني إلى أولويّة الأخلاق وإلى تهذيب النفس في المقام الأوّل وقبل أيّ عمل, وهو يحوِّل هذه الأولويّة ومن خلال التجربة العمليّة إلى تفاصيل مهمّة في علاقة العالم بالمتعلِّم. وهي تفاصيل على مستوى السلوك، والعلاقة مع الطلاب، وأدب التدريس، التي لم تتطرَّق إليها أدبيّات التربية الحديثة، وإن كان بعض روّاد التربية قد تحدّثوا عن بعض هذه التفاصيل مثل التفاوت بين إدراك الطلاب وطريقة تدريسهم التي أشرنا ليها بالفروق الفرديّة.
أمَّا الثالث فيختصُّ بالمتعلِّم: وتنقسم هذه الآداب بدورها إلى ثلاثة: آدابه مع نفسه، وآدابه مع شيخه، وآدابه في مجلس درسه. ويبدأ الآداب مع تحسين النيّة وتطهير القلب، ليكون صالحاً لتلقِّي العلم، انسجاماً مع ما ذكره في بداية كتابه حول مقام العلم وعلوِّ شأنه. وأن يغتنم التحصيل في فترة الشباب وقوَّة البدن، وقلَّة الشواغل، وقبل ارتفاع المنزلة... وان يقطع ما يقدر عليه من العوائق المانعة عن تمام الطلب وكمال الاجتهاد، وأن يحرص على التعلّم ويواظب عليه... أمَّا آدابه مع شيخه فتبدأ بتعظيم مكانته وإجلال قدره, وأن يعتقد في شيخه أنَّه الأب الحقيقيّ والوالد الروحانيّ، وأن يَضرب صفحاً عن عيوبه، وأن يصبر على جفوةٍ تصدر منه أو سوء خلق... وأن يجتهد بالحضور إلى المجلس قبل حضور الشيخ... وأن يدخل المجلس كامل الهيئة نشيطاً منشرح الصدر صافي الذهن، وأن يجلس بين يديه جلسة الأدب بسكونٍ وخضوعٍ... وأن لا يقطع على الشيخ كلامه، ولا يسأل عن شيء في غير موضعه. أمَّا آداب المتعلِّم في درسه وقراءته فيرتّبها المؤلِّف ابتداءً من حفظ كتاب الله حفظاً متقَناً؛ لأنَّه أصل العلوم. ثمَّ يقتصر من المطالعة على ما يتحمَّله فهمه.. وأن يقسِّم أوقات ليله ونهاره على ما يحصّله، وأن يُبالغ في الجدّ، وأن يلتزم بما مرَّ من آداب مع شيخه.
تُطرح قضية التزام المتعلّم بالآداب المفروضة في علاقته مع معلِّمه أو شيخه التي يشدّد عليها الشهيد الثاني، مسألة مهمَّة في المؤسسات التعليمية والتربويّة من المدرسة إلى الأسرة. فقد تراجعت سلطة المعلّم وسلطة الوالدين ليس فقط على المتعلّمين بل وعلى الأبناء أيضاً. بحيث بات عصر اليوم في الغرب وحتّى في كثيرٍ من البلدان الإسلاميّة هو عصر التراجع في السلطة التربويّة. وهو عصر الجيل الشاب الذي لا ينصاع للأوامر ولا يقيم وزناً لطاعة المعلِّم ولا لهيبته. خلافاً لما يدعو إليه الشهيد الثاني من: «تعظيم مكانة المعلِّم وإجلال قدره.. وأن يجلس بين يديه بسكونٍ وخضوع». إنَّ التجربة الغربيَّة في العلاقة بين العالم والمتعلِّم أو بين الأستاذ والتلميذ ذهبت بمرور الوقت في الاتِّجاه المعاكس لشروط الشهيد الثاني. فقد شدَّدت الأدبيّات التربويَّة الغربيّة من خلال كبار المفكِّرين على تعظيم دور التلميذ أكثر ممَّا حرصت على تعظيم دور المعلّم. وكان هذا الأمر في الواقع هو نتيجة التطوّرات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي حصلت في الغرب والتي رفعت من شأن الحريَّات الفرديّة، وحطَّمت القِيَم والمعايير الأخلاقيّة التي كانت تُعلي من شأن الطاعة والاحترام سواء في المنزل أو في المدرسة. ومع مرور السنين ومع كلِّ التحوَّلات التي شهدها الغرب في هذا المجال باتت التربية بلا سلطة وبات المعلّم بلا سلطة وبلا هيبة وباتت مصطلحات الطاعة والاحترام تنتمي إلى حقبةٍ ماضيةٍ لا يعرفها الجيل الجديد. وهذا يفسِّر الشكوى التي نسمعها اليوم في الأوساط الأسريّة والمدرسيّة من الجيل الشاب الذي بات أقلّ احتراماً لمن هم أكبر منه سناً ممَّا كان عليه الجيل السابق. ولا تقف المشكلة عند حدود المنزل. بل تمتدُّ إلى المدرسة أيضاً. فقد ذهبت هيبة المعلِّم. وبات التلميذ يواجه أستاذه من موقع الندّ للند. فلا طاعة ولا احترام، بل تحدٍّ قد يصل في بعض الأحيان إلى التهديد والوعيد. ولا يجرؤ المعلِّم على المبادرة واتِّخاذ العقوبات المناسبة خشية ردّ فعل الإدارة أو خشية اعتراض الأهل، ما يجعله عرضةَ قلقٍ دائم من تجرؤ التلاميذ عليه من جهةٍ ومن ضغوط الأهل والإدارة من جهةٍ ثانية. ويؤدِّي هذا التراجع في المسافة بين البنوّة والأبوّة، وبين المعلّم والتلميذ إلى حالةٍ من اللامبالاة ومن عدم المسؤوليّة لدى الأبناء والتلاميذ.
لقد انهارت السلطة التربويّة: سلطة المعلِّم وهيبته، ثمَّ سلطة الوالدين وطاعتهما. فقد انتشرت في العقود الماضية الكثير من الأفكار التربويَّة التي جعلت الطفل في مستوى المعلِّم من حيث القيمة والأهميّة. وفرضت على المعلِّم قيوداً شديدةً منعته بها من فرض السلطة على تلاميذه. وباتت سلطة هذا الأخير في غير موضعها وفقدت وظيفتها في التأديب وفي التربية. والفكرة التي لا بدَّ من التوقّف عندها والدِّفاع عنها هي التالية: ليس هناك عمليّة تربويّة في البيت أو في المدرسة من دون سلطةٍ يُمارسها المربّي على من يتلقَّى هذه التربية. إذاً المبدأ الأوَّل وهو ليس بجديد على أدبيَّات التربية في كلِّ العصور هو أن من يؤدِّب له الحقّ في أن يعاقب. وأنَّ من يؤدِّب هو صاحب السلطة. والسلطة هنا ليست التسلّط. والفارق كبير بين الأمرين؛ لأنَّ التسلّط يعني الظلم وغياب الرحمة والاستبداد وفقدان اللين والمرونة، في حين أنَّ السلطة تعني الهيبة وإرغام المتلقّي على تنفيذ ما يُطلب منه. والعمليَّة التربويَّة وحتّى العمليّة التعليميّة هي علاقة عموديّة بين طرفين واحد يعطي وآخر متلقّي. وهي ليست على الإطلاق علاقة أفقيّة يتساوى فيها الجميع؛ لأنَّ هذه الفكرة التي روَّجت لها بعض النظريَّات التربويَّة الغربيَّة في مرحلةٍ معيَّنةٍ، جعلت التلميذ أو المتعلِّم بحسب تعبير الشهيد الثاني، في الموقع نفسه مع الأستاذ على اعتبار أنَّه محور العمليّة التعليميّة، وأرغمت المعلِّم تدريجياً على التخلّي عن سلطته لكي ينسجم مع فكرة المحوريّة هذه.
تلخّص هذه الآداب والشروط التي وضعها الشهيد الثاني في (منية المريد) ثمرة تجربةٍ واسعةٍ قضاها في أوساط الحوزات العلميّة. وثمرة معرفةٍ عميقةٍ بالإسلام على مستوى الإعداد السلوكيّ والأخلاقيّ، ووظيفة العلم، ومهمّة العالم والمربّي في تقديم القدوة الأخلاقيّة الصالحة والمناسبة. وإذا كان معظم من كَتَبَ من علماء المسلمين عن العلاقة التربويّة بين العالم والمتعلِّم قد ركَّز على أهميَّة هذه القدوة، وعلى اقتران القول بالعمل، وعلى الإخلاص لله تعالى، وعن زهد العالم وورعه،كما فعل الغزالي وابن جماعة، والحسين بن المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي. أو كما كتب إخوان الصفا في رسائلهم، فإنَّ الشهيد الثاني أضاف إلى ذلك كله ما عرفه في تجربته على مستوى تقسيم هذه الآداب تجاه العالم والمتعلّم، وتجاه آداب الفتوى والمستفتي، إلى آداب المناظرة وآداب الكتابة والكتب، وما يتعلّق بها. فتكون رسالته بهذا المعنى أكثر شمولاً ممّا سبق وتطرق إليه علماء آخرون. ناهيك بمن يحتمل أن يكون قد أخذ عنه، أو نسب ما كتبه إليه.
أمَّا ما كتبه القابسي، وهو من علماء المغرب، وقد ولد في 324 هجرية وتوفّي في 403 هجرية أي قبل الشهيد الثاني بنحو 500 عام، فقد توجّه في كتابه (الرسالة المفصلة لأحوال المعلّمين وأحكام المعلِّمين والمتعلِّمين) إلى تدريس الصبيان وطريقة تعليمهم وتأديبهم مفصلاً في الثواب والعقاب وفي مناهج الحفظ والتعليم... وكذلك فعل ابن عبد البرّ المتوفّى بعد القابسي بستين سنة في 463هجرية، في مؤلّفه: (جامع بيان العلم وفضله،وما ينبغي في روايته وحملته)...
لقد فرضت التطوّرات التي عرفتها المجتمعات الإسلاميّة في القرون الماضية على علماء المسلمين إعادة التأكيد على أهداف التربية وأولويّاتها، وعلى ربط هذه الأهداف بالغاية الأساسيّة للتعليم وهو التقرّب إلى الله تعالى. وهذه الغاية يُفترض أن تكون أساس كلّ مشروع تربويّ. وهي ما نطلق عليه اليوم (فلسفة التربية). وفي الرسائل التي كتبها هؤلاء العلماء نلحظ في (منية المريد) للشهيد الثاني، انتقالاً من الأهداف العامّة إلى التفاصيل السلوكيّة والأخلاقية التي يُفترض بالعالم والمتعلّم أن يتحلّيا بها مهما كانت البيئة التي تحيط بهما قد أصابها من التدهور على هذه المستويات السلوكيّة والأخلاقيّة. ولا تنفصل هذه الآداب ولا الأخلاق المرتبطة بها عن طريقة التعلّم ولا عن أهدافه السامية ولا عن الإخلاص في النية... فتكون بذلك هذه العمليّة حلقةً متكاملةً تستقي وجودها وجوهرها من غاية العلم الذي هو التقرّب إلى الله أولاً وأخيراً.
إنَّ تركيز الشهيد الثاني على الجانب المعنويّ لتحصيل العلم ينطبق عليه ما يسمَّى اليوم (فلسفة التربية). ويقول بعض علماء التربية الغربيين: (لا تربية بلا فلسفة). أي لا تربية بلا خلفيّة فكريّة تحدِّد لها ما ينبغي أن تكون عليه أهدافها. وعندما تحوَّلت هذ الفلسفة إلى فلسفة ماديّة لا ترى سوى المصلحة الفرديّة بعيداً عن القيم الأخلاقيّة والمعنوية والدينيّة تحوَّل المجتمع إلى مجموعةٍ من الأفراد يجمعهم القانون وليس التراحم أو التعاطف أو التضحية أو التكامل. هكذا سنشهد تراجعاً ليس فقط لدور الأسرة بل حتّى لوظيفتها الاجتماعيّة؛ لأنّ الأسرة كانت عبر كلِّ الحضارات أساس لحمة المجتمع. وهذا ما فقده الغرب تدريجاً عبر عشرات السنين. وهذا ما يفسّر لنا كيف بدأت تخرج الأصوات القانونيّة والاجتماعية التي تدعو إلى كلِّ أشكال الأسرة في الغرب. بمعنى تشريع العلاقات المثليّة عل أساس أن ليس هناك ثوابت أخلاقيّة أو دينيّة تفرض نموذجاً واحداً للأسرة هو نموذج الرجل والمرأة. وهذه الدعوات لا تعبِّر سوى عمَّا وصل إليه المجتمع الغربيّ من غيابٍ لمرجعيّة القيم الأخلاقيّة والدينيّة بعدما اعتبر الفكر المهيمن أنَّ تلك القِيم هي قِيَمٌ نسبيَّة تختفي من المجتمع عندما يتطوّر، ولا يعود بحاجة إليها... وتُثير هذه القضيّة علاقة التربية بالمجتمع. وهي قضيّة شغلت علماء التربية على مرّ العصور. إذ ما هي الفائدة من التربية إذا لم تكن في خدمة المجتمع ولم تكن تهدف إلى تطوّره من خلال تطوير الإنسان استناداً إلى قِيم ثابتة من جهة، واستناداً إلى ما يتغيّر في المجتمع من جهةٍ ثانيةٍ.
إنَّ نسبيَّة القِيَم التي روَّجت لها الأفكار الغربيّة منذ عشرات السنين وانعكست على التربية بحيث لم يعد المطلوب من هذه التربية ترسيخ القِيَم الثابتة بل تدريب الطفل على التعامل مع كلِّ ما يتغيَّر من حوله، ودفعه إلى التعامل مع رغباته وما يريد إشباعه من خلال تلك التحوّلات. أي لا شيء ثابت. وهذا يعني أنَّ شكل الأسرة ليس ثابتاً، ولا شكل الزواج، ولا قِيَم الطلاق، ولا العلاقة بين أفراد الأسرة، ولا هرميَّة السلطة... لذلك ساهمت هذه الأفكار في الترويج لمشروعيّة المثليّة ولمشروعية الزواج من الجنس نفسه. وقد تحوّلت المؤسّسات التربويّة إلى الترويج لهذا التغيّر وإلى تدريب الطفل على قبول المثليّة على سبيل المثال باعتبارها حقاً واختلافاً مشروعاً لا يمكن إدانته. هنا التربية التحقت بالمجتمع على الرغم من السلبيّات التي يعيشها هذا المجتمع في رؤيته للأسرة وللزواج أو لقضايا أخرى لها صلة مباشرة بالعلاقات الإنسانية والعائلية والاجتماعيّة... ترافقت تلك التحوّلات التربويّة مع ما نشهده اليوم من تسارع في (ثورة الاتّصالات) وفي مصادر الحصول على المعلومات، وفي مسار العولمة على المستويات كافّة. وقد ساهمت تلك التحوّلات في تعاظم قِيَم الربح والمنفعة وتجميع الثروة وتراجع قِيَم التضامن والتضحية والتآخي. حتَّى أنَّ النظريَّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة باتت بدورها تؤيِّد هذا التراجع في قِيَم التضامن والرعاية الذي كانت تقوم به الدولة طيلة نصف القرن الماضي بحيث باتت قيم (الأكبر يلتهم الأصغر)، أو (الأسرع يلتهم الأبطأ) مألوفة وعالميّة الانتشار.
إنَّ المخاطر المستقبليّة الناجمة عن ما بات يطلق عليه (العولمة المتوحّشة) كبيرة على هذا المستوى القيمي، الذي تلعب التربية ومناهجها ونظريّاتها دوراً مهمّاً في الترويج له أو الابتعاد عنه. حتَّى أنَّ أصواتاً بارزةً في الغرب نفسه بدأت تدعو إلى عولمة أخلاقيّة أو أكثر إنسانيّة، بسبب مخاوفها ممّا يُمكن أن تجر إليه هذه العولمة التي تسير على هدي قِيَم الربح والمنفعة وتكديس الثروة قبل أي شيء آخر.
ما يهمّنا في هذا الإطار أنَّ مثل هذه القِيَم الأخلاقيّة التي يرغب البعض في الغرب العودة إليها أو البحث عنها، أو ربط العولمة بها، هي قِيَم أسريَّة تربويَّة بالدرجة الأولى. ففي الأسرة يتعلّم الإنسان منذ نعومة أظفاره ومن خلال تربية والديه له وبشكل تلقائي وعَفَويّ قِيَم التضحية ويراها بأمِّ عينه من والديه. وفي الأسرة يتلقّى الطفل محبَّة من يُحيط به ويتعلّم مبادلتهم الحبّ بالحبّ. وفي الأسرة يتعلّم احترام الأكبر سناً من أجل قيم أخلاقية وليس من أجل منفعة ماديّة مباشرة.
إنَّ رسالة الشهيد الثاني وأمثالها من الرسائل والوصايا والآراء التربويّة التي قدَّمها علماء مسلمون آخرون، تطرح تحدياً على المشتغلين بالتربية في عصرنا الحالي، وخصوصاً في المجتمعات الإسلاميّة. سواء من حيث العلاقة بين التربية والمجتمع، أو من حيث قيم التربية الثابتة والمتغيرة، أو العلاقة بين الزمان والمكان في العمليّة التربويّة. وما تتضمّنه رسالة الشهيد الثاني على سبيل المثال، تشدّد على الأخلاق كقيمة مطلقة، وعلى الإيمان كقاعدةٍ ثابتةٍ غير متقلّبة أو متبدّلة بغضِّ النظر عن تحوّلات المجتمع وتقلّباته؛ لأنَّ ما تفترضه هذه الرسالة هو المعيار والمرجع في نموذج العلاقة بين العالم والمتعلِّم من جهةٍ، وبين أفراد المجتمع بمستوياتهم المختلفة من جهةٍ ثانيةٍ.
إنَّ رسالة الشهيد الثاني تدعو إلى أسس ثابتة في التربية، هي أسس الإيمان والأخلاق، في العلاقة بين طرفيّ العمليّة التعليميّة والتربويّة أي العالم والمتعلِّم. وهي أسس لا يمكن التقليل من شأنها أو التهاون فيها، أو الدعوة إلى تبديلها حتّى في عصر مثل عصرنا سِمَته التبدّل والتغير...
المراجع
[1](*) أستاذ علم الاجتماع التربوي في الجامعة اللبنانية
الإعجاز القرآني وعلم الدلالة في تمهيد الشهيد الثاني
د. علي زيتون (*)
تمهيد[1]
يتناول هذا البحث علم الدلالة العربيّ الإسلاميّ من خلال كتاب الشهيد الثاني { (التمهيد)، لما يمثّله هذا الكتاب من ثمرة لجهودٍ تاريخيّةٍ متتابعةٍ بذلها علماؤنا الأجلاّء على مرّ التاريخ مستفيدين من تضايف (علم الأصول) إلى (علوم اللغة العربيّة) خصوصاً أنَّ الشهيد الثاني { كان ذا منهج واضح في بحثه عن الدلالة يرتكز في جانب أوّل إلى أسئلة اللغة العربيّة التي طرحتها على نفسها بوساطة ثنائيّات عديدة: هي ثنائيّة (اللفظ/ المعنى)، وثنائيّة (الحقيقة/ المجاز)، وثنائيّة (التوقيف/ المواضعة)، وفي جانب آخر إلى إمساك ذلك المنهج بالعلوم الخاصّة بالدلالة واستخدامها استخداماً خلاّقاً في أثناء، بحثه عن مدلول النصّ القرآنيّ بوصفه الحكم الشرعيّ. ونقاط هذا البحث الأساسيّة أربع: علم الدلالة في الغرب، الدلالة وحضارة النصّ، دلالة التمهيد من المنهج اللساني إلى المنهج البراغماتيّ، الشهيد الثاني وأسئلة اللغة العربيّة.
وعلم الدلالة (السيمانتيك) «علم لغويّ حديث يبحث في الدلالة اللغويّة التي يُلتزم فيها حدودُ النظام اللغوي، والعلاقات اللغوية»[3]، استناداً إلى العلميَّة السوسيريّة في الدِّراسات اللغويّة[4]، فيكون الفضل في الدلالة لجذر العلامة اللغويّة ثمّ لصيغتها[5]. ويتعدّى هذا العلم دراسة معاني المفردات إلى دراسة معاني الجمل والملفوظات على حدٍّ سواء[6]، بما يراعي تلازم النحو والدلالة[7]. وإذا أردنا أن نختصر حقيقة هذا العلم قلنا أنَّه المنهج اللسانيّ في دراسة الدلالة.
أمّا هدف علم الدلالة الآخر (السيميولوجي) فهو «صوغ الممارسات المتجاوزةِ للسانيّاتِ وقولبتُها»[8]، ولذلك فإنّ مادّة هذا العلم تتعدّى العلامة اللغويّة إلى العلامة غير اللغويّة: أشاراتِ السير، حركات الجسد، اللباس، غيرها[9]. أمّا هدف المنهج البراغماتيّ فهو الإمساك بدلالة الخطاب التي لا يستطيع النِّظام اللغويّ وحده تحديدها. يشاركه في ذلك الظرف وزمان الخطاب ومكانه.
أمّا الثقافة العربيّة الإسلاميّة المبنيّة على النصّ القرآني، فإنّها مُرتبطة بخصوصيّة هذا النصّ الذي يجمع وظيفة النصّ التداولي النفعيّ إلى وظيفة النصّ الإبداعيّ في اعتبار اللغة غايةً بحدِّ ذاتها. ويتجاوزُهما إلى خاصيّة الإعجاز[19]، مقدّماً نفسه على أنّه الرؤية المكتملة إلى الوجود القادرة على الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها سيرورةُ الحياة. وإذا كان النصّ، أيّ نصٍ «منبع النشاط، والمتعاليَ على كل نشاطٍ»[20] في الوقت نفسه، فإنّ النصّ القرآني سيشكِّل سلطةً مرجعيّة للعقل العربيّ[21].
كيف لا والملتقى العربي في تكوينه النفسي والاجتماعي والثقافي والسياسي جزء من دلالة ذلك النصّ[22]؟ وهو حين يعود إليه بحثاً عن دلالته يدركُ أنّ الدلالة لا تأخذ معناها ممَّا تقوله لغةُ النصّ فقط، ولكن من طبيعةِ الخطاب القرآني أيضاً[23] ويحتاج في ذلك إلى منهج سيميولوجيّ، ومن ثمَّ إلى آخر براغماتيّ، لا إلى منهج لسانيّ فقط؛ لأنّ السيميولوجيا تستطيع أن ترى النصّ إشارة يتضمّن دالّها القصد[24]،وتتجاوز بالبراغماتية ذلك الدّال إلى الظرف الذي يحيط الخطاب البشريّ.
ولقد تنوّعت المباحث اللغويّة في هذا الكتاب. عالج بعضها اللفظ معجماً وصرفاً، وبعضها الآخر الجملة، وتعدّى قسمٌ منها اللسانيّ إلى البراغماتيّ فالسيميولوجيّ.
1ـ 3 اللفظ والدلالة: يواجه القارئُ قلقاً عميقاً عند الشهيد الثاني في أثناء بحثه عن حقيقة الدلالة. فكلمة (موالي)، بالنسبة إلى عاتق العبيد، معتوقٍ، كلمةٌ مشتركةٌ تفيد الذين اعتقوه من قبل، والذين أعتقهم من بعد. ولذلك فهو حين يوصي لمواليه بمالٍ فإنّ هذه الوصيّة مشكلةٌ بالنسبة إلى الشهيد الثاني يرى فيها أربعة وجوه: «أحدها: إنّه يُقسَم بينهما لتناول الجمع المعرِّف لهما، حيث لم يشترط فيه اتحاد المعنى، أو لأنّ المشترك يُحْمَل على معنييْه. والثاني: صرفه إلى الموالي من أعلى، لقرينة مكافأتهم. والثالث: لهم من أسفل، لجريان العادة بكونهم محتاجين غالباً. والرابع البطلان، لأن المشترك لا يُحمل على معانيه ولا على بعضها بغير قرينة والفرضُ انتفاؤها هنا»[26].
وتعبّر هذه الوجوه الأربعة عن قلقٍ معرفيّ وضعنا أمام أربع دلالات محتملة بُنيت كلًُ واحدة منها على حجّة قويّة. الإطلاق في الوجه الأوّل، والمكافأة المبنيّة على الوفاء المطلوب في الثاني، والحاجة الداعية في الثالث، وغياب القرينة في الرابع. ولا يعني ذلك أنَّ الشهيد{ يزجي إلينا أحجيةً للتسلية، ولكنَّه يعبِّر عن إحساسه بالمسؤوليّة الدقيقة والخطيرة التي رتّبها القرآن الكريم على العلماء بوصفه خطاباً وحكماً شرعياً في الوقت نفسه. والكلمة المشتركة التي أوجدت مثلَ هذا التشتّتِ في الدلالة هي جزء من نظام اللغة الذي يُؤَسّس الكلام عليه. وإذا وجد الشهيد الثاني { أنّ البحث عن الدلالة من خلال هذا النّظام الذي قام على أساسه علم الدلالة (السيمانتيك) غيرُ مجدٍ بشكلٍ كامل، لجأ إلى البحث عن الدلالة من خلال نظام قائمٍ خارجَ نظام اللغةِ ومتّصل به في الوقت نفسه، أي من خلال المنهج البراغماتيّ الذي يعوّل على الظرف المحيط بالكلام، الوصية هنا. فكلام الموصي غير منفكٍّ عن ظرفه،ولا عن مراحل حياته. وهو محرَّر يستدعي تحريره مكافأة من حرَّره، وهو محرَّر يستدعي فقر المحرَّر الجديد أن يُدعم بتركة محرِّره. ولا يمكن فكُّ لبس تلك الوصيّة باللغة وحدها. الظرف حاضر قويٌ يسمح للبراغماتيّة بالتدخّل في تذليل ذلك اللبس. ولا يصل القارئ من خلال البراغماتيّة إلى مستقر الكلام الدلالي. يحتاج إلى المنهج السيميولوجي ليُكمِلَ ما بدأه.
إذاً يتحوّل مدلول الكلام الناجم عن إعمال المنهج اللسانيّ ومن ثمَّ البراغماتيّ إلى علامة سيميولوجية مكوّنةِ من دال ومدلولٍ، هو تلك الأوجه التي عدّدها للوصيّة. وهذه الأوجه لم تصل بالشهيد الثاني { إلى برد اليقين، فظلّ الأمر معلّقاً من غير ترجيحٍ لأيٍّ منها. وعدم الترجيح إشارة إلى أنّ الكلام الذي حُلِّل لا يشكّل نصّاً مبنيّاً على قصديّة قابلة للتأويل خصوصاً أنّه خطاب تداوليّ لا إبداعيّ ولا قرآنيّ.
وتعامل الشهيد الثاني{ مع الدلالة الصرفيّة مثلما تعامل مع الدلالة المعجميّة. فبنية (اسم الفاعل) الصرفيّة التي تطلق «على الحال، وعلى الاستقبال، وعلى الماضي» إطلاقاً حقيقيّاً عند النحاة[27] مختلف حول كونها حقيقةً أو مجازاً في الماضي عند الأصوليين. ولقد استطاع الشهيد الثاني أن يربط ذلك الاختلاف بالانتماء العقَديّ للمختلفين. فالشيعة والمعتزلة يقولون أنّ اسم الفاعل هو حقيقة في إطلاقه على الماضي، والأشاعرة أنّه مجاز. وهو وإن لم يصرّح بالتعليل كاملاً، إلا أنَّه ألمح إليه عندما أشار إلى أنّ موقف الأشاعرة، كان بسبب اعتقادهم بأنّ الصيغ توقيفيّة[28]. والتوقيفيّة مرتبطة بقوله إنّ كلام الله قديم، وهو معنى قائم في ذات الله منذ الأزل، بعكس الشيعة والمعتزلة الذين قالوا باصطلاحيّة الصيغ المرتبطة بقولهم إنّ كلام الله محدث وهو تلك الأصوات والألفاظ القرآنيّة. ولذلك فإنّ قول القائل لامرأته عند الأشاعرة: «أنت طالق، مختصّ بالحال والاستقبال من دون الماضي؛ لأنّ دلالة اسم الفاعل على الطلاق من المشترك اللفظيّ بيّن الحال والمستقبل، ولا يتعدّى إلى الماضي الإمجازاً»[29]. وتشكِّل معالجته هذه إشارة واضحة إلى الوعي المبكر بمشكلات الدلالة. فهو بعد أن قاده إحساسه المرهف إلى تجاوز ما بتنا نعرفه بالمنهج اللسانيّ إلى المنهج البراغماتيّ فالسيميولوجيّ، رأيناه يربط الموقف الدلالي بالانتماء العقديّ ربطاً يدلّ على إمساكه بحقيقة أهمّ تفسّر ما التبس علينا من قضايا الدلالة في الأبحاث اللغويّة العربيّة القديمة. فالدلالة، هنا، مرتبطة بظروف المتكلّم العقَديّة وليس بالنظام اللغويّ وحده. وما يؤكِّد اعتماد الشهيد الثاني على الظرف المحيط بالكلام في محاولة الإمساك بأبعاده الدلاليّة إحصاؤه أربعة عشر مذهباً في قوله تعالى: }وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ{. وانفتاح الكلام بهذا القدر من الاتِّساع مدعاة للبراغماتيّة التي يستطيع منهجها وحده تحديد المقصود اعتماداً على الظرف المحيط بأخذ الأسلحة.
2ـ 3 الجملة والدلالة: ويتناول الشهيد الثاني دلالة الجملة بالطريقة نفسها، إذ افترض ابتداءً حين تصدّى لقول أحدهم (بِعْ هذا العبد مع هذه الجارية) بأنّ المتلقّى في وضعيّة من اثنتين: إمّا أن يعلم إرادة المتكلم اجتماعَهما في صفقةٍ واحدةٍ، أو مجرّدَ إجراء البيع عليهما بصفقةٍ واحدةٍ أو بصفقتين، وإمّا أن تشتبه عليه الحال[30]. وعلم المتلقّي بإرادة المتكلِّم يعني أنَّ القصد معروف من قِبَلِه بسبب خبرةٍ أو حديث سابق. ويُشير هذا إلى أنّ القولَ الذي أمامنا هو جزء من ملفوظ أو نصٍّ أكبرَ منه، أو هو تابع لجزءٍ من الكلام مسكوتٍ عنه هنا، وهو معروف من المرسلِ والمرسَل إليه. وفي حال عدم وجود مثل هذا التقدير، ففي قول الشهيد الثاني {: (أن تشتبه الحال)، وفي قوله أيضاً: (من احتمال الأمرين معاً أو فرادى) إشارةٌ إلى أنَّ المستويين الصرفيّ والنحوَيّ للملفوظ غير قادرين وحدهما على تقديم دلالةٍ دقيقةٍ محدّدةٍ. وهو كما فعل في المرّة السابقة سيلجأ إلى المنهج البراغماتيّ من أجل الوقوف على حقيقة الدلالة. ولذلك فهو يرى في القول: (بِعْ هذا العبد مع هذه الجارية)، علامةً تتجاوز المنهج اللسانيّ لتومئ إلى أنَّ أحد المبيعين رديٌّ والآخر جيدٌ؛ لأنّ من «عادة الناس ضمَّ الرديء إلى الجيّد وبيعهما بيعةً واحدة» على حدِّ تعبيره، فإنَّ ترجيح هذه الدلالة قائمٌ على جودتها وعلى أنّها أمر متيّقن. ولا يعني هذا الترجيح أنّ الشهيد الثاني { قد استسلم لدلالة واحدة. ولكنّه على العكس من ذلك يقول: «لا يتعيّن الأوّل (الصفقة الواحدة)؛ لأنّ الثاني أعمُّ منه»[31]، تاركاً الأمر معلّقاً بأذيال الظرف المحيط بالمكلّف والمكلّف والمادّة موضوع البيع. كما في المرَّة السابقة وإن لم يكن بالمستوى نفسه؛ لأنَّ الترجيح الغائب هناك وارد هنا بشكلٍ واضح. والبحث عن الناجم من خضوع ذلك المنهج وتبعيّته للسياق والقصد، بما يبقى المسافة قائمةً باستمرار بين الحقيقة والكلام[32]، ويشكِّل هذا إدراكاً بأنّ الدلالة ليست محكومةً بالنظام اللساني معجماً وصرفاً ونحواً فحسب. ثمّة أنظمةٌ مستقلة عن ذلك النِّظام تحتاجها الدلالة لكي تأخذ حيّزها في الوجود، ذلك الوجودِ المشكلِ باستمرار.
3ـ 3 الشهيد الثاني والمنهجان البراغماتي و السيميولوجي: تحدّث الشهيد الثاني { عن مفهوم الموافقة الذي يتعلّق بملفوظٍ يتناول حكماً ويسكت عن آخر مؤكّداً «أنّ الحكم في المسكوت عنه أولى به في المنطوق»[33]. فاستخدامه تعبير (المسكوت عنه) يُدخلنا مباشرةً في علم الدلالة السيميولوجي؛ لأنَّ علامات هذا النّظام الدلالي ساكتةٌ جميعُها عن المدلول في الوقت الذي تُشير إليه. وقوله: (أولى) لجوء إلى المنطق في تعليل إرادة المسكوت عنه. واللجوء إلى المنطق دخول في رحاب المنهج البراغماتي الذي يومئ إلى الظرف المحيط بالمتكلم والذي دفعه إلى السكوت عن حقيقة يريد إيصالها. ولئن استنتج الشهيد الثاني { من قوله تعالى: }فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ{(الإسراء، 23) تحريم ضربهما ونحوَه من أنواع الأذى»[34]، فإنّ همّ الحصول على الحكم الشرعي قد أفسد عليه البحث عن الدلالة البراغماتية السيميولوجية التي يكتنـزها هذا التعبير. وهي تعظيم مقام الوالدين والترهيب الشديد من التعرّض لهما حتّى ولو كان الأذى (أُفٍّ). وما كان لهذا التعظيم ليكون لولا العلاقة القائمة بين الطرفين، تلك العلاقة التي أوجدها ظرف الأبوّة من ناحيةٍ، وظرف البنوّة من ناحيةٍ أخرى. ووصل إلى الموقف نفسه حين تعرّض لقوله تعالى:}فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً{ (الزلزلة، 7)، فالجزاء بما فوق المثقال[35] ليس هو المطلوب هنا، ولكن دقّة الحساب. ووقف همّ الحصول على الحكم الشرعي حائلاً في موضع ثالث أيضاً. فقوله تعالى: }إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ{ (التوبة، 80) لا يعني أنَّ تجاوز السبعين إلى رقم أعلى لا يؤدّي إلى الغفران بقدر ما يعني الإشارة إلى عِظَم ذنبٍ لا يُغتفر. وتناوُلُ الشهيد الثاني { هذا المستوى من الدلالة يعني أنّ النصّ عنده أوسعُ من اللغة. وهذا ما دفعه ليتوّسل مفهومَ الموافقة في البحث عن الدلالة، وإن لم يكن مطلوباً منه أنّ يسميّه المنهج البراغماتي أو المنهج السيميولوجي بسبب انتمائه الزمانيّ. كلّ ما نستطيع أن نقوله بهذا الصّدد أنّه أحسّ إحساساً قويّاً، كما أسلفنا، بأنّ المنهج اللسانيّ عاجز وحده عن الوصول إلى الدلالة؛ لأنّه يقف عند حدود دالّ الكلمة، بعكس منهج (الموافقة) الذي يرى النصّ إشارة يتضمن دالُّها القصد[36]. وحين يتعلّق الأمر بالنصّ القرآني نجد أنفسنا قد انفتحنا على منهج دلاليّ أسماه القرآن الكريم التأويل. والتأويل لم يكن لرفع التناقض بين العقل والنصّ، ولا لتغليب دلالةٍ على أُخرى كما ذهب بعضُهم[37]. فقد أشار إليه القرآن الكريم لا ليُدفع به حرجٌ، أو يُقام بعمليّة اختيار بين دلالات يحتملها النصّ. فالحقيقة غير ذلك؛ لأنّ القائم بالتأويل حاملٌ رؤية ومحاط بظرف يواجه بهما نصّاً (علامة) تحدّد الرؤية الدلالة، وإن أقرّت تلك الرؤية وذلك الظرف بوجود غيرهما من الرؤى والظروف التي قد تصل إلى حقائق دلاليّة مختلفة. والتأويل بما يوليه من أهميّة للمتلقّي ورؤيته إيماءةٌ واضحة إلى منهج ثالث في البحث عن الدلالة. عنينا به نظريّة التلقّي التي تشرك المتلقّي في إنتاج الدلالة، وإن كانت الشراكة، فيما يتعلّق بالنصّ القرآني، قادرةً على إعادة المسارب جميعها إلى النبع الواحد؛ لأنّ المتلقّي بالنسبة إليه جزء من دلالته[38]. ولا تنفصل هذه النظريّة عن المنهج المزدوج: البراغماتي السيميولوجي، ولكنّها تعزّزه حين تستسيغُ نظامَهَ المطواعَ القابلَ لتعدّد القراءات على حساب النظام اللساني الذي يعدّ منهجاً دقيقاً في تأديّة الدلالة إذا ما عزل عن غيره من الأنظمة.
4ـ الشهيد الثاني { وأسئلة اللغة العربيّة عن نفسها: شغلت بالَ العاملين في حقل اللغة العربيّة، داخلَ الإطار القرآني، ثلاثةُ أسئلة. يتعلّق الأوّل بثنائيّة (اللفظ/ المعنى) المحدِّدة لمفهوم الكلام، والثاني بثنائيّة (الحقيقة/ المجاز)، والثالث بثنائيّة (التوقيف/ المواضعة). وما كنا لنتوقّف عند هذه الأسئلة لولا علاقتُها بالدلالة. إذ يترتّب على الميل إلى هذا الطرف أو ذاك من الثنائيّات الثلاثة تبايناً في تحديد حقيقة الدلالة.
4ـ1 الشهيد الثاني وثنائيّة (اللفظ/ المعنى): شهدت الساحة الثقافيّة العربيّة الإسلاميّة موقفين أساسيّين من هذه الثنائيّة. قال الشيعة والمعتزلة، إنّ الكلام هو تلك الألفاظ والأصوات. وذلك بناء على قولهم بحدوث كلام الله. وقال الأشاعرة: إنّ الكلام هو المعنى القائم في النفس، وذلك بناءً على قولهم بقِدَم كلام الله تعالى[39]. ولقد أدّى هذا الافتراق في فهم الكلام إلى افتراق في الوقوف عند حقيقة الدلالة. ولقد أشار الشهيد الثاني { إلى هذه المسالة بوضوح[40] مؤسّساً عليها افتراق المواقف في تحديد الدلالة. ناقش عبارة (إنّي صائم) في حديث الرسولP: «فإذا كان يومُ صيامِ أحدكم، فلا يرفثْ ولا يجهلْ. فإنّ امرؤ شاتَمَه أو قاتَلَه، فليقل: إنّي صائم»[41]. فرأى جماعة، ولعلَّهم الأشاعرة، ألاّ «معنى لذكره بلسانه إلاّ إظهار العبارة»[42]، وذهبوا إلى أنّ المقصود بتلك العبارة تذكير النفس بالصيام لتنـزجر[43]، بينما رأى فريق آخر، وهم الشيعة أنّ المطلوب أن يقول تلك العبارة (إني صائم) بلسانه «حملاً على المعنى الحقيقي»[44]. ولئن استفاض في متابعة هذه المسألة من خلال أمثلة عديدة[45]، فإنَّه قد انطلق من هذه الحقيقة ليلاحق أبعاد مفهوم الكلام بشكلٍ دقيق من خلال متابعته مسألة اختلاف الكلام عن كلِّ من الكتابة والإشارة حين قال: «إطلاق الكلام على الكتابة والإشارة وما يفهم من حال الشيء، إطلاق مجازيِّ على الصحيح، لا من باب الاشتراك»[46] وإذا أراد أن يوضح لنا كلامه هذا جاء بمثلٍ مفاده أنّه لو حلف أحدهم «لا يكلّمه، فكاتبه، أو أشار إليه، فلا يحنث بذلك»[47] منطلقاً في موقفه الشيعي بأنّ الكلام هو تلك الألفاظ والأصوات. وهو وأن التقى بذلك مع سوسير[48]، فإنَّه لم يَختلف مع بارت الذي أعطى الأولويّة للكتابة في الدراسات اللغويّة[49]؛ لأنّه حين أقام الحدود بين الكلام والكتابة لم يلغ طرفاً (الكتابة مثلاً) لحساب طرف آخر (الشفوية). فكلاهما عنده صالح أساساً لدراسات لغويّة تتعلّق به.
4ـ 2 الشهيد الثاني وثنائيّة (الحقيقة/ المجاز): وكما كان لمفهوم الكلام، لفظاً أو معنى، تأثيرٌ في تحديد اتجاهات البحث الدلالي عند الشهيد الثاني، فإنَّ ثنائيّة (الحقيقة/ المجاز) لها تأثيرها الواضح في ذلك أيضاً. وإذا رأى أنّ الحقيقة ثلاثة أنواع: لغويّة، وعرفيّة، وشرعيّة، ويترتَّب على معرفة نوعها، معرفة حقيقة الدلالة، بعد أنْ وضع هذه الأنواع الثلاثة بشكل تراتبيّ: «الحقيقة الشرعيّة، ثمّ العرفية، ثمّ اللغويّة»[50]؛ فإنَّ وضع الحقيقة اللغويّة في أسفل السّلم إشارة واضحة إلى سيطرة الدلالتين البراغماتية والسيميولوجية عنده على الدلالة السيمانتيكية، فحين تتقابل الحقيقة اللغويّة مع تلك العرفيّة ذات العمق البراغماتي، تكون الغلبة للثانية كما رأينا عند من يحلف أنَّه لا يبني بيتاً[51]. فالبناء حقيقة لغويّة في مباشرة الحالف له، وهو حقيقة عرفيّة إذا تمّ بواسطة غيره. ويقتضي تقديم الحقيقة العرفيّة دلالة مختلفة بتفاصيلها، وإن اتّفقت مع الحقيقة اللغوية من خلال العنوان العام بناء البيت.
وكذلك حين تتقابل الحقيقتان اللغويّة والشرعيّة، فالغلبة للثانية كما نرى عند من ينذر الصلاة، مع العلم أنَّ كلمة صلاة من الألفاظ المنقولة شرعاً عن معناها اللغويّ. إذ كانت الصلاة اسماً للدعاء[52]، ثمّ نقلت شرعاً إلى ذات الركوع والسجود. فالناذر لا ينذر الصلاة بمعنى الدعاء اللغويّ، ولكن بمعناها الشرعي استنادا إلى سيطرة الحقيقة الشرعيّة على الحقيقة اللغويّة[53]. ولا يُصرف الكلام إلى المجاز عند الشهيد الثاني إلا إذا «تعذّر الحمل على الحقيقة لدليل خارج»[54]، وهو إذا رأى أنّ النكاح لا يُطلق على العقد والوطء على الحقيقة، في الحالين، فلأنّ الاشتراك مرجوح بالنسبة إلى المجاز. فاللفظ ليس من باب المشترك. والمعنى مختلف بين قوله تعالى: }تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ{ (النساء، 22)، وقوله تعالى: }فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ{(البقرة، 230)، ويستنتج الشهيد الثاني، بناء على ذلك، أنَّها حقيقة في واحدةٍ منهما، ومجاز في الأخرى، من خلال العلاقة السببيّة. فالعقد سبب في الوطء[55]. وإذا رأى أنَّ إطلاق الكلام على الكتابة إطلاق مجازيّ[56]، فلأنَّ التحوّل من الحقيقة إلى المجاز لا يعني أن تطلّ الحقيقة نفسها من خلال برقعٍ جديد. فالمجاز منهج تعبيريّ لا يموّه الحقيقة بل يبحث عنها من خلال قراءة مختلفة، ولذلك فهو حين يواجه جانباً من جوانب الوجود (الكتابة هنا) إنَّما يلجأ إلى تسميته باسم غيره (الكلام)؛ لكي يكتشف فيه من خلال التسمية الجديدة أبعاداً لا يطالها الاسم الحقيقي. ويبقى أنَّ هاجس التفريق بين الحقيقة بأنواعها والمجاز بأنواعه، هو هاجس دلالي يتوسّل جميع الطرائق الموصلة إلى الدلالة، حتّى وإن لم يكن على وعيٍّ كامل بمقوّمات هذه الطرائق وتبايناتها، وإذا كان هذا طبيعيّاً في مرحلة ما كانت لتسمح بمثل هذا المستوى من الوعي، فإنَّ نشاط الشهيد الثاني { الدلالي كان نشاطاً خلاّقاً يؤدّي دوراً تأسيسيّاً؛ لأنَّ الوعي البشريّ استمراريّة، على اختلاف الأزمان والأمكنة، حتّى ولو لم يتمّ الاتصال بين الأمم بشكل واضح. فهو سيتمّ بشكل غير معلن.
4ـ 3 الشهيد الثاني{ وثنائية (التوقيف/المواضعة): ولا تقلّ هذه الثنائية أهميّة عن سابقتها في توجيه تيّارات علم الدلالة وتحديدها، فمن المعلوم عند الشهيد الثاني { أنّ الأشعريّ قد ذهب إلى أنّ اللغة توقيف بشكل مطلق، وذهب أبو هاشم الجبّائي المعتزلي إلى أنّها مواضعة وبشكل مطلق أيضاً[57]، ولئن اتّفق مذهب كلٍّ منهما مع منطلقاته الأساسيّة في فهم الكلام بين قديم ومحدث، فإنّه سيترتّب على ذلك افتراق في تحديد الدلالة. ففيما يتعلّق بمهر السرّ، «وهو إذا تزوّج الرجل امرأة بألف، وكانا قد اصطلحا على تسمية الألف بألفين، فإنّ الواجب ألف على ما يقتضيه الاصطلاح اللغوي عند من يقول باصطلاحية اللغة كالشيعة والمعتزلة، أمّا عند من يقول بالتوقيف فالقول بالبطلان؛ لأنّ الموضوع اللغوي غير ملفوظ، والملفوظ غير مقصود، ولا يتمّ العقد إلا بهما»[58]، إذ أنّ في الأمر مخالفتين للحقيقة، الأولى هي أنّ دلالة كلمة (ألفين) توقيف، ولا يمكنها أن تدلّ على معنى غير معناها التوقيفي، والثانية في الإضمار مع أنّ شرط الزواج الإعلان. وينطبق الأمر نفسه عند الشهيد الثاني { على من باع أو اعتق، أو طلّق، أو حلف ثم أدّعى عدم إرادة المعنى من اللفظ، «فإن قلنا أنَّ اللغات توقيفيّة لم يلتفت إلى دعواه، وإن قلنا إنها اصطلاحية دين بنّيته»[59]، اللفظ نفسه، أمَّا الدلالة فمختلف حولها. وهذا عائدٌ إلى تأثير ثنائيّة (التوقيف/ المواضعة) في ذلك.
5- كلمة أخيرة:
ويبقى أنَّ الإطلالة على علم الدلالة العربيّ الإسلاميّ من خلال الشهيد الثاني كانت إطلالة مفيدة، لم تقدّم لنا الجهود المضنية التي بذلها علماؤنا في مجال علم الدلالة فحسب، ولكنَّها كشفت لنا عن إصالة تعاطيهم مع هذا العلم أيضاً. ولئن رأى الغربيّون في سوسير بداية تحوّل الدراسات اللغويَّة إلى دراسات علميّة، فلأنَّهم يرون أنّ العالم هو الغرب وحده ضاربين بذلك الصفحَ عن الجهود العربيّة الرائدة في هذا المجال، والتي سبقت سوسير بقرون عديدة إلى الحديث عن منهج دلاليّ يقع خارج المنهج اللسانيّ، لا بل عملت بموجبه في البحث عن دلالة النصّ القرآني. ولعلَّ ظاهرة التأويل التي قدّمها النص القرآني بوصفها منهجاً دلاليّاً مستقلاً جمع نظريّة التلقّي إلى المنهج السيميولوجي، هي ظاهرة عربيّة إسلاميّة من دون منازع، وإذا كان الأمر كذلك فإنّنا لا نجد موريس أبو ناضر مغالياً حين سمّى تلك الجهود كنوزاً ثمينة[60] ودعا إلى كشف الغطاء عنها؛ لأنّها «في مصافّ الجهود العالميّة في هذا الحقل اللغويّ الذي يعدّ من أبرز الحقول العلميّة حداثةً، نظراً لارتباطه بالعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة»[61].
[1](*) استاذ جامعي ومدير معهد العلوم الاجتاعية في البقاع – لبنان
[2] نقل كلاهما إلى العربية باسم (علم الدلالة)، وإذا عرّبوا كلمة (sémantique) (السيمانتيك) للدلالة على أحدهما أطلقوا على الآخر (علم الدلائل) و(الدلائلية) و(السيميولوجيا).
[3] عدنان بن ذريل، اللغة والدلالة، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1980، ص، 50.
[4] دي سوسير، محاضرات في الألسنيّة العامة، ترجمة يوسف غازي، لبنان، دار نعمان، 1984، ص18.
[5] عدنان بن ذريل، م.س، ص53.
[6] عدنان بن ذريل، اللغة والدلالة، ص54.
[7] منذر عياشي، اللسانيات والكلمة، حلب، مركز الإنماء الحضاري، 1996، ص 54.
[8] جوليا كريستيفا، الدلائلية علم أو نقد للعلم، العرب والفكر العالمي، العدد الأول، 1988، ص61.
[9] بارت، علم الأدلة، ترجمة محمد البكري، اللاذقية، دار الحوار، 1987، ص 47 وما بعدها.
[10] عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، بيروت، دار الطليعة، 1985.
[11] الشهيد الثاني، تمهيد القواعد، تحقيق تبريزيان الحسيني، ضياء، خرسان، مراكز الأعلام الإسلامي، 1416هـ، ص29.
[12] الشهيد الثاني، تمهيد القواعد، تحقيق تبريزيان الحسيني، ضياء، خرسان، مراكز الأعلام الإسلامي، 1416هـ، ص399.
[13] منذر عياشي، م.س، ص95.
[14] منذر عياشي، م.س، ص 91 – 92.
[15] على حرب، التأويل والحقيقة، بيروت، دار التنوير، 1985، ص37.
[16] منذر عياشي، م.س، ص10.
[17] م.ن، ص93.
[18] جوليا كريستيفا، م.س، ص63 و66.
[19] منذر عياشي، م.س ص 93 وما بعدها.
[20] مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، عالم المعرفة الكويتية، عدد 193، 1995، ص76.
[21] محمد عابد الجابري، خصوصية العلاقة بين اللغة والفكر في الثقافة العربية، بيروت، دراسات عربية، نيسان 1982، ص 70 – 71.
[22] منذر عياشي، م.س، ص102.
[23] م.ن، ص13.
[24] م.ن، ص67.
[25] م.ن، ص11.
[26] الشهيد الثاني، م.س، ص 389.
[27] الشهيد الثاني، التمهيد، ص 354.
[28] الشهيد الثاني، التمهيد، ص.354.
[29] م.ن، ص345 – 355.
[30] الشهيد الثاني، التمهيد، ص375.
[31] الشهيد الثاني، التمهيد، ص.375.
[32] أدونيسن الكتابة وآفاق النصّ القرآني، ص20.
[33] الشهيد الثاني، م.س، ص108.
[34] الشهيد الثاني، م.س، ص.ن.
[35] الشهيد بالثاني، م.س، ص.ن.
[36] منذر عياشي، م.س، ص 76.
[37] على حرب، م.س، ص 35 – 37.
[38] منذر عياشي، م.س، ص102.
[39] للتّوسع في هذه المسألة،، الإعجاز القرآني وأثره فب تطوّر النقد الأدبي، بيروت، دار، 1992.
[40] الشهيد الثاني، م.س، ص79.
[41] صحيح البخاري، (كتاب الصوم)، 3/34.
[42] الشهيد الثاني، م.س، ص80.
[43] م.ن، ص.ن.
[44] م.ن، ص.ن.
[45] م.ن، ص 80 – 81.
[46] م.ن، ص322.
[47] الشهيد الثاني، م.س، ص332.
[48] سوسير، م.س، ص 17 وما بعدها.
[49] بارت، م.س، ص 68 – 69، درس السيميولوجيا، ترجمة ع. سعيد العالي، الدار البيضاء، دار توبقال، ط3، 1993 ص 46.
[50] الشهيد الثاني، م.س، ص95 /58.
[51] الشهيد الثاني، م.س، ص98.
[52] المعجم الوسيط، ص 396.
[53] الشهيد الثاني، م.س، ص99.
[54] م.ن، ص96.
[55] الشهيد الثاني، م.س، ص101.
[56] م.ن، ص132.
[57] الشهيد الثاني، م.س، ص81
[58] م.ن، ص82.
[59] الشهيد الثاني، م.س، ص83.
[60] موريس أبو ناضر، م.س، ص37.
[61] م.ن، ص.ن.
تأثّر المحقّق الكركي بالشهيد الأوّل وتأثيره على الشهيد الثاني
الشيخ رضا المختاري (*)
إنّ نادرة الخلف وصفوة السلف، البحر القمقام، فخر الشيعة ومجتهد الشريعة، الشيخ الأجلّ الأعظم، المولى عليّ بن عبد العالي الكركي (المتوفّى: 940) يُعدّ من أبرز علمائنا العظام في النصف الأوّل من القرن العاشر، بل هو أبرز شخصيّة للإماميّة ظهرت في القرن العاشر بلا ريب. وأياديه المشكورة على الأُمّة لاتخفى على كلّ منصفٍ مطّلع، وقد بحث في أُمور لم يبحث عنها السابقون بالتفصيل، كحدود اختيارات الفقيه، وصلاة الجمعة، والخراج والمقاسمة، وذلك لاحتياج الدولة الشيعيّة الحاكمة في إيران خلال تلك الفترة، ولابتلاء الناس بهذه المسائل.[1]
و من خصوصيات هذا العالم الفذّ أنّه كان واسطة العِقد بين مدرسة الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي المستشهد عام 786هـ، وبين مدرسة مَن بعده من الفقهاء من الشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العاملي المستشهد عام 965هـ وغيره، فصار سبباً لنشر آراء الشهيد الأوّل وآثاره، وبَيَّن مقاصدَه، واستفاد من آثاره وآرائه وتأثّر بها ونقلها في غضون مصنّفاته، واعتنى بها عناية كبيرة.
فإنّ الشهيد كما قال بعض المعاصرين:
قد استحدث نظاماً خاصّاً لجباية الخمس وتوزيع العلماء في المناطق، وكان لهذا العمل الفكري والثقافي والتنظيمي الذي نهض به الشهيد ومَن خلفه مِن فقهاء الشيعة دورٌ كبير في حفظ التشيّع في بلاد الشام.
و المعروف أنّ الشهيد الأوّل M هو أوّل مَن أسَّسَ هذا التنظيم الذي يربط الفقيه المتصدِّي بالأُمّة بواسطة شبكة من الوكلاء.
و نَمَتْ وتطوّرتْ مدرسة جزّين بعد شهادة الشهيد M واستقطب طلبة العلم من مناطق مختلفة، وأصبح جبل عامل بفضل هذه المدرسة وجهود الشهيد مركزاً للإشعاع الفكري في بلاد الشام خاصّةً والعالم الإسلامي عامّةً.
و لم نجد فقيهاً كالمحقّق الكركي في الفترة الزمنيّة بينه وبين الشهيد.
و فيما يلي نبحث عن تأثّر المحقّق الكركي بالشهيد الأوّل وتأثيره على الشهيد الثاني (قدس الله أسرارهم) وأجعل مقالتي هذه في فصلين: فصل في تأثّر المحقّق الكركي بالشهيد الأوّل، وفصل في تأثير المحقّق الكركي على الشهيد الثاني.
الفصل الأوّل: تأثّر المحقّق الكركي بالشهيد الأوّل
و نبحث عن هذا الموضوع ضمن عدّة أبحاث:
الأوّل: أنّ الكركي عظّم الشهيد وبجّله في إجازاته وآثاره. وإليك بعض كلامه بشأن الشهيد: قال المحقّق الكركي في إجازته للشيخ عليّ بن عبد العالي الميسي في وصفه للشهيد:
شيخنا الإمام، شيخ الإسلام، فقيه أهل البيت في زمانه، ملك العلماء، علم الفقهاء، قدوة المحقِّقين والمدقِّقين، أفضل المتقدِّمين والمتأخِّرين، شمس الملّة والحقّ والدين، أبيعبد الله محمّد بن مكّي، مستكمل صنوف السعادة، حائز درجة الشهادة (قدّس الله روحه الطاهرة الزكيّة وأفاض على مرقده المراحم الربّانيّة).
وقال أيضاً في إجازته للشيخ حسين العاملي في وصفه للشهيد:
الشيخ الجليل، الرئيس الفائق بتحقيقاته على جميع المتقدِّمين، المنقطعة على آثار أنفاسه أنفاس العلماء الراسخين، مهذِّب المذهب، فقيه أهل البيت في زمانه، المشهود له بالسعادة والمختوم له بالشهادة، شمس الحقّ والدين، أبيعبد الله محمّد بن مكّي (سَقَى الله ضريحَه صوبَ الغمام وحَفَّه بملائكته الكرام).
و قال أيضاً في إجازته لابن أبيجامع العاملي:
شيخنا الأعظم، شيخ الطائفة المحِقّة في زمانه، علامة المتقدّمين وعلم المتأخرين، خاتمة المجتهدين، شمس الملّة والحقّ والدين أبيعبد الله محمّد بن مكّي (قدّس الله روحه الطاهرة الزكيّة وأفاض على تربته المراحم القدسيّة).
وقال أيضاً في إجازته للمولى عبد العليّ الأسترآبادي:
شيخنا الشيخ الإمام الأجلّ السعيد، شيخ الإسلام، ملك المحقّقين، علاّمة المتقدِّمين والمتأخّرين، الفائز بالسعادة والشهادة، شمس الدين أبيعبد الله محمّد بن مكّي (رفع الله درجته في علّيين، وألحقه بالنبيّ والأئمّة المعصومين R).
و قال أيضاً في إجازته للقاضي صفي الدين:
شيخنا الإمام، شيخ الإسلام، علاّمة المتقدّمين ورئيس المتأخّرين، حلاّل المشكلات وكشّاف المعضلات، صاحب التحقيقات الفائقة والتدقيقات الرائقة، حبر العلماء وعلم الفقهاء، شمس الملّة والحقّ والدين أبيعبد الله محمّد بن مكّي، الملقّب بالشهيد (رفع الله درجته في علّيين وحشره في زمرة الأئمّة الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين).
الثاني: أنّ الكركي ينقل كثيراً من آراء الشهيد من كتبه: الدروس، الذكرى، غاية المراد، البيان، القواعد والفوائد، حاشية القواعد، ورسالة مناسك الحجّ، ويشرحها ويؤدها وربّما يناقشها ويعبّر عن الشهيد بـ «شيخنا» و «شيخنا الشهيد»، حتّى أنّ الكركي أكثر من النقل عن حاشية القواعد للشهيد كثرة لم نجدها في سائر الكتب الفقهيّة بعد الشهيد، ويُعَدُّ جامع المقاصد من المصادر المهمّة الحافظة لآراء الشهيد في حاشيته على قواعد العلاّمة فإنّ المحقّق ذكرها في بعض كتبه متردّداً في نسبتها إلى الشهيد، ففي موارد كثيرة ـ خصوصاً في جامع المقاصد ـ ينسبها إليه وبعبارات مختلفة دون أيّ تردّد، وفي موارد أُخر يتردّد في نسبتها إليه؛ إذ يعبّر عنها بالمنسوبة للشهيد.
و أنا أذكر أوّلاً الموارد التي نسبها إليه دون تردّد، ثمّ أُعقبها بذكر الموارد التي تردّد في نسبتها إليه:
ففي ثمانية وعشرين مورداً ذكرها بعنوان: «في حواشي شيخنا الشهيد»، هي: 3/158 و 437 و 443 و 456، 4/19 و 165 و 181 و 222 و 235 و 366، 7/42 و 86 و 120 و 150 و 161 و248 و 343، 8/7، 9/28 و 38 و 187 و211 و 220، 11/138، 12/138، 12/89 و 169 و 489.
و في عشرة موارد بعنوان: «شيخنا الشهيد في حواشيه»، هي: 3/175، 4/45، 6/28 و 195، 7/125 و 155، 9/197 و291 و 363، 10/8 .
و في ثمانية موارد بعنوان: «شيخنا الشهيد في بعض حواشيه»، هي: 3/292، 4/13 و 56 و 402 و 450، 7/134، 9/207، 12/433.
و في سبعة موارد بعنوان: «في حواشي الشهيد»، هي: 1/403، 3/198 و 207 و 263 و 380، 4/88 ، 7/32.
و في خمسة موارد بعنوان: «الشهيد في حواشيه»، هي: 3/168 و 234 و 299 و 303 و 455.
و في أربعة موارد بعنوان: «الشهيد في بعض حواشيه»، هي: 4/86 ، 7/85 و 98 و 112.
و في ثلاثة موارد بعنوان: «شيخنا الشهيد في بعض الحواشي»، هي: 7/182، 9/118 و 120.
و في موردين بعنوان: «في بعض حواشي شيخنا الشهيد»، هما: 7/37، 8/144.
و في موردين أيضاً بعنوان: «في حاشية الشهيد»، هما: 3/305 و 383.
و في موردٍ واحد بعدّة عناوين:
«الشهيد في حاشيته» في 3/109.
«شيخنا في حواشيه» في 3/203.
«في بعض حواشي الشهيد» في 4/64.
«على ما نقلناه عن بعض حواشي الشهيد» في 4/193.
«واحتمل في حواشي القواعد كونه عيباً» في 4/328.
«وقد صرّح بذلك شيخنا الشهيد في بعض حواشيه على الكتاب» في 9/150.
وقد ذكرها بعنوان: «وفي حواشي شيخنا الشهيد { على القواعد» في رسالته الخراجيّة.
أمّا الموارد التي تردّد في نسبتها إليه فهي:
في أربعة موارد ذكرها بعنوان: «في الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد»، هي: 3/378، 7/277، 8/154، 12/259.
و في ثلاثة موارد ذكرها بعنوان: «في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد»، هي: 8/85 ، 9/287، 13/444.
و في مورد واحد ذكرها بعنوان: «وجدتُ في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد على القواعد في بحث الأنفال من الخمس»، هو: 7/11.
و في مورد واحد أيضاً ذكرها بعنوان: «و على هذا حمله شيخنا الشهيد في بعض ماينسب إلى من الحواشي»، هو:13/408.
و قد ذكرها بعنوان: «صرّح به شيخنا الشهيد في بعض الحواشي المأثورة عنه» في حاشيته على شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي.
و من كلّ هذا يتّضح لنا أنّ الشهيد قد كتب شيئاً ما على قواعد الأحكام إمّا بعنوان الحاشية أو الشرح أو التعليقة، إلاّ أنّ بعض كتاباته هذه قد زِيد فيها أو حُذف منها بعض الجمل، أو اختلطت مع ما كتبه غيره.
الثالث: تُعَدُّ آثار الشهيد الأوّل من أهمّ المصادر للكتب الفقهيّة المتأخّرة ولعلّه جاز لنا أن نقول: إنّه لم يُؤلّف كتابٌ فقهيٌّ جامع ومهمّ بعد آثاره إلاّ قد استفاد منها بشكل مباشر أو بالواسطة. والمحقّق الكركي أحدُ علمائنا الأفذاذ الذين استفادوا كثيراً من آثار الشهيد. ومن هنا نرى في كتب المحقّق الكركي مطالب كثيرةً أُخذت عن كتب الشهيد دون أنْ يُرجع مانقله إلى آثاره ـ مضافاً إلى مواردَ صرّح بنسبتها إلى الشهيد ـ على ماكان معهوداً في السابق، ولم يكن منقصةً تُذكر. وسنذكر فيما يلي نماذج من هذا الموضوع:
غاية المراد، للشهيد الأوّل {، ج 1، ص 147، 149:
... ولصحيحة الهشامين عن الصادق عليه السلام... وفيه إيماء إلى التعليل، فلولا الاجتزاء بالذكر لم يكن تشبيهه بالذكر دالاًّ على الجواز.
معنى «سبحان ربّي العظيم وبحمده»: تنزيهاً لربّي العظيم من النقائص ومن صفات المخلوقين... وقيل: معنى «و بحمده»: والحمد لربّي... وعليه حُمِلَ قوله تعالى: «مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» أي والنعمة لربِّك تعالى. والعظيم في صفته تعالى معناه أنّ كلَّ شيءٍ سواه يقصُرُ عنه... .
و قيل: العظيم من انتفتْ عنه صفاتُ النقص. وقيل: من حصل له جميعُ صفات الكمال.
غاية المراد، ج 1، ص 172:
بـ) الطهارة في الخطيب من الحدث والخبث في المسجد هل هي شرط في الخطبتين؟
قال في المبسوط و الخلاف: نعم؛ للحديث السابق (أي صحيحة ابن سنان عن الصادق Q: «و إنّما جُعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين، فهي صلاة حتّى يَنْزل الإمام»)، ولتيقّن البراءة بها، ولأنّ النبيّ P ومَن بعده كانوا يتطهّرون، والتأسّي به واجب.
غاية المراد، ج 1، ص 148 ـ 150:
ثمّ القائلون بالكبرى منهم من أوجب فيها: «و بحمده»... وهي موجودة في رواية حذيفة عن النبيّ P: «كان يقولها في ركوعه وسجوده»؛ ومن طريق الخاصّة في رواياتٍ، كرواية زرارة... وأبيبكر الحضرمي... وفي حديث حمّاد عن الصادق Qالمتضمّن لبيان الصلاة بالفعل.
معنى «سبحان ربّي العظيم وبحمده»: تنزيهاً لربّي العظيم من النقائص ومن صفات المخلوقين، وبحمده أُنزِّهه... .
و قيل: معنى «و بحمده» والحمد لربّي. وعليه حُمِلَ قوله تعالى: «مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ»، أي والنعمة لربّك تعالى.
و العظيم في صفته تعالى معناه: أنّ كلَّ شيءٍ سِواه يقصُرُ عنه... وقيل: العظيم من انتفت عنه صفات النقص. وقيل: من حصل له جميعُ صفات الكمال.
جامع المقاصد، للمحقّق الكركي (طاب ثراه) ج 2، ص 286، 287:
... لصحيحتي هشام بن الحكم وهشام بن سالم عن أبي عبد اللهQ ... وفيه إيماء إلى العلّة، فيجزئُ كلّ ما يُعدّ ذكراً للّه ويتضمّن ثناءً عليه.
... معنى سبحان ربّي العظيم وبحمده: تنزيهاً له من النقائص... وقيل: معناه والحمد للّه على حدّ ما قيل في قوله تعالى: «مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ»، أي والنعمة لربِّك. والعظيم في صفته من يقصر كلّ شيءٍ سواه عنه.
وقيل: مَن انتفت عنه صفات النقص.
وقيل: مَن حصل له جميعُ صفات الكمال.
جامع المقاصد، ج 2، ص 399 ـ 400:
هل يُشترط في الخطبتين كون الخطيب متطهّراً؟ للأصحاب فيه قولان:
أحدهما ـ و به قال الشيخ في الخلاف و المبسوط ـ نعم؛ تأسّياً بالنبيّ Pوالأئمّة Rبعده، ولتوقّف يقين البراءة عليه، ولصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق Q: «و إنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين، فهي صلاة حتّى ينزل الإمام».
جامع المقاصد، ج 2، ص 287:
في كثير من الأخبار ليس فيه: «و بحمده» وقد تضمّنتْه روايةُ حذيفةَ أنّ النبيّ P كان يقول في ركوعه. وفي سجوده... ومن طريق الأصحاب رواية حمّاد عن الصادق Q المتضمّنة قوله Q له في ركوعه وسجوده وغيرها... .
معنى «سبحان ربّي العظيم وبحمده»: تنزيهاً له من النقائص... أو وبحمده أُنزِّهه... .
وقيل: معناه: والحمد للّه، على حدّ ما قيل في قوله تعالى: «مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ»، أي والنعمة لربّكَ.
والعظيم في صفته مَنْ يَقْصُرُ كلُّ شيءٍ سواه عنه. وقيل: مَن انتفت عنه صفات النقص. وقيل: من حصل له جميع صفات الكمال.
الرابع: ذكر الكركي في آثاره فوائد كثيرة حول آثار الشهيد وكتبه ممّا يُعيننا على التعرّف على آثاره وآرائه، فمثلاً:
1. ذكر الكركي في رسالته صلاة الجمعة:
وإنّ عبارة الدروس على خلاف ذلك، وهي بعد الذكرى، وسمعنا كثيراً من أشياخنا رحمهماللهأنّه Mكان يقول: خذوا عنّي ما في الدروس.
2. قال في رسالته طريق استنباط الأحكام الشرعيّة بعد أن ذكر المنهج الذي اتّبعه العلاّمة واعتمده في كتابه خلاصة الأقوال:
ومن تأخّر عنه كلّهم اعتمدوا على هذا الطريق، كالشيخ فخر الدين في الإيضاح... والشهيد في كتبه خصوصاً الذكرى و شرح الإرشاد.
3. وقال الكركي في رسالته الرضاعيّة:
إنّه قد اشتهر على ألسنة الطلبة في هذا العصر تحريم المرأة على بعلها بإرضاع بعض ما سنذكره.
... فإنّ الذين شاهدناهم من الطلبة وجدناهم يزعمون أنّه من فتاوى شيخنا الشهيد (قدّس الله روحه)، ونحن لأجل مباينة هذه الفتوى لأُصول المذهب استبعدنا كونها مقالة لمثل شيخنا على غزارة علمه وثقوب فهمه، لاسيّما ولانجد لهؤلاء المدّعين لذلك إسناداً يتّصل بشيخنا في هذه الفتوى يعتدّ به، ولامرجعاً يركن إليه.
... فإن قيل: قد ذكرت في ما سبق نسبة القول بذلك إلى الشهيد M، فقد ثبت القائل بالتحريم، فحصل السلف واندفع المحذور.
قلنا: هذه النسبة غير ثابتة عندنا، فإنّا لم نجدها في مصنّف منسوب إليه M، ولاسمعناها ممّن يركن إلى قوله سماعاً يوثّق بمثله ويستند إليه، وإنّما كنّا نجدها مكتبة في ظَهر بعض كتب الفقه مستندة إليه، وفي خلال المحاورة كنّا نسمعها من بعض الطلبة الذين عاصرناهم، وهولاء أيضاً لو طولبوا بإسناد في ذلك تسكن النفس إلى مثله لم يجدوا إليه سبيلاً. ومثل هذا لايشفي غلّة، ولايقطع علّة.
وقد رأيت في عصري كثيراً من الحواشي والقيود منسوبة إليه M وأنا أجزم بفساد تلك النسبة. والسرّ في ذلك تصرّف الطلبة الذي تعزّ سلامته من الزيادة والنقصان، أو الخطأ وسوء الفهم.
4. قال في جامع المقاصد:
ولكن نفى هذه النسبة عن الشهيد في شرح الألفيّة، حيث قال:
و قد يوجد في بعض الحواشي المنسوبة إلى المصنّف على التحرير وغيره، ولاشكّ في بطلان هذه النسبة.
الخامس: كثيراً ما أثنى المحقّق الكركي على عبارات الشهيد ووصفها بالدقّة والبلاغة والجزالة:
منها: ما قاله في قاطعة اللجاج:
وقال شيخنا في الدروس كلاماً في هذا الباب من أجود كلام المحقّقين... حيث ذكر الجوائز وجعل ترك قبولها أفضل، وبالغ في أحكام الخراج بما سنحكيه مفصّلاً وصورة كلامه... . و المقداد M في التنقيح شرح النافع أخذ حاصل هذا الكلام وأورده بصورة الشرح مطوّلاً.
ومنها: ما قاله في شرح الألفيّة عند شرح كلام الشهيد: «بماء طهور»: «و هذه العبارة من بديع عبارات المصنّف M».
ومنها: ما قاله في شرح الألفيّة أيضاً عند شرح كلام الشهيد: «و خفاء الجدران»: «وقد اشتملت هذه العبارة الفائقة على أكثر من مباحث السفر مع شدّة الاختصار ولزوم البلاغة».
ومنها: ما قاله في شرح الألفيّة أيضاً عند شرح كلام الشهيد: «و للكلام كذلك»: «وهو معنى رشيق».
السادس: شَرَحَ رسالةً للشهيد وهي الألفيّة شرحاً دقيقاً، وهذا الشرح موجود ومطبوع بحمد الله سبحانه، وله M أيضاً حاشيةٌ على الألفيّة.
و خلاصة الكلام أنّ الكركي اعتنى بآراء الشهيد وآثاره، وبالغ في فهمها وشرحها وحفظها وصرّح في كتبه عن ثمانية كتب رسائل للشهيد الأوّل وهي:
1. الدروس الشرعيّة؛ 2. ذكرى الشيعة؛ 3. غاية المراد؛ 4. البيان؛ 5. حاشية القواعد؛ 6. القواعد والفوائد؛ 7. مناسك الحجّ ؛ 8 . الألفيّة (و شَرَحَها أيضاً).
الفصل الثاني: تأثير المحقّق الكركي على الشهيد الثاني
إنّ الشهيد الثاني قدسسره تأثّر في آرائه وأنظاره الفقهيّة بالشهيد الأوّل والمحقّق الكركي أكثر من غيرهما، ولعلّه جاز أن نقول لم يتأثّر بغيرهما من الفقهاء العظام، وإن استفاد منهم وراجع آثارهم واستقى من عيون علومهم. فإنّه مضافاً إلى نقله آراء الشهيد الأوّل وشرحها ونقدها في غضون آثاره، ألّف خمسة كتبٍ ورسائلَ في شرح مؤلفات الشهيد الأوّل، وهي:
1. الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة؛ 2. الفوائد المليّة بشرح الرسالة النفليّة؛ 3 . المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفيّة؛ 4. الحاشية الوسطى على الألفيّة؛ 5. الحاشية الصغرى على الألفيّة.
وهناك وجه مشترك بين الشهيدين، وهو نيل درجة الشهادة دفاعاً عن مذهب أهل البيت R، ويقول تلميذه ابن العودي بهذا الشأن:
و لمّا عَلِمَ النسبة بينه وبين الشهيد من المشاركة في نيل درجة السعادة بخاتمة الشهادة، أُلقي في قلبه الميل إلى إحياء آثاره والتعلّق بشرح مصنّفاته وإظهار تحقيقاته. ولقد كانت نفسه كأنّها ممزوجة بنفسه، وكثيراً ما كان يبني على مباحثه، ويرجع إلى عباراته ويصوّب ما اعتمده من ترجيحاته. كان من أُنسه به كأنّه معاصره، ومن اطّلاعه على شريف أنفاسه كأنّه معاشره (قدّس الله روحهما الزكيّة وأفاض عليهما المراحم الربّانيّة).
و أمّا تأثّر الشهيد الثاني بالمحقّق الكركي فهو واضح لكلّ من راجع آثارهما، ولقد بالغ بعضهم في ذلك، فمثلاً يقول العلاّمة السيّد حسن الصدر M عند ذكره للمحقّق الكركي:
و أمّا في العلم فهو المحقّق الثاني، وكلّ من تأخّر عنه عيال عليه، حتّى الشهيد في المسالك؛ فإنّها في المعاملات مأخوذة من جامع المقاصد كما لايخفى على الممارس وكذلك المقاصد العليّة؛ فإنّ للمحقّق شرحين على الألفيّة كبير وصغير... .
و يقول السيّد صاحب الروضات عند ذكر مصنّفات الشهيد الثاني، ومنها شروحه على الألفيّة حيث قال:
و أكبرها موسوم المقاصد العليّة فيما يقرب من ثمانية آلاف بيتٍ، إلاّ أنّ أكثره مأخوذ من شرح الشيخ علي المحقّق حرفاً بحرفٍ، كما لايخفى على المتأمّل.
و قال الشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي رحمهمالله في شرحه للألفيّة، عند شرحه لقول الشهيد: «مشروطة بالقبلة اختياراً»:
كان الشيخ الزيني (يعني الشهيد) أوّلاً قد نقل في شرحه كلام شيخنا العلائي (يعني المحقّق الكركي) كما هو، فأوردت عليه هذا الإشكال وأنا أتوهّم أنّ الكلام له. فقال: «هذا كلام الشارح المحقّق» واستحسن ما أوردته عليه، فنسبه إلى شيخنا العلائي، وألحق الإشكال عليه في نسخ الأصل على الحاشية.
وكما تقدّم فإنّ في كلام السيّد الصدر والسيّد صاحب الروضات شيءٌ من المبالغة كما لايخفى على كلّ منصفٍ راجع آثارهما، فهناك موارد كثيرة في شرح الألفيّة لم يشرحها المحقّق الكركي وشرحها الشهيد الثاني، وهناك عبارات كثيرة شرحها الكركي بشكل مختصر، وشرحها وبيّنها الشهيد بشكل مفصّل، وهناك موارد كثيرة وجّه فيها الشهيد انتقاده للمحقّق الكركي في شرحه للألفيّة والتي زادت على الثلاثين مورداً.
و على أيّ حالٍ، فنبحثُ عن تأثّره بالكركي وتبجيله وتعظيمه ضمن عدّة نقاطٍ:
الأوّل: أنّ الشهيد الثاني عظّم الكركي وبجّله في إجازاته وآثاره، وإليك بعض كلامه بشأن المحقّق الكركي:
1. يقول الشهيد في إجازته الكبيرة لوالد الشيخ البهائي:
2. ويقول في رسالته تقليد الميّت:
... أنّهم عاصَروا جماعةً من المجتهدين أجَلُّهم الشيخ عليّ M، وكان عند من يعرف مراتب الفقهاء على غايةٍ عظيمةٍ من الفقه ومرتبةٍ عاليةٍ في الاستدلال، بحيث كان أعلى من كثيرٍ من الفقهاء السابقين....
الثاني: ألّف الشهيد رسائل حول مواضيع ألّف فيها قبله المحقّق الكركي أيضاً، رسائلَ، وشَرَحَ الشهيد كُتباً وعَلّق عليها وكتب المحقّق أيضاً قبله حواشي عليها، وفي هذه الآثار نظر الشهيد إلى آراء الكركي ونقلها وأيّدها أو انتقدها وردّ عليها، وإليك فهرس الآثار المتشابهة للشهيد الثاني والكركي:
الرقم المحقّق الكركي الرقم الشهيد الثاني
1 و 2حاشية القواعد و جامع المقاصد1 فوائد القواعد
3 و 4شرحا الألفيّة2و3و4المقاصد العليّة و حاشيتا الألفيّة
5 تعليق الإرشاد5حاشية الإرشاد
6فوائد الشرائع6حاشية الشرائع
7 حاشية المختصر النافع 7 حاشية المختصر النافع
8 رسالة في صلاة الجمعة8صلاة الجمعة
9 الرسالة النجميّة9ما لا يسع المكلّف جهله
10 رسالة في العدالة10العدالة
11 رسالة في الحجّ11 مناسك الحجّ
12 رسالة في المنع عن تقليد الميّت12تقليّد الميّت
13رسالة طلاق الغائب12طلاق الغائب
14خروج المقيم عن حدود البلد14نتائج الأفكار في حكم المقيمين في الأسفار
15رسالة في النيّة15النيّة
الثالث: لقد أكثر الشهيد النقل عن مؤلفات الكركي وصرّح بالنقل عنها في كثير من المواضع ولم يصرّح بالنقل في مواضع أُخرى، على ماكان عليه ديدن العلماء في ذلك الزمان ولم تكن منقصة تذكر.
و إليك نماذج من اقتباس الشهيد عن الكركي وتأثّره به من دون تصريح به:
جامع المقاصد، ج 10، ص 7، الوصيّة:
الأوّل: الوصيّة: تمليك عينٍ أو منفعةٍ بعد الموت. الوصيّة مأخوذة من وصى يصي وصيّةً وأوصى يوصى، ووصّى يوصّي توصية. يقال: وصى إليه بكذا، إذا وصل به... وسُمّي هذا التصرّف وصيّة لما فيه من وصلة القربة الواقعة بعد الموت بالقربات المنجّزة في الحياة.
و قد عرّفها المصنّف بأنّها تمليك عين أو منفعة بعد الموت. فقوله: «تمليك عين أو منفعة» بمنزلة الجنس، يعمّ الهبة والوقفَ وسائر التصرّفات المملّكة. وفي ذكر العين والمنفعة تنبيهٌ على متعلّق الوصيّة. ويندرج فيها العين الموجودة بالفعل والموجودة بالقوّة كالشجرة والثمرة المتجدِّدتين. ويندرج في المنفعة: الموؤتة والموؤدة والمطلقة.
و قوله: «بعد الموت» كالفصل يخرج به الهبة وغيرها من التصرّفات المنجّزة في الحياة.
ونقض في عكسه بالوصية بالولاية؛ فإنّها ليست تمليك أحد الأمرين وبالوصيّة بالعتق؛ فإنّه فكٌّ، والتدبير؛ فإنّه وصيّة عند كثيرين ووقف المسجد؛ فإنّه فكٌّ، وبالوصيّة بالمضاربة والمساقاة.
فإن قيل: إنّهما مملّكان لحصّةٍ من الربح والثمرة. قلنا: قد لايحصل الربح ولاالثمرة، فينتفي التمليك.
الروضة البهيّة، ج 5، ص 11، كتاب الوصايا:
الأوّل: الوصيّة مأخوذة من وصى يصي، أو أوصى يوصى، أو وصّى يوصّي. وأصلها الوصل. وسُمّي هذا التصرّف وصيّةً لما فيه من وصلة التصرّف في حال الحياة به بعد الوفاة، أو وصلة القربة في تلك الحال بها في الحالة الأُخرى.
و شرعاً: تمليك عين أو منفعةٍ، أو تسليط على تصرّف بعد الوفاة. فالتمليك بمنزلة الجنس يشمل سائرَ التصرّفاتِ المملّكة من البيع والوقف والهبة. وفي ذكر العين والمنفعة تنبيهٌ على متعلّقي الوصيّة. ويندرج في العين: الموجودُ منها بالفعل كالشجرة، والقوّة كالثمرة المتجدّدة. وفي المنفعة: الموؤتة والموؤدة والمطلقة. ويدخل في التسليط على التصرّف الوصاية إلى الغير بإنفاذ الوصيّة، والولاية على مَن للموصي عليه ولاية، ويخرج ببعديّة الموتِ الهبةُ وغيرها من التصرّفات المنجّزة في الحياة...
و ينتقض في عكسه بالوصيّة بالعتق؛ فإنّه فكّ ملكٍ، والتدبير؛ فإنّه وصيّة عند الأكثر. والوصيّة بإبراء المديون وبوقف المسجد؛ فإنّه فكّ ملكٍ أيضاً، وبالوصيّة بالمضاربة والمساقاة؛ فإنّهما وإن أفادا ملكَ العاملِ الحصّةَ من الربح والثمرة على تقدير ظهورهما، إلاّ أنّ حقيقتهما ليستْ كذلك، وقد لايحصل ربحٌ ولاثمرةٌ فينتفي التمليك.
الرابع: وهذا الأمر لايعني أنّه يكتفي بالنقل عن الكركي فقط، فقد ردّ الشهيد على الكركي في كثير من المواضع وانتقد آراءه انتقاداً دقيقاً ودقّق النظر في كلماته، وإليك نماذج منها:
أ) قال الشهيد في رسالته: صلاة الجمعة:
... فهولاء المذكورون من علمائنا جملة من استند الشيخ علي M إلى نقلهم الإجماعَ على اشتراط إذن الإمام في شرعيّة صلاة الجمعة... .
و أنت إذا اعتبرتَ كلامهم وجدتَه بمعزِلٍ عن الدلالة عن ذلك، بل لادلالة له أصلاً....
ب) قال الشهيد أيضاً في رسالته: صلاة الجمعة:
... لكانت هذه الدعوى في غاية المتانة ونهاية الاستقامة، ولايضرّها أيضاً تصريح الفاضل الشيخ عليّ M بالاشتراط؛ لأنّه إنّما استند في القول إلى الإجماع الذي فهمه... وقد ظهر لك أنّ الأمر على خلاف هذه الدعوى....
ج) قال الشهيد أيضاً في رسالته: صلاة الجمعة:
... ولو ضممنا إليه ما ادّعاه كثيرٌ من المتأخّرين ـ خصوصاً المرحوم الشيخ عليّ لطال الخطب. ومن غريبها دعوى الشيخ عليّ M في شرح الألفيّة الإجماعَ على أنّ ناسي الغصب في الثوب والمكان لاتجب عليه الإعادةُ خارج الوقت، مع ظهور المخالف في ذلك... ولو أتيتُ لكَ على جميع ما ذكره من ذلك في مؤلفاته ورسائله لطال وفي هذا القدر كفاية.
د) نقل الشهيد في رسالته طلاق الغائب كلاماً للمحقّق الكركي وأورد عليه إيراداتٍ كثيرة، حيث قال:
... وممّا اتّفق الكلام فيه أنّ الشيخ عليّ M نقل في بعض فوائده عن الإمام فخر الدين M يجوز طلاق الغائب بعد المدّة المعتبرة... فقال الشيخ عليّ M ما هذا لفظه:
أقول: في هذا البحث نظر من وجوهٍ:
أ- نقله عن العلاّمة فخر الدين غير واضح... .
ب- نسبة ذلك إلى فخر الدين تُشعر بكونه أفتى به... والحال أنّه لم يذكر ذلك على وجه الفتوى، وإنّما هو بصدد تَعداد الأقوال في المسألة... .
ج- نسبته إليه تعليل هذا الحكم... بأنّ فيه جمعاً بين الأخبار غير سديد... .
د- قوله: «لأنّ الأخبار بعضها دلّ على جواز التطليق على كلّ حالٍ.. ». فيه أنّ ذلك مبنيٌّ على أنّ طريق الجمع بين الأخبار تنزيلها على مراتب العادات... وقد تقدّم ما فيه...) قوله... «إنّه إذا دار الحال في النصوص بين أمرين، إلخ» فيه: أنّ الجمع بين النصوص غير مقتصرٍ إلى هذين التقديرين... .
ثمّ قال الشهيد:
واعلم أنّ المحقّق الشيخ عليّ M ... ادّعى أنّ عبارات الأصحاب مشعرة بما ادّعاه... وأنت خبيرٌ بعدم إشعار هذه العبارات بما ادّعاه....
ه- قال في روض الجنان في ردّ إجماعٍ ادّعاه الكركي M:
... وقد اتّفق للمحقّق الشيخ عليّ M في شرح الألفيّة نقل الإجماع على جواز الصلاة في ميتة السمك... وينبغي التثبّت في تحقيق هذا النقل... والذي أوقع في هذا الوهم أنّ عبارة الذكرى توهّم ذلك، لكن كونها بطريق النقل عن المعتبر مع نقل لفظ المعتبر يكشف المراد، وتَحَقَّقَ أنّ الكلام في وبر الخزّ لا في جلده ولا في جلد ميتة السمك... فلو بذل الجهد في تحقيق الحقّ، ظهر له جليّة فيما ذكرناه....
و- قال الشهيد في فوائد القواعد ردّاً على المحقّق الكركي في شرح القواعد أعني جامع المقاصد:
- و أمّا قول الشارح M: ... فليس بجيّدٍ....
- و اعلم أنّ المحقّق الشيخ عليّ M: «إنّ ما ذكره العلاّمة قطب الدين يناسب مذهب العامّة القائلين باختصاص كلّ صلاة بوقت لاتشاركها فيه الأُخرى».
و فيه نظر؛ لأنّ العامّة وإن قالوا بالاختصاص لكن أوجبوا على مُدرك خمس ركعات من آخر الوقت فعل الظهرين والعشاءين وقضاؤما لو فاتتا حينئذٍ، وصرّحوا في كتبهم في هذه المسألة بوجوب قضائها في هذه الفروض....
ز- وهناك موارد كثيرة وجّه فيها المصنّف انتقاده للمحقّق الكركي في شرحه للألفيّة، والتي زادت على الثلاثين مورداً، منها:
ما قاله عند شرح قول الماتن: «وحجّة خير من بيت مملوء ذهباً»:
واعلم أنّه لايحتاج إلى تقييد البيت المملوء من الذهب بكونه مجتمعاً من الصدقات الواجبة، كما قيّده به الشارح المحقّق؛ بناءً على أنّ المندوب لامزيّة في تفضيل بعض الواجبات عليه، لأنّ الواجب القليل إذا فضل على المندوب الكثير تتمّ به المزية.
و ما قاله عند شرح قول الماتن: «فلو استأنف ماءً لأحد المسحين بطل»:
والشارح المحقّق M جعل ضمير «بطل» عائداً إلى الوضوء لا إلى المسح، مستدلاًّ بعدم ذكر المسح سابقاً. وهو غريب، فإنّه مذكور عن قُرب وبُعد، بخلاف الوضوء فإنّه ليس مذكوراً في الرمز.
وما قاله عند شرح قول الماتن: «إيقاعها في مكان أو ثوب نجسين أو مغصوبين»:
واعلم أنّ الشارح المحقّق ادّعى الإجماع هنا على عدم إعادة ناسي الغصب بعد خروج الوقت، وأنّ الخلاف إنّما وقع في إعادته في الوقت خاصّة أو عدم الإعادة مطلقاً. وهذه الدعوة غريبة من مثل هذا المحقّق، فإنّ الخلاف في ذلك مشهور حتى أنّ العلاّمة في أكثر كتبه اختار اعادة الناسي مطلقاً.
وعلى أيّ حالٍ فإنّ الشهيدين و المحقّق الكركي (تغمّدهم الله بغفرانه وأسكنهم فراديس جنانه) من فطاحل الفقه، ومن الّذين في مقام لا ينسى الدهر ذكرهم، وأياديهم المشكورة على الأُمّة لا تخفى، و لا تزال آثارهم القيّمة محطّاً لاستفادة الخلف و ملاذاً للعلماء والفقهاء.
[1](*) محقق في الحوزة العلمية /قم.
الأخوة الإسلامية
الشيخ حسين حبلي الصيداوي (*)
اسأل الله العظيم أن يكون هذا المؤتمر خطوة حقيقية نحو الوحدة الحقيقية و الخروج عن عادة المؤتمرات التي تنفض من دون أن تترك أثرا يذكر على صعيد توثيق أخوة الإسلام، أو على صعيد الوحدة. فالوحدة الإسلامية بين المذاهب الاسلامية، أعذروني إن قلت لكم انها ليست بخير، وحتى هذه المؤتمرات سيكون مفعولها عند كثير من العوام، بالإضافة الى الخواص، بالنسبة لمن يشارك فيها هو اللوم والعتاب. في حين لو كان المؤتمر مع غير المسلمين، بعنوان إنساني أو حوار أديان، لكان مقبولا عند الناس أكثر!! فالله المستعان. و حتى الآن - و للأسف - فالوحدة الأسلامية ما هي إلا شعارات، ولا يعرف البعض ما المقصود بالوحدة؛ فإن كانت إلغاء المذاهب، فهذا لن يكون أبدًا، وإن كانت تغلّب مذهب على آخر، أو ذوبانه فيه، فهذا أيضًا مستحيل.[1]
ودعونا نقترح عنوانا جديدا بدل الوحدة الاسلامية، وهو الأخوة الاسلامية التي وصفنا الله بها في قوله } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{. وكما أن الأخوة في النسب حين يختلفون في فكر أو ميل وانتماء لا يشطب الأخ أخاه من أسرته، فما لنا يطرد المسلم أخاه من الإسلام عند الاختلاف، ناسيا أو متناسيا أن أخوة الاسلام أعظم وأقدس من أخوة النسب، و أن الطرد من الأسرة أهون بكثير من الطرد من الاسلام، المتمثل بآفة العصر، وهي التبديع والتفسيق ثم التكفير العشوائي والهوائي، ثم القتل والاستهانة بالدم.
تمهيد حول المذاهب الاسلامية:
المسلمون ليسوا مذهبين، سنيًا و شيعيًا فقط، بل السنة مذاهب أربعة معتمدة، والشيعة مذاهب، وداخل المذاهب اجتهادات وتفريعات كثيرة، منها الشاذ ومنها المعتبر ومنها ما له مقلدون ومنها ما انقرض مع مقلديه. فكيف نشأت هذه المذاهب؟
كان الناس في زمن النبي P، يلجأون في معرفة أمور دينهم إليه P، وإلى مَن عينهم P، كأمراء أو رُسُل إلى البلاد الأخرى. وبقي الحال على ذلك، إلى أن قُبِض P.
وأما بعده، فكان الناس يسألون الخلفاء خاصة، والصحابة عامة لمَّا تفرَّقوا في سائر البلدان، لأنهم كانوا أقرب الناس إلى رسول الله P، وأعرفهم بأحكام دينه.
ولما جاء عصر التابعين وتابعي التابعين انقسم العلماء إلى قسمين: أهل الحديث، وأهل الفتوى. وكثر المفتون في المدينة ومكة والشام ومصر والكوفة وبغداد وغيرها من بلاد الإسلام، فكان العامة يسألون مَن يظهر لهم علمه ومعرفته، دون أن يتمذهبوا بقول واحد بعينه.
إلا أن المهاترات التي وقعت بين أهل الحديث وأهل الفتوى وبالأخص أهل الرأي منهم من جهة، مضافاً إلى تقريب الخلفاء لبعض العلماء دون البعض الآخر من جهة أخرى، وَلَّد روح التعصّب عند الناس لبعض الفقهاء، والحرص على الالتزام بآرائه الفقهية وطرح آراء غيره.
ولما ظهر أبو حنيفة كفقيه له آراؤه الفقهية، استطاع أن يستقطب له تلاميذ صار لهم الدور الكبير بعد ذلك في نشر تلك الآراء، ولا سيما القاضي أبو يوسف الذي نال الحظوة عند الخلفاء العباسيين، فتولى منصب القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي والهادي والرشيد، فنشر مذهب أبي حنيفة بواسطة القضاة الذين كان يعيّنهم هو وأصحابه.
ولما بزغ نجم مالك بن أنس أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما في الموطأ، وأمر من ينادي في الناس: (ألا لا يُفتينَّ أحد ومالك بالمدينة). وحظي مالك بمكانة عظيمة عنده وعند مَن جاء بعده من أبنائه الخلفاء، كالمهدي والهادي والرشيد، فسبّب ذلك ظهور أتباع له يروّجون مذهبه، ويظهرون التعصب له.
ثم تألَّق الشافعي وبرز على علماء عصره، وساعده على ذلك تتلمذه على مالك في المدينة، ونزوله ضيفاً لما ذهب إلى مصر عند محمد بن عبد الله بن الحكم الذي كانت له في مصر مكانة ومنزلة علمية، وكان مقدَّماً عند أهل مصر، فقام هذا الأخير بنشر علم الشافعي وبث كتبه، مضافاً إلى ما لقيه الشافعي في بادئ الأمر من المالكية في مصر من الإقبال والحفاوة، بسبب كثرة ثنائه على الإمام مالك، وتسميته بـ(الأستاذ).
ولما وقع الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن، وضُرب وحُبس، مع ما أظهر من الصبر والتجلد، جعل له المكانة عند الناس، ولاسيما بعد أن أدناه المتوكل العباسي وأكرمه وعظَّمه، وعني به عناية فائقة.
فمذاهب أهل السنة المعروفة، مذهب سفيان بن عيينة بمكة، ومذهب مالك بن أنس بالمدينة، ومذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري بالكوفة، ومذهب الأوزاعي بالشام، ومذهب الشافعي والليث بن سعد بمصر، ومذهب إسحاق بن راهويه بنيسابور، ومذهب أحمد بن حنبل وأبي ثور ببغداد... وغيرها.
إلا أن أكثر تلك المذاهب انقرض بين الناس، وظلّت آراء أصحابها مدوَّنة في بطون الكتب عند أهل السنة، وبقيت منها تلك المذاهب: الأربعة المعروفة، وهي مذهب أبي حنيفة النعمان، ومذهب مالك بن أنس، ومذهب محمد بن إدريس الشافعي، ومذهب أحمد بن حنبل.
وهذه المذاهب صارت هي المذاهب التي عليها أهل السنة في كافة الأمصار منذ أن حُصر التقليد فيها بقرار من المستنصر العباسي بإيصاد أبواب الاجتهاد ووقفها على المذاهب الأربعة, فتعصب له المشايخ و العوام وكأنه السنة النبوية المفقودة و قد عثر عليها توا, ومنذ ذلك الحين اي عام 631ه إلى عصرنا الحاضر صار الخروج على المذاهب الأربعة يعتبر بدعة مستنكرة؟
من هنا عد تمرد ابن تيمية على هذا القرار من أهم ما أخذ عليه، إذ خالف المذاهب الأربعة في كثير من المسائل، وقد حصرها ابن العماد الحنبلي بخمس عشرة مسألة منها:
وقد رماه حتى أقرب أنصاره بالشذوذ وعدوا ذلك شذوذا إلا أنه اجتهاد خاطئ له به أجر واحد ومن أولئك: الذهبي و الصفدي و ابن كثير.
و قد سبقه الى هذا المضمار اعلام كبار كأبي شامة المقدسي الدمشقي و قبله العز بن عبد السلام و من قوله في ذلك (من العجب ان الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف ما اخذ به امامه و مع ذلك يقلده فيه و يترك من شهد الكتاب و السنة و الأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودا على تقليد امامه. يقول ابن تيمية: انه لسبيل خبيث أن يترك القول و العمل بموجب أحاديث رسول الله ظنا أن القول بموجبها مستلزم للطعن في من خالفه
قال ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام):
وليعلم مَن قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة ـ نعني التقليد ـ إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول اللهP وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتوى، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها.
ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المائتين من الهجرة عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم.
نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورَّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح.
في حين كان يحكم هذا الفريق على أتباع المذاهب الأخرى بالضلال والبدعة لتعصبهم المذهبي, تجد لهذا التعصب أزيزا في دمائهم لا يهدأ!!
ثم نشأت عند هذا الفريق الدعوة إلى اللا مذهبية وترسخت كعقيدة جديدة تولى أصحابها شرحها في كتب عديدة,؟منها كتاب بعنوان (المذهبية أخطر بدعة)غافلين أنهم قد أسسوا بدعوتهم هذه مذهبا جديدا,بل فتحوا الطريق لمذاهب لا تنتهي حين منحوا حق الاجتهاد في الدين حتى لمن لا يحسن أن يتوضأ, فطالما أنه قرأ آية أو حديث فله أن يستنبط ما يؤدي إليه (اجتهاده). قكم جميل ان نعي قوله تعالى: }أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ{.
وقد استفاد ابن تيمية و(أتباعه)من علاقتهم بالحكام فكان لابن تيمية علاقة مميزة مع أمير دمشق: فعندما تكلم بالصفات و بالغ في التجسيم بعبارة لم يجرؤ عليها أحد قبله و قام عليه علماء دمشق و نادوا ببطلان كلامه و شكوه إلى القاضي فأبى أن يحضر إلى القضاء, وتدخل الأمير فانتصر لابن تيمية,وأرسل في طلب العلماء الذين اشتكوه فاختفى منهم جماعة و قبض على الاخرين فضربهم,وكان ابن تيمية إذا أشار إلى السلطان بعزل قاض أو خطيب أو شيخ نفذ طلبه فورا[2].
فهل نجح ابن تيمية في قهر العصبية للمذهب الواحد؟وهل جعل من أتباعه جبلا متساميا فوق العصبية بغيته الحق و الصواب الموافق للكتاب و السنة؟
لا فأتباعه كانوا يرددون في حياته (نحن لا نتبع إلا أقوال الامام أحمد و شيخنا تقي الدين ابن تيمية[3])
فالنتيجة اذن ان اضيف الى محاور التعصب محورا جديدا تمثل في شخص ابن تيمية وفتواه!
هكذا تبين ان تثبيت المذاهب الاربعة واقصاء غيرها كان بامر السلطان وكذا ادراج ابن تيمية واتباعه كمذهب جديد كان بامره.
من أسباب التعصب المذهبي:
الجهل بالاخر: وهذا يعتبر من اهم الاسباب في عصرنا فانا اتكلم عن نفسي كنت اذا سمعت بالشيعه اظن انهم فصيلة مختلفة عن البشر وبنفس الوقت هناك من الشيعة من يعتقد ذلك باهل السنة ومما قد يزيد هذه الصورة المشوهه اصطياد اخطاء شخص من المذهب المخالف وتعميمه على اتباع المذهب كله
الجهل العام: كلما زاد الجهل زادت العصبية وقد رأيت اكثر الناس تعصبا اكثرهم جهلا فكثير من المتعصبين للمذهب لا يعلمون سبب تسمية المذهب او من اسسه عوضا عن فروع المذهب واصوله.
مخطط الاعداء: فان اعداء الاسلام عمدوا الى تغذية النعرات بين المسلمين ليستفيدوا بضربهم ببعض كما فعل الاستعمار البريطاني باستخدام الوهابيين لضرب الدولة العثمانية التي كانت ترعى التدين الصوفي بحجة ان الصوفيين مبتدعون ومشركون. ونلاحظ هذا جليا في زماننا إذ تزداد النعرة المذهبية بحسب الوضع السياسي، فنجد الفضائيات (والفتاوي على الهوى) والكتب المجانية التي يختم عليها بكلمة طبع منه... نسخه لوجه الله وما ارى الكثير منها الا لوجه اعداء الله, وقد وصل هذا البلاء لبعض اصحاب المناصب الدينية وصارت العصبية تعمي وتسم وتجيز ان ننسب للمذاهب الاخرى ما ليس فيها ومثل على ذلك كتاب كان يدرس في احد المعاهد الشرعية السنية حول الفرق الاسلامية فعند ذكر الامامية يتهمها بامور يندى لها الجبين ويخلط بين الشيعة والفرس والمجوس وطوائف اخرى منشقة عن الشيعة وليست امامية، وينكر ما صح عند اهل السنة فيذكر حديث غدير خم ويقول حرفيا لم يثبت عند مؤرخي اهل السنة او محدثيهم مع العلم ان الحديث ورد في البخاري وهو اصح كتب الحديث عند السنة!
وبالمقابل وجدت في كتاب معتمد في احدى حوزات الشيعة يأتى بكلام شاذ لفرقة من غلاة الحنابلة فيه تجسيم لله يصف الله كانه بشر يتحرك وينزل وله صورة وبعدها يعقب (بان هذا راي اهل السنة).
ومشكلة المشاكل هي قضية الفرقة الناجية حيث يعم هذا الطاعون الامة ليس بين المذاهب فقط، بل داخل المذهب الواحد حيث تعتقد كل جماعة انها الناجية وان الباقين من الامة في النار ولذلك لا بد من تفصيل حديث الفرقة الناجية.
قال الإمام السيوطي عن زيادة «كلهم في النار إلاّ ملّة واحدة ما أنا عليه وأصحابي أنه ضعيف»[4]. وكذا قال الإمام المناوي في كتاب فيض القدير أنه ضعيف, وكذا الإمام الحافظ الذهبي وأفضل هذه الروايات والتي تطمئن إليها النفس وتتناسب مع باقي النصوص الشرعية وروح الدين – والتي هي أصح ما ورد في الموضوع من حيث السند أيضاً فقد أحببتُ هنا أن أذكره بالتفصيل مع سنده ليكون حجةً لمن أراد أن يطيع الله ورسوله بالإعتصام بحبل الله وعدم تفسيق وتكفير الفرق المخالفة له. وحجة على من اتبع هواه وجعل نفسه ناجٍ }قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ{.
وهذا نص الحديث الذي ورد في سنن أبي داود[5]: حدثنا عمرو بن عثمان أخبرنا أبي أخبرنا شهابُ بنُ خراشٍ عن القاسم بن غزوان عن إسحاق بن راشد الجزريّ عن سالم قال حدّثني عمرو بن وابصة الأسديّ عن أبيه وابصة عن ابن مسعود قال سمعت النبي P يقول فذكر بعض حديث أبي بكرة (الذي مر ذكره) وهو الشطر الأول إلى قوله وتفترق أمتي إلى بضعٍ وسبعين شعبة». قال: «قتلاها كلهم في النار». قال سفينة قلت متى ذاك يا ابن مسعود؟ قال: تلك أيام الهرج حيث لا يأمن الرجل جليسه. قلتُ: فما تأمرني إنْ أدركني ذلك الزمانُ؟ قال: تكفّ لسانك ويدكَ وتكونُ حلساً من أحلاس بيتك فلما قتل عثمان طار قلبي مطاره فركبت حتى أتيت دمشق فلقيت خريم بن فاتك فحدثته «فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لسمعته من رسول الله P كما حدثنيه ابن مسعود». أ.هـ[6] - أي قتلاها كلهم في النار - يعني أن الأمة ستفترق وهذا الافتراق واقع لا محالة فقد يصل بين هذه الفرق من العداوة والتنازع إلى التقاتل فعند ذلك «قتلاها كلهم في النار»، وهذا يتوافق مع الحديث الصحيح أيضاً «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار...» ويتفق أننا خير أمة، فكيف نكون في النار لمجرد أن نفترق؟؟ أين نظرة الرسول لأمته حين يقول أمتي أمتي, هل كون أمة محمد (كلها في النار إلا فرقة)لا يسوؤه Pوهو الذي وعده الله} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{ هل سيحرق الله أمة في قلبها حب الله ورسوله؟؟فقط لأنها افترقت؟؟ ألم يفترق الصحابة؟؟ هل هم في النار؟؟هل هذا ظنكم بالله؟؟؟
الكتاب:
وقد وقفت على كلام رائع في هذا الموضوع وهذا نصه:فهذه الأحاديث وما فى معناها فى وصف آخر الزمان وأهله قد دلت على أنه زمان كثرة الهالكين وقلة الناجين. وأحاديث الغرباء قد دلت على أوصافهم بأنهم الفرقة الناجية فى ذلك الزمان وليسوا بفرقة مشار إليها كالأشعريين والمعتزلة، بل هم النزاع من القبائل كما فى الحديث، وهم متبعوا الرسول اتباعا قوليا وفعليا من أى فرقة كانت. هذا وقد ذكر فى الفرقة الناجية أنهم صالحو كل فرقة وذكر انهم أهل البيت النبوى عليهم السلام ومن اتبعهم، إلا أن ذلك مبنى على أن القضية دائمة ثم هو لا يدفع الاشكال. نعم وهذا كله توفيق بين الأحاديث مبنى على صحة قوله كلها هالكة الا فرقة ولا شك أنه قد ثبت فى كتب السنة كما سمعته ولكنه قد نقل السيد العلامة محمد ابن إبراهيم الوزير M فى بعض رسائله عن أبى محمد بن حزم الأندلسى M ما لفظه. قال أبو حزم أن الزيادة يعنى قوله كلها هالكة إلا فرقة موضوعة وإنما الحديث المعروف إنما تفترق إلى نيف وسبعين فرقة ولا زيادة على هذا فى نقل الثقات.
فالحديث المشهور كان عند المحدثين معلا وما زاده غير صحيح وإن كان الراوى ثقة غير أن مخالفة الثقات فيما شاركوه فى الحديث يقوى الظن على أنه وهم في ما زاده أو أدرج فى الحديث كلام بعض الرواة وحسبه من كلام رسول الله فيعلون الحديث بهذا وإن لم يكن مقدوحا فيه، على أن أصل الحديث الذى حكموا بصحته ليس مما اتفقوا على صحته وقد ترك إخراجه البخارى ومسلم مع شهرته لعدم اجتماع شرائطهما فيه. انتهى كلامه حرره السيد العلامة الأمير M فى سنة 1133 الهجرية.
وفى الفتح الربانى فى فتاوى الشوكانى بعد ذكر حديث أبى هريرة المتقدم والكلام عليه جرحا وتعديلا ما نصه فتقرر بهذا أن رجال حديث ابى هريرة رجال الصحيح فيكون أصل الحديث أعنى افتراق الأمة إلى تلك الفرق صحيحا ثابتا
وأما الزيادة التى فى الحديث الأول فضعيفه فلا تقوم بها حجة فى حكم شرعي ولو على بعض المكلفين فكيف فى مثل هذا الأمر العظيم الذى هو حكم بالهلاك على هذه الأمة المرحومة شرفها واختصها بخصائص لم يشاركها فيها أمة من الأمم السابقة وزادها شرفا وتعظيما وتجليلا بأن جعلها شهداء على الناس وأى خير فى أمة تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة وتهلك جميعا فلا ينجو منها إلا فرقة واحدة
ولقد أحسن بعض الحفاظ حين يقول واما زيادة كلها هالكة إلا واحدة فزيادة غير صحيحة القاعدة وأظنها من دسيس الملاحدة وكذلك أنكر ثبوتها الحافظ أبو حزم
ولقد جاد ظن من ظن أنها من دسيس الملاحدة والزنادقة فان فيها من التنفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه مالا يقادر قدره فتحصل لواضعها ما يطلبه من الطعن على هذه الأمة المرحومة والتنفير عنها كما هو شأن كثير من الواضعين للمطاعن المنافية للشريعة السمحة السهلة كما قال الصادق المصدوق بعثت بالحنفية السمحة السهلة وقال الله عز وجل وما جعل عليكم فى الدين من حرج وقال بشروا ولا تنفروا يسروا ولا تعسروا.
وها أنا أضرب لك مثلا وهو أنك لو رأيت جماعة من الناس قد اجتمعوا فى مكان من الأرض عددهم اثنان وسبعون رجلا وقال لك قائل ادخل مع هؤلاء فان واحدا منهم سيملك ما طلعت عليه الشمس وسيضرب أعناق الباقين أجمعين وربما تفوز أنت من بينهم بالسلامة فتعطى تلك المملكة فهل ترضى أن تكون واحدا منهم داخلا بينهم والحال هكذا ولا يدرى من هذا الواحد منهم يدعى لنفسه أنه الفائز بالسلامة الظافر بالغنيمة بمجرد الأمنية والدعوى العاطلة عن البرهان[7]
امثلة من التعصب الاعمى البغيض بين المذاهب قديما والتي وردت في الكتب قديما وقد سرت حتى بين العلماء وطلبة العلم واستساغها الحكام!!
يقول السبكي: حكي ان الظاهر بيبرس رأى الشافعي في النوم لما ضم الى مذهبه بقية المذاهب فقال له الشافعي: اتهين مذهبي؟ البلاد لي او لك؟ انا قد عزلتك وعزلت ذريتك ليوم الدين
قال: فلم يمكث الا يسيرا ومات ولم يمكث ولده السعيد الا يسيرا وزالت دولته، وذريته الى الان فقراء !
وهكذا تنطلي اضغاث احلام البسطاء على السبكي العلامة فيقول بعكس ما ترى عيناه فهو يعلم ان بيبرس بقي في السلطنة ثلاثة عشرة سنة بعد قراره بضم القضاة وانه من احسن السلاطين سيرة فعطل الخمرة والحشيشه في كل البلاد ولم يفعل ذلك احد غيره وهزم المغول والصليبيين وحقق ما عجز عنه صلاح الدين حتى توفي سنة 676 هـ. ولكن شيئا من ذلك لم يكن شافعا له فالسبكي يقول: حكي انه راى في النوم بعد موته فقيل له ما فعل الله بك؟ قال عذبني عذابا شديدا بجعل القضاة الاربعة [8]. ولم يكن ذلك شأن الشافعية وحدهم فمما تناقله الحنابل من اخبارهم نرتقي الى مثل ذلك حتى رواه الذهبي واثبته العماد الحنبلي في (شذرات الذهب) فقال في احداث سنة 725 هـ كان غرق بغداد المغول وساوى الماء الاسواق وغرق امم لا تحصى ودام خمس ليال. قال الذهبي ومن الايات ان مقبرة الامام احمد غرقت سوى البيت الذي ضريحه فيه فان الماء دخل في الدهليز علو ذراع ووقف باذن الله وبقيت البواري عليها غبار حول القبر[9]. ذكر ذلك عن قبر احمد ولم يخبر بمصير قبر ابي حنيفه او الشيخ عبد القادر الجيلاني وكلاهما في بغداد ولعله رأى ان ذلك من مسؤولية الاحناف والصوفية!
وثم احداث كبيرة كان سببها التعصب المذهبي فحج الملك الاشرف الايوبي على العز بن عبد السلام شيخ الشافعية كان جراء خلاف بينه وبين الحنابلة الذين استمالوا الملك الاشرف واقنعوه ان قولهم قول السلف وان العز بن عبد السلام زائغ عن الصراط[10].
وفي قضية احمد ابن اسماعيل التبريزي الشافعي الذي قضى عليه القاضي الحنفي بالجلد ثمانين ضربة ثم بنفيه واخراجه من التدريس بسبب شتمه احد ذرية الامام ابي حنيفه قال الشوكاني قد لطف الله به بمرافعته الى حاكم حنفي فلو روفع الى مالكي لحكموا بضرب عنقه !
وقبح الله هذه المجازفات والاستحلال للدماء والاعراض بمجرد اشياء لم يوجب فيها الله اراقة دم ولا هتك عرض. ومن هذه الخرافات عن هناد بن ابراهيم النسفي يقول: سمعت ابا القاسم عبد الواحد بن عبد السلام بن الواثق سمعت بعض الصالحين يقول:
رأى بعض الصالحين في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال غفر لي قيل له من وجدت اكثر اهل الجنة قال اصحاب الشافعي قال: فاين اصحاب احمد ابن حنبل قال سألتني عن اكثر اهل الجنة وما سألتني عن اعلى اهل الجنة فاصحاب احمد هم اعلى اهل الجنة واصحاب الشافعي هم اكثر اهل الجنة.
هذا كله لا يعني أن هناك تجافيا تاما بين أصحاب المذاهب,بل على العكس كانت هناك إفادة بعضهم من البعض مألوفة جدا في التأليف و التعليم و الحوار و ربما كان الحوار ينتهي بانتقال فقيه من مذهب لآخر، وقد حصل. ورغم التعصب و الخلاف بين أتباع المذاهب كان أئمة المذاهب لهم شأن آخر.
وهذا مما يروى في حق أئمة المذاهب أنفسهم وما بينهم من الصلة والمحبة ورغم الخلافات الكبيرة في الاجتهاد كانت قاعدتهم «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، وهذه بعض أمثلة:
الإمام أبو حنيفة تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق رضي الله عنهما وكان يردد «لولا السنتان لهلك النعمان» أي السنتان اللتان قضاهما تلميذاً عند الإمام جعفر بن محمد الصادقQ.
أما الشافعي فيقول عن أبي حنيفة:[11]
لقد زان البلاد ومن عليها امام المسلمين أبو حنيفة
بأحكام وآداب وفقهٍ كآيات الزبور على الصحيفة
فما بالمشرقين له نظير ولا بالمغربين ولا بكوفة
فرحمة ربنا أبداً عليه مدى الأيام ما قرأت صحيفة(1)
وأما الشافعي مع الإمام أحمد، وهو في السجن يُعذب، يطلب قميصه الذي عُذِبَ فيه ليتبرك به.
وأما الشافعي ومالك: يمرض ذات يوم الإمام مالك فيعوده الشافعي فمن شدة حزن الشافعي على مالك يمرض الشافعي.
ثم يزوره مالك بعدما تعافى، فيقول الشافعي:[12]
مرض الحبيب فعدته |
فمرضت من حزني عليه |
وأتى الحبيب يعودني |
فبرئت من نظري إليه (2) |
والكتب مليئة بهذه النماذج الرائعة للأئمة الصالحين نسأله تعالى أن يخلقنا بأخلاق سلفنا الصالح رحمهم الله.
وينبغي أن لا ننسى رابطة الأخوة بيننا حتى وإن كنّا من مذاهب مختلفة, والأخوة درجات, تبدأ بالأخوة البشرية، فأبونا آدم وأمنا حواء فإذا التقينا مع تابع لشريعة سماوية يؤمن بالله فقد زادت الأخوة رابطاً جديداً، فإذا زاد توحيد الله زاد رابطا جديدا فإذا وجدت من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وصلنا إلى الأخوة العظمى «إنما المؤمنون أخوة» «المسلم أخو المسلم». فإذا ازدادت الأخوة بالانتماء لنفس المذهب أو الفكر زادت الأخوة. هذه هي الأخوة الحقيقية بدرجاتها وليس كما يحصل في زماننا...!!
ماهي ضوابط التعامل بين المذاهب المختلفة؟
واترك الجواب على هذا السؤال للاتحاد العالمي لعلماء الاسلام كما جاء في ميثاقه
أنقل نص «الميثاق الإسلامي» حرفياً في هذا الموضوع والذي صدر عن مرجعية من أكبر الهيئات للأمة وهو «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» وهذا نص الميثاق:
لقد اقتضت المشيئة الإلهية اختلاف الأفهام البشرية للدين، هذا الاختلاف ينطلق من ضرورة لغوية، لأن اللغة التي تحدثت بها مصادر هذا الدين، فيها الحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والعام والخاص، والمطلق والمقيد...الخ، وفيها تتفاوت الأفهام.
وهو فطرة بشرية، لأن الله لم يخلق البشر نسخاً مكررة، بل لكل منهم تفكيره ونوازعه وإرادته، منهم البليد، ومنهم الذكي ومنهم العبقري، كما أن منهم السهل السمح الذي يميل إلى التيسير، ومنهم الصعب الشديد الذي يميل إلى التضييق والتشدد.
كما أن هذا الاختلاف رحمة بالناس، فلو كانت الشريعة رأياً واحداً، لضاق الأمر على الأمة، ولم يسع إلا فئة واحدة من الناس، وعسر الأمر على الآخرين.
وفي هذا الاختلاف ثراء للفقه، وخصوبة للشريعة، وتوسعة على الأمة، فقد يصلح رأي لزمن ولا يصلح لغيره، ويصلح آخر لبلد في حين لا يصلح لبلد آخر، ويصلح قول في حال، على حين لا يصلح في حال أخرى. وفي التعدد مجال للانتقاء والاختيار، لترجيح ما هو أقوى دليلاً، وأهدى سبيلا، وأوفق بتحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق.
ولهذا كانت محاولة رفع الخلاف، وإلغاء المذاهب، وجمع الجميع على رأي واحد محاولة غير ممكنة، وغير مجدية. وقد رأينا كيف اتسع صدر الأمة لتعدد المذاهب، وتنوع المدارس، واختلاف الفرق.
ومن هنا كان الواجب ألا نضيق بالخلاف، ولكن نجتهد أن نجعله خلاف ثراء وتنوع، لا خلاف صراع وتناقض، وأن نلتزم جميعاً بأدب الخلاف، ونعرف (فقه الاختلاف) أو ما سماه بعض إخواننا من علماء العصر (فقه الائتلاف)، بحيث تختلف آراؤنا ولا تختلف قلوبنا، وبحيث نقف جميعاً في قضايا الأمة الكبيرة، صفا واحداً كالبنيان المرصوص، يشد بعضنا بعضا، ولا ندع ثغرة لعدو متربص، يتسلل منها لتمزيق وحدتنا، وتفريق كلمتنا، ولاسيما في هذه المرحلة العصيبة من الزمن، التي يُكاد فيها للأمة أعظم كيد، ويتعرض دينها للخطر، حتى إنهم ليريدون تغييرها من جذورها، بتغيير ثقافتها، وتغيير عقليتها، وتغيير هويتها، حتى التعليم الديني، يريدون أن يتدخلوا فيه، ليصنعوا أمة لا رسالة لها، تستسلم لما يخططون، وتستجيب لما يطلبون.
إن الوحدة الإسلامية مطلوبة في كل وقت، ولكنها أشد ما تكون طلبا في هذا الوقت، الذي لا ينقذ فيه الأمّة من الخطر إلا تضامنها وتناصرها.
ويجب أن تبدأ الوحدة بين أهل العلم الذين يقودون جماهير الأمة بأحكام الشرع. على قاعدة: (نتعاون فيما نتفق عليه، ونتحاور فيما نختلف فيه).
وما نطمح إليه هو الحوار البناء الهادف الذي يظهر الحقّ، ويفتح باب التعاون على الخير، على أن يتم هذا الحوار – أول ما يتم – بين أهل العلم والفكر، في ظل الإخاء والود، وتحت راية العلمية والموضوعية، بعيداً عن الإثارة الغوغائية.
أما ما فيه محل للجدل والقيل والقال، فهو يفسر لصالح المسلم، فمن ثبت إسلامه بيقين، فإن اليقين لا يزال بالشك.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة المستفيضة تحذر من تكفير المسلمين بعضهم لبعض، فلا يجوز التهاون في ذلك بحال، حتى تستبيح كل طائفة تكفير مخالفيها. «ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا عاد عليه». «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما. فإن كان كما قال، وإلا رجعت إليه».
فالتكفير: خطيئة دينية، وخطيئة علمية، وخطيئة اجتماعية، لأنه يؤدي إلى تمزيق الأمة الواحدة، ويقع فيها ما حذر منه الرسول P بقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
وإن جاز التكفير بأدلته، فينبغي أن يكون للأنواع لا للأشخاص، فيقال: من قال كذا وكذا فهو كافر، ومن فعل كذا فهو كافر، ومن أنكر كذا فهو كافر... ولا يجوز أن يقال عن إنسان بعينه: فلان كافر، إلا بعد مواجهة وتحقيق وتمحيص، تنفي معه كل شبهة، وهذه لا يستطيعها إلا القضاء.
ومن هنا نقول: إن إعطاء عامة الأفراد حق الحكم على شخص بالردة، ثم الحكم عليه باستحقاق العقوبة، وتحديدها بأنها القتل لا غير، وتنفيذ ذلك بلا هوادة، يحمل خطورة شديدة على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، لأن مقتضى هذا أن يجمع الشخص العادي – الذي ليس له علم أهل الفتوى، ولا حكمة أهل القضاء، ولا مسؤولية أهل التنفيذ – سلطات ثلاثا في يده يفتي – وبعبارة أخرى يتهم – ويحكم وينفذ، فهو الإفتاء والإدعاء والقضاء والشرطة جميعاً!!!
وهم – بحكم وحدة العقيدة، ووحدة الشريعة، ووحدة الغاية – تجمعهم الأخوة الإيمانية، والإسلام يجعل لهذه الأخوة حقوقاً ثابتة في النصرة والتكافل والرعاية «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه» أي لا يتخلى عنه «المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم».
وإن من أفضل الأعمال عند الله السعي في التقريب بين المسلمين، وإصلاح ذات بينهم، وإزالة أسباب الشقاق بين طوائفهم وجماعاتهم: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{ (الحجرات: 10)
وفي الحديث: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة».
إنّ المسلمين إخوة، جمعتهم العقيدة الواحدة، والقبلة الواحدة، والإيمان بكتاب واحد، ورسول واحد، وشريعة واحدة، وإن عليهم أن يزيلوا كل العوامل المفرقة لجماعتهم، من الخضوع للعصبيات العنصرية والإقليمية، ومن التبعية للمناهج والأنظمة المستوردة: يمينية أو يسارية، ومن الارتماء في أحضان الولاءات المعادية لأمتنا غربية أو شرقية، ومن اتباع الأهواء والأنانيات الحاكمة، التي تدوس مصالح الأمة الكبيرة، في سبيل مطامعها الصغيرة، ومكاسبها القريبة.
كما إن عليهم أن ينتقلوا بالتضامن الإسلامي القائم، من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل، وأن يشدوا أزره، ويوسعوا نطاقه، حتى يصل إلى شكل سياسي من أشكال الاتحاد أو التكتل في عالمنا المعاصر، الذي لا يعيش فيه الصغير إلا في حماية الكبير، ولا تنجح فيه إلا الدول أو الكتل الكبرى، وأمتنا جديرة أن تكون كتلة كبرى، إذا استجابت لنداء ربها: }وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ{ (آل عمران: 103) }وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ..{ (آل عمران: 105)، }وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...{«(الأنفال: 46)
وعلى المسلمين متضامنين، أن يعملوا على تحرير «الأرض الإسلامية» من غاصبيها، وفق توجّه يأخذ في الحسابات المصالح الإسلامية العليا، والحاجات والمقتضيات العسكرية والاقتصادية والبشرية. وعملهم في هذا من أفضل الجهاد في سبيل الله. فمن عجز وحده عن مقاومة الغزاة، وعن تحرير أرضه، فعلى جميع المسلمين أن يعاونوه بما يستطيعون.
ولفلسطين – خاصة – مكان في جهاد المسلمين اليوم، فهي أرض النبوات، ومسرى النبيP وبلد المسجد الأقصى، وهي قضية كل مسلم، فعلى الأمة الإسلامية كلها أن تعاون أهلها بكل ما يحتاجون إليه، حتى تتحرر أرضها السليبة، ويستعيد شعبها حقه، ويقيم دولته المستقلة في أرضه[13].
هذا النص الحرفي من الميثاق الإسلامي الصادر عن أعلى مرجعية للمسلمين المؤلفة من أقطاب علماء المسلمين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم. وهو بمثابة الدستور الذي ينبغي لكل مسلم أن لا يحيد عنه ومن لم يعجبه كلام علماء الأمة المعتبرين والمستند إلى كتاب الله والسنة الصحيحة فهو كالخفاش الذي لا يعجبه نور الشمس.
ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعةً |
أن لا يرى نورها من ليس ذا بصر |
بعدما تبين كيف نشأت المذاهب وكيف تعامل معها الحكام والعوام وبعد تبيين اسباب الاختلاف بين المذاهب وانه خلاف للفهم والاستنباط للنص او اختلاف حول ثبوته وان مصادر ائمة المذاهب واحدة، ولكن قد يبلغ احدهم نص لم يثبت لدى الآخر او يفهم منه ما يخالف فهم الاخر، فالسؤال الآن:
هل ينبغي ان يدخل مذهب الشيعة الامامية ضمن المذاهب الاسلامية في الفقه المقارن؟ وهل يعتبر هذا ادراج لجسم غريب بين المذاهب السنية؟
وقبل ان نجيب لا بد من سؤال بديهي بسيط ومعقد
من هم الشيعة ومن هم السنة. من اسسهم ومتى ولماذا سموا بهذه الاسماء؟
باختصار وببساطة اهل السنة هم اتباع سنة رسول الله الصحيحة والذين يعتبرون السنة مصدرا اساسيا في التشريع.فهل الشيعة الامامية يأخذون بالسنة؟ ويعتبرونها من مصادر التشريع عندهم؟ من البديهي الجواب إيجابا و لكن قد يقول قائل أن السنة تختلف بين كتب الشيعة و السنة, وحقيقة هناك خلاف حول علم الدراية و الرواية بين الفريقين,رغم أن الكثير من الأحاديث نفسها ثابتة عند الطرفين مع اختلاف في سند الرواية و كثيرا مع الاتفاق. ونحن نعلم أنه حتى عند محدثي السنة اختلاف في قبول الرواية و نقلها و شروطها و لذلك اعتبر البخاري من أصح الكتب عند اهل السنة لأنه تشدد في شروطه.
بالإضافة إلى أنه كثيرا ما يمر في رجال السند رواة عند أهل السنة قد علقوا على جرحه أو تعديله بكلمة (شيعي صدوق - غالي بالتشيع ثقة)...إلخ من العبارات التي تثبت أن التتلمذ بين العلماء شيعة و سنة كان مشهورا, وحسبنا لو قرأنا سيرة العالمين العلمين الشهيدين اللذين عقد المؤتمر هنا باسمهما, فقد تتلمذا وأجيزا من علماء أحناف و شافعية في الشام و مصر و بيت المقدس من كبار علماء السنة في زمانه.
أما إذا سألنا من هم الشيعة، فباختصار و بساطة أيضا نقول: شيعة الرجل حزبه و أنصاره. قال تعالى (وإن من شيعته لإبراهيم). وعندما تطلق هذه الكلمة فالمقصود بها شيعة علي أي من شايع عليا و ناصره(...). وليس هذا اللقب خاصًا أيضًا بسلالة من البشر بل كل مسلم ينبغي أن يكون شيعيا. فإن شيعة علي هم شيعة محمد ومن يحب و يوالي محمدا فمن المؤكد أن يوالي عليا. و خلاصة القول فإن شيعة علي هم أهل السنة الحقيقيون و أهل السنة الحقيقيون هم شيعة علي و كلاهما هم المسلم الحقيقي.
وكثير من علماء السنة قد اتهموا بهذا اللقب، في زمن كانت كلمة شيعي تعتبر تهمة خطيرة و تودي بالمتهم إلى المهالك. ومن هؤلاء الامام الشا فعي حين قال:
يا آل بيت رسول الله حبكم |
فرض من الله في القرآن أنزله |
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم |
من لم يصل عليكم لا صلاة له |
ويظهر ان بعض الناس في زمانه لاموه على ذلك و طلبوا منه أن لا يذكر آل البيت فقال
إذا في مجلس نذكر عليا |
وسبطيه و فاطمة الزكية |
يقال تجاوزوا هذا فهذا |
من حديث الرافضية |
برئت إلى المهيمن من أناس |
يرون الرفض حب الفاطمية |
على آل الرسول صلاة ربي |
ولعنته لتلك الجاهلية |
عندها رموه بالرفض(التشيع)صراحة فقال:[14]
قالوا ترفضت قلت كلا |
ما الترفض ديني ولا اعتقادي |
لكن توليت غير شك |
خير إمام و خير هادي |
إذا كان حب الولي رفض |
فإن رفضي إلى العباد (1) |
أما الامام النسائي صاحب السنن (شهيد أمير المؤمنين علي)
فهذه قصته من كتاب أحمد بن شعيب بن على بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن النسائي القاضي الحافظ صاحب كتاب السنن وغيره من المصنفات المشهورة أحد الأئمة المبرزين والحفاظ المتقنين والأعلام المشهورين طاف البلاد وسمع بخراسان والعراق والحجاز ومصر والشام والجزيرة من جماعة يطول ذكرهم قد ذكرنا روايته عنهم في تراجمهم من كتابنا هذا..... وسمعت قوما ينكرون عليه كتاب الخصائص لعلي رضي الله عنه فحكيت له ما سمعت فقال دخلنا إلى دمشق والمنحرف عن علي بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجاء أن يهديهم الله ثم صنف بعد ذلك فضائل أصحاب رسول الله P وقرأها على الناس وقيل له وأنا حاضر ألا تخرج فضائل معاوية فقال أي شيء اخرج اللهم لا تشبع بطنه وسكت وسكت السائل.وقال الحاكم أبو عبد الله الحافظ سمعت علي بن عمر يقول كان أبو عبد الرحمن النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار وأعلمهم بالرجال فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه فضربوه في الجامع فقال أخرجوني إلى مكة فأخرجوه إلى مكة وهو عليل وتوفي بها مقتولا شهيدا. قال الحاكم أبو عبد الله ومع ما جمع أبو عبد الرحمن من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره فحدثني محمد بن إسحاق الأصبهاني قال سمعت مشايخنا بمصر يذكرون أن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره وخرج إلى دمشق فسئل بها عن معاوية بن أبي سفيان وما روي من فضائله فقال ألا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يفضل فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى اخرج من المسجد ثم حمل إلى مكة ومات بها سنة ثلاث وثلاث مائة وهو مدفون بمكةأ.هـ[15]
والعجب بعد ذلك أن أناسا يقتلون من أجل علي و يبخل عليهم بعض الناس بلقب شيعي فقد احتكروه ووضعوا الختم في جيوبهم كحق حصري ورثوه عن آبائهم, يختم به لمن يشاء و يحرم منه من يشاء،قرأت كلاما لعالم شيعي اسمه محمد هادي الأميني شرح كتاب (خصائص أمير المؤمنين ووضع فهارسه وحققه و صحح أسانيده)ثم تكلم بكلام طويل ليثبت أن النسائي ليس شيعيا و يرد على كتاب الذريعة(أعيان الشيعة حيث يذكر في ج118/ص 448)لأنهم اعتبروا أن النسائي شيعي, وهذا كله يبين أن العصبية التي نعيشها وندافع عنها, قد سيطرت على أرواحنا, و المهم ما هي منزلتنا عند الله,بغض النظر عن ما يقوله الناس عنا.
وفرق كبير بين من يموت من أجل كلمة حق في علي يدفع روحه ثمنها و بين من يظن أن موالاة علي كلاما أو سجلا يكتب في دائرة النفوس.
و كذا لفظة أهل السنة فقد احتكرها بعض الناس و كأنهم ورثوها عن أجدادهم وهي حق حصري لهم فلا بد أن تكون من سلالة معينة لتأخذ هذا اللقب.حتى ان فرقة الوهابية اعتبرت ان المذاهب الاربعة ليست من اهل السنة وان الاشاعرة و الماتردية الذين هم جمهور علماء اهل السنة ليسوا من اهل السنة.ورد ذلك في كتاب موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة (طباعة الندوة العلمية للشباب الاسلامي التابعة لرابطة العالم الاسلامي؟؟؟) فيذكر في صفحة 91 ان من الاشاعرة الرازي و القرطبي والجويني و الباقلاني و الغزالي... الخ ثم يقول:»و لا يخفى ما في هذا من البطلان والمخالفة لأهل السنة والجماعة». و في صفحة 92 يقول: «هكذا خالف الاشاعرة أهل السنة والجماعة في معنى التوحيد». هنيئا لنا جميعا فقد سيطرت السلفية(الوهابية) على ختم أهل السنة و طردت أهل السنة من أهل السنة، و صار أصحاب المذاهب الأربعة و الشيعة الإمامية مخالفين لمنهج أهل السنة ولا ينطبق أهل السنة عليك إلا أن تصير وهابيا!!!!!
وقال العلامة الزبيدي في شرحه على الإحياء(1/7): إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية.
قال الخيالي في شرحه على العقائد:
الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار. وفي ديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريدية أصحاب الإمام أبي منصور الماتريدي.
وقال الكستلي في حاشيته عليه:
المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري، أول من خالف أبا علي الجبائي وردع عن مذهبه إلى السنة أي طريق النبي P والجماعة، أي طريقة الصحابة رضي الله عنهم، وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي تلميذ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة. أهـ
و بعد هذه الجولة مع لفظتي شيعة و سنة نعود للسؤال,هل نستطيع أن ندرج الفقه الشيعي الامامي مع فقه المذاهب الأربعة؟؟؟
صدرت فتوى الشيخ محمود شلتوت بجواز التعبد بالمذهب الامامي وهذا نصها:
بالإضافة إلى فتوى شيخ الأزهر فقد حصلت خطوات عدة مشكورة لاعادة المذهب الامامي مع المذاهب الأربعة كمذاهب اسلامية بينها الكثير الكثير من نقاط الالتقاء,ولهذه الخطوات النتيجة الإيجابية الكبيرة، ومن ذلك أن المذهب الامامي و حتى يومنا هذا من المذاهب المعتمدة في مادة الفقه المقارن في كليات جامعة الأزهر و لا ننسى كتاب الفقه على المذاهب الخمسة للشيخ محمد جواد مغنية.
ولكن هذا الكلام لا يروق للبعض فقد يقول قائل أن المذاهب أربعة فقط فلماذا نجعلها خمسة؟؟
والجواب:انها ليست أربعة بل الذي قصرها على أربعة هو المستنصر العباسي، ولعل ذلك كان لمصلحة الدولة العباسية في زمانه أو للحد من تشرذم الأمة. هذا و قد علا مذهب في زمن و منع تقليده في زمن آخر.واحتكر المناصب الدينية و القضائية أتباع مذاهب في زمن حرموا منها في زمن آخر. والذي يقرأ التاريخ يرى كيف سجن أئمة ثم أصبحوا أصحاب مناصب رفيعة مقربين من السلطان ثم أقصوا مع تقلب الزمان بالحكام و العلماء. ولعل زماننا اليوم هو زمان إقصاء من يحرر فكره ويغلبه على عصبيته. ولعله زمن منع و نبذ المنطق السليم الذي يقرب بين مذاهب المسلمين، ومن يتكلم عن الوحدة أو الأخوة الاسلامية يمنع عليه أن يتجاوز سقف المجاملات و المظاهر الفارغة، ناسين المخاطر المحدقة بالامة.
الجواب ان بعض الفرق (السنية) بل من تضع ختم اهل السنة في جيبها, وتعطي نفسها الحق الحصري لأهل السنة، تختلف اختلافا جذريا في العقائد مع أهل السنة أيضا؛ ففي حين أن عقيدة أهل السنة المعتمدة هي العقيدة الأشعرية والماتريدية، لا يعدها هؤلاء (السنة) عقائد سنية كما مر، بل يجعلون من يزور قبر نبي أو ولي يستشفع و يتوسل به إلى الله مشركًا.
قال الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء و عضو اللجنة الدائمة للبحوث و الإفتاء:في كتابه التوحيد [16]يتحدث عن أنواع الشرك:
النوع الأول: شـرك أكبر يخرج من الملة و يخلد صاحبـه في النـار إذا مات و لم يتب منه. وهـو صـرف شيء من أنــواع العبــادة لغير الله, كدعــاء غير الله و التقــرب بالذبائح و النـذور لغير الله من القبــور والجـن و الشياطين. و الخـوف من الموتى أو الجن أو الشياطين أن يضروه أو يمرضوه. و رجاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات و تفريج الكربات مما يمارس الآن حول الأضرحة المبنية على قبور الأولياء و الصالحين. قال تعالى:}وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله..{ (18) يونس
و ليس هنا موضع نقاش هذه الافكار الخطيرة, و ان الشرك هو اعتقاد أن الضرر و النفع بيد غير الله، ولكن لو توسل انسان بنبي أو ولي فهو كمن يطرق باب الملك و حاجته عند الملك انما الباب وسيلة، كما أن من يعتقد ان الدواء أو الطبيب هما الشافيان و ينفي هذه الصفة عن الله فهو مشرك، من دون ان يزور الاضرحة و يتوسل بالصالحين.
و الأخطر من ذلك كله أنه أباح دمنا ومالنا و عرضنا لأننا مشركون. نحن السنة أتباع المذاهب و الشيعة ايضا كلنا دمنا ومالنا و عرضنا حلال.قال في نفس الكتاب عن حكم المشرك:(فلمـا كان الشــرك منافيـا بالذات لهذا المقصـود كان أكبـر الكبائر على الإطـلاق و حــرم الله الجنــة على كل مشرك و أبـاح دمـه وماله وأهله لأهل التوحيد، و أن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته). ووصلت الوقاحة الى ان يفضل أحدهم أبا جهل وأبا لهب على المسلمين، و هذا نص آخر لأحد شيوخهم الشيخ محمد أحمد باشميل (كتاب كيف نفهم التوحيد)ص 16. عنوان النص:
توحيد أبي جهل وأبي لهب:
أبو جهل وأبو لهب ومن على دينهم من المشركين كانوا يؤمنون بالله ويوحدونه في الربوبية خالقاً ورازقاً، محيياً ومميتاً، ضاراً ونافعاً، لا يشركون به في ذلك شيئاً. غريب وعجيب أن يكون أبو جهل وأبو لهب أكثر توحيداً لله وأخلص إيماناً به من المسلمين الذين يتوسطون بالأولياء والصالحين ويستشفعون بهم إلى الله!! أبو جهل وأبو لهب أكثر توحيدًا وأخلص إيماناً من هؤلاء المسلمين الذين يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله! وفي ص17 فقرة بعنوان «الدليل على توحيد المشركين وإيمانهم بالله!»[17].
لذلك لا تستغربوا حين تسمعو عن (الاستشهاديين) الذين فجروا مقامات اهل البيت و مساجد الصوفية «السنة» في باكستان. ولا تستغربوا حين لا يصدر موقف استنكار واحد,(فالاستشهاديون)ينفذون الفتاوى الصادرة عن (أعلى مراجع الأمة), والمقتولون في التفجيرات الاستشهادية أسوأ من أبي لهب و أبي جهل فهنيئا لمن يقتل أبا جهل وأبا لهب فكيف بمن هو أسوأ؟؟؟ونرى بالمقابل, تبذل جهود جبارة لاثبات تحريم «الانتحار» حين حصلت التفجيرات الاستشهادية الحقيقية في فلسطين، ولكن لعل ذلك مصداقا لقول النبي في وصف المارقة: «يقتلون أهل الاسلام ويدعون اهل الأوثان».
وهذه الكتب برعاية وزارة الاوقاف و الحج.
فإذا صح أن يكون هؤلاء من المذاهب الاسلامية وهم يكفرون السنة والشيعة و كل من لم يوافقهم ويدافعون عن مشركي العصر و يحرمون أذيتهم و يحلون سفك دماءنا و أعراضنا على يدهم، فهل من المنطق أن لا نعد الشيعة الامامية من المذاهب الاسلامية؟
مع العلم أن أهل السنة والامامية يتوافقون في أصول الدجين (العقيدة)، من حيث الاعتقاد بالله بأنه لا تحده الجهات ولا يحويه مكان و يأولون النصوص المتشابهة بصرفها عن ظاهرها.في حين أن معبود الوهابيين ينزل و يتحرك ويجلس و يتكلم بصوت وله وجه و عينان ويدان...إلخ، وهذا مخالف لاعتقاد أهل السنة والشيعة أيضا. ولذلك، وباختصار، فإن عدّنا الوهابيون مشركين لأننا نتوسل بالأنبياء و الأولياء، فنقول لهم: بل نحن نتشرف بأن نكفر بما تعبدون والذي هو يخالف ما نعبد فنحن نعبد الذي ليس كمثله شيء و الذي مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك وقد قال أئمة السلف الذين تدعون الانتساب إليهم لمن سأل عن الاستواء(الاستواء معلوم والكيف غير معقول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة):
وان قتلتمونا فقد بؤتم بدمائنا والله يحكم بيننا و بينكم يوم القيامة وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ماذا يفيدنا الفقه المقارن؟؟بعد ان اتفقنا على جمع الفقه الامامي مع الفقه السني؟
أولا: يوسع آفاق الانسان حيث لكل مذهب طرق اثبات واستنباط.
ثانيا: يعرف احدنا بمذاهب الآخرين و حقيقة ان الخلاف موجود ولا يستهان به، و لكن الجهل الموجود بين بين أصحاب المدارس الفقهية هو اكبر بكثير من الخلاف الحقيقي.
ثالثا: على صعيد الاخوة الاسلامية فان أي انسان يتعلم لغة قوم أو ينال جنسيتهم او يعيش في بلدهم تجده يميل اليهم بفطرته و النقاش العلمي الفقهي الجاد الذي لا يقصد منه الغلبة يزيد أواصر الاخوة بين المسلمين و من يتعلم طريقة فقيه يميل اليه.
حتى لو اردنا نقاشا بناء فاننا عندما نقرأ فقه الآخرين نكتشف السلبيات الواقعية ونرى الايجابيات و نضيق مساحة الخلاف و حتى لو أردنا اثبات خطأ ما عند الطرف الآخر فعلي ان اثبته من كتبه وفقهه لا من كتب خصومه خاصة في زمن ضياع الامانة وتوسيد الامر الى غير أهله
فوائد الفقه المقارن:
من اهم ما يضيق المسافة بين المختلفين هو الاحتكاك المباشر، فتجد اكثر الناس من اهل السنة قربا مع الشيعة و العكس من له رحم توصل بينهما. و كذلك فغن كثيرا من الاحاديث الواردة في كتب السنة تجد في أسانيدها شيعة وعبر التاريخ كان كثير من علماء الشيعة يتتلمذون على علماء السنة و من امثلة ذلك الشهيد الثاني اذ تتلمذ في دمشق على كبار علمائها من السنة ثم رحل الى مصر عام 942 هجرية و قرأ على علماء الأحناف كالشيخ شمس الدين بن طولون و كذا في بيت المقدس و أجيز منه بكتاب البخاري و مسلم وغيره من العلوم الاسلامية و العلوم المساعدة لها، و درس على لائحة طويلة وردت في سيرة حياته في كتاب الدر المنثور. وكما يقول الشهيد الثاني عندما ذهب الى اسلامبول و طلب لقاء السلطان سليمان الاول فيقول أنه أاُكرم افضل اكرام، و قد اوكل اليه السلطان التدريس في المدرسة النورية في بعلبك و جعل له وقفا، و كان يدرس المذاهب الخمسة في بعلبك منذ 953 هـ. يقول: و صاحبنا أهلها على اختلاف آرائهم احسن صحبة وعاشرناهم احسن عشرة و كانت اياما ميمونة واوقاتا بهجة ما راى اصحابنا في الأعصار مثلها أهـ.
و قد كان لي تجربة شخصية مع الفقه المقارن و عظيم فائدته عندما سافرت الى مصر عام 1991 بعدما تخرجت من ازهر بيروت و كنت لا اعرف شيئا عن فقه الامامية فلما درست في جامعة الازهر بدأت أستكشف الكثير فكلما مرت مسألة يتوافق فيها الامامية مع احد المذاهب السنية تقاصرت المسافة التي كنت وضعتها من بيئتي حول الامامية. ثم عندما خضنا بأدلة المذهب ووجدنا مسائله و استدلالاته معظمها له اساس في مصادر اهل السنة، سواء كان راجحا او مرجوحا، فكانت النتيجة ان ردمت هوة كبيرة كانت بين تفكيري كطالب علم سني و بين الفقه الامامي. ولو كان هذا مجال نقاش فقهي بحت لسردت الكثير من المسائل العلمية المشهورة عند الشيعة و التي لها أصول في كتبنا, كالمسح على الأرجل,وجمع الصلوات و السجود على جنس الارض...الخ. و سأكتفي بمسألة واحدة و هي مسح الأرجل و هي من تفسير الطبري الذي يقول عنه ابن تيمية حين سئل عن التفاسير, أيها اقرب الى الكتاب والسنة؟أجاب:أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فانه يذكر مقالات السلف بالاسانيد الثابتة وليس فيه بدعة و لا ينقل عن المتهمين[18].
وهذا نص تفسير الطبري:حدثنا أحمد بن حازم قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سلمة عن الضحاك: }وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ{ قال: اغسلوها غسلا.
وقرأ ذلك آخرون من قرأة الحجاز والعراق: }وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ{ بخفض الأرجل وتأول قارئو ذلك كذلك: أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها وجعلوا الأرجل عطفا على الرأس فخفضوها لذلك
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
حدثنا أبو كريب قال حدثنا محمد بن قيس الخراساني عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.
حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل عن حميد وحدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية قال: حدثنا حميد قال: قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم؟ وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج قال الله: }وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ{ قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما.
حدثنا علي بن سهل قال حدثنا مؤمل قال حدثنا حماد قال حدثنا عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح والسنة الغسل.
حدثنا ابن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن موسى بن أنس قال: خطب الحجاج فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم ظهورهما وبطونهما وعراقيبهما فإن ذلك أدنى إلى أخبثيكم. قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج قال الله: }وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ{.
حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية قال حدثنا عبيد الله العتكي عن عكرمة قال: ليس على الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح.
حدثنا ابن حميد قال حدثنا هرون عن عنبسة عن جابر عن أبي جعفر قال: امسح على رأسك وقدميك
حدثني أبو السائب قال حدثنا ابن إدريس عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح قال: ثم قال الشعبي: ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟
حدثنا ابن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: أمر بالتيمم فيما أمر به بالغسل.
حدثني يعقوب قال حدثني ابن علية عن داود عن الشعبي أنه قال: إنما هو المسح على الرجلين ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل جعل عليه المسح وما كان عليه المسح أهمل.
حدثنا ابن المثنى قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا داود عن عامر أنه قال: أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل في الوضوء وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء: الرأس والرجلان
حدثنا ابن المثنى قال حدثنا ابن أبي عدي عن داود عن الشعبي قال: أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم ما أمر أن يغسل بالماء وأهمل ما أمر أن يمسح بالماء
حدثنا ابن أبي زياد قال حدثنا يزيد قال حدثنا إسماعيل قال: قلت لعامرة إن ناسا يقولون إن جبريل Q نزل بغسل الرجلين ! فقال: نزل جبريل بالمسح
حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين قال حدثنا خالد بن عبد الله عن يونس قال حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنما يمسح عليهما حتى خرج منها.
حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ{ افترض الله غسلتين ومسحتين.
حدثنا ابن حميد و ابن وكيع قالا حدثنا جرير عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن علقمة: أنه قرأ: }وَأَرْجُلَكُمْ{ مخفوضة اللام.
حدثنا ابن حميد و ابن وكيع قالا حدثنا جرير عن الأعمش مثله.
حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبو الحسين العكلي عن عبد الوارث عن حميد عن مجاهد: أنه كان يقرأ: وأرجلكم.
حدثنا أبو كريب قال حدثنا جابر بن نوح قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال كان الشعبي يقرأ: وأرجلكم بالخفض.
حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي عن الحسن بن صالح عن غالب عن أبي جعفر: أنه قرأ: وأرجلكم بالخفض.
حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي عن سلمة عن الضحاك: أنه قرأ: وأرجلكم بالكسر.
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله عز ذكره أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم وإذا فعل ذلك بهما المتوضىء كان مستحقا اسم ماسح غاسل لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء و مسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهوغاسل ماسح.
ولذلك - من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض والآخر مسح بالجميع - اختلفت قراءة القرأة في قوله: }وَأَرْجُلَكُمْ{ فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارا منه المسح عليهما مع تظاهر الأخبار عن رسون الله P بعموم مسحهما بالماء.
وخفضها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح أ. هـ.[19]
وقد أعطيت هذا المثل لاثبات أن الفقه الامامي ليس جسما غريبا عن فقه المذاهب الأربعة و أمثلة ذلك أكثر من أن تحصى.
وأختم هذا البحث عن فائدة الفقه المقارن و التقارب بين العلماء ووجوب وصل أرحامهم العلمية بالحوار الذي جرى عام 943 هـ بين الشهيد الثاني و بين الشيخ أبي الحسن علي بن محمد البكري و قد كان من أعلى شيوخ مصر مكانة في زمانه و سمع عليه الشهيد جملة من الكتب.
اصطحبا في طريق الحج و قد سجل ابن العودي ان شيخه كان يطري علينا أحوال هذا الشيخ و يثني عليه[20](قال الشهيد الثاني: ما تقولون في امر هؤلاء العوام الذين لا يعرفون شيئا من الدلالات المنجية من الهلاكات.ما حكمهم عند الله؟و هل يرضى منه هذا التقصير؟بل ننقل الكلام الى العلماء الأعلام و الفضلاء الكرام الذين جمد كل فريق منهم على مذهب من المذاهب الاربعة ولم يدر ما قيل في ما عدا هذا المذهب الذي اختاره مع قدرته على الاطلاع و التفحص و ادراك المطالب و قنع بالتقليد للسلف و جزم بأنهم كفوه مؤنة ذلك و من المعلوم أن الحق في جهة واحدة فان قالت احدى الفرق الحق في جانبنا اعتمادا على فلان وفلان فكذلك الاخرى تقول اعتمادا على محققيهم و اعيان مشايخهم. لان ما من فرقة الا و لها فضلاء ترجع اليهم و تقول عليهم. فالشافعية مثلا يقولون نحن الامام الشافعي و فلان وفلان كفونا ذلك و كذلك الحنفية يستندون الى الامام أبي حنيفة و غيره من محققي المذهب و كذلك المالكية والحنابلة يستندون الى فضلائهم و محققيهم. وكذلك الشيعة يقولون نحن السيد المرتضى والشيخ الطوسي و الخواجة نصير الدين و الشيخ جمال الدين و غيرهم بذلوا الجهد وكفونا مؤونة التفحص ونحن على بصيرة و ثقة من امرنا. فكيف يكتفي مثل هؤلاء الفضلاء بالاقتصار على احد المذاهب ولم يطلع على حقيقة المذاهب الآخر، بل ولا وقف على مصنفات اهلها ولا عرف أسماءهم، فكون الحق مع الجميع لا يمكن ومع البعض ترجيح من غير مرجح. فاجاب الشيخ البكري: «أما ما كان من أمر العوام فنرجو من عفو الله ألا يؤاخذهم بتقصيرهم وأما العلماء فيكفيهم كون كل واحد منهم محقا في الظاهر» قال الشهيد: «كيف يكفيهم ما ذكرنا من تقصيرهم في النظر و تحقيق الحال» قال له الشيخ البكري: «يا شيخ جوابك سهل مثال على ذلك من ولد مختونا خلقة فانه يكفيه عن الختان الواجب شرعا» فاجابه الشهيد هذا المختون خلقة لا يسقط عنه الوجوب حتى يعلم أن هذا هو الختان الشرعي بأن يسأل و يتفحص من أهل الخبرة و الممارسين».
في الختام ونتيجة لهذا البحث فلا بد من التأكيد على النقاط التالية:
أولا: ان المذاهب ليست نصا محكما لا يمكن عليها زيادة أو نقصان وأن الخلاف لا يتجاوز مشكلة اثبات النص أو فهمه و أن الخلاف الحقيقي بين الشيعة الامامية تحديدا و بين المذاهب السنية المعتبرة لا يتجاوز حد الخلاف بين الآراء داخل المذهب نفسه.
ثانيا: عندما نذكر الشهيدين و غيرهم من العلماء الشهداء الذين قتلوا في ظل حاكم من الحكام لا يجوز أن نتهم المذهب الذي ينتمي اليه الحاكم بأن المذهب هو من قتله خاصة وقد مر معنا أن كثيرا من علماء المذاهب الأربعة لاقوا الكثير من القتل و التشريد من الحكام الذين هم على مذهبهم.
ثالثا: علينا التحذير و الاستعداد لمواجهة الخطر القادم المتمثل بخوارج العصر المكفرين المستحلين للدماء، الخدم للاعداء الذين لا يفرقون في جرائمهم بين سني و شيعي، و لو لم يكن الا هذه مشكلة الفرقة لوجب علينا بالأولى ان نتوحد لمواجهة هذا الخطر.
رابعا: على علماء الشيعة بالذات افهام عوامهم أن الوهابية شيء مختلف عن اهل السنة في الفروع والاصول وأنهم حين يستحلون تفجير حسينيات العراق هم انفسهم يفجرون مساجد السنة في باكستان ولا أرى هذا الوباء الا قد صار على ابوابنا فعلينا ان نسرع للتصدي له قبل فوات الأوان، وكذلك يجب على علماء السنة ان يبينوا فضائح الوهابية اوعلى الأقل التحذير منها حتى يعزلوا عن المجتمع السني.
خامسا: كما تبين لنا أن الفقه المقارن له ايجابيات كثيرة، لذلك نتمنى على القيمين على المعاهد الشرعية السنية و الحوزات الشيعية ان يجعلوا في مقرراتهم الفقه المقارن، والأفضل تبادل المدرسين وأفضل منه مع انه بعيد المنال دمج المعاهد والحوزات.
ختاما فان الخلاف بين المذاهب أمر واقع ولن ينتهي حاليا حتى ظهور الامام المهدي الذي هو من العقائد المسلم بها عند أهل السنة ايضا,وفي كثرة الظلم و الجورحولنا دليل واضح على قرب ظهوره، فلنتعايش مع هذا الواقع بنوع من الاحترام المتبادل والاستعداد لتحدي الظلم و الظالمين.
وصلى الله و سلم وبارك على سيدنا و مولانا
محمد رسول الله وآله و صحبه الطيبين الطاهرين.
مصادر للتوسع في موضوع
أحكام الاختلاف والفرق وضوابطها:
[1](*) من علماء الأزهر الشريف
[2] راجع البداية و النهاية ج14ص30)(لفقيه المعذب عبد الرحمن الشرقاوي ص142)
[3] الفقيه المعذب عبد الزحمن الشرقاوي ص86
[4] الجامع الصغير المجلد الخامس رقم 7532.
[5] كتاب الفتن والملاحم باب النهي عن السعي في الفتنة رقم 4253
[6] سنن أبي داود رقم 4253
[7] يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار,صديق بن حسن بن علي القنوجي,طباعة: مكتبة عاطف - دار الأنصار – القاهرةالطبعة الأولى، 1398 - 1987 تحقيق: د. أحمد حجازي السقا(ص206)
[8] (طبقــــات الشافعية الكبرى ج 8 ص 320 – 321 )
[9] (شذرات الذهب) ج 6 ص 66
[10] (طبقات الشافعية) ج 8 ص 218
[11] ديوان الشافعي
[12] المصدر نفسه
[13]الميثاق الإسلامي الصادر عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ضرورة لكل إنسان إن كان مسلماً ليعرف الخطوط العريضة لدينه وإن كان غير مسلم ليعرف حقيقة الإسلام من وجهة نظر علماء الأمة لا من تطبيقات الجهلة الخاطئة.
[14] (ديوان الشافعي)
[15] (تهذيب الكمال ج1ص328)
[16] هذه الكتب يطبع منها آلاف النسخ و توزع مجانا وباشراف وزارة الحج والأوقاف,وهي منتشرة في مكتبات بيوتنا و مساجدنا من دون أن ندري ولقد شعرت المملكة السعودية اخيرا بخطورة هذا الفكرالتكفيري وهم الآن يحثون المشايخ على الكتابة ضد الفكر المتطرف وفعلا بدؤوا مشكورين بنشر كتب مناهضة للتكفير وتوزيعها ولكن هيهات هيهات فقد فات الأوان
[17]كيف نفهم التوحيد / محمد أحمد باشميل ص16، المملكة العربية السعودية – جدة ص.ب. 1535.
[18] التفسير الكبير ج2 ص255 – مقدمة في أصول التفسير
[19] جامع البيان في تأويل القرآن ج10ص61- بن جرير، أبو جعفر الطبري، 224 - 310 هـ تحقيق: أحمد محمد شاكر طبعة: مؤسسة الرسالة
[20] الدر المنثور ج 2ص163
بحث في رسالة الإيمان عند الشهيدين
الشيخ شفيق جرادي (*)
تمهيد
تعتمد هذه الدِّراسة على نصّين كان قد عُني بطبعهما (مركز الأبحاث والدِّراسات الإسلاميّة ـ قسم إحياء التراث الإسلاميّ)؛ أوّلهما رسالة (الباقيات الصالحات) للشهيد الأوّل محمد بن مكّي العاملي الجزّيني، وهي لا تتجاوز الصفحة والنصف، وثانيهما رسالة عنوانها المركز باسم (حقيقة الإيمان للشهيد الثاني) الشيخ زين الدين بن علي الجباعي العاملي؛ وهي رسالة وإن كانت قد وردت في طبعتها الحجريّة الصادرة عن (منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم ـ إيران 1404هـ.ق). باسم (حقائق الإيمان)، فإنِّي أميل للتسمية الأولى التي اختارها المركز، وهو ما سأسعى لأبيّن أسبابه أثناء قراءة مضامين واستهدافات هذا النص، الذي استهلّه الشهيد الثاني بتعريف الإيمان لغوياً.
معنى الإيمان في اللغة
«فاعلم أنَّ الإيمان لغةً التصديق كما نصّ عليه أهلها، وهو إفعال من الأمن، بمعنى سكون النفس واطمئنانها؛..
وأمَّا التصديق فقد قيل: إنَّه القبول والإذعان بالقلب، كما ذكره أهل الميزان.
ويمكن أن يُقال: معناه قبول الخبر أعمّ من أن يكون بالجنان أو باللسان»[1].
وأمَّا ما تبنّاه من بين المذاهب فهو: «واعلم أنَّ مفهوم الإيمان على المذهب الأوّل يكون تخصيصاً للمعنى اللغوي، وأمّا على المذاهب الباقية فهو منقول، والتخصيص خيرٌ من النقل»[2].
وينطلق البحث في مجمل معالجته على مناقشةٍ للآراء والاتِّجاهات الكلاميَّة لإثبات صدق تبنّيه لمعنى الإيمان. وتمييزه عن الفسق والكفر ومستلزمات كلّ ذلك.
وليُفرد في آخر الرسالة مقاطع من شرح حقائق الإيمان العقائديّة. بحيث يكون من الأنسب تسمية الرسالة بالمقصد البحثيّ الذي تعالجه الرسالة والتي يريد من خلالها المصنّف التمييز بين الإيمان كحقيقةٍ قائمةٍ في النفس، وبين حقائق الإيمان الاعتقاديّة التي نصّ عليها وفسّرها الإسلام بنصوصه المقدّسة. وهي محاولة مبتكرةٌ من الشهيد الثاني تفرّد فيها عن كثيرٍ من الكتب الكلاميّة التي دمجت الإيمان في المقرّرات الاعتقاديّة.
ولعلّنا لا نجازف في القول إن ذهبنا لإقرار كون هذا العمل حقّق قفزة نوعيّةً، إذ بيّن ماهية الإيمان. ممّا يؤهّله ليكون في مصاف الأبحاث والمعالجات التي فتحت نافذةً اجتهاديّةً في القراءة الكلاميّة سبقت أهداف نشوء علم الكلام الجديد.
وبمعرض الحديث عن الهدف من قيام علم كلامٍ جديد نُشير إلى أنّ الكلاميين الجُدد كانوا قد أخذوا على علم الكلام التقليدي عدم تحديده لحقيقة الإيمان، وأنَّهم تحدّثوا به من خلال تناولهم المعتقدات الكلاميّة. وعندما أرادوا إبراز أهميّة التجديد الكلامي الذي استحدثوه اعتبروا أنَّ قيام فلسفات جديدة، وقيام تطوّرات منهجيّة وعلميّة معاصرة سمح لهم باكتشاف التفريق المنهجيّ بين الإيمان بما هو هو، والإيمان بما هو مقرّرات عقائديّة. وتأتي أبحاث هذه الرسالة ومعالجاتها لتدحض ادِّعاءاتهم التي ذهبوا فيها مذهبهم الخاص، ولتعلن أنَّ علم الكلام التقليديّ قد شهد تطوّرات ذاتيّة منشؤها الاجتهاد الكلاميّ وإن بتوسّع. الأمر الذي يضع على عاتقنا ضرورة العودة النقديّة البانية لأصولٍ من البحث الكلاميّ على قواعد من الاجتهاد الفكريّ العام في عالم الإسلام.
السِمَات العامّة لمبحث الإيمان عند الشهيدين
خرجت طريقة المعالجة عند الشهيدين الأوّل والثاني لمبحث الإيمان عن وضعه كجزئيّة في إطار العرض المنظوميّ للمسائل الكلاميَّة، ليجعلا منه المحور الرئيس للبحث. وعلى خلاف المعتاد تقليدياً من بحث ما نؤمن به من مواضيع عقائديّة فإنّ الشهيد الثاني ركّز على معرفة الإيمان بما هو حقيقة قائمة بذاتها، لا بما هو أمرٌ لا يبحث إلا في إطار المقولات والمقرّرات الكلامية. وهذان الجانبان من المعالجة يمثلان تطوّرين حقيقيين في حياة المبحث الكلاميّ.
أمَّا المنظور الذي قدّمه الشهيد الأوّل فهو إبراز الإيمان كحقيقةٍ معنويّةٍ موصولة مع فكر إسلامي شهير هو (الباقيات الصالحات). الأمر الذي أعطى الجانب الكلاميّ بُعداً عقائدياً يُعايش الروح ويتمازج مع أبعاد هي أكثر اتِّساعاً من الكلام التقليديّ بما هو علم أو فنٌ مستقل يعبّر عند القدماء عن المقررات والأصول العقائديّة.
إن تفصيل الكلام في هذا البحث وإن كان يقضي في المتابعة الزمانيّة له أن نقدّم الشهيد الأوّل على الثاني. إلا أنَّ المقتضى الموضوعيّ لطريقة المعالجة تفرض علينا الانطلاق من عند الشهيد الثاني بسبب وفرة ما في رسالة (حقيقة الإيمان) من بحث ومعطيات، وبسبب كونها الخطوة الاجتهاديّة الواقعة داخل علم الكلام نفسه، الأمر الذي يسمح لنا أن نرى كيفيّة تحضير الأرضية المناسبة للتجدّد الاجتهاديّ في الأطروحة.
لقد عالج الشهيد الثاني في رسالته (حقيقة الإيمان) الموضوع اعتماداً على الأبعاد اللغويّة، وتقصّياً في الروايات من حيث السند والدلالة؛ وهو الأمر الذي خلت منه كثيرٌ من المباحث الكلاميّة، بحيث إنّه كان يصوّب الاعتماد على رواية أو يُخطئها بحرصٍ علميٍّ شديد وكأنَّما يُعالج مسألة فقهيّة. ثمّ يعود ليناقش المسألة من حيث المسلّمات والقواعد والأسس العقليّة، إضافةً إلى تعاطيه مع القواعد والمباحث الأصوليّة (أصول الفقه) حين دراسته لدلالة أو لحجّية معيّنة، دون أن ينسى رعاية المستلزمات المتوجّبة على أيِّ قولٍ من الأقوال، في حال وقوعه، بما يخالف آراء الطرف الذي يطرحه، أو مخالفته لما هو متفقٌ عليه ومسلَّمٌ به. ولطالما راعى الفهم العرفي لزمن النصّ، أو الفهم السائد في زمانه في تحديد موقف من هذا الفهم أو ذاك.. لكن تبقى الإشارة أنَّ هناك مفصلان حسّاسان في عموم أطروحته:
المفصل الأوَّل: مناقشته التصويبيّة لأيِّ طرحٍ بناءً على العدل، ومستلزمات ما يرجوه المرء من رحمة الله. من هنا، فإنّ الملاحظ في طروحات الشهيد الثاني نظرته للعدل الإلهيّ لا بما هو أمرٌ مفتوح على العقاب، بمقدار ما هو مفتوح على الجود والرحمة الإلهيّة. بحيث إنه كلّما استشفّ من قولٍ ما، أمراً يصل إلى حكم الكفر وضع له جملةً من التحديدات التخفيفيّة التي تحفظ الإيمان عند المرء، وأنّ الشائبة هي في هذا العمل أو ذاك. إلى الدرجة التي تجعل مبحث العدل وبرغم كونه أصلاً ناتجاً عن التوحيد إنَّما يُعالج مشكلة المؤمن في كيفيّة اقترابه من رحمة ربه التي وسعت كلَّ شيءٍ، حتَّى تخال العدل وكأنَّه أصل إنسانيّ يمثِّل في حياة الإنسان طريق الصعود التكاملي لنيل الارتقاء والخلاص بنعمة الرحمة الإلهيّة وعدلها السابق. وهذه خطوة حساسة على طريق أنسنة طروحات القيم الإلهيّة.
المفصل الثاني: هو الفصل الذي أحدثه طرح الشهيد الثاني بين معالجة الإيمان في قلب المقرّرات العقائديّة، والإيمان بما هو حقيقة قائمة بذاتها، وهو ما يعبِّر عنه: «الكلام فيما يتحقّق به الإيمان عند الله تعالى، بحيث يصير المتَّصف به مؤمناً في نفس الأمر، لا فيما يتحقَّق به الإسلام في ظاهر الشرع، حيث لا يُمكن الإطلاع على الباطن»[3].
الإشارة إلى (نفس الأمر) تمييز بين الإيمان بما هو هو ومظاهر الإيمان المنعكسة في الإقرار العقائديّ أو المظهر السلوكي. وهذا ما يفتح المعالجة على تحديد المعنى المقصود بالإيمان. وهو ما سيسمح بإدخال مباحث من مثل القرآنيّات والروايات والعرفانيّات والفلسفة والكلاميّات وغير ذلك, وهنا، تجدر الإشارة إلى أنَّ الغرب ومن تأثَّر به من بعض المهتمّين في مجتمعاتنا كانوا يعتبرون أنّ هذا النوع من المعالجة هي حديثة لم يَعِها العقل المسلم قبلاً.
لكن، من المفيد الإشارة إلى أنَّ الشهيد الثاني تعامل مع موضوع الإيمان كحقيقةٍ جوهريّةٍ تقع عند النفس حتّى ولو اعتبرها أحياناً من الكيفيّات النفسانيّة. وهو لهذا ذهب للقول: إنَّ الزيادة والنقصان لا يحصلان في أصل ماهيّة الإيمان، بل في كمالاته. من هنا، ذهب للقول: «إنَّ التصديق القلبي الذي بلغ الجزم والثبات (وهو الإيمان) فلا تتصوَّر فيه الزيادة عن ذلك،.. وكذا لا تَعرض له النقيصة وإلا لما كان ثابتاً وقد فرضناه كذلك وهذا خلف. وأيضاً حقيقة الشيء لو قبلت الزيادة والنقصان لكانت حقائق متعدّدة، وقد فرضناها واحدة هذا خلف»[4]. ثمَّ يعقِّب على هذا الطرح بالقول: «إنّ النزاع إنّما هو في أصل حقيقته (الإيمان) لا في كمالها»[5].
فالموقف عند الشهيد الثاني أنّ الإيمان حقيقة محدّدة تقع عند النفس وهي ثابتة كحقيقة لا تتغير وأنَّ تكاملها أو نقصانها هو في نفس الحقيقة لا شيئاً غيرها.
ولاستكمال بيان ما هي هذه الحقيقة فإنّه يعود فيقول: «إنَّ حقيقة الإيمان لمّا كانت من الأمور الاعتباريّة للشارع، كان تحديدها إنَّما هو بجعل الشارع وتقريره لها، فلا يُعلم حينئذٍ مقداره وحقيقته إلا منه... يُعلم كذلك من تتبّع آيات الكتاب العزيز والسنّة المطّهرة... ورأينا الأكثر وروداً في كتابه بذلك الأمر بالاعتقاد القلبيّ من غير تعيين مقدار مخصوص منه بقاطع يوقفنا على اعتباره.
أمكن حينئذٍ أن يكون مراده منه مطلق الاعتقاد العلميّ... والتفاوت بالزيادة والنقصان إنّما هو في أفراد تلك الحقيقة ومن مشخّصاتها فلا يكون داخلاً في الحقيقة المذكورة... وبذلك يسهل الخطب في الحكم بإيمان أكثر العوّام الذين لا يتيسّر لأنفسهم الاتِّصاف بالعلم الذي لا يقبل تشكيك المُشكّك، فإنّ علم الطمأنينة متيسّر لكلِّ أحد[6].
وهكذا يتمّ توظيف البحث لما فيه مراعاة لضعفاء الناس من حيث العلم والمعرفة. وهو ما يجعل من مقولاته الكلاميّة شعبيّة وإن لم تنف الخصوصيات العالية في الإيمان وأهله.
أمَّا حول علاقة الإيمان بما هو تصديق وإذعان نفسي بالإقرار فهو من باب الشرط للهويّة الإيمانيّة التي لا تُستكمل ويتمّ ظهورها إلا بالانعكاس في الالتزامات العملية والذِكريّة والعباديّة.
الإيمان في قراءة الشهيد الأوّل
ربط الشهيد الأوّل الإيمان بالأصول الخمسة: (التوحيد، العدل، النبوّة، الإمامة، المعاد)، واعتبر أنَّ الكلمات الخاصة والمسمّاة بالباقيات الصالحات (سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر) تشتمل على أصول الإيمان الخمسة، فمن حصّلها حصّل الإيمان وهنّ الباقيات الصالحات[7].
وهو بهذا قدَّم الإيمان من حيث تعلّقه بموضوعاته المصوغة في البيان الإلهيّ. وفي هذا استكمال لما كان عليه من سبقه من علماء الكلام. إلا أنّ الجديد في طرحه هو ربط الموضوع العقائديّ بالذكر. فالباقيات الصالحات هي ذكر يربّي عالم المعنويّة على أُسسٍ تتجاوز الحدود المفاهيميّة إلى البناء الروحي عند الإنسان. وهذا ما شرع الشهيد الأوّل ببيانه من خلال رسالته التي أسماها (الباقيات الصالحات) وهي رسالة على رغم صغر حجمها فإنه كثّف فيها مضامين عالية من الروح المعنويّ والعقائديّ. إذ اعتبر أنَّ اجتماع تنزيه الله عن كلِّ سوء وبراءته عن كلِّ فحشاء تعبِّر عن جميع الصفات السلبية التي تنفي الحدود والفقر الملازم لكلِّ موجود حادث، بل هي عين كلِّ موجود حادث. وهنا، ينكشف التنزيه المائز بين ذات الغنيّ وحاجة الفقير الممكن في أصل وجوده إليه سبحانه. لينتقل الذاكر في إيمانه إلى مرحلة الحمد بما هو «الثناء على الله بذكر آلائه ونعمه التي لا تحدّ ولا تعدّ»[8]. التي منها أصل الوجود المتعيّن في العالم، والعقل الفاصل بين الحقّ والباطل، وإرسال الرحمات الصادعة بكلام الله من الرسل. وعند هذه النقطة يُقيم المصنّف دمجاً بين الرحمة الرسوليّة وأصل وصاية الأوصياء الذين اختتم بهم المولى سبحانه الزمان، إذ أرسل للأمَّة من نور رسول الله الخاتم محمدP أوصياءه بدءًا من سيدهم أمير المؤمنين عليQ والمختتمين بسيد الأمناء أبي القاسم المهدي ـ حسب تعبير الشهيد الأوّل ـ.
ولم يكتف المصنّف بإيراد النعم الوجوديّة والعقائديّة، بل ذهب بعيداً ليرسم وجوه النِّعم التي تستحقُّ الحمد لما تُمثّل من أصل الذات والوجود الإنسانيّ العاقل وهي (الحياة والقدرة والشهوة والنفرة والعقل والإدراك والإيجاد)[9].
وهذه هي أصول السنَن الإلهيّة التي تمثّل الذّات في الإنسان، ومزاج الطبع فيه، ومائز العقل والإدراك الذي يفصله عن كلِّ موجود، كما أنَّها تمثّل أصل وجود كلِّ موجود (الإيجاد). وتتجاوز السنن الإلهيّة الأصول الرئيسة لتستوعب حتّى المتفرّعات عنها، بحيث إنَّ النَفَس وإرادة الشكر هي في حقيقة الأمر تستوجب شكراً، لأنّها من آلاء الله، وهذا هو وجه الحمد الذي لا يحدّ ولا يعدّ.
ومع هذا القسم من الآلاء نكون مع النعمة العامّة التي استنّها الله لكلّ موجود، لذا لا يفوِّت الشهيد الأوّل ذكر النعمة الخاصة المقرونة في ذاتها بذات الحمد وهي نعمة (تصديق النبي P في جميع ما جاء به)[10].
وبعد التنزيه والحمد يدخل في شرحه لكلمة (لا إله إلا الله) ليعتبر أنَّ في ذلك دخولاً إلى معنى التوحيد الذي حفظ فيه الإسلام رسالة الله إلى الخلق عبر كلِّ نبيٍّ ورسول، والتي حرّفتها التأويلات والتفسيرات الدينيّة هنا وهناك. ورأى في مثل هذا الحفظ للتوحيد حصناً مانعاً، إذ «هي الشهادة التي من قالها مخلصاً دخل الجنة». واشتراط الإخلاص يُشير إلى أنَّ مجرّد الإقرار لا يُفيد في تحصيل بُعدِ وعمقِ الإيمان الشرعيّ في النفوس التوّاقة للرجاء.
إلى أن ينتهي إلى التوحيد الأحديّ (الله أكبر) الذي اختصّ الله سبحانه به الإسلام، والذي يُثبت كلَّ صفةٍ كماليّة لله وحده سبحانه. حتَّى إذا ما جاء ليقدّم الأمثلة على هذا التوحيد الأحديّ ذكر الأمور التالية:
وبعد أن يورد ـ الشهيد المقدّس ـ أنّ هذه هي أصول الاعتقاد التي من حصّلها حصّل الإيمان، فما ذلك إلا لأنّه حصَّل الباقيات الصالحات.
وبقليل من الربط بين المبحث الأكاديميّ الموسوم في أدبيَّات المسلمين بالاجتهاد الفكريّ، وبين هذه الوحدة الموثوقة العُرى بين الذكر وأصول المعتقد وأصول السنن، نجد خطاً مبتكراً في مبحث الإيمان عند الشهيدين، نستنسب تسميته بـ (إلهيّات المعرفة). وهي خطوة يمكن البناء عليها، بحيث لا نقتصر على فنٍ دون آخر في دراسة المسألة العقائديّة، ولا على اقتصار مرجعيّة نصٍّ قرآنيّ لا يراعي نصّاً روائياً أو نصّاً دعائياً، أو ذكراً ثابتاً في تكوين البنى الرئيسة لعقلنا الإسلاميّ التوّاق نحو إيمان يُعايش النص والعقل الفطري المودع في الذوات، ليستجلي الفهم الباعث على إيمان تصديقي ثابت في عين قلقه الدائم نحو كمال استجلاء كلِّ سؤال ودلالة وعبرة وآية.
[1](*) مدير معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية - لبنان.
الشهيد الثاني، حقيقة الإيمان عند المتكلمين، المصنفات الأربعة، ص 12، 13.
[2] م. ن. ص 18.
[3] م. ن. ص 18.
[4] م. ن. ص 358.
[5] م.ن. ص 361.
[6] م. ن. ص 364- 365.
[7] أربع رسائل كلامية، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، ص 236.
[8] م. ن. م.س. ص 235.
[9] م. ن. ص 235.
[10] م. ن. ص 235.
[11] م. ن. ص 236.
الشهيد الثاني{ وكتابه منية المريد
في آداب المفيد والمستفيد
د. محمد حسن تبرائيان (*)
ان رجلاً يحيا حياة حافلة بالعطاء ويبقى عطاؤه مثمراً بعد رحيله هو بلا شك رجل مبارك، والشهيد الثاني الشيخ الجليل زين الدين بن علي العاملي الجبعي (911 – 965هـ) { مصداق شاخص لذلك، وهو الذي تعددت جوانب شخصيته الفذة وأبعادها المعطاءة.
ولعل نظرة متأنية في حياته الحافلة بألوان التنوير وإحياء الفكر الإسلامي تقدم لنا الكثير من سمات منهجه العلمي وفكره الإسلامي الخلاق، وأنا هنا لا أريد أن استعرض مراحل حياة رجل عرفته الأجيال في الحوزات والأوساط الدينية بصفته أحد رواد الانتاج الواعي على عصره من علماء الشيعة، ومجدّد الفقه الإمامي في القرن العاشر الهجري، وقد تميز بدوره الريادي في نضوج لغة الفقه ونتاجاته المعرفية وتصانيفه الرائدة في التشريع الإسلامي، لا سيما وقد سمعنا وقرأنا الكثير عن ترجمة هذا العالم المجدد والمجاهد الكبير وعن آثاره ودراساته الفقهية والحديثية المقارنة التي أصبحت مقصداً للباحثين وملاذاً للعاملين وموئلاً للطلاب والدارسين. وما نقدمه الآن ماهي إلاّ نفحة وفاء متواضعة لهذا العالم الجليل الذي طرق أبواب العلوم المختلفة وكان موضوعيًا متجرداً من الهوى، فقد أصّل للفقه فأبدع، ونظر للأخلاق فأجاد؛ استند الى العقل والنقل وألف بين المختلف والمؤتلف، حقّق وعلّق ورتّب وبوّب، صاغ اللفظ فأصاب المعنى وتحرّى الدليل وبحث في المبنى.
ومن إبداعاته في حياته العلمية انه درس لغة الاختلاف وأسبابه، وشخّص داء التفرقه ووصف دواء التقارب، لذلك تتلمذ على الموافقين والمخالفين واستجازهم، ودّرس الأفكار والرؤى والتشريعات على مختلف المذاهب وأجازهم.
وفي مجال التقريب فقد كسر حواجز المذهبية الضيقة والطائفية المنبوذة منطلقاً في آفاق التحري والتنقيب لبحث سبل الالتقاء وتقريب هوة الافتراق. كما درس M، الفقه المقارن ووازن بين النتيجة والدليل حتى أجازه المخالفون لمذهبه برواية مصادرهم فكان شافعياً بين الشافعية ومالكياً مع المالكية وغيره مع غيرهم ليثبت سمو الهدف وسلامة النوايا والاخلاص في العلم والعمل. كما أثبت أن تباين النتائج هو خير دليل على تنوع الفكر لدى البشر تبعاً لانتماءاتهم، وبهذا صدق ما عاهد الله عليه وانتظر حتى قضى نحبه شهيداً في 965 هجرية.
تأملات في مؤلفات الشهيد الثاني وأفكاره التقريبية:
أورد العلامة المرحوم السيد محسن الأمين في الجزء 33، ص 278 من أعيانه نحو ثمانين كتاباً من نتاجات الشهيد الثاني في مختلف العلوم الإسلامية أكثرها رسائل في الفقه ومسائله وقواعده. وقد تناول في عدد من مصنفاته القيمة: أصول التشريع عند الشيعة والسنة للوصول الى نقاط الخلاف بينهما ليتداول معهم في أمهات المسائل الفقهية، وقد استطاع بفضل إلمامه الواسع بمبادئ المذاهب الإسلامية بناء صرح التواصل وشل عملية الانغلاق والانفصال.
ومن هذا المنطلق عقد الشهيد الثاني صلات متينة مع المراكز والمؤسسات السنية الكبرى في مصر وتركيا وبعض مدن بلاد الشام وغيرها، كما نقل عنه تدريسه الفقه على المذاهب الخمسة، حيث كان يطرح الآراء الفقهية لأئمة المذاهب ثم يعقد مقارنة بينها قبل عرض رأيه النهائي، وهذا المنهج العقلاني القويم والتعامل الايجابي البناء يدعونا الى تجاوز الخلافات الفرعية ووحدة المواقف وحرية الاجتهاد وقبول التعددية الفكرية واحترام الآخر والانفتاح على المذاهب الأخرى ونبذ التطرف والتعصب ووأد الفتنة للحفاظ على مشروع الوحدة والتقريب الذي خطط له وطالب به قادة المسلمين أمثال الإمام السيد عبدالحسين شرف الدين والإمام الشيخ محمود شلتوت والإمام البروجردي والشيخ حسن البنا والإمام الشيخ كاشف الغطاء والإمام الخميني رحمهم الله، وكذلك دعا ويدعو اليه في مناسبات عديدة لاسيما في الفتاوى الأخيرة سماحة الإمام الخامنئي (حفظه الله) قائد الثورة الإسلامية مؤكداً على الالتزام بكل ما يؤدي الى وحدة الأمة والتقريب بين المذاهب الإسلامية عبر إشاعة العقلانية المطلوبة وروح الحوار الإسلامي البناء والتآلف الصادق والبحث عن المساحات المشتركة وهو ما نعبر عنه بـ «حركة التقريب» التي تمتلك جذوراً تمتد الى أقدم العصور الإسلامية لأنها تستمد أصالتها وحيويتها من أصول الشريعة الغراء، وتتوضح ضرورتها كلما اتسع نطاق مسؤولية هذه الأمة في صنع الحضارة الإنسانية أو الاسهام الفاعل فيها على الأقل.
ونحن في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية سعداء حقاً إذ نجد هذه البذرة قد نمت وتحولت إلى «شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها»[2] حيث اهتمت بها المجامع والأوساط العلمية كمجمع الفقه الإسلامي ومنظمة الإيسيسكو وجعلتها من أهم أهدافها. وقد أثمرت جهود العلماء والمفكرين والمصلحين اتجاهاً عاماً نحو التقريب وميلاً عاماً نحو تغليب لغة الحوار المنطقية وترجيحها على أية لغة انسجاماً مع توجهات الإسلام الأصيلة وتناغماً مع الرغبة العالمية نحو هذا الأسلوب فيما بين الحضارات والثقافات والأديان.
فالدعوة الى «التقريب» عبر الانفتاح على المذاهب الأخرى ـ على ماورد في آراء وسيرة الشهيد الثاني M ليست دعوة الى تنازل أصحاب مذهب معين عن مذهبهم، بل هي دعوة إلى التفاهم والتعايش وليست دعوة الى الالغاء والتنازل وهذا ما أكده ويؤكده أستاذي الجليل فضيلة العلامة الشيخ التسخيري الأمين العام لمجمع التقريب في كثير من الندوات والمؤتمرات الدولية وفي غالب كتبه وأبحاثه وكلماته القيمة مؤكداً على ضرورة نقل «ثقافة التقريب» من الأفراد المؤمنين بها الى «ثقافة دينية» في مؤسساتنا ومعاهدنا التعليمية.
بعد هذا التطواف السريع، استميحكم عذراً لأنقلكم الى أجواء كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» الشهير للشهيد الثاني، في آداب الفتوى والمفتي والمستفتي وكذلك أخلاقيات وآداب العالم والمتعلم.
يعد هذا الكتاب الذي تضمن مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة من أرقى المصادر الإسلامية في حقل الافتاء والدراسات الأخلاقية والتربوية. وقد ذكر المصنف فيه كل ما يلزم العالم والمتعلم من المواظبة والأخلاق الفاضلة وما يجب على القاضي والمفتي حين الافتاء، وآداب الكتابة والكاتب وكيفية التعامل مع النص وإخراجه بأحسن صورة. ثم تناول في الخاتمة أقسام العلوم وما يتوقف عليها، وسأقتصر على المجالات التالية:
وبهذا فقد نظّر الشهيد الثانيMللعلم وللمفيد وللمستفيد آدابه واخلاقياته، وأعطى للتعلم نظريات والتفاتات لم تكن قد تبلورت آنذاك.
وأخيراً قيل عن كتابه هذا «انه يشتمل على مهمات جليلة وفوائد نبيلة، تحمل على غاية الانبعاث في الترغيب في اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل والتحلي بشيم الأخيار والعلماء الأبرار»[4].
أعمال جلسات المؤتمر
اليوم الثاني:
الأربعاء 1 حزيران 2011 – جباع – النادي الحسيني
الجلسة الخامسة
برئاسة السيد هادي خسروشاهي
نائب الرئيس الشيخ حسن بغدادي
وزار المشاركون منزل الشهيد الثاني، ومقامي العالمين الجليلين، السيد محمد صاحب المدارك والشيخ حسن صاحب المعالم، في جباع ومعلم مليتا الجهادي.
العلماء الشهداء.. تعدد أزمنة ووحدة هدف
الشيخ نبيل قاووق (*)
}الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا{(الأحزاب/39).[1]
بين العمامة والشهادة حكاية. حكاية وصل منذ البداية.
منذ اللحظة الأولى والرجال الأوائل.
من مسجد الكوفة، المحبَّر بالدم، إلى الكف العاصي على الأزمنة والألباب، والذي تحار في تصنيفه: أتاريخٌ هو أم حاضر، أم عنوان لغد.
من سيد الشهداء بكربلاء، والذي ما زلنا كلما قرأنا كتابه تخضبت الأكف دمًا.
إلى أحد عشر إمامًا من قريش. أولهم شهيد وآخرهم شهيد.
من هناك بدأت القافلة، فاتصل الوريد بالوريد. أما سيل الدم فواحد، وخط المسير واحد، والإرث واحد، إرث الحسين وعلي والمصطفى محمدP.
إن الشهيد الأول، لهو راية في الركب الكربلائي، وإن الشهيد الثاني لهو إشراقة من الهدى الحسيني. هي مواكب تهدي وتمضي، تنمو وتمتد، فتزداد الراية تألقًا، ويتضوع العالم كرامة وإباءً وعظمة وطيبًا.
هنا كل ما في الأرض يحكي، وبفخر، حكاية العلماء الشهداء. هنا نقف على ضفاف بحر جود كرم الشهيدين.
هنا البساتين وقمم الجبال تزهر بقافلة العلماء الشهداء، التي منها السيد عباس والشيخ راغب حرب.
إن عالمين كبيرين مجددين مجاهدين، كالشهيدين الأول والثاني، أكدا بدمهما الحضور المدوي للعلماء في ميادين المواجهة ومقاومة الطغاة والظالمين.
إن من شهادتهما المباركة ننهل، ان في مواجهة الطغاة والظالمين، على العلماء ان يظهروا علمهم ويشهروا دمهم. وأنه حين الشدائد والمحن وفي الليالي المظلمة، فان دماء الشهداء العلماء تكون مشاعل المسيرة، وان الشهادة لا تُنال إلا بفعل الشهود الدائم، وما لم يكن العالم شاهدًا فلن يكون شهيدًا.
ان مواقف وكلمات وتضحيات عالمين كبيرين، كالشهيدين اللذين امتلآ علمًا، تشكل حجة على كل العلماء. وان علماءنا الشهداء هم روافد النهر الحسيني، نهر شهادة علي والحسن والحسين والأئمة الأطهار من ذرية الحسينQ، وكواكب زاهرة زينتها شمس المصطفى محمدP.
ان عقد هذا المؤتمر في بلدة جُبع، بلدة الشهيد الثاني، تأكيد على البذرة الطيبة، بذرة العلم والشهادة، التي تركها الشهيد الثاني في ربوع عاملة التي كانت وما زالت معقلاً للمجاهدين ومنطلقًا لمسيرة التحرير.
من على هذه الأرض أشرقت شمس الحرية على لبنان في سنة 2000، وكان التحرير فجرًا لانتصارات الأمة، وتحولاً في المسارات الكبرى في المنطقة.
لقد استطاعت المقاومة ان تقزم التعملق الاسرائيلي، وأن تلقي باسرائيل إلى قعر الهزيمة، ولا تزال إسرائيل اليوم تتخبط بقعر هذه الهزيمة. بمعادلة المقاومة أضحى يوم النكبة نكبة إسرائيل. وبمعادلة المقاومة سيتحول يوم النكسة إلى نكسة لإسرائيل.
إن إسرائيل التي اجتاحت في حزيران 67، الأراضي العربية يجتاحها اليوم الخوف والهلع في ذكرى النكسة.
إن اسرائيل استنفرت جيشها على الحدود مع لبنان وسوريا، وحركت كل الدبلوماسية العالمية لمواجهة التحركات الشعبية القادمة في ذكرى النكسة، وكل ذلك ليس إلا دليلاً على الإفلاس والعجز الإسرائيلي، ودليلاً على قوة وإرادة الشعوب التي استلهمت دروس المقاومة والجهاد والإيثار والتضحية من شهداء المقاومة.
إن هذه المقاومة التي استهدفت باجتياحات عسكرية وسياسية، والتي استهدفت بقرارات دولية ومحاكم دولية، قد نجحت في تعزيز قدراتها العسكرية والسياسية والشعبية حتى وصلنا الى ان اصبحت المعادلة الأصعب في المنطقة.
ان هذه المقاومة ستبقى على عهدها لشهدائها وأهلها، ولن تساوم على قطرة دم وماء ونفط، ولا على ذرة تراب وذرة كرامة.
للشهيدين الأول والثاني، ساحة القدس الالهي والرحمة والعظمة. من روحهما نستمد الأنفة والكبرياء والصبر، فنستكمل السير على طريقهما في مسيرة واحدة، تعدّدت أزمنتها وفصولها، وتوحدت اهدافها.
[1](*) نائب رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله.
دور الواجب الكفائي في تعميق وتوسعة المسؤولية الاجتماعية (بالتركيز علی الاستلهام من الشهيد الثاني)
الشيخ أحمد مبلغي (*)
لا نبالغ إذا قلنا إن فروض الكفايات رغم وجود البحث عنها في الأوساط الفقهية، فان حقيقتها الكاملة وجملة عظيمة من مصاديقها والكثير من محاور البحث عنها، وكذلك أداءها الاجتماعی ودورها في الإجابة علی متطلبات التحولات الزمنية، أبعاد هي بين وضعين: إما أن تكون غائبة أساسا في الفكر والدراسات الفقهية، أو لو كانت مطروحة فان طرحها لم يقع بصورة بارزة في الفقه.
وهذا القسم الثاني – أي الذي لم يبرز في الفقه – لعل سببه يرجع إلی أن فروض الكفايات متفرقة ومنتشرة في أبواب متعددة ومواضع مختلفة من الفقه، كما صرح بذلك الفقهاء.[1]
وهذا المقال يسعی لأن يلقي الضوء علی بحث الواجب الكفائي، ولا سيما دوره في تعميق وتوسعة المسؤولية الاجتماعية. كذلك سيحاول لتعميق البحث أن يستلهم من رؤی وأفكار ومباني الشهيد الثاني الموجودة في كتبه حول الواجب الكفائي.
تتمحور مباحث هذه المقالة حول ثلاثة محاور:
تعريف الفرض الكفائي.
امتيازات الفرض الكفائي عن الفرض العيني.
الدور الذي يلعبه الواجب الكفائي قبال المسؤولية الاجتماعية.
تعريف الفرض الكفائي
قد وردت حول الواجب الكفائي تعاريف، تختلف بعضها عن البعض من حيث العنصر الأساس الذي ركزت عليه في تبيين حقيقته.
ويمكن تقسيم هذه التعاريف إلی اتجاهات ثلاثة:
الأول: اتجاه التركيز في تعريفه علی تعيين المخاطب للطلب:
ویندرج تحت هذا الاتجاه تعاريف عدة، تختلف بعضها عن بعض في تعيين الذي يُوجه الخطاب إليه، وهي ما يلي:
«الواجب الكفائي هو الذي يُوجه فيه الخطاب إلی أحد المكلفين لا بعينه، المنطبق على كل واحد منهم ويسقط بفعل بعض عن الباقي».[2]
وواضح أن هذا التعريف يجعل المخاطب أحد المكلفين غير المعين.
«الواجب الكفائي هو الذي يُوجه فيه الخطاب إلی آحاد المكلفين، لكن لا على وجه الإطلاق؛ بل بتقييد الخطاب (المتوجه إلی كل أحد) بصورة عدم سبق الغير بالفعل المخاطب به».
يری القائل بهذ التعريف أنه في الواجب الكفائي ينحل الخطاب إلى خطابات متعددة حسب تعدد أفراد المكلفين، كل خطاب مقيد بعدم سبق الغير بفعل متعلق الخطاب. والتعريف يجعل المخاطب آحاد المكلفين مع قيد.
«أن الخطاب الكفائي خطاب عينيّ متعلق بكل واحد، مشروط بعدم قيام الغير به».[3]
وهذا التعريف مثل التعريف الذي سبقه:
ما ذكره إبن عابدين، وهو هذا التعريف: «فرض الكفاية} هُوَ الَّذِي{ يجب على جملة المكلفين كفاية، بمعنى أنه لو قام به بعضهم كفى عن الباقين، وإلا أثموا كلهم».[4]
وهذا التعريف كسابقه.
«الواجب الكفائي هو الذي توجه فيه الخطاب إلی النوع، ولمكان انطباق النوع على الآحاد يكون كل فرد من أفراد المكلفين مخاطبا بذلك الخطاب الواحد، فلو أشغل أحد المكلفين صفحة الوجود بالفعل سقط الخطاب عن الباقي».[5]
وهذا التعريف يجعل المخاطب هو النوع.
الثاني: اتجاه التركيز في تعريفه علی تعيين المقصود من الطلب:
وهذا الاتجاه يركز علی أن الأصل المقصود من الطلب هو الفعل لا الفاعل، ویندرج تحت هذا الاتجاه تعريفان:
«الواجب الكفائي هو الذي لا ينظر إلى فاعله إلا بالتبع للفعل، ضرورة أنه لا يحصل بدون فاعل.[6] والقائل بهذا التعريف يری أن فرض العين منظور بالذات إلى فاعله حيث قصد حصوله من كل عين أو من عين مخصوصة كالنبي P فيما فرض عليه دون أمته».[7]
وهذا التعريف يعتبر للفاعل شأنا تبعيا.
«إن الواجب الكفائي مقصود حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله».[8]
وهذ التعريف شبيه التعريف السابق.
«الواجب الكفائي هو الذي يراد منه نفس الوجود في الخارج ولو حصل من غير مكلف»[9]
وهذا التعريف يركز على حصول الواجب، من دون أن يعطي لطريق مّا اعتباراً ودخالة.
الثالث: اتجاه التركيز في تعريفه علی تعيين مقدار تعلق الطلب بالعمل:
وهناك تعريف يتسم بهذا الطابع وهو ما يلي:
«هو الذي كان المطلوب فيه إشغال أحد المكلفين صفحة الوجود بفعل لا يقبل التكرر أو إذا كان قابلا للتكرر، لا يكون وجوده الثاني متعلق الطلب».[10]
وهذا التعريف فيه التركيز علی كون الفعل غير قابل للتكرر.
وقد ذكر الشهيد الثاني تعريفا للواجب الكفائي يندرج تعريفه تحت الاتجاه الأول؛ أي: الذي يركز علی عنصر تعيين المخاطب للطلب وتمييز الواجب الكفائي عن العيني من هذه الزاوية، يقول:
«معنى الفرض الكفائي مخاطبة الكل به ابتداء على وجه يقتضي وقوعه من أيهم كان، وسقوطه بقيام من فيه الكفاية، فمتى تلبس به يمكنه القيام به سقط عن غيره سقوطا مراعى بإكماله ومتى لم يتفق ذلك أثم الجميع في التأخر عنه[11]
ويقول في موضع آخر:
«معنى الوجوب على الكفاية أن الخطاب به عام على جميع الناس، فإذا قام به من يحصل الكفاية... سقط عن الباقين، سقوطا مراعى باستمرار القائم به إلى أن يحصل الغرض المطلوب منه شرعا». [12]
وكما هو معلوم يوجد في تعريفه قيد إضافي لم يذكره سائر التعاريف المندرجة تحت هذا الاتجاه، وهو قيد كون سقوطه مراعی باستمرار القائم به إلی مرحلة يكتمل بعمله الواجب الكفائي.
امتيازات الواجب الكفائي عن الواجب العيني
الامتياز الأول: كونه ذا حجم وعدد أكثر بالنسبة إلی الواجب العيني:
لم يذكر الفقهاء عددا خاصا للواجبات الكفائية؛ غير أنهم صرحوا [13] بأن فروض الكفايات كثيرة، بل قال الوحيد البهبهاني: «الواجبات الكفائية في غاية الكثرة».[14]
غير أن المشكلة هي خفاء أكثر فروض الكفايات، كما صرح به بعض أهل السنة.[15]
أما الشهيد الثاني فليس له رأی خاص غير ذلك، یقول: «وفروض الكفايات كثيرة»[16]
الامتياز الثاني: احتوائه للمنافع أكبر من تضمنه للمآثم:
أما احتوائه لمختلف المنافع والمصالح فهو معلوم – وسنحدث عن ذلك -، وأما كون مستوی سببيته للتأثيم ضعيفا وقليلا وغير واسع، فهو مما يتضح بما قاله الشهيد الثاني:
«فرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأنه يصان بقيام البعض به جميع المكلفين عن إثمهم المترتب على تركهم له، بخلاف فرض العين فإنما يصان به عن الاثم القائم به فقط».[17]
وشبيه الكلام لمحيى الدين النووي، يقول:
«للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين من حيث إنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين، وقد قال إمام الحرمين في كتابه الغياثي: الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأنه لو ترك المتعين، اختص هو بالاثم، ولو فعله، اختص بسقوط الفرض، وفرض الكفاية لو تركه، أثم الجميع، وفرض الكفاية لو فعله، سقط الحرج عن الجميع، وفاعله ساع في صيانة الأمة عن المأثم، ولا يشك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين».[18] وقال في المجموع مثله.[19]
الامتياز الثالث: قابليته للانقلاب إلی الواجب العيني وليس عكسه صادقا:
هناك أحكام للواجب الكفائي تحمل علی عاتقها تأمين وتضمين مرونة وقابلية خاصة للواجب الكفائي ينقلب علی أساسه إلی الواجب العيني؛ يقول الشهيد الثاني: كون الشخص المعين لا يجب عليه القيام به حتما، إلا بأسباب ثلاثة: أحدها: تعيين الامام له،..... فإن الامام قد يرى في نهوضه معهم مصلحة من جهة اخرى، كجودة رأيه، وحسن تدبيره، وأشباه ذلك. وثانيها: قصور القائمين عن فرض الكفاية، بحيث يتوقف على قيامه، فيجب عليه ايضا ذلك عينا، والا فلا يلزم من قصور القائمين الوجوب على من لم يقم عينا، لجواز تعدده، بحيث لما علموا بقصور القائمين نهضوا مع زيادتهم عن الكفاية، فيجب القيام عليهم كفاية أيضا. وثالثها: تعيينه... على نفسه بنذر وشبهه بحيث ينعقد النذر، فيجب عليه القيام عينا، وإن استغني عنه، لانه راجح في الجملة. [20]
ويمكن ذكر الأحكام بالصورة التالية:
الأول: في صورة عدم وجود من به الكفاية ينقلب الكفائي إلی العيني.[21]
الثاني: في صورة ما إذا لم يقم الناس بالواجب الكفائي، فانه حينئذ يصير الواجب الكفائي عينيا[22].
الثالث: في صورة الشروع في الكفائي، فانه يتعين بالشروع.[23] وهذا الثالث محل خلاف بين العلماء، حيث نشاهد الأقوال التالية:
القول الأول: لمحي الدين النووي يقول: «لا يتعين لان الشروع لا يغير المشروع فيه عندنا الا في الحج والعمرة»[24].
القول الثاني: لصاحب الجواهر يقول: «إذا تلبس البعض بمقدمات الواجب الكفائي لا يسقط عن الباقين، وإن كان من تلبس بها على قدر الكفاية»[25]
ولوقبلنا المعتقد الثاني (أي: عدم التعيّن) فهو يتضمن قوة تضمينية أكثر للحفاظ علی الواجب الكفائي، كما هو معلوم.
الرابع: في صورة تعيين الإمام شخصاً للقيام به، كما قال الشهيد الثاني.
الدور الذي يلعبه الواجب الكفائي
قبال المسؤولية الاجتماعية
هناك إمكانیات متوفرة في الواجب العيني تجعله قادرا علی إيجاد وتعميق وتوسعة المسؤولية الاجتماعية، وفي هذا العرض نذكر البحث علی الترتيب التالي:
المقصود من المسؤولية الاجتماعية؛ تعريفها وعناصرها ما كمن في الواجب الكفائي من العناصر ذات التأثير على المسؤولية الاجتماعية المسؤولية الاجتماعية؛ تعريفها وعناصرها:
أولاً: تعريفها:
قد عرفت المسؤولية الاجتماعية بتعريفات نشير إلى البعض منها:
الالتزام المستمر من قبل المؤسسة بالتصرف أخلاقياً والمساهمة في تحقيق التنمية في المجتمع، والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم، والمجتمع المحلي والمجتمع ككل».
المسؤولية الاجتماعية هي التزام أصحاب المؤسسات بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال تحسين أوضاع الموظفين وعائلاتهم والمجتمع المحيط اجتماعياً وصحياً وعلمياً.
المسؤولية الاجتماعية هي الأنشطة التي تمارسها المؤسسات في سبيل خدمة المجتمع.
مساهمة منشآت القطاع الخاص في تحقيق رفاهية حياة موظفيها، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة للمجتمع الذي تعمل به، مع التصرف بمسؤولية بدوافع دينية وأخلاقية، ولتعزيز مكانتها التنافسية في مجال نشاطها.
الالتزام الذاتي والفعلي للفرد تجاه الجماعة وما ينطوي عليه من اهتمام بها، ومحاولة فهم مشاكلها، والمشاركة معها في انجاز عمل ما، مع الإحساس بحاجات الجماعة والجماعات الأخرى التي ينتمي إليها.
وكما هو معلوم فان هذه التعريفات وردت بعضها حول المسؤولية الاجتماعية في مطلق المؤسسات، وبعضها حول المسؤولية الاجتماعية في مجال خاص؛ مثل المنشآت في القطاع الخاص، وبعضها الآخر حول المسؤولية الاجتماعية للأفراد.
ثانياً: عناصرها:
تتوفر في المسؤولية الاجتماعية عناصر، وأهمها:
عنصر الشمولیة:
إن المسؤولية الاجتماعية تستوعب فكرتها الأفراد والمؤسسات، كما أن المسؤولية الاجتماعية لا تختص بمؤسسة دون مؤسسة بل تستوعب جميع المؤسسات لجميع المجالات، ولذلك نرى أنه طرحت موارد مثل المسؤولية الاجتماعية المعمارية والمسؤولية الاجتماعية للمؤسسة الإعلامية والمسؤولية الاجتماعية للشركات والمسؤولية الاجتماعية للبنوك والمسؤولية الاجتماعية للمراكز الطبية والمسؤولية الاجتماعية للمطاعم و....
عنصر الذاتية:
صحيح أن المسؤولية الاجتماعية تعدّ ظاهرة اجتماعية تلقي بظلالها على قضايا المجتمع، غير أن النواة الأصلية التي تنطلق وتتغذى هذه الظاهرة منها هي عملية «تكوين ذاتي قائم على الضمير»، فلولا هذه العملية لما وجدت هذه الظاهرة.
ومكانة وأهمية «هذا الشعور» في تحقق المسؤولية الاجتماعية بالغة إلى حد قد عرّف المسؤولية الاجتماعية بعض علماء علم الاجتماع: بأﻧﻬا «الشعور الواعي والمدرك لالتزامات الفرد تجاه جماعته ومجتمعه»، كما عرفها البعض الآخر: بأﻧﻬا «ضرب من ضروب الوعي الاجتماعي الذي يجسده الفرد في تفكيره وسلوكه وعلاقاته مع الآخرين».
عنصر التركيز على التوجه نحو المجتمع:
وهذا العنصر يتمتع بأبعاد كما يلي:
البعد الأول: التوحد مع الجماعة والتفاعل معها:
إن فكرة المسؤولية الاجتماعية – كما يبدو من إسمها وكذلك من المباحث العلمية المطروحة حول فلسفتها- توحي بأن المطلوب هو ارتقاء الشخص أو المؤسسة إلى مستوى الشعور بوجود وحدة مصيرية له مع الجماعة، بحيث يحس أن طموحاتها طموحاته وأهدافها أهدافه وفوزها فوزه وأمنها أمنه، كما توحي بأن يصبح الشخص أو المؤسسة بحيث ينطلق من دوافع ثقافية وأخلاقية إلى التعاون الفاعل والتفاعل الجاد مع الجماعة والمسايرة لها.
البعد الثاني: محاولة تحقيق مصالح ومطالبات المجتمع:
المسؤولية الاجتماعية - كما هو معروف- تعد منطلقاً تهتم المؤسسات والأفراد منه بمصالح المجتمع. ولتبيين عمق تمتعها بهذا البعد، نشير إلى أحد أنواع المسؤولية الاجتماعية لكي نرى أنها كيف تمهد الأرضية لعملية التحكم في الرغبات الفردية لصالح المجتمع، وهو المسؤولية الاجتماعية في مجال الإعلام، فنقول: إن نظرية المسؤولية الاجتماعية احتلت مكانة مرموقة في المباحث المتعلقة بالمجال الإعلامي، بحيث طرحت ولا تزال تطرح في هذا المجال كنظرية بديلة جدية لنظرية الحرية.
وقد تعرضت نظرية الحرية لملاحظات ومناقشات عدة، أهمها أنها فسحت المجال لسوء الاستخدام المفرط لمفهوم الحرية من قبل الإعلاميين، فنزعوا إلى ممارسات تنطلق إلى التحرر من أي قيمة أخلاقية اجتماعية، والتبني لتوجهات تسلط الرغبات الفردية على حسـاب مصالح المجتمع.
وأما نظرية المسؤولية الاجتماعية فهي تعطي فكرة ضرورة «ممارسة العملية الإعلامية بحرية قائمة على المسؤولية الاجتماعية» وانطلاقاً من ذلك توحي بضرورة سنّ قواعد وقوانين تجعل الرأي العام رقيبا على آداب المهنة من جهة، وتضع معايير مهنية للإعلام مثل الصدق والموضوعية والتوازن والدقة وعدم اللعب بالقيم والأخلاق من جهة أخرى.
فالمسؤولية الاجتماعية توجد إطاراً يجعل الإعلام يبتعد عن نشر وعرض ما يساعد على الجريمة أو العنف أو ما له التأثير السلبي على الأقليات، كما يجنب الإعلام التدخل في حياة الأفراد الخاصة.
وليست للمسؤولية الاجتماعية تأثيراتها فقط على المجال الإعلامي، بل أيضًا على المجالات الأخرى، وما قلناه مجرد مثال للتنبيه إلى دور المسؤولية الاجتماعية.
البعد الثالث: التغطية الديناميكية المتطورة للقضايا الاجتماعية:
ان المسؤولية الاجتماعية ظاهرة اجتماعية لها قابلية في أن تتوسع دائرتها وتتعمق أدوارها، وليس ذلك إلا لأنها في الواقع عبارة عن عمل ونتاج اجتماعي يتمكن من أن يلقي رويداً رويداً بظلاله على القضايا الاجتماعية، وعليه فان المسؤولية الاجتماعية، وإن كانت لا تملك - بصورة عامة- قوة إلزامية قانونية، غير أنها مع ذلك ليست ذات طبيعة جامدة، بل تستبطن عناصر ديناميكية وواقعية تجعلها قابلة لأن تتطور بشكل مستمر.
ما في الواجب الكفائي من العناصر ذات التأثير على المسؤولية الاجتماعية:
يتوفر في الواجب الكفائي عناصر يؤثر عبرها على المسؤولية الاجتماعية، وهي ما يلي:
العنصر الأول: إيجاد الإحساس بالتكليف:
ان أول أداء يقوم به الواجب الكفائي هو إيجاد الإحساس بالمسؤولية في المكلف، ويبلغ هذا الإحساس درجة يحس المكلف بكونه آثماً لو تخلى عن الذي كلفه الله سبحانه به كواجب شرعي كفائي فيما لم يقم غيره به. وهذا الأداء القوي للواجب الكفائي يرجع إلى أن فكرة الواجب الكفائي تربط مقولة»إحساس المسؤولية الاجتماعية «بمقولة «مسؤولية الإنسان أمام الله سبحانه». وعليه فلو كانت المسؤولية الاجتماعية تتعطش إلى مثل هذا الإحساس في داخل الإنسان، فان الواجب الكفائي هو المتكفل لإيجاده بصورة فاعلة وقوية،
العنصر الثاني: الشمولية:
إنه - كما هو معلوم - يشمل الواجب الكفائي جميع المكلفين. وللفقهاء تعابير مختلفة في ذلك مثل:
عمومية الخطاب علی الجميع؛ يقول الشهيد الثاني: «انّ الخطاب به عام على جميع الناس» [26]
عمومية الوجوب للجميع؛ يقول النووي: «ويعم وجوبه جميع المخاطبين به» [27]
تعلق الخطاب بالجملة علی حد واحد: يقول صاحب الجواهر: «انّ مقتضى الوجوب الكفائي تعلق خطابه بجملة المكلفين على حد واحد»[28] وقال أيضا: «تعلق الواجب الكفائي بالجميع من حيث الخطاب»[29]
وكما هو معلوم، فان هذه الشمولية للجميع تقوي عنصر الشمولية التي هي أحد العناصر المقومة للمسؤولية الاجتماعية.
وعمق هذه الشمولية يبلغ حداً يتوجه التكليف في الواجب الكفائي إلی غير القادرين على العمل أيضاً. وذلك انطلاقاً من أن الواجب الكفائي واجب لا يريد الشرع عبر تشريعه إلا تحققه من أي شخص كان، فالكل مكلفون به حتى غير القادرين على الاتيان به. وتوضيحه: أن هناك شمولية في الخطاب الحاصل في الواجب الكفائي بحيث تغطي غير القادرين على العمل بالواجب الكفائي أيضاً، وذلك من جهة أن المصلحة التي تكمن وراء الواجب لا بد من أن تتحقق على أي حال؛ وعليه فهو ليس مما يركز فيه على عنصر «القدرة المباشرة على الاتيان به»، نظير ما في الواجب العيني (من كون كل شخص مكلفاً به، الأمر الذي لازمه هو وجود القدرة له عليه). ومعنى عدم التركيز فيه على عنصر القدرة هو أنه لا بد على الإشخاص الذين ليست لهم القدرة المباشرة عليه من أن لا يتجنبوا ولا يعزلوا أنفسهم، بل يلعبوا دورهم في تحقيق الواجب، فيما إذا لم يقم القادرون عليه به، بأن يهيئوا الأرضية لتحقيقه من خلال حثّ القادرين عليه بالاتيان به. يقول الشاطبي:
«يصح أن يقال انه واجب علي الجميع علي وجه من التجوز، لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطالبون بسدها على الجملة فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لها، والباقون وان لم يقدروا عليها قادرون علي إقامة القادرين»[30]
العنصر الثالث: قابلية التغطية لأنواع المصلحة:
في الواجب الكفائي توجد قوة استنهاضية إزاء مختلف الطاقات، وقوة توزيعية لها، بشكل يحقق أنواع المصالح.
وتوضيحه أنّ من خصائص الواجب الكفائي قابليته لأن يلعب دورين إيجابيين إزاء الطاقات والقدرات والمهارات المتوفرة في أفراد المجتمع:
أولاً: أن يعمل على استنهاضها في سبيل تحقيق المصالح التي يرمي إليها.
ثانياً: أن يعمل على توزيع هذه المجموعة على أنواع المصالح. وإنما يحصل هذا الدور بلحاظ أن كل واجب عندما اشتغل به فرد أو أفراد فيهم كفاية لتحقيق ذلك الواجب، يفسح المجال بصورة طبيعية لصالح الواجبات الأخرى لكي يشتغل بها المجموعات الأخرى؛ وبتعبير آخر أن عنصر «الكفاية» لا يسمح أن تتركز جميع الطاقات في زمن واحد على واجبات خاصة، بل تجعلها تصرف وتتوزع على مختلف الواجبات والتي تحمل كل منها نوعاً خاصاً أو جهة خاصة من المصالح الاجتماعية.
وبالالتفات إلى الواجبات الكفائية التالية يتبين أنه كيف تحمل على عاتقها مهمة تأمين المصالح:
«إن القيام بما كان من المصالح العامة واجب كفائي»[31]
«يجب على الكفاية ما به يتحقق نظام النوع»[32]
«ما به قوام المعايش واجب كفائي»[33]
«ما يتعلق بمصالح المعايش وانتظام أمور الناس واجب كفائي»[34]
العنصر الرابع: المرونة:
والمقصود منها وجود مرونة في الواجبات الكفائية تعطيها القدرة على تغطية أنواع الحركات والاتجاهات أو المؤسسات الرامية إلى تربية وتنمية وإصلاح المجتمع أو دفع جميع أنواع الضررعنه.
ونذكر فيما يلي نماذج من الواجبات الكفائية التي عرضها الشهيد الثاني وغيره من الفقهاء إثباتاً لما قلنا من وجود مرونة في هذه الواجبات تستهدف تحقيق مهمة تقديم أنواع الخدمات إلى المجتمع:
العنصر الخامس: امتلاكه ديناميكية فاعلة لتحقيق الانسجام الاجتماعي:
إن فروض الكفايات تستبطن انسجاماً اجتماعياً ذات أبعاد ثلاثة:
أ- الانسجام المتمثل بالاهتمام المشترك الحاصل من وجود وضعية خاصة ظاهرة أمام المجتمع:
والمقصود أن كون المجتمع المكلف بالواجب الكفائي مواجهاً لوضعية خاصة، أي: تلك الوضعية التي تم بلحاظها تشريع الوجوب، يعد نفسه انسجاما ًاجتماعياً.
ب- الانسجام الحاصل من توافق المجتمع على موقف خاص:
والمقصود أن اتفاق الناس على اختيار عمل خاص إزاء تلك الوضعية (والذي هو عبارة عن عملهم بالتكليف) يشكل انسجاماً اجتماعياً من نوع ما.
ج- الانسجام المتمثل في نفي الهرج والمرج:
والمقصود أن اتفاق المجتمع على أن لا يكون لموقفهم العملي إزاء تلك الوضعية أي هرج ومرج، يعد انسجاماً اجتماعياً؛ وهذا الاتفاق إنما يحصل بسبب أن الواجب الكفائي يعني أنه لو قام أحدهم بالفعل، لكفى عن الأخرين، وهذا بذاته ينفي الهرج والمرج.
[1](*) مسؤول مركز الدراسات الاسلامية في مجلس الشورى الاسلامي في ايران والمشرف على مؤتمر الشهيدين.
راجع: تذكرة الفقهاء، 9:8، ايضاح الفوائد، 2:624، كفاية الأحكام، 1: 366، إعانة الطالبين،4:206.
[2] محاضرات في أصول الفقه، تقرير بحث الخوئي، للفياض 2: 203.
[3] مستند الشيعة، للمحقق النراقي 3:84 - 85
[4] حاشية رد المحتار، ابن عابدين،1: 379
[5] فوائد الأصول، الكاظمي، 3: 436.
[6] حواشي الشرواني، الشرواني والعبادي،9:213
[7] حواشي الشرواني، الشرواني والعبادي،9:213
[8] حاشية رد المحتار، ابن عابدين،1: 580
[9] أنظر: جواهر الكلام، الجواهري 1: 203.
[10] فوائد الأصول، الكاظمي، 3: 436.
[11] شرح اللمعة، الشهيد الثاني، 1:443
[12] مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، 3: 8.
[13] كالعلامة(تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، 9:8 -.9) وفخر المحققين (يضاح الفوائد، 2:624.) والمحقق السبزواري(كفاية الأحكام، المحقق السبزواري، 1: 366) و البكري الدمياطي(إعانة الطالبين،4:206)
[14] الرسائل الفقهية، الوحيد البهبهاني:27.
[15] إعانة الطالبين، البكري الدمياطي، 4:206
[16] مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، 3: 8.
[17] منية المريد، الشهيد الثاني: 381
[18] روضة الطالبين، محيى الدين النووي، 7: 427.
[19] المجموع، محيى الدين النووي، 1: 27.
[20] الشهيد الثاني ج مسالك الأفهام، 3:10.
[21] كتاب الاجارة، الأول، الخوئي: 496
[22] جواهر الكلام، الجواهري 21:404
[23] إيضاح الفوائد، فخر المحققين، 1: 239، الشرح الكبير، أبو البركات،4: 126
[24] المجموع، محيى الدين النووي، 1: 27.
[25] جواهر الكلام، محمد حسن الجواهري، 40: 39.
[26] مسالك الأفهام، الشهيد الثاني،3:8.
[27] المجموع، محيى الدين النووي، 1: 27.
[28] جواهر الكلام،4:34.
[29] جواهر الكلام، 21:361.
[30] الموافقات1: 178- 179.
[31] تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي،2: 196.
[32] جامع المقاصد، المحقق الكركي،4:6.
[33] روضة الطالبين، النووي،7:423.
[34] روضة الطالبين، النووي،7:423.
[35] راجع: مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، 6: 266
[36] مسالك الأفهام، الشهيد الثاني،3:9.
[37] راجع: مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، 6: 266.
[38] مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، 3:9.
[39] راجع: مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، 6: 266.
[40] مسالك الأفهام، الشهيد الثاني،3:9.
[41] مسالك الأفهام، الشهيد الثاني،3:9.
[42] جامع المقاصد، المحقق الكركي،4:6.
[43] أحكام القرآن، ابن العربي، 2:603
[44] كشف الظنون، حاجي خليفة، 1:24.
[45] جامع المقاصد، المحقق الكركي،4:6.
[46] روضة الطالبين، النووي،7:423.
[47] روضة الطالبين، النووي،7:423.
[48] حاشية مجمع الفائدة والبرهان، الوحيد البهبهاني: 509.
[49] روضة الطالبين، النووي، 7: 425، إيضاح الفوائد،فخر المحققين،1:350
[50] كشف الظنون، حاجي خليفة، 1:24.
[51] تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، 9:8 -.9
[52] الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، 21:400.
واحدية العالم-العارف
بناءات التجربة الدينية عند الشهيد الثاني
أ. محمود حيدر (*)
يرمي هذا البحث الى تظهير رؤية مجملة تدور مدار السيرة الدينية للفقيه العارف الشيخ زين الدين بن علي الجبعي العاملي المعروف بـ«الشهيد الثاني(911ه-965ه)». كان لنا أن نعتني على الخصوص بما ميّز تلك السيرة من اختبارات علمية وروحانية, وجدنا أن نضعها تحت عنوان محوري هو «واحدية العالم/ -العارف في تجربة الشهيد الثاني الدينية».[1]
قد يثير العنوان الكثير من التساؤل عما يقصد به. وربما يستشير الإشكال لدى من أَلِف ما تقرّر عنه في ميراث الحوزات العلمية. والداعي الى ذلك جائز على غالب الظن.فإن مرجعية كبرى كالجبعي العاملي, نهضت مجاهداتها العلمية والعملية على المسلمات, كيف لها أن تُرى من خلال التجربة التي تُخْضِعُ صاحبها في العادة لشرائطها وقوانينها التاريخية, وتجعله قيد المراوحة بين الشك واليقين؟
واقع الحال عند الشهيد الثاني, ليس يبدو على هذا النحو, أي على ما يماثل تجريبيات الإنتقال الى الإيمان الديني من دائرة القلق الوجودي. الأمر الذي واجهه فلاسفة ومفكرون انحكمت اختباراتهم الفكرية والمعنوية في ما عرّفته الفلسفة الحديثة بـ«الشك المنهجي». ولمّا كنّا بإزاء اختبار ديني اتّحدت فيه اليقينيّات بالتجربة, والمسلّمات الإيمانية بحضور الذّات في التاريخ فقد وجدنا أن ندرج سيرة الشيخ في ما نسميه «منطقة الإعتدال المعرفي». وهي المنطقة التي تؤول فيها ثنائيات, مثل العقل و النقل, والبرهان والعرفان, والشهادة والغيب, الى مقام الجمع والوحدة.
إذ من هذه المنطقة المعرفية سوف يقدَّر للشهيد الثاني أن ينعطف نحو طور جديد في تجربته الدينية. وهذا الطور هو ما نصفه بـ«الحادث العرفاني» الذي سيتعرض له, ويصبح بالنسبة إليه أدنى الى ولادة جديدة. وهذا «الحادث» هو غالبا» ما يعرض على السالك من غير تقدير مسبق منه. ومَثَل الشيخ في شأنه وآثاره, ,مَثَلُ كثيرين من الحكماء والعرفاء والعلماء ممّن ذكرت أحوالهم في تاريخ الأديان على الإجمال. فإذا بلغ الشيخ زين الدين الأربعين - كما يصرّح - لاحت له إشارات بأن يمضي في أسفار العقل والقلب. وفي ذكره للحادثة أن الفاصلة كانت في بعلبك حيث أقام هناك للتدريس في المدرسة النورية. وفيها على- ما يبدو من تصريحه-, ستظهر تجربته الدينية على نشأتها الثانية. حيث سينصرف الى الإنشغال في التعرّف الى الحق وصفاته وآثاره, وفي معرفة الصراط المستقيم ودرجات الصعود الى الله وكيفية السلوك إليه, وكذلك في معرفة المبدأ و المعاد واليوم الآخر وأحوال الواصلين الى محل القرب. عن ذلك المنعطف الروحاني يقول إنه: «اختارالمدرسة النورية لمصالح وجدها, ولظهور أمر الله تعالى بها على الخصوص. وفيها اتفق له من فضل الله, في مدة اقامته بالبلد المذكور من الألطاف الإلهية والأسرار الربانية والحِكَم الخفية ما يقصر عنه البيان, ويعجز عن تحريره البنان,ويكل عن تقريره اللسان»[2].
عند نقطة المنعطف هذه, ستأخذ الإختبارات العرفانية سيرتها الفعلية في المسلك الديني للشهيد الثاني. رب أحدٍ لا يجد في مسلكه ما يماثل المألوف من سِيَرِ و تجارب طائفة واسعة من أعلام التصوّف والعرفان الإسلامي, أمثال الحسن البصري, وابن عربي, وابن الفارض, والبسطامي, والجنيد وجلال الدين الرومي, وملا صدرا, وسواهم. غير أن معاينة اجمالية للأسفار العلمية والعملية التي انجزها الشهيد الثاني, سوف تكشف عما قصدناه من الواحدية التي انتظمت اختباراته الروحية.
نحن إذا»,بإزاء منهج إيماني خاص مستلهم من الوحي و بيانات أهل العصمة R. قوام هذا المنهج ربطٌ لا انفصام له بين شريعةٍ مؤيّدةٍ بالحقيقة, وحقيقةٍ مؤيّدة بالشريعة. فلا يمكن الوقوف على اسرار الحقيقة-كما يقول الشيخ-,إلا بإثبات الأعمال المبيّنة ببيان صاحب الشرع (تعالى). لأن كل منهج و طريقة يخالفان الشريعة سوف يُفضيان الى الإنزياح عن الصراط, وان كل حقيقة لا يشهد لها الكتاب والسُّنّة تفضي الى الإلحاد[3].
وشأنه في هذا, شأن كبار الفقهاء العرفاء الذين لا يجدون أي فصل او تباين بين الشريعة والحقيقة. فهو ممّن يرون أن كل شريعة هي حقيقة من كل وجه, وكل حقيقة شريعة, مع ملاحظة التمييز بين كليهما. فالشريعة نزلت بواسطة الرسل, وأما الحقيقة فهي تقريب من غير واسطة. وربما يُشار بالشريعة الى الواجبات بالأمر والزجر, وبالحقيقة الى المكاشفات بالسر. والى أن الشريعة هي وجود الأفعال, والحقيقة شهود الأحوال بها. وبحسب العرفاء, فإن حاصل السير الى الحق الاول يتحقّق عبر لزوم حدوده.أي أحكام الشريعة. وطبقا لإجماع أهل التوحيد,فإن من زعم الوقوف على أسرار الحقيقة بما يخالف الشريعة, فقد طغى وغلبت عليه الضلالة والنسيان.
الحيرة والتعرّف إلى الحق الأعلى
للشيخ زين الدين للعروة الوثقى بين الشريعة وحقائقها إدراك سيكون له أثر بيّن في اهتداءاته الى المنطقة الوسطى في رحلة السير والسلوك. ولسوف يمكنه فهمه العميق لمقاصد الشريعة من اجراء مصالحة دقيقة مع العرفان العملي بوصفه التعبير الأسمى عن جوهر المنظومة العبادية.
لقد تحصّل معنا بعد المعاينة, أن تجربة الشهيد الثاني الروحية هي اختبار الحائر بالله لا اختبار القلق في أمر الله. فالحيرة عنده هي دين فيه الحق الأعلى. إنها الحيرة الحافزة على التعرّف وسعة الفهم وإتيان الحكمة. فلم يكن كذاك الذي يجد نفسه على الدوام محمولا على المزيد من الإستغراق في عتمة الجهل, وضيق الصدر,أو العازف عن استكناه المراتب اللامتناهية للحقيقة الدينية.
في غضون الكلام على اختبارات الشهيد الثاني سوف يتبيّن لنا, أن تحيُّرَه المعرفي كان تحيّر المطمئن, الواثق بما أنعمه الله عليه من علم وعمل. فإنّه المتأسّي بحامل أمانة الوحي في قولهP «رب زدني تحيّرا». أي زدني تعلّما» لأرى الأشياء كما هي, ولأتعرّف على ذاتك وأسمائك وصفاتك وأفعالك المقدّسة.
فإن السالك على حقيقة التوحيد هو من عرف نفسه, وسافر بالحق الى الحق عبر طرق ومسالك عددها – كما في الحديث القدسي - بعدد أنفاس الخلائق. وشأنه أن يصل الى معرفة ربه مارّا بمعرفة نفسه. وفاقا للمأثور عن أهل العصمة, «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».
وأما الحيرة التي وسمت تجربته في رحلة التعرّف الى الحق تعالى فهي أشبه بمواج المدّ والجزر,أو ما يعرف بالاصطلاح القرآني بحركة القبض والبسط التي لا مستقر لها. ذلك أن الحيرة في معرفة التوحيد باقية ما بقي العبد في عالم الكثرة. ففي هذا العالم يبقى المتعرّف على فقر ما, و نقصان ما. وحالئذٍ, فإن السالك المتعرّف لا يفاض عليه من علم الله إلاّ بقدر سعته, ومحدوديته. من هنا الآية الكريمة «واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين», من أجل أن يربط الحق تعالى على فؤاد عبده المُؤمن. وقد نقل عن عابد عارف قوله «لو أن العرش وما حواه دخل ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلبي لما أحسست به». و ذلك يشير الى حقيقة أن العالم العارف يمضي في سفره وهو واثق من أمر ينقُصه. ويعرف جيدا أن الذي يبحث عنه ليس شيئا معيّنا أو مكانا محددا, وأنه بسبب من ذلك, لا يمكنه البقاء في نقطة محدّدة, بل ان عليه أن يواصل سيره بصمتٍ وحيرة, وبانجِذابٍ لامتناهٍ في رحاب الألوهية المُطلقة.
على مسلك الإعتدال المُستلهم من سيرة آل البيت النبويR سوف يبتني الشهيد الثاني منهجه المعرفي. ولو توخّينا التدقيق لوجدنا أنه منهج قرآني استقامت فيه عروة وثقى بين العقل والغيب, و مهمّتها جمع
الشمل بين أركان الشريعة وألطاف الحقيقة, وبين العلم النظري والعرفان العملي, تبعا لقوله تعالى }مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ{[4].
خاصيّة الواحدية عند الشيخ تكمن في ما أشارت إليه الآية الكريمة:أن العلم مرفوع بالعمل الصالح ومُسدّد به. وهي خاصية تعين من يلزم نفسه بمكارمها,على إجراء توازن دقيق في فهم ظاهر الشريعة موصولا بفهم حقائقها المستترة. لكن العالم العارف المتوحد في شخصية الشهيد الثاني, سوف يدرك على نحو لاشية فيه, أن شرط العمل بمقتضى المكاشفة هو إقامة الوزن بالقسط, حيث لا يُخرم فيه حكم شرعي ولا قاعدة دينية.
في أعمال الشهيد الثاني, الممتدّة سحابة خمسة وخمسين مؤلفا, تظهيرٌ بيَّنٌ للقِسط والتّناسُب والإعتدال. فلقد حرص- مثل جمعٍ كبير من أهل الذكر- على أن يستعيذ بالله من فتنة القول, كما يستعيذه من فتنة العمل. وهذا هو الشيء الذي أتاح له تحصيل رؤية تَقَويّة إيمانية بلغت ذروة إخلاصها بواحديّة العالم العارف في تجربته الدينية.
فالواحديّة بهذا الأساس, تكتسب معانيها ودلالاتها الجوهرية من طريق رفع التناقض بين علم العالم وعرفان العارف. فما يُظن أنه ثنائية لا يلبث أن يصير واحدا, بعدما تمحي المباينة ويزول اللبس ..
جامعية الشهيد الثاني
تكوّن المنجز العلمي/العرفاني للشهيد الثاني, على منبسط معرفي يغتذي مما سبقه من منجزات زخر بها الفكر الإسلامي منذ تدوين السنة, والحديث, وظهور علوم الكلام والأصول والفقه والرجال, الى التفسير والبلاغة, ناهيك بعلوم التصوف والأخلاق والفلسفة. لم يقطع الشهيد الثاني مع أي من الفروع العلمية المشار إليها, بل هو مضى في رحلته العلمية الى استيعابها, والأخذ منها ما وافق الشريعة وحقائقها.وسيتبيّن لنا تبعا لذلك أنه اختبر هذه المنجزات, من خلال الوصل الوطيد فيما بينها, وعلى مبدأ وحدة العلم بالعمل. وهو مبدأ يدخل في دائرة البديهيّات, لكون العلم عين العمل, والعمل عين العلم في مقام التخلّق الذي تفترضه التجربة الدينية. فالعلم -على ما يعرّفه الشهيد الثاني في كتابه الأخلاقي المشهور «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد», هو« بمنزلة الشجرة والعمل بمنزلة الثمرة. والغرض من الشجرة المثمرة ليس إلا ثمرتها.أما شجرتها لو هي بقيت دون الإستعمال, فلا يتعلّق بها غرض أصلا», فإن الإنتفاع بها على أي وجه لهو ضرب من الثمرة بهذا المعنى».[5] إن ما يُستخلص من توصيف كهذا, يمكن أن نضعه في سياق تأسيسي لنظرية معرفة دينية قوامها:أن العلم المعتبر, هو العلم الباعث على العمل.
ما ذهب إليه الشهيد الثاني يفصح عن ان صلة الوصل بين العلم والعمل واقعة ضمن منفسحات الحقيقة الدينية, فيشير إلى ذلك بوضوح حين يرى أن الغرض الذاتي من العلم مطلقا هو العمل, و أن العلوم كلها ترجع بحسب هذا التأصيل الى صنفين:علم معاملة وعلم معرفة.
فعلم المعاملة عنده,هو معرفة الحلال والحرام ونظائرهما من الأحكام, ومعرفة أخلاق النفس المذمومة وكيفية علاجها والفرار منها. وأما علم المعرفة فيقوم على العلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه. وما عداهما من العلوم, فإنه إما آلات لهذا العلوم,أو ما يراد به عمل من الأعمال في الجملة. و الواضح أن علوم المعاملة لا تراد إلاّ للعمل, بل لولا الحاجة الى العمل لم يكن لها أي قيمة[6].
وسنرى كيف أنه مثّل هذه الرؤية بمَثَلٍ جاء به من عالم الفقه,وذلك للإستدلال بواسطته على واحدية النظر والعمل. فالفقيه- بنظره -, إذا أحكم علم الطاعات,أي أدركه بالنظر العقلي, ولم يعمل به,وإذا أحكم علم المعاصي ولم يتجنبها,و ان أحكم علم الأخلاق المذمومة,و ما زكّى نفسه منها, أو أحكم علم الأخلاق المحمودة ولم يتّصف بها.. فحاصله أن ذاك الفقيه, مغرور في نفسه,مخدوع عن دينه « ولهذه الناحية بالذات قال تعالى }قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{, ولم يقل:قد أفلح من تعلم كيفيّة تزكيتها, وكتب علمها, وعلّمها الناس[7]. إذ لو عرف الله حقَّ معرِفته لخشيه واتّقاه, وذلك ما نبّه عليه الحق تعالى بقوله:
}إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء{.
يؤسس الشهيد الثاني منظوريته في وجوبية العلم من الشاهد القرآني الوارد في أول سورة نزلت على النبي P: }اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {. فلقد جعل الله العلم السبب الكلي لخلق هذا العالم.مثلما جعل علم التوحيد أساس كل علم ومدار كل معرفة في حياة النوع الإنساني. والجعل الإلهي للعلم هنا يندرج في مقام التكريم الذي اختصّ به الإنسان. وبهذا يكون الجعل الإلهي لعلم الوحدانية معادلا للأكرمية الإلهية للإنسان. فالتكريم بالعلم هو المعطى الأعظم الذي تتميز به الآدمية عن سائر المخلوقات.و لمّا وصف الله تعالى نفسه بالرب الأكرم فلأنه علّم الإنسان العلم, فلو كان ثمّة شيء أفضل من العلم لكان اقترانه بالأكرمية أولى. ومن هنا يُنظر الى الكلام على وجوبية العلم من الله وواجبيته على الإنسان بوصف كونه أمرًا داخلا كعلةٍ تكوينية في أصل الخلق. وربما من هنا تقرّر في مبادئ علم أصول الفقه القاعدة التي تقول: «إن ترتّب الحكم على الوصف, مشعرٌ بكون الوصف علّة». ولقد بنى الله تعالى ترتّب قبول الحق والأخذ به على التّذكّر (إقرأ). كما بنى التذكّر على الخشية, وحصر الخشية في العلماء. فقال:«سيذّكّر من يخشى »,أولئك هم العلماء كما مرّ قبل قليل. والعلماء عند الله هم الحكماء الراسخون في العلم, والحكمة حين يحصّلها العالِم بفيضٍ من الله وتسديده, فإنما يحصَّل أمرا معظّما كما في الآية المباركة «ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا»[8].
فلئن كان لإتيان الحكمة من الحق مثل هذه العظمة, فإن لتحصيلها مدارج ومعارج ومقامات ينبغي للعالم أن يتّخذها سبيلا منهجيا له. وبسبب من هذا الترتب فقد خصّ الله سبحانه العلماء بخمس مناقب:
الأولى: الإيمان:
}وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ{.
الثانية: التوحيد:
}شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ{.
الثالثة والرابعة: البُكاء والحزن:
}إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ{.
الى قوله:}وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ{.
الخامسة: الخَشْية:
}إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء{.
ويقول تعالى مخاطبا نبيّه مما آتاه من العلم والحكمة:
«وقُلْ ربي زدني علماً».
وفي معرض التوصيف والإطلاق, قال تعالى: } بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ{.
هذه المنظومة الإيمانية سوف تتجاوز في تجربة الشهيد الثاني دائرة المسلّمات, لتتحوّل الى فعل خلاّق ضمن صلة الوصل بين العلم والعمل. ولعلّ استقراء إيقاعات النمو المعنوي التي مهّدت للحادث العرفاني عند الشيخ, سوف ينقلنا الى معاينة نظام الإتصال بين العلم والمعرفة والعمل بوصف كونه أحد أبرز المرتكزات التي تقوم عليها واحديّة العالم العارف في التجربة التي نحن بصددها.
فالعلم كما في اختبارات الشهيد الثاني, هو مقدمة للمعرفة, وهو متصل بها اتصالا لا يكون له من معنى ما لم يصبح عملا سارياً في الإجتماع البشري. فالعلم عندما يتحول الى عمل فإنه يمنح من جانب العالم متسعًا للحكم عليه ما إذا كان صادقاً أو باطلاً. ثم إنه بالعمل يغدو في وعاء التجربة. ليختبر ما إذا كان قابلا ليؤسس الوقائع في حركة الإنسان.
العلوم النقلية بهذا المعنى هي المنبسط الذي ينبغي ان تستنبت منه المعارف الإلهية من خلال توظيف هذه العلوم في حقول التجربة وذلك على قاعدة أن التجارب هي علمٌ مُستحدثٌ كما في المأثور عن امير المؤمنين علي بن أبي طالبQ. العلم المستحدث يطابق كنه المعرفة. ما يعني أنه بهذا المقام, هو تلك المرتبة من العلم المُسدّد بالعمل الذي يختبره الفاعل البشري في حقل التجربة. ولذا فإن اي فصل بين العلم والعمل سوف يؤدي الى إبطال القيمة المفترضة للعلم. الأمر الذي يُفضي بدوره الى إبطال الأساس الطبيعي لنشوء المعارف وتشكّلها.على ان التلازم والتناسب بين العلم والعمل هو عماد التوحيد التي تقوم عليها منهجية الشهيد الثاني المعرفية. وما أورده من الروايات في كتاب «منية المريد» يؤول الى هذا المقصد من التطابق بين العلم والمعرفة بوصفهما أساس العمل في رحلة السير والسلوك.
فعلم آدم Q- كما ورد في الكتاب المشار إليه- كان سببا في سجود الملائكة له والرفعة عليهم, وعلم الخضر كان سببا في وجود موسى تلميذا له, وعلم يوسف كان سببا لوجود الأهل والمملكة والاجتباء, وعلم داوود كان سببا للرئاسة والدرجة, وعلم سليمان كان سببا في وجدان بلقيس والغلبة, وعلم عيسى كان سببا لزوال التهمة عن أمّه, وعلم محمدP كان سببا في الشفاعة.
وعنه P:ان طريق الجنة في أيدي أربعة: العالم, والزاهد, والعابد, والمجاهد, فإذا صدق العالم في دعواه رزق الحكمة, والزاهد يرزق الأمن, والعابد الخوف, والمجاهد الثناء[9].
في صفات العالم والعارف والفرق بينهما
على وجود تمايز في تعريف معنى مصطلحي العلم والمعرفة. فالعالم غير العارف ,وكذلك العلم غير المعرفة.
فالعلم من عند الله. وهو صفة من صفات الحق.(العليم الحكيم)(عالم الغيب والشهادة) وفي القرآن الكريم من الآيات الكثيرة ما يدخل في هذا المقام ويدل على أن العلم والعلمية والعالِمية إنما صفات تختص بذات الحق ولا دخل لها بالخلق الا على سبيل المجاز.
أما المعرفة فهي صفة تختص بالعبد السالك الى الحق من خلال معرفة الخلق.والعارف يختص بمن عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته, ثم صدق الله في معاملاته, ثم فارق أخلاقه الرّديئة وآفاته,ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب على اعتكافه, كما قرّر العلماء الربّانيّون وأهل العرفان.
وبحسب العرفاء. أن السالك في طريق الحق اذا تحققت له من ذلك خواطر ودامت مناجاته في السّر مع الله, وصار محدّثا «من قبل الحق بتعريف أسراره في ما يجري من تصاريف أقداره, يسمى عند ذلك عارفا», وتسمى حالته معرفة. وبمقدار مخالفته لنفسه تتحصَّل معرفته بربه.اذ لا معرفة بالله الا بمفارقة النفس. فاذا عُرفَت النّفسُ على حقيقتها زالت وامَّحت, لأنّ بقاءها على صفاتها وأفعالها الحيوانيّة والشهوانية يعني نأيها عن الحق وانصرافها عنه الى الضّلال,وبذلك يقع الشرك فلا يحصل التّوحيد.
وحقيقة المعرفة إستغناء العارف بوصف المعرفة عن كل شيء دون الحق تعالى, فالمعرفة إذاً هي ما قطعتك عن غير الله وردتك الى الله.
وطريق المعرفة يبدأ من الخلق الى الحق, ولذلك رأينا كيف أن التوحيد يبدأ بالسلب(لا اله الاّ الله), اي ان تمحو ما سوى الله لتعرف الله.فالذّات مستورة بالخلق ومحجوبة بذاتها, ومعلومة لها, والعلم بها أنها حجب هو عين العلم بالله. لذلك قيل(العجز عن درك الإدراك إدراك).
واذا كانت المعرفة لا تصح الا بزوال الحجب يكون السلب هو الأصل في التوحيد.وأما الايجاب هو الإيجاب الحق. وإذا صحَّ ان الحق لا يظهر إلاّ بزوال الحجب صح ان معرفة النفس هي معرفة الله. ولا يُعرف الحق حق معرفته إلاّ بزوال الشرك في النفس بعد معرفتها على حقيقتها. وإذا بقيت على ما هي عليه لم تعرف الله. هكذا قيل (من عرف نفسه عرف ربه), وقيل ايضا (دع نفسك وتعال), أو «دع نفسك واتبعني» كما قال السيد المسيحQ.
ولقد ذهب كثيرون من كبار العلماء الى ان النفس تستطيع ان تصل الى المعرفة الحقّة في معرفة الحق ان هي عرجت الى الحق بهمَّة أهل العزم والإرادة,فتدرَّجت من مراتبها الدنيا (الأمارة بالسوء-واللوّامة) الى مرتبة النفس المطمئنة, وبعضهم يمضي بعد ذلك الى انّ النفس تظل على سفر لا ينقطع في اتّجاه الحق وهي ما عرَّفوها بـ«النفس السوّالة».
ثم قيل في المعرفة انها تحقيق القلب بإثبات وحدانيَّته بكمال صفاته وأسمائه,والمعرفة معرفتان: معرفة حق ومعرفة حقيقة.فمعرفة الحق إثبات وحدانية الله تعالى على ما أبرز من الصفات, ومعرفة الحقيقة لا سبيل اليها لامتناع الصمديّة وتحقق الربوبيّة عن الاحاطة, قال تعالى:}وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا{ لأنَّ الصمد (وهذه الكلمة لم ترد ا الاّ مرة واحدة في القرآن الكريم –(سورة الاخلاص)هو الذي لا تدرك حقائق نعوته, وصفاته.
وقيل ايضا: عن المعرفة إنها على ثلاثة اوجه:
فالأولى للعوام, والثانية للخواص, والثالثة لخاصة الخواص, اي للأولياء والصدّيقين والأنبياء.
هذا بعض ما يتفق عليه الحكماء والعرفاءفي تعريف المعرفة.
أما العلم, بما هو امر مختص بالذات, فهو من هذا الوجه صفة ازليّة,أي انّ علم الله سبحانه, بنفسه وبخلقه علم واحد غير منقسم ولا متعدد ولكنّه يعلم نفسه بما هو له, ويعلم خلقه بما هم عليه, وعلم الله سبحانه بذاته هو نفس ذاته.فالعالم والمعلوم والعلم واحد, وهو الوجود الخاص.ويسمّى الحق عليما بنسبة العلم إليه مطلقا, وعالما بنسبة معلومية الأشياء إليه وعلاَّما(علاّمُ الغُيوب) بنسبة العلم ومعلوميّة الأشياء اليه معا.
أما علم الخلق بالخلق, وعلم الخلق بالحق فيندرج في نطاق علم معرفة مراتب الوجود بما هو موجود,اي معرفة اقسام الدنيا وخفايا شهوات النّفس وحركة الخلق والعمران البشري.
لقد فصَّل العرفاء والحُكماء علوم الخلق في معرفة الحق الى مراتب ومقامات عدّة هي:
علم الباطن: وهو مستنبط من القرآن الكريم والسنّة ومن الاحاديث القُدسيّة التي وردَت عن لسان الرّسولPوعلى ما ورد عن اهل البيتR.
علم الظاهر: هو علم الاعمال الظاهرة على الجوارح والحواس.وعلم الظاهر متصل بعلم الباطن ولا ينفصل عنه وهو علم الشريعة القائم على ظاهر وباطن,لأن العلم متى كان في القلب فهو باطن فيه الى ان يجري ويظهر على اللسان.
العلم اللدني: هو العلم الذي يأتي العبدَ من الله من غير واسطة, وهو قذف نوراني وهبة ربّانيّة لا صلة له بالعلوم المكتسبة.وقيل فيه انه معرفة اسماء الله تعالى, وصفاته علما يقينيا من مشاهدة وذوق ببصائر القلوب.
علم الوراثة: هو الفقه في الدين.واهل العرفان أخذوا حظّا من الوراثة فأفادهم العمل بالعلم. فمن عمل بما علم أغناه الله عما لا علم له به.
علوم اليقين: هو ما كان بشرط البرهان وهو للفلاسفة والحكماء.بينما علوم التصوّف هي علوم احوال.
في الخلاصة...اذا كانت النفس من عند الرب. وهي فائض عنه فإن معرفتها تعني معرفة الاصل الذي جاءت منه.ومتى عُرف الأصل عُرف الفرع, فيصحّ ان يقال:من عرف ربه عرف نفسه.
لكن المعرفة أيّا كانت مراتبها فهي تصل الى نقطة تكون المعرفة فيها محال.اي معرفة الذات الالهيّة بالكنه.اي معرفة الذات بالذات.وذلك انطلاقا من قاعدة فلسفية تقول:المحاط لا يحيط بالمحيط.
«يحذركم الله نفسه»,اي لا تسألوا في ذات الله قولوا كما قال الأئمة(الإمام زين العابدينQ: (بك عرفتك)
او كما يقول الامام علي Q: لا يدركه بُعد الهمم. واصحاب العقول الراجحة أي الفلاسفة والحكماء. ولا يناله غوص الفطن (أي الأولياء).
ويُنقل عن بعض المحقّقين ان العلماء ثلاثة: عالمٌ بالله غير عالم بأمر الله, فهو عبد استولت المعرفة الإلهية على قلبه فصار مستغرقا بمشاهدة نور الجلال والكبرياء, فلا يتفرّغ لتعلّم علم الأحكام إلاّ ما لا بدّ منه, وعالم بأمر الله غير عالم بالله, وهو الذي عرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام, لكنّه لا يعرف أسرار جلال الله, وعالم بالله وبأمر الله, فهو جالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات, فهو تارة مع الله بالحب له, وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة, فإذا رجع من ربّه الى الخلق صار معهم كواحدٍ منهم, كأنه لا يعرف الله, وإذا خلا بربه مشتغلا بذكره وخدمته, فكأنه لا يعرف الخلق, فهذا سبيل المرسلين والصدَّيقين,وهو المراد من قوله: سائل العلماء, وخالط الحكماء, وجالس الكبراء.
وإذا تقرّر ذلك, فكلّما كان الإدراك أغوص وأشدّ, والمدرِكُ أشرف وأكمل, والمدرَكُ أبقى وأنقى, فاللّذة أشرف, واما المعلوم فلا شك أنه أشرف لآنه هو الله رب العالمين.
حدود التمايز والإرتباط بين العلم والمعرفة
في ما يتصل بالتمايز بين ضفّتي العلم والمعرفة, فقد ذهب المحقّقون إلى بيانات مفصّلة. وهو ما يلاحظ في معرض الكلام على تحديد الفروق بين العرفان والعلم. فقد وجد هؤلاء أن ثمّة تمايزاً بيَّناً بين «التعرف على شيء» وبين «العلم به».يقال إن «العلم» في اللغة يختص بالكليات. و«المعرفة» خاصة بالجزئيات والتشخص, ويقال إن «العارف» بالله هو الذي يتعرف إلى الحق سبحانه بالمشاهدة الحضورية, وإن «العالم» بالله هو الذي ينتهي إلى الحق سبحانه من خلال البراهين الفلسفية. وذهب بعضهم إلى أن الفارق بين العلم والعرفان,يتأتى من وجهين: الأول من ناحية متعلق كل منهما كما ذكرنا-متعلق العلم كلي ومتعلق المعرفة جزئي -, والثاني أنه أخذ في «المعرفة» نسيان الشيء العلوم سابقاً. في حين أن «العلم» هو ما يدركه الإنسان ابتداءً, وأما الشيء الذي كان معلوماً فغُفل عنه ونسيه ثم أدركه ثانياً, يقال له أنه قد «عرفه», وإنما يقال للعارف «عارفاً» لأنه يتذكّر الأكوان السالفة, والنشآت السابقة على نشأته الطبيعية.
ولأن العرفان لاحق على العلم, وهو ادراك جزئي للحقائق العلمية الكلية ولا تحصل مقاماته إلا بعد رحلة مُضنية من السير والسلوك والتعرّف.. فإنه –بنظر جمع من العرفاء الكبار - عالم استعادة العلم الإلهي من بحور الغفلة. فالعرفان يعني اليقظة والتّذكّر,وقد وجد بعض المحقّقين أن سبب التسمية هو تذكر عالم «الذر» وأنه لو أزيح حجاب الطبيعة الباعث على الغفلة والنسيان عن قلب السالك, لتذكّر العوالم السابقة. وقال بعضهم: إن حقيقة المعراج المعنوي والروحاني هي تذكر الأيام السالفة.في الإطار نفسه يُنقل عن الشيخ الرئيس ابن سينا أنه تذكّر أول لحظة ولادته, وكان يقول؛ يمكن للإنسان أن يتذكر أبعد من ذلك فيتذكر فترة تواجده جنيناً في رحم الأم أو فترة وجوده في صلب الأب, ثمّ يرجع الى الوراء ويتذكّر جميع الأحوال التي مرّ بها في عالم الملك, حتى يصل متقهقراً الى أكوان عالم الملكوت الأعلى والجبروت,ثمّ الى عالم الجبروت الأعلى. وهكذا دواليك, حتى يتذكر نشأة العلم الربوبي. ومثل هذا التذكّر, هو حقيقة المعراج ومنتهى العروج الروحاني. ولكنّ تفسير حقيقة المعراج الروحاني عند أهل العرفان, ينحو نحواً مختلفاً عمّا هو عليه عند الفلاسفة. فقد وجدوا أن حقيقة المعراج الروحاني هي حركة معنوية صعودية لا نزولية تقهقرية. ذلك أن مثل هذه الأخيرة هي على خلاف سنة الله الجارية في الكائنات, وخاصة في الأنبياء, وعلى الأخص في النبي محمدP. وإنما يشبه هذا السلوك, حال المجذوبية المتوفرة في صنف من الملائكة المهيّمة المتحيّرة في ذات ذي الجلال, الذين غفلوا نهائياً عن الكثرات, ولم ينتبهوا إلى أن هناك مخلوقاً باسم الإنسان والعالم[10].
قاعدة «معرفة الله بالله»:
إلى ما مرّ معنا ثمّة شروحات وضعها عدد من كبار المحقّقين المسلمين تبيّن على الجملة الرؤية المعرفية العميقة للعلاقة بين العلم والمعرفة, منها:
قول الشيخ الصدوق رضوان الله عليه بعد إيراد الخبر, ما حاصله: «عرفنا الله بالله لأنا عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبها, وإن عرفناه عز وجل بأنبيائه ورسله وحججه R فهو عز وجل باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حجباً, وإن عرفناه بأنفسنا فهو عز وجل محدثها فبه عرفناه».
ومنها ما أشار إليه صدر المتألهين الشيرازي, من أن هناك سبيلين لمعرفة الحق المتعالي (أحدهما: المشاهدة وصريح العرفان. ثانيهما: التنزيه والتقديس. وحيث أن السبيل الأول لا يتيسّر إلاّ للأنبياء والكاملين اختار P بيان الطريق الثاني في الحديث).
وأما ما بيّنه المحقّق الفيض الكاشاني فهو يندرج ضمن الرؤية الفلسفية للعلم بحقيقة الوجود. وهو ما يرد في قوله: «إن لكل شيء ماهية هو بها هو, وهي وجهه الذي إلى ذاته. كذلك لكل شيء حقيقة محيطة به, بها قوام ذاته وبها ظهور آثاره وصفاته, وهي وجهه الذي إلى الله سبحانه, وإليهما سيشار بقوله عز وجل:}إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ{, }وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ{, }كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ{.
أما قوله Q: «اعرفوا الله بالله» فمعناه ان تنظروا في الأشياء الى وجودها التي الى الله بعد أن أثبتم أن لها رباً صانعاً فاطلبوا معرفته بامارة فيها من حيث تدبيره لها وقيوميته عليها وتسخيره لها أو إحاطته بها وقهره إياها حتى تعرفوا الله بهذه الصفات القائمة به. ولا تنظروا الى وجهها التي الى نفسها. أعني – والكلام للكاشاني- من حيث أنها أشياء لها ماهيات لا يمكن أن توجد بذواتها, بل هي مفتقرة الى موجد يوجدها؛ فإنكم إذا نظرتم إليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم الله بالأشياء,فلن تعرفوه إذن حق المعرفة. فإن معرفة مجرد كون الشيء مفتقراً إليه في وجود الأشياء ليست بمعرفة في الحقيقة. على أن ذلك غير محتاج إليه لما عرفت أنها فطرية بخلاف النظر الأول فإنكم تنظرون في الأشياء أولاً الى الله عز وجل وآثاره من حيث هي آثاره, ثم الى الأشياء وافتقارها في أنفسها»[11].
على هذا يرى العرفاء أن الشرط الأول في السير الى الله, هو الخروج من البيت المظلم للنفس والذات والأنانية. فكما أن الإنسان في السفر الخارجي العيني المحسوس, لا يكون مسافراً ما دام هو في مكانه وبيته رغم تخيّله السفر الذي لا يتحقّق إلا بعد مغادرة البلد واختفاء آثاره.. فكذلك لا يتحقّق السفر العرفاني, والهجرة الشهودية إلا بعد التخلي عن البيت المظلم للنفس واختفاء آثارها ومعالمها,لأنه ما دامت آثار التعيينات مشهودة وأصوات الكثرات مسموعة, لا يكون الإنسان مسافراً, بل أنه تخيل السفر وادّعى السير والسلوك, وهكذا فبعد أن يغادر السالك الى الله بخطوات ترويض النفس والتقوى الكاملة من بيت النفس, ولم يصطحب معه في هذا الخروج العلقة الدنيوية, والتعيّنات, ويتحقّق له السفر الى الله سبحانه, يتجلى له الحق المتعالي قبل كل شيء, على قلبه المقدس بالألوهية ومقام الظهور الأسماء والصفات ويكون هذا التجلي أيضاً مرتباً ومنظّماً, حيث ينطلق من الأسماء المحاطة مروراً بالأسماء المحيطة حسب شدّة السير وضعفه وحسب قوّة قلب السالك وضعفه على التفصيل الذي لا يستوعبه هذا الكتاب المختصر, حتى ينتهي الى رفض كل تعيينات عالم الوجود سواء كانت تعيينات تعود الى نفسه أو تعيينات راجعة الى غيره والتي تعتبر- أي هذه التعيينات الغيرية- في المنازل والمراحل التالية من التعيينات العائدة الى نفسه أيضاً وبعد الرفض المطلق, يتم التجلي بالألوهية, ومقام الله الذي هو مقام أحدية جمع ظهور الأسماء.
ولدى وصول العارف الى هذا المقام والمنزلة, يفنى في هذا التجلي, فإذا وسعته العناية الأزلية, حصل للعارف الفاني في هذا التجلي, إستئناساً, وزالت عنه وحشة الطريق واستفاق, فلم يقتنع بهذا المقام, ويستمر بخطوات ملؤها الشوق والعشق. وفي سفر العشق هذا يكون الحق المتعالي مبدأ السفر والباعث على السفر ونهاية السفر, وتتم خطواته في أنوار التجلي, ويسمع هاتفاً يقول له «تقدَّم» ويستمر في التّقدّم الى أن تتجلّى في قلبه بصورة مرتبة ومنظّمة. الأسماء والصفات في مقام الواحدية, حتى يبلغ مقام الأحدية, ومقام الإسم الأعظم الذي هو إسم الله, فيتحقّق في هذا المقام «إعرفوا الله بالله» في مرتبة عالية. ويوجد بعد هذا المقام, مقام آخر لا مجال لذكره فعلا[12].
مزايا توحيد العالم/ العارف
لم يكن انشغال الشهيد الثاني على التوحيد أمراً افترضته عليه علوم الدين, وبالأخص منها علم الأصول, فالتوحيد بالنسبة إليه هو الغاية القصوى لتجربته الدينية واسفاره العقلية والمعنوية.
ولسوف يتبيّن لنا من معاينة السيرة الإجمالية للشهيد الثاني كيف حلّ التوحيد كأصل في مجاهداته القولية والعملية. فلو أردنا بيان واحدية العالم العارف في شخصية الشهيد الثاني لظهر لنا ضربٌ مخصوص من هذه الواحدية, عنينا بها الوصول إلى حقيقة التوحيد من مقام العمل.
فإن التوحيد الذي يلحظه العارف ويعده قمة الإنسانية العليا وهو آخر مقاصد السير والسلوك يختلف عن التوحيد العامي عند الناس وحتى عن توحيد الفيلسوف الذي يعتبر أن واجب الوجود واحد لا أكثر, والفرق بينهم كالمسافة ما بين السماء والأرض.
فتوحيد العارف, قائم على اليقين القلبي والعقلي من أن الوجود الحقيقي منحصر بالله, فكل ما عدا الله «مظهر» لا «وجود». وتوحيد العارف هو «لا شيء إلا الله». يكون بالنسبة إليه عبر في طيّ الطريق والوصول إلى مرحلة لا يرى فيها إلا الله.. و إذ لا يقبل كثيرون من العلماء هذا الفهم للتوحيد, فإن العرفاء يعتقدون بان التوحيد الحقيقي هو هذا وأن سائر مراتب التوحيد لا تخلو من الشرك. وبرأي العرفاء واعتقادهم فإن الوصول إلى هذه المرحلة لا يكون عبر إعمال العقل والتفكير, بل يتم عبر القلب والمجاهدة والسير والسلوك وتصفية النفس وتهذيبها.
منزلة العرفان في «أسرار الصلاة»:
إذا كانت اعمال الشهيد الثاني في كتابه «منية المريد» تناولت على التعيين علم الأخلاق بركنيه النظري والعملي,بما يضعها ضمن ما يسمّى دائرة البحث العلمي, ففي كتاب «أسرار الصلاة» سيمضي الى طبقات أكثر عمقا في استشراف الأبعاد المعنوية لهذا الركن العبادي. وسيظهر لنا كيف انْبَسَط اشتغاله في رحاب الشريعة.. وكيف سيتخذها معراجا للوصول الى مقام العبدانية المحض.لكنه وهو يحث الخطو في منازلها ألفيناه عاملا عالما على سيرة الندرة من أكابر الفقهاء العارفين.
يعرّف الشهيد الثاني كتابه «أسرار الصلاة» بـ«الرسالة». حيث تؤدي هذه الرسالة نبذة من أسرار الصلاة وزبدة من آدابها.وأن نصوصها مستقاة من النصوص الواردة عن أهل الخصوص (أي أهل بيت النبوّةR). وبمراعاتها سوف يترقى العامل في مدارجها الى معارج الأسرار والتجليات. يضيف: وهذه الأمور وإن كانت متفرقة في تضاعيف النصوص, وكلام الكاملين من العلماء والعاملين, لكن لا تكاد تجتمع أطرافها إلاّ عند قليل من الأماجد, ولا يطلع على معادنها الا واحد بعد واحد[13].
على أن الإشارة الدالة على مغزى تظهير الكتاب ما يذكره الشهيد الثاني لجهة الغاية من تأليفه. فهو يقصد به تظهير الأسرار القلبية, لا المباحثة الفقهية.حيث تخضع الصلاة في تلك المباحثة لمقاييس الفقه, ومعايير أصوله, ومنطق أحكامه. وهنا تستوي المعالجة على نشأة القلب بما هو لطيفة ربّانية روحية, يُعبَّرُ عنها بالنفس تارة, وبالروح تارة أخرى..«فإذا عرفنا بأن قلب الإنسان يقع بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه بهما كيفما يشاء..وبأن الروح «من أمر ربي»» لا تتأطر ضمن أي أطر علمية..ثم تأملنا بلحاظ البصيرة وندر القلب أدركنا كم هو خطير هذا الموضوع الذي لا يخضع لمقياس, وكم هو دقيق هذا الأمر الذي لا يدرك بالحواس (...) وفي سياق إيضاح ما ذهب إليه, لئلا يحصل اللبس والإبهام يقول: «وأما سادة هذا الضرب من ضروب المعرفة فهو فهم أهل الحقيقة والعرفان, لا أهل الشطح المهووسون ولا أهل الفقه الجامدون». وهؤلاء –على ما يرمي الشهيد الثاني- هم أهل الندرة الذي يجمعون العلم الى العمل و الفقه الى العرفان جمعا لا تفاوت فيه, ولا ترجيح لأصل على أصل.
وهم - كما يضيف - الآخذون من هذا الفقه, والمعطون من ذلك الذوق اللطيف الرهيف معا. فتوصلوا بواستطهما الى المعرفة الحقيقية التي تقود بدورها الى الإيمان المُحضّ, ويعزز الله تعالى ذلك في نفوسهم بالرؤيا الصالحة, والإشارات والإنخطافات والأطياف وومضات النور, والنقر في الأذن, والوقر في القلب, والتسديد, والتأييد, فيزدادون إيمانا على إيمان, ونورا على نور[14].
لم يكن اشتغال الشهيد الثاني بأسرار الصلاة من قبيل بيان ما تنطوي عليه أحكامها. بل سعى الى استقراء الواجب واستبطان حقيقته.. ومثل هذا المسعى التعرفي مآله معاينة نفس أمر هذا الواجب الذي هو نفس الصلاة. لكي يستظهر المصلي مراتبها اللاّمتناهية, بالنسبة الى المصلّي ويقيمها بوصفها واجبا فإنما يكون مقصده الأعلى التعرّف الى الواجب الأول. فهي بالنسبة الى المصلّي باب السر, فمن أفلح في طرق الباب,أذن له بالدخول, ومن قصد السر فيما يعمل أمكنه عبر التقرّب المسدد بحضور الفؤاد السير صعودا مرتبة اثر مرتبة, حتى يتحقّق له سر الأسرار,وهو التوحيد.
الشهيد الثاني كسِواه من الفقهاء العارفين بيّن العروة الوثقى بين الصلاة والتوحيد. بل لقد تعامل معهما كحقيقة واحدة. فلا تبلغ الصلاة سرّها الحقيقي الاّ بالتّوحيد, والتوحيد لا يمكن نيله بغير الصلاة .التي وصفها الله تبارك وتعالى بالعظمة. وهو إذ يمضي في رحلة الاستقراء والاستبطان والكشف, فإن مراده الوصول الى أطوار متقدمة في التألّه. لا يقف على حقيقتها إلا من كشِفَ له لينعقد تصاعده في المعراج الصلواتي على بيّنات وشواهد سر الصلاة الكامن في الشهود العيني للمصلي .ولأن للشهود العيني درجات,فإن لأسرار الصلاة مراتب. فكل درجة عليا هي باطن مستور نسبة الى ما دونها, وكل مرتبة دانية هي ظاهر مشهور نسبة الى ما فوقها. والمصلّي السالك يسافر دائما بالروح والقلب من المشهور الى المستور, الى حيث لا يكون هناك من الشهرة إسم, ومن السر أثر, ولا من «السر» علامة, ولا من الصلاة عيان,ولا من المصليّ إسم,فلا يرى سوى المعبود فحسب.
وتكمن ذروة سر الصلاة في شهود الله «واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين», وتكمن أيضا» في عبور دائرة «لا حول ولا قوة الا بالله», وطي مرحلة «لا إله إلا الله», ثم الوصول الى القمة التي يكون معها «لا هو إلا هو».
وهذه المرتبة لا يحققها الاّ الواصل الذي تحقق وصوله بكمال التوحيد بين النظر والعمل, وتاليا» بين العلم الحصولي والمعرفة الكشفية, فالعارف الواصل هو الجامع بين فقه الشريعة وفقه الحقيقة, وهو الذي قطع مراحل المعرفة ليبلغ نقطة الجمع بين المراحل جميعا. وسيكون لنا أن ندرك صيغة الجمع متى عرفنا الأقسام الثلاثة للتعرّف, وهي التالية:
فالمعرفة بصفات الله مقام عوام المؤمنين, والمعرفة بصفات الله مقام خواص المؤمنين, والمعرفة بذات الله مقام الأولياء والأنبياء والمرسلين.
لقد كان لمنهجية الشهيد الثاني أن تتخذ من مذهب «أمر بين أمرين» سبيلا للإهتداء الى تسوية الإشكال بين أقسام المعرفة السابق ذكرها. ولأن المنازل المعنوية لهذا التقسيم مترابطة في ما بينها ترابطا لا انفصال فيه, يعود الشهيد الثاني كما فعل الموحّدون من أمثاله, الى الإحالة على ما أسست له العقيدة الإمامية في التوحيد من أن المشاهد الحضورية الحاصلة للأولياء الواصلين الكاملين, هي أعلى درجات العرفان. ذلك أن أعلى مراتب العلم بالشيء إنما يحصل باتّحاد العالم والمعلوم, واما سبب الجهل كما يبيّن ملاّ صدرا, فليس إلاّ بسبب الغيرية. وبأنه كلما كان الإتحاد أتمّ كانت المشاهدة أكمل. وأن العلم الكامل إنما يحصل بعد محو رسوم التعينات الإمكانية.
فالسالك بعد الشروع في تكميل عمارة الباطن عبر متابعة الأنبياء وإتيان الواجبات وترك المحرمات وتهذيب الظاهر والباطن, يظهر له النور الإيماني من باطنه ثم يرى عينيه ومظهريه الروحاني والنفساني مسجونين في سجن الطبيعة, ويصير متوجها الى باطنه ويدرك نقصانه وتضييع وقته, ثم يجعل جميع همومه هما واحدا.
لقد بيّن صدر المتألهين الشيرازي أن المباحث الإلهية والمعارف الربانية هي في غاية الغموض, وأنها دقيقة المسلك بحيث لا يقف على حقيقتها إلا واحد بعد واحد,و لا يهتدي الى كنهها إلا وارد بعد وارد. فمن أراد الخوض في بحر المعارف الإلهية والتعمّق في الحقائق الربانية, فعليه الإرتياض بالرياضات العلمية والعملية, واكتساب السعادات الأبدية,حتى يتيسر له شروق نور الحق[15].
ثم ان علوما من هذا المقام, تُلزم الاستعداد العقلي والتهيّؤ القلبي, حتى ليتيقّن طالبها من أنه على سفر لامتناه, وأن مقتضى السفر هو على الحقيقة,ولادة جديدة وظهور على نشأة أخرى.وذلك ما كان أشار إليه اريسطو بقوله «إن من أراد أن يَشرع في علومنا فليستحدث لنفسه فطرة أخرى»...فالعلوم الإلهية مماثلة للعقول القدسية كما يبيّن ملا صدرا ذاك أن إدراكها يحتاج الى تجرّد تام, ولطف شديد, إذ المقصود بالنشأة الأخرى أو بالفطرة الثانية حسب ملا صدرا, ان تتّخذ مسارها في سماوات الحكمة التي تستعد النفس بها للإرتقاء الى الملأ الأعلى والغاية القصوى, وهي معرفة الله وصفاته وأفعاله وكيفية صدور الأشياء منه ورجوعها إليه[16].
لم تنشأ المنظومة التوحيدية للفقهاء العارفين إلا بعد إدراك جلي لمنطقة معرفية, هي في غاية الخصوصية واللطافة.هي منطقة العلم بحقائق الوحي التي بيّنها أئمة أهل البيتR في ما نُقل عنهم من الكشوفات الإلهية والعلوم الغيبية.
[1](*) باحث في الفكر الإسلامي والالهيات ورئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة - لبنان
[2] راجع «أسرار الصلاة» للشهيد الثاني-تحقيق محمد علي قاسم-الدار الإسلامية 1989-ص18-24
[3] المصدر نفسه-ص25
[4] سورة فاطر-الآية10
[5]«منية المريد في آداب المفيد والمستفيد»-مكتبة دار المجتبى – العراق –النجف –الطبعة الأول -2010ص50
[6]المصدر نفسه ص51.
[7]زين الدين بن علي العاملي –منية المريد –المصدر نفسه-ص52
[8]المصدر نفسه-ص54.
[9]«منية المريد» -مصدر سُبق ذكره –ص56.
[10]راجع الإمام الخميني-الأربعون حديثا –ص646
[11] المصدر نفسه –ص 647
[12] المصدر نفسه –ص648
[13] راجع المخطوطة الاصلية-نقلا» عن تحقيق كتاب اسرار الصلاة-للباحث محمد علي قاسم-الدار الاسلامية 1989-ص32
[14]المصدر نفسه-ص34
[15] صدر الدين الشيرازي(ملا صدرا)-المظاهر الإلهية-تحقيق جلالالدين الاشتياني-مكتب التبليغ في الحوزة العلمية –قم-ص58
[16] صدرا - المظاهر الإلهية - مصدر سابق - ص58
المنهج الصوفي في عهد الشهيدين
الشيخ عبد الناصر جبري (*)
الكلام عن العلماء والعاملين لا تستطيع أن تفصله عن الزهد والتزكية أو التربية أو الدروشة أو التصوف دون مقام المعرفة أو العرفان. وكل المعاني أو الألفاظ السابقة هي طريق إلى العرفان أو الحقيقة، والعالم العامل كذلك لا يكون إلا ان خرجت الدنيا من قلبه ولعلها تكون في يده ولعله لا يحصل عليها.[1]
ونحن أمام عالمين جليلين لهما الأثر الكبير في الحركة العلمية سواء كان الشهيد الأول محمد بن مكي من علماء القرن الثامن أو الشهيد الثاني من علماء القرن العاشر الهجري علي بن أحمد العاملي الجبعي. ولقد حسب على التصوف أو الدروشة بسبب الأجواء السياسية التي سادت المنطقة إبان الغزو الصليبي وما نتج عنه من فساد أخلاقي واقتصادي وسياسي. الفساد الذي استشرى في المجتمعات، فهرب الناس إلى الزوايا والتكايا بنية الانطلاق نحو الإصلاح.
فالدروشة هي الانخلاع عن ظواهر الحياة الدنيا، وممكن أن يكون حالاً وممكن أن يكون تشبهاً.
وأما التصوف يتعلق بباطن المتصوف المتخلي عن الدنيا، ونلاحظ هذا من خلال التعاريف والمصطلحات العلمية؛ فالدراويش هم زهّاد بعض الطرق، وهم شديدو الفقر والتقشف، وهذا عن اقتناع وإيمان وكأنه ثورة على كل مظاهر الدنيا، في مقابل المترفين. وهؤلاء لم يكونوا من طبقة الجهلة، بل كثير منهم معروف بحكمته من خلال الطب أوالشعر أوالذكاء.
وعرف هذا المصطلح عند العرب، وكأنه مركب من دار و ويش عند الترك والفرس، ومعناها الهدوء والاتزان وذو النفسية الزاهدة المجذوبة السائحة، وهي حالة اعتراض ورفض لواقع مؤلم إنساني. ولا يشترط أن يكون الدرويش من أتباع أي من الطرق، ويمكن أن يصبح ظاهرة لمجتمع متعدد المذاهب والطوائف، مثلما كانت مدينة قونية مستقر مولانا جلال الدين الرومي، الذي اتخذ من الدروشة طريقاً له، وقد اتبعه كثير من المسلمين ومن النصارى واليهود في ذلك الوقت، ولم تزل الطريقة المولوية إلى الآن، من مظاهرها طريقة الانكفاء عن مظاهر الترف الدنيوي.
فإذاً الدروشة هي حالة ظاهرية، وأما التصوف فإن أصل الكلمة، حسب ما ذهب الكلاباذي، من الصفاء. و سموا بالصوفية لصفاء سرائرهم وانشراح صدورهم وضياء قلوبهم. هذا بالنسبة إلى حال الصوفية الأوائل، ولم ينظر إلى الاشتقاق اللغوي. علماً أن صفاء القلوب ونقاءها ومعرفة الباطن، لا يعلمه إلا الله عز وجل، لذلك قال ربنا تبارك وتعالى: }فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى{.
والتصوف ليس حالة إسلامية فقط، بل استعمل التصوف عند الأمم السابقة، إلا أننا نتكلم هنا عن التصوف الموافق للشريعة الإسلامية السمحاء، فهي حالة إنسانية يحتاجها الإنسان بعد طول نظر. وقد استُعملت هذه الكلمة باليونانية «سوفيا»،بالسين، ومعناها الحكمة. والحكمة لا تأتي إلا بعد هدوء داخلي، وبعد عن زخارف الدنيا، لذلك اعتبرها فلاسفة اليونان المنهج الذي قوامه البحث النظري المجرد في الوجود للوقوف على حقائقه، و ظن البعض أن التصوف حالة فلسفية، ولكن التصوف الإسلامي هو سلوك وعمل وطريق إلى الله عز وجل، لذلك كانت القاعدة شريعة- طريقة- حقيقة، فكل فعل أو قول نسب للتصوف وخالف الشرع الحنيف مردود على صاحبه، لذلك كان تعريف التصوف عند أهله سواء كان بمعنى الزهد أو الخلق أو الصفاء أو المجاهدة أو التسليم الكامل لله أو الارتباط الروحي بالله تبارك وتعالى، أو الطريق المخصوص للسالكين، أو ترك التكلف والشكليات الظاهرة. فكل هذه المعاني تشير بالحقيقة إلى جانب من الجوانب العظيمة لهذا الدين القيم، الموافق للشريعة العظيمة، والبعد عن كل ما نهى الشارع عنه، وعن البدع المضلة وعن الفكر الغريب والفلسفات الباطلة. وهناك تعريف لابن خلدون للتصوف، يدل دلالة واضحة على معاني التصوف وأحوال الصوفية، وهو العكوف عن العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. فالدروشة والتصوف أمران متغايران، ولو كان بينهما عموم وخصوص، أو يجمع البعض بينهما في شخصه، إلا ان من قصدهما لحد ذاتيهما أخطأ الطريق، فالمقصود من ذلك هو معرفة الله تبارك وتعالى أو الوصول إلى الحقيقة «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل والعبادات حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر فيه ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنّه. فيصير العارف متصلاً بالحق، فيرى كل قدرة مستغرقة في قدرته، وكل علم مستغرقاً في علمه وكل حياة مستغرقة في حياته، بل وكل الوجود مستغرقاً في وجوده، فيصير العارف متخلّقاً بأخلاق الله عز وجل لكونه مظهراً تاماً للحق تعالى في صفاته، كما أشار إليه قوله تعالى:}وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ الله رَمَى{.
ومنه قول سيدنا علي بن أبي طالب Q: «ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة ربانية»، وذلك هو مقام الفناء.
واكتفي بهذا لأقول إن الإمامين الشهيدين ما وصلا لما وصلا إليه بعلم الظاهر فقط، بل سلكا مسالك كبار الأولياء، فلم يريا أن الإسلام هو ما رآه أتباع المذاهب في مذاهبهم، ولكن الإسلام كبير وعظيم حتى وسع كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم ينكر معلوماً من الدين بالضرورة.
[1](*) عميد كلية الدعوة الإسلامية في بيروت – لبنان.
التفسير القرآني عند الشهيد الثاني
الشيخ علي جابر (*)
تمهيد[1]
خلافاً للقراءة التقليديَّة التي تُقدَّم عن القرن العاشر على الصعيد الإسلاميّ العام، والتي تخلص الى صورةٍ باهتةٍ للحركة العلميَّة يغلب عليها الجمود واستعادة المواضيع المبحوثة وكثرة الحواشي على المؤلَّفات والمصنَّفات للأعلام السابقين، تبدو صورة الحركة العلميَّة في الدائرة الشيعيَّة نشيطة وحيَّة في مختلف الميادين، حيث لمع في تلك الفترة أعلام كالمحقّق والشيخ علي بن محمد بن هلال الجزائريّ (حوالي 909هـ)، والمحقِّق الثاني الشيخ علي بن الحسين بن عبد العال الكركي (937 هـ) والمحقِّق المقدَّس الأردبيليّ أحمد بن محمد (ت 993 هـ)، والشيخ حسن بن زين الدّين العامليّ الشهيد (1011هـ) والشيخ بهاء الدّين العامليّ (1031هـ) الشيخ علي بن عبد العالي الميسيّ، والسيّد محمّد باقر الدّاماد الاسترابادي (ت 1040 هـ)، وغيرهم.. ليتبيَّن من خلال هذا الحشد أنَّ تلك المرحلة كانت مرحلة الرشد والنموِّ العلميّ المطَّرِد، التي مهَّدت لمرحلةٍ أكثر تكاملاً آتت ثمارها في القرون الثلاثة التالية. وكان شيخنا زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي المعروف بالشهيد الثاني (911- 966 هـ) من بين هؤلاء الأعلام الكبار.
الشخصيَّة العلميَّة
وعندما نتأمَّل في شخصيِّته العلميَّة والثقافيَّة نجدها شاملةً وموسوعيّة إلى جانب العمق الذي تتميّز به في كلِّ فنٍ، رغم غلبة الطابع الفقهي عليها كما سنوضح، حيث أنَّه قد درس جملةً واسعةً من العلوم إلى جانب الفقه وأصوله كعلم الهيئة والرياضيات والطبّ وآداب العربيَّة والفلسفة وعلم الكلام والدراية والحديث والمنطق وغيرها.. حتَّى قال عنه الشيخ الحرّ العامليّ (1104 هـ) في أمل الآمل: «كان فقيهاً محدّثاُ نحوياً قارئاً متكلماً حكيماً جامعاً لفنون العلم، وهو أوّل من صنَّف من الإماميّة في دراية الحديث، لكنّه نقل الاصطلاحات من كتب العامة، كما ذكر ولده وغيره»[2].
وما أشار إليه الشيخ الحرّ أخيراً يمثِّل قضيّةً هامّةً في رؤية الشيخ الشهيد للمدرسة العلميّة الشيعيّة وقدرتها على تقديم ما لديها وفق الصياغات العلميّة المتداولة لدى المذاهب الإسلاميّة الأخرى ليسهل تناولها والاستفادة منها بدون معوقات شكليّة قد تضرّ بالهدف الجوهريّ وهو إطلاق الثراء العلميّ لمدرسة أهل البيت R من الدائرة المذهبيَّة الضيِّقة والخاصة إلى الفضاء الإسلاميّ العام، وهو أمر نتلمَّسه في أسفاره المكثَّفة إلى العواصم الإسلاميّة واللقاء بأعلامها والاندماج في المنظومات العلميّة القائمة فقهاً وحديثاً وغيرهما وجهوده التي بذلها في ميدان الفقه المقارن والذي بثَّه في كثيرٍ من أبحاثه ومؤلَّفاته.
وفي نظرةٍ إلى مجمل نتاجه العلميِّ والذي بلغ في بعض احصاءاته حوالي المائة وفي بعضه الآخر خمسة وستين بين كتاب ورسالة وحاشية وشرح ومنظومة، نلحظ توزَّعه على مجموعةٍ من الأبواب والفنون وإن بنسبٍ متفاوتة:
ففي الفقه بلغ الستين، وفي أصوله الخمسة، وفي الحديث بلغ التسعة وفي الكلام بلغ السبعة، وفي الأخلاق بلغ التسعة، وفي الرجال والتراجم بلغ الأربعة وفي النحو والعربيّة بلغ اثنين وفي المتفرِّقات (الكشكول) واحداً، وفي التفسير ثلاثة وربما رجع بعضها إلى بعض بالنظر إلى الاشتباهات في الأسماء وعدّها متعددة وهي واحدة، ولا شكّ أنَّ لهذه النسب والأرقام دلالاتها العميقة التي تكشف عن الطبيعة الفكريّة للشهيد واهتماماته الأساسيّة، ممَّا يدفعنا للتوغّل أكثر فيها نحو المحدِّدات لوجهته العلميّة ورصد مواقفه من سائر العلوم.
محدِّدات الشخصيّة العلميّة
نقصد بهذه المحدِّدات الميول والاهتمامات العلميَّة ومواقف القبول والرفض التي بمجموعها ترسم لنا صورةً متكاملةً عن الهويَّة الأساسيّة في جانبها العلميّ وفي إطلالةٍ عامّةٍ أوليَّة تتبدَّى لنا صورة الفقيه العاكف على معالجة كلِّ المسائل من موقعه الفقهيّ الباحث في كلِّ مسألةٍ بروح مشبعةٍ بالهمِّ الشرعيّ بقطع النظر عن طبيعة هذا الفنّ والعلم أو ذاك.
إنَّ الموضوع الأول والأخير لديه هو الفقه بإصطلاحه الخاص بحيث أنَّه ينظر اليه نظرةً موضوعيَّةً ذاتيَّةً، في حين أنَّ سائر العلوم تتحوَّل إلى آلات ووسائط لخدمة الموضوع الأساس، فهي بالمنظور الآلي تُطلب لغرضٍ آخر خارجٍ عن ذاتها وموضوعها.
هذه الرؤية المنهجيَّة لا تنتقص من القيمة المعرفيَّة بنظره لكلِّ علمٍ، لكنَّها تعطيه وزنه وفق منظومة الاهتمامات والأولويَّات التي حدَّدها مسبقاً، وتتفاوت الأوزان بقدر الاقتراب أو الابتعاد عن الموضوع ـ الهم.
وبهذا المعنى العام نتهيّأ لجملةِ مواقف سلبيَّة من مجموعة العلوم العقلية المتداولة في الحوزات الدينيّة والمعاهد العلمية تتراوح بين التحفّظ والاستبعاد.
فهو يؤمن بـ (النقل) كأساسٍ في المعرفة الدينيَّة بمعنى أنَّ المنقولات الشرعيَّة في الكتاب والسنة تُغني عن الرجوع الى العلوم والفنون واصطلاحاتها المعقَّدة ومسالكها الصعبة التي تبعِّد عن الحقّ أكثر ممَّا تقرِّب منه وتوصل إليه.
وفي تفصيل الصورة العامة هذه نسجِّل الملاحظات والمواقف التالية:
ويصل في تبسيط الموقف وكيفيّة تحصيل الإيمان إلى القول:
«وكلُّ ممكن برهان، وكلُّ آيةٍ حجَّة وكلُّ حديثٍ دليل، وفهم المقصود استدلال وكلُّ عاقل مستدلّ، وإن لم يعلم الصغرى ولا الكبرى ولا التالي ولا المقدّم بهذه العبارات والقانونات والاصطلاحات»[3].
بالطبع هو يقترح سبيلاً للمعرفة يعتمد الطبيعة والفطرة الإنسانية بما تحمله من قوّة (الإلهام والكشف والتعلّم والاستدلال)[4]، فالإنسان يمارس الفكر والاستدلال دون أن يعلم كيفيّتهما إذ هو بطبعه كذلك.
لكنه لا يوضِّح لنا كيف يكون كلُّ ممكنٍ برهان ومن أين لنا أن نعلم أنَّ هذا الفهم صائب للمقصود؟ وكيف يكون استدلالاً للغير؟ وغيرها من القضايا التي يمكن أن تَأخذ وجهة إلى هنا أو هناك، ويمكن أن يكون مقصوده أبعد من ظاهر الكلمات التي تبقى مبهمةً دون النظر إلى الباطن النفسيّ للإنسان، حيث يدعوه إلى تلبية نداء الفطرة وإلى التفاعل الروحيّ مع نصِّ الكتاب والسنّة لتحصيل المعرفة الذَّاتية فالطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، ولكلِّ نفسٍ طريقها الملائم لها وهو بذلك يرسم منهجاً نقليَّاً مفعماً بالروحانيّة وقد يصفه البعض بالصوفيّة لكنّه وعلى كلِّ حالٍ يجانب الطرق العقليّة الوعرة.
«فظهر أنَّ التصوَّرات لا فائدة فيها، وأمَّا التصديقات فأكثرها بديهيّة والباقي غير محتاج إليه، فالاشتغال بتعلّم المنطق ليس إلا بمجرَّد التقليد واتِّباع آثار السلف فاختر لنفسك ما لا بدَّ لك منه لئلا تهلك»[5].
وهكذا، يقطع الصِّلة بين علم المنطق والمعارف الدينيّة، وينفي توقّف أيٍّ من الأحكام والقضايا الشرعيّة والتصديقات الدينيَّة على شيء من المسائل النظريّة من هذا العلم ويقول في موضوعٍ آخر:
«...فكما يكفي بديهيّة لتحصيل نظريّة، يحتمل أن يكون كافياً لتحصيل الأحكام الشرعيّة والتصديقات الدينيّة»[6].
وهذا الموقف يتماهى مع الاتِّجاه الحديثي والفقهي الذي لا يقبل مساكنة مع الفلسفة، ويدعو إلى إقصائها عن منظومة العلوم الدينيّة؛ لأنها معرفة لا دينيّة تناقض المطلوب.
وقلَّة البحث هذه مستندةٌ في واقع الحال الى رؤية آليّة محضة لأصول الفقه، ومدى دخالته بنظره في تحصيل الاجتهاد. وفي هذا الإطار لا يرى الشهيد كثير جدوى في أغلب مباحثه ولا استقلاليّة لأكثر مسائله. وهو يقول بهذا الصدد: «وأمَّا أصول الفقه فكثير من مباحثه لا طائل تحته وأمَّا مسائله، منها داخل في علوم آخر فحكمه حكم ذلك العلم، وأمّا القياس وهو العمدة وقد عرفت حاله، وكذا بحث الاجماع»[8].
وأمَّا علم الرجال فلا بدّ منه وهو أمر سهل خصوصاً بعد تقسيم الحديث إلى الصحيح والحسن وغيرها من الأقسام.
وأمَّا الكتاب والسنة فهما بمنزلة المادَّة، ولا مفرَّ عنهما وبهما يكون الاشتغال الفقهي.
نظراته في التفسير
رغم أهميَّة التفسير عند الشهيد الثاني، حيث عدَّه من شرائط الاجتهاد، لكنَّنا لا نعثر في آثاره العلميَّة على أعمال واسعة وملفته في هذه الميدان ما خلا ما سنشير إليه. ولعلَّ مدَّة العمر المحدودة والانشغالات الأخرى والظروف الصعبة التي واجهته لم تُتح له الفرصة المناسبة لتفسير القرآن الكريم. وعليه، فمن حيث الشكل يمكن القول بأنَّ التفسير عنده كان جزئياً بمعنى أنَّه تناول مواضع محدَّدة ومتفرِّقة من الآيات وضمن اهتماماتٍ أُخرى كما سنشير، ولم يأخذ الطابع الكليّ التقليدي الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس. أمَّا معنى التفسير فإنَّه وان لم يذكره بحدود ما وقفت عليه على نحو رسميٍّ مقصود، لكن يُفهم من بعض كتاباته بأنَّه: «بيان المدلولات والبحث عن كيفيَّة الدلالات» وتعيين المفهوم المعتبر من الآيات[10].
وبحدود هذا المعنى فهو يحدِّد لنا طريقة عمله في التفسير، حيث يركِّز على الدلالة والفهم العرفي مستعيناً بأدوات الفهم اللغويَّة وبالأخبار، وأمَّا من حيث المنهج فقد سلك المنهج الموضوعيّ في التفسير.
ويقوم هذا المنهج على جمع الآيات الخاصَّة بموضوعٍ معيَّن على نحو الإحصاء، ثمَّ ترتيبها وملاحظة المناسبات والملابسات التي تحفُّ بها لتفسّر وتفهم على هذا الأساس. وهذا المنهج هو المتَّبع في بحث آيات الأحكام وآيات العقائد وآيات القصص القرآنيّ وغيرها وهو بالتالي منهج تخصصيّ يُعنى بأجزاء ومواضع من القرآن الكريم وقد نهجه كلُّ من بحث في فقه الأحكام من مختلف المذاهب الإسلاميّة حتَّى اشتهرت جملةً من كتب التفسير لكلِّ المذاهب على هذا النحو.
ومن خصائص هذا المنهج أنَّه يُحيط بالموضوع من كلِّ جوانبه ويسبر أغواره ويمكِّن الباحث من استنباط حقائق كان مغفولاً عنها، كما يُظهر الصور البلاغيَّة الرائعة للقرآن من خلال التركيز على الآيات، ويُتيح ربط الآيات ودلالاتها بعضها ببعض ليوفِّر بالتالي إمكانات أوسع لتفسير القرآن بالقرآن.
إنَّ التفسير الفقهيّ والكلاميّ هو أبرز مصاديق التفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم وهو بالتالي منهج الفقهاء والمتكلِّمين.
والشهيد الثاني قد بذل جهداً هاماً في الميدان وهو الفقيه البارع والمتكلِّم الحذق، إلا أنَّه لم يشتغل في هذا المنهج وفق الأسلوب المتَّبع لدى المفسِّر المتخصِّص، كما نجده في تفاسير آيات الأحكام مثلاً، بأن تُجمَع الآيات وفق الأبواب الفقهيَّة ثمَّ ترتَّب ويجري تفسيرها وفق كلِّ باب لاستنباط الأحكام الشرعيَّة منها، وإنَّما تعرَّض للتفسير في طي البحث الفقهيّ التقليديّ لدى الفقهاء أو الكلاميّ لدى المتكلّمين، فجاءت الآيات في سياق البحث التفصيليّ والاستدلال. وقبل عرض نماذج لهذا التفسير والإلماح إلى بعض خصائصه نذكر ما كتبه الشهيد مستقلاً في التفسير وهو قليل متواضع على النحو التالي:
نماذج من التفسير الفقهيّ
للبحث هنا مجال واسع نظراً لوفرة الجهد الفقهيّ الذي بذله الشهيد. وسنلاحظ من خلال النماذج التي نعرضها أنَّه اعتمد في تفسيره على عناصر ثلاثة هي: اللغة، والفهم العرفيّ والأخبار كما أسلفنا، بحيث أنَّ هذه العناصر الثلاثة هي التي تحدِّد المعنى النهائيّ للآية سعةً أو ضيقاً أو ترجيحاً لمعنىً دون آخر في فرض التعارض كما وقد يتصرَّف في المعنى اللغويّ اعتماداً على الأخبار.
«استطرد البحث عن مفهومها لغةً بالمعنى العام مع أنَّ المقصود هنا هو القسم الثاني للتنبيه على أنَّ مفهومها العام باقٍ عندنا على أصله، ومنه يستفاد وجوب الخمس في أرباح التجارات ونحوها لعموم قوله تعالى: }أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ{، خلافاً للعامَّة حيث خصّوها بالمعنى الثاني ونقلوها عن موضوعها اللغويِّ إلى غنائم الحرب خاصَّة أو خصَّوها به»[11].
والمراد من الأصل كما صرَّح فيما بعد هو اللغة. فعموم حكم الخمس في الغنيمة اعتمد على المعنى اللغويّ دون تصرَّف.
«حكم الشارع على من وجب عليه الكفَّارة بالعتق مرتَّب على وجود ما بالفعل أو بالقوّة، كما ينبِّه عليه قوله تعالى: }فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ... فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ{ والوجدان أعمّ من الملك لأنّه يشمل لغةً وعرفاً ما لا يملك الرقبة ولكنَّه يقدر على شرائها بما يملكه من الثمن فاضلاً عن المستثنيات كما يُعتبر فيها مع وجودها في ملكه إن تكون فاضلة عنها»[12].
فقد اعتمد في سعة معنى الوجدان ليشمل ما بالقوّة على اللغة والعرف معاً، ليلزم حكم تحرير الرقبة في الكفّارة ولا ينتقل عنها إلى صوم الشهرين المتتابعين.
ونجد الشهيد هنا قد اعتمد بالدرجة الأولى على الأخبار التي نصَّت على الإشهاد على الطلاق، فيما الدلالة اللغوية تتردَّد بين رجوع الإشهاد إلى كونه على إرجاع الزوجة قبل انقضاء عدة طلاقها وبين كونه على نفس الطلاق أو عليهما معاً.
وأمَّا ما ذكره من أنَّ الإشهاد يحتمل كونه على الرجعة لقربها. فهو احتمال ضعيف وإن كان كما ذكر قريب لعدم طول الفصل في الكلام، لكنّ الأقرب في الآية هو الطلاق أيضا، حيث قال تعالى: }فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ{ (الطلاق،2).
وعليه فالإخبار التي خصصَّت الإشهاد بالطلاق دون الرجعة أتت متوافقةً مع الأقرب بحسب اللغة أيضاً.
نماذج من التفسير الكلامي
ونعرض هنا لنموذجين من التفسير للقرآن الكريم في بحوثه الكلاميَّة.
إن قلت: هذه الآية الكريمة لا تدلُّ على المدَّعى بل على خلافه، وهو عدم اعتبار اليقين في الإيمان وذلك أنّها إنَّما دلَّت على حصر الإيمان فيما عدا الشك، فيصدق الإيمان على الظنّ.
قلت: الظنُّ في معرض الريب لأنّ النقيض مجوّز فيه ويقوى بأدنى تشكيك، فصاحبه لا يخلو من الريب، حيث إنَّه دائماً يجوز النقيض، على إنَّ الريب قد يُطلق على ما هو أعمُّ من الشكِّ، يُقال: لا ارتاب في كذا، ويريد أنَّه منه على يقين، وهذا الشائع ذائع»[14].
وبملاحظة ما ذكره نقف على معادلةٍ لغويّةٍ أقامها لتحديد معنى الإيمان. فالإيمان يساوي التصديق، والتصديق يساوي اليقين الجازم الثابث فالايمان هو اليقين، وخرج ما عداه وهو الظنُّ فضلاً عن الشك، إذ الجامع بين سائر المراتب ما دون اليقين هو الريب وقد دعم هذه النتيجة بالفهم العرفي الذي يُطلق الريب على ما هو أعمُّ من الشكِّ، ثمَّ ساق الآيات الواردة حول الموضوع هذا المساق.
وهو هنا بطبيعة الحال يذمُّ الفلاسفة ومذاهبهم في المسألة ويَنسب إليهم القول بالمعاد الروحانيّ كما يُنكر على الأشاعرة قولهم إنَّ المقصود من المعاد الجسمانيِّ هو إعادة مثل البدن لا هو نفسه. ويرى في نفس الوقت إنَّ العقل لا يستقلُّ بإثبات المعاد البدنيّ إلا بمعونة السمع. لذلك كان النصّ القرآني هو سيّد الأدلَّة لإثباته.
وقد كان الشهيد هنا شاهداً مخلصاًً على إحدى حقائق عصره في الأوساط العلميَّة، حيث لم يكن قد ظهر بعد صدر المتألهين الشيرازيّ ليُقيم الدليل الفقهيّ على المعاد الجسمانيّ بعد حوالي نصف قرنٍ من الزمان ليحقِّق انجازاً عقلياً في الفلسفة الإسلاميَّة يقوى بها الإيمان وتعتضد به حقائق القرآن.
لقد اعتمد في تفسيره على الظهورات العرفيَّة للآيات الكريمة باعتبارها المراد الجديّ للمولى تعالى على نحو لا يدع مجالاً فيها للتأويل، سوى في إثبات أصل المعاد البدنيّ، أو في كون البدن المُعاد هو نفسه الذي كان في الحياة الدنيا.
نماذج أخرى ملفتة
خارج سياق الفقه والكلام والبحث الاستدلالاليّ فيهما، نقف على نماذج تفسيريَّة أخرى متفرِّقة، برغم تواضعها ووجازتها تُلقي الضوء أكثر على خصائص التفسير عند الشهيد، تؤكِّد هويَّته العلميَّة كفقيهٍ يرى الشريعة سبيل الهداية الأوحد، وقد شكَّل ذلك محور تفكيره في كلِّ العلوم وهو ما دفعه إلى تقديم تفسيرٍ ملفتٍ لبعض الآيات لم يكن خلالها في مقام التفسير القرآني أصلاً، لكن ساقه البحث إليها. ففيما هو يبيِّن الحكمة من إنزال الشريعة قال:
«وحكمة وضعها ـ أي الشريعة ـ هداية الضَّالين عن الخطأ الزلل فبعث الله رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين، ففي الحكمة التي أخبرنا سبحانه بقوله عز وعلا: }وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً{ فدلَّنا وأرشدنا إلى ما فيه صلاحنا فله الحمد على ما هدانا»[16].
ولا شكَّ أنَّ وضع الشريعة بما هي فعل من أفعاله تعالى هي مصداق بارز من مصاديق الحكمة إذ لا يصدر عنه تعالى الفصل إلا عن حكمةٍ وهو الحكيم لكنَّ تعليم الكتاب غير تعليم الحكمة كما يرى السيّد الطباطبائي حيث يقول:
«وتعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته وتفسير ما أشكل من ذلك، ويقابله تعليم الحكمة وهي المعارف الحقيقيّة التي يتضمَّنها القرآن»[17].
ويقول في موضعٍ آخر: «فالحكمة هي القضايا الحقَّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحوٍ على سعادة الإنسان كالمعارف الحقَّة الإلهيَّة في المبدأ والمعاد والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريَّة التي هي أساس التشريعات الدينيّة»[18].
فالحكمة إذن هي الأساس الذي يستند إليه التشريع الديني، لا أنَّه نفس التشريع ولا يسمَّى به الا من باب التسمية بالنتيجة.
وشتَّان بين النظريتين: نظرة الشهيد الثاني ونظرة السيّد الطباطبائي ففي حين ينظر الشهيد إلى الحكمة من نظرةٍ تشريعيّةٍ ويطبِّقها على وضعها، يَنظر السيد الطباطبائي اليها من زاوية اعتقاديَّة ويرى أنَّها «الحقّ من أصول الاعتقادات الباطلة والخرافيَّة التي دبَّت في أفهام الناس من تصوّر عالم الوجود وحقيقة الإنسان الذي هو جزء منه، كما تقدَّمت الإشارة، وما هو الحقُّ في الاعتقادات الفرعيَّة المترتِّبة على تلك الأصول ممَّا كان مبدأ للأعمال الإنسانيّة وعناوين لغاياتها ومقاصدها»[19].
والنموذج الآخر هو ما جاء في رسالة الأسئلة المازحية حيث سأله الشيخ أحمد العاملي عن قوله تعالى: }وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله{ (البقرة، 284).
«فهل نحاسب على ما يَخطر في النفس من عزمٍ على ترك واجبٍ أو فعل قبيحٍ أم لا؟ الجواب: المراد من الآية ما يتناوله الأمر والنهي من الاعتقادات والإرادات ممَّا هو مستودعنا ويُمكن المكلف نفيه وإثباته، فأمَّا ما لا يدخل في التكليف من الهواجس النفسانيَّة والوساوس وما لا يمكن التحفَّظ عنه من الخواطر فخارج عن ذلك، لقولهP: «عفي لهذه الأمَّة عمَّا حدَّثت به أنفسها»، والعقل يدل على ذلك ايضاً»[20].
ومراده من العقل هو إدراكه قبح التكليف بغير المقدور لأنَّ الهواجس والوساوس ممَّا لا يُمكن الاختيار فيها.
ونلحظ غلبة الاهتمام الشرعيّ على فهم الآية فبين ما هو محلُّ التكليف والمحاسبة دون الالتفات إلى الأبعاد الأخرى المتَّصلة بالنفس الإنسانيَّة مثلاً كما فعل غيره من المفسِّرين كالسيِّد الطباطبائي الذي وإن قارب المعنى المذكور لجهة أنَّ المحاسبة لا تشمل الهواجس والوساوس والتصوَّرات الساذجة، لكنَّه ومع الاستعانة بالعرف واللغة حدَّد موضوع الحساب بالمستقرِّ في النفس من الملَكَات والصفات من الفضائل والرذائل كالإيمان والكفر التي تصدر عنها الأفعال من الطاعات والمعاصي، فالله تعالى يُحاسب الانسان بها كما في قوله تعالى: }لاَ يُؤَاخِذُكُمْ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ{(البقرة، 225)، وبعبارةٍ أُخرى حدَّد موضوع المحاسبة للإنسان بحسب الآية الكريمة بشرطين: الأوَّل أن يكون ممَّا استقرَّ في النفس على نحو الملكة سواء أظهره أم لا، والثاني أن يكون منشأً لصدور الفعل[21].
لقد حاولنا بحدود الفرصة السانحة وقلَّة المادَّة العلميَّة المتعلِّقة بتفسير القرآن الكريم عند شهيدنا الثاني العاملي، أن نكشف عن جوانب من تفسيره، وهو أمرٌ ليس بالهيِّن ودونه عقبات، ممَّا يفسِّر قلة الباحثين الأفاضل الذين طرقوا هذا الباب، وما توفيقنا الا بالله تعالى.
[1](*) أستاذ في الحوزة العلمية - لبنان
[2] انظر امل الامل، ج 1/ ص86، تحقيق السيد احمد الحسيني.
[3] انظر رسالة الاقتصاد، ص 175.
[4] المصدر السابق، ص 174.
[5] انظر رسالة الاقتصاد، ص 182.
[6] انظر المصدر السابق، ص 179.
[7] انظر نسخة الرسالة في مكتبة آية الله المرعشي العامة رقم 1259.
[8] انظر رسالة الاقتصاد، ص197-198.
[9] النظر إلى مصدر السابق، ص198.
[10] انظر إلى المصدر السابق، ص198.
[11] انظر مسالك الإفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، ج1، كتاب الجهاد، ص 157 من الطبعة الحجرية.
[12] انظر إلى المصدر السابق، ج2، خصال الكفارة، ص89 من الطبعة الحجرية.
[13] انظر مسالك الإفهام، ج2، كتاب الطلاق ص 18 من الطبعة الحجرية.
[14] انظر رسالة حقائق الإيمان، ص56-57.
[15] انظر رسالة حقائق الإيمان، ص 160- 161.
[16] انظر رسالة الاقتصاد، ص 168.
[17] الميزان في تفسير القرآن، ج 19 / ص 265.
[18] الميزان في تفسير القرآن، ج 2 / ص 395.
[19] الميزان في تفسير القرآن، ج 19 / ص 271.
[20] رسالة الاسئلة المازحية، المسألة 75، ص 232.
[21] الميزان في تفسير القرآن، ج 2/ / ص 436
دروس قيّمة مستلهمة من سيرة الشهيد الأول
الشيخ محمود محمدي عراقي (*)
العالم المجاهد والفقيه المجدد والمحدث والمتكلم والاديب الكبير، الشيخ الشهيد السعيد ابو عبد الله محمد بن مكي بن محمد بن حامد المطلبي الجزيني العاملي، الملقب بشمس الدين، والمعروف باسم الشهيد الأول، والذي يسمى باسم الشهيد على الاطلاق. كان من ابرز العلماء في الفقه والاصول والادب. هو أشهر فقهاء الامامية. ولد في احدى قرى جبل عامل سنة 734هـ. تتلمذ على ابيه، وعلى عمه اسد الدين صائغ، الذي كان عالما ذا فنون، حتى في الرياضيات والعلوم الحديثة. رحل الى مدينة الحلة في العراق، والتي كانت من افضل الحوزات العلمية يومذاك، سنة 751، حيث أخذ عن كبار الاساتذة والمشايخ، معظم العلوم الدينية، مثل: الفقه والاصول والحديث والقراءة وتفسير القرآن. منهم فخر المحققين محمد بن العلامة الحسن بن المطهر الحلي، وعميد الدين عبد المطلب بن محمد بن اعرج الحسيني.[1]
الظاهر انه بقي في الحلة الى سنة 755، وأتقن الفقه والأصول والحديث وعلم الرجال هناك، ثم عاد الى موطنه سنة 757، حيث أسس مدرسة علمية ودرس ونشر علومه بها. - وبلا الشام ومنها جبل عامل من أقدم البلاد الاسلامية واهلها اسلموا على يد الصحابي الكبير المجاهد ابي ذر الغفاري M، إذ نجد حتى اليوم بعض المساجد في جبل عامل يسمى باسمه في منطقة ميس الجبل وغيرها من القرى – وقد ظهر من جبل عامل، هذه الارض المباركة المتصلة بفلسطين والقدس الشريف، علماء كبار مثل الشيخ البهائي العالم العظيم المتفنن في جميع العلوم في زمانه. ومنهم الشيخ لطف الله الميسي والشهيد الثاني والمحقق الثاني والعلامة المحقق السيد محسن الأمين والسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (رضوان الله تعالى عليهم اجمعين).
مكانته العلمية:
كفى به فخرا في تعريفه وفضل علمه ونبوغه وعبقريته، ان استاذه فخر المحققين كتب في اجازته في شهر شوال عام 756م، حين كان عمره اثنين وعشرين سنة فقط، فوصفه يقول: «مولانا الإمام العلامة الاعظم افضل علماء العالم سيد فضلاء بني آدم شمس الحق والدين محمد بن مكي بن محمد بن حامد [2] (ادام الله ايامه)». وأضاف إلى هذا قائلا: «إنني استفدت منه اكثر مما تعلم مني». وهذا الكلام وان صدر نتيجة تواضعه M، ولكن فيه دلالة واضحة على المقصود من علميته ونبوغه. وهكذا اجاز احد كبار علماء اهل السنة الملقب بشمس الائمة الكرماني والشافعي، الشهيد في جمادى الأولى عام758م، حينما كان ابن اثنين وعشرين ربيعا ووصفه بقوله: «المولى الاعظم الاعلم امام الائمة صاحب الفضلين مجمع المناقب والكمالات الفاخرة جامع علوم الدنيا والآخرة شمس الملة والدين»[3]...
واخيرا كفى في عبقريته العلمية انه اتم كتابة اللمعة الدمشقية في الفقه الامامي في مدة سبعة ايام، حسب نقل ولده. مع العلم أنه لم يكن عنده إلا مصدر واحد، هو كتاب «مختصر النافع» في علم الفقه. وقد وضع «اللمعة»، إجابةً لطلب علي بن مؤيد، آخر حاكم من نحلة السربدارية في خراسان. ومع ذلك أصبح هذا الكتاب محط انظار اكثر العلماء من جهابذة الفقهاء شرحًا وتفسيرًا، حتى بلغ عدد الشارحين والمعلقين عليه أكثر من عشرين.
في هذه الورقة التي قدمتها الى هذا المؤتمر المبارك، والتي رتبتها على مقدمة وخمسة فصول، أريد ان اذكر بعضا من اهم خصوصياته وصفاته في سيرته العلمية والعملية التي يمكن ان نتعلم منها دروسا قيمة وتجارب ثمينة في زماننا هذا. ومعظم هذه الدروس في مجال التحقيق والتدريس والتبليغ والتعامل مع علماء المذاهب والحضور في المراكز العلمية والدينية وغيرها.
الدرس الأول:
سلوكه الوحدوي واهتمامه بالتقريب والحوار بين المذاهب الاسلامية:
عندما نتابع حياة الشهيد ونشاطاته العملية والعملية، نرى انه بعد اتمام التحصيل للعلوم الدينية في العراق، لم يعد مباشرة الى موطنه، مكتفيا بهذا القدر من العلم الذي حصل عليه، على الرغم من الشوق الى زيارة الاهل والوطن، بل جال على المراكز العلمية عند علماء أهل السنة، ليطلع اولاً، على المخزون العلمي والفكري لدى فقهائهم، وثانيًا، كي ينشئ علاقة تمهد لمشروع يفتح بابا كبيرا للحوار والتفاعل بين رؤى المدرستين الكبريين في الاسلام. وكذلك يؤسس لانماط من العلاقات المتنوعة، لقطع الطريق على من يريد الاضرار بالمصالح الكبرى للامة الاسلامية واستغلال تفككها. ولهذا نقرأ في قصة حياته، انه اتجه في عام 758هـ إلى بغداد، وأقام بها مدة من الزمن، حيث درس على عدد من فقهاء اهل السنة، منهم شمس الأئمة الكرماني، ومحمد بن سعيد القرشي، الفقيه الشافعي، وفق ما أشار إليه ابن الجزري في طبقات القراء. ثم غادر بغداد باتجاه عواصم وبلاد أخرى في العالم الاسلامي، ذات طابع علمي آنذاك، مثل دمشق والقاهرة ومكة والمدينة والخليل، مدينة ابراهيم في فلسطين، واخذ بها عن نحو اربعين شيخًا من علماء اهل السنة، على حد تعبيره. وروى عنهم صحاحهم، وكثيرًا من مصنفاتهم التي احصاها في اجازته، مع اسماء مؤلفيهم، مكتوبا بقلمه الشريف لتلميذه ابن الخازن الحائري في دمشق سنة 784م[4].
وبعد هذه الرحلات العلمية اصبح الشهيد في عصره مرجعا كبيرا في العلوم الشرعية، فاطلقوا عليه فقيه الآفاق. حتى إن كاتب السيرة المبدع محمد باقر الخوانساري المتوفى سنة 1313، وصفه فقال: «وكان بعد مولانا المحقق على الاطلاق، افقه جميع فقهاء الآفاق، والمقصود بالمحقق على الاطلاق هو العلامة الحلي». وتلك الرتبة كانت معروفة له في ذلك العصر عند سائر المذاهب.
وكان الشهيد يلقي محاضرات قيمة في مناهج الاستنباط والفقه والاصول والحديث والكلام، ويدرس في حلقات متنوعة على المذاهب الفقهية الخمسة في البلاد المختلفة، سواء في لبنان أم دمشق أم فلسطين أم العراق، وأصبح ذا مكانة عالية في مختلف البلاد الاسلامية ولا سيما سورية ولبنان.
وبعد هذه الرحلات الكثيرة والطويلة، وتنقله ووجوده في كثير من المدارس الفقهية ومراكز العلم، وحضوره عند علماء الشيعة والسنة، استطاع الشهيد ان يتحول الى رمز كبير في العالم الاسلامي. ومن هنا يظهر لنا ان الشهيد كان يرصد الاوضاع في العالم الاسلامي، ليحضّر لابداع منهجية جديدة ومشروع كبير يخدم المسلمين عامة، لا مذهبا خاصا أو طائفة خاصة، مستفيدا من الظروف الاجتماعية والسياسية في ذلك العصر. ولكن – للاسف - لم تكن الظروف متوائمة مع هذا الفكر المنفتح، فواجه الشيخ عصبية بغضاء، وفي النهاية افتدى بنفسه هذا المنهج. ومن هنا ينبغي ان ننطلق الى موضوع مهم آخر، وهو رصد الاوضاع الاجتماعية والسياسية في عصره، وما نتعلم منه كعالم بصير بزمانه.
الدرس الثاني:
رصد الاوضاع الاجتماعية والسياسية في عصر الشهيد الأول.
كان العلامة الشهيد يعيش في ظروف قاسية جدًا، فالاحتلال الصليبي من جهة، وظلم الحكام المستبدين في الداخل، من جهة أخرى.
ويصف السيد حسن الأمين أحوال اهل جبل عامل في ذلك العصر فيقول:» كان اهل هذا الجبل يعيشون الغربة في اوطانهم، ويدفعون الجزية للافرنج، الذين يشاطرونهم الغلات، ويعيشون في فقر وبؤس». ولا شك ان دور العلماء المجاهدين والفقهاء العاملين في هذه الظروف مهم جدا، في حفظ هوية اللمسلمين وتوعيتهم، والحق ان العلامة الشهيد، قد اضطلع بهذه الرسالة كعالم عارف بصير بزمانه، وهذا هو الدرس الكبير الذي نتعلمه من سيرته. فقد جاء رفضه لطلب حاكم ولاية خراسان، المسمى بعلي بن المؤيد، حينما دعاه اليها ليكون مرجعا تاما ورئيسا للطائفة هناك، وذلك لعلمه بان اعباء المسؤولية في هذه المنطقة الاستراتيجية ثقيلة جدًا، وما سيحصل من تداعيات لن يتمكن احد من تحملها مثله. نعم هو حقا بطل من ابطال الوحدة الاسلامية، ومؤسس للحوار والتقريب بين المذاهب، ورافض لفكرة اقصاء الآخر لمجرد الاختلاف في الراي. وحقيق بنا ان نعد الشهيد من اكبر رواد الحركة الاصلاحية في زمانه، وهو جدير بان يحتل مكانة علمية واجتماعية مرموقة، بين الخبراء والمنصفين من علماء الفريقين، الذين كانوا ينظرون اليه بعين الاحترام، فيحضرون في بيته، ويجتمعون لديه للبحث والمناقشة والاستفادة من فكره وحل المشاكل الفكرية والكلامية وغيرها، على العكس ممن يتلبس بزي العلماء من المتعصبين الذين يخفون في قلوبهم الحقد والحسد، فكانوا يتآمرون عليه دائمًا، حتى رموا به في السجن، وقضوا عليه في نهاية المطاف.
الدرس الثالث:
اهتمامه بتصنيف الكتب والمتون الدراسية
في رايي المتواضع، ان من لامور المهمة التي ينبغي ان نتعلمها من علمائنا الماضين ومن اكبرهم الشهيد الاول، هو اهتمامه بتصنيف الكتب والمراجع الخاصة للتعليم والتدريس في مختلف السطوح والمستويات، وصرف عمرهم واوقاتهم فيه. ولا شك ان للشهيد منهجا خاصا يظهر من تصانيفه، مثل الكتاب المسمى بـ«الدروس»، الذي صنفه الشهيد خاصة لتعليم الطلاب وتدريس المتعلمين، وفق ما يظهر من اسمه. وكذلك سفره القيم في الفقه الاسلامي، المسمى بـ«اللمعة الدمشقية»، وهو وإن لم يصنفه للتعليم مباشرة بل تلبية لدعوة والي خراسان وزعيم النهضة السربدارية، إلا أن اسلوبه البديع وايجازه الجميل، جعلا منه ومن شرحه المرموق، المكتوب بيد الشهيد الثاني، والمسمى بـ«الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية»، مجموعة قيمة لتعليم الفقه، خلال موسوعة دراسية جامعة، ما زالت تُدرس منذ القرون السابقة وحتى اليوم في الجامعات والحوزات العلمية، ولم يوجد لها بديل حتى الآن.
ومن حسن حظ علماء الاسلام من الفريقين، الإقبال على هذا السفر الثمين، بما انه مجموعة كاملة في الفقه الاسلامي على مذهب اهل البيت، مع الاحترام الكامل لآراء سائر المذاهب. ولذلك نرى انه طُبع في العقود الأخيرة على ايدي مؤسسي دار التقريب بين المذاهب الاسلامية في القاهرة، وقدم له عالمان من العلماء الكبار في هذا العقد من السنة والشيعة، اولهما سماحة العلامة الشيخ محمد تقي القمي M، السكرتير العام لجماعة التقريب، الذي جاء ببيان تاريخي كامل في موضوع فتح باب الاجتهاد، وقص قصة مرة في عوامل انسداده. وثانيهما، مقمة تفصيلية بقلم سماحة الشيخ عبد الله سبيتي، من كبار علماء الأزهر في القاهرة.
الدرس الرابع:
مدرسته الراقية في الفقه وآفاقه العلمية في العلوم الاسلامية:
آراء الشهيد في الفقه والأصول، وكذا في الحديث والتفسير عظيمة وبديعة، وخصوصًا آثاره ورسائله في مختلف الفصول والأبواب الفقهية، والتي تبلغ ثلاثين، شاهد قوي على اختصاصه في الفقه والأصول. ولكن مدرسته الخاصة في دراسة الفقه الإسلامي عمومًا، والفقه الإمامي خصوصًا، لها ابعاد وخصوصيات ينبغي دراستها وتحليلها علميًا، لناخذ منها ما نحتاج اليه في عصرنا هذا، ومنها:
- اهتمامه واعتقاده بالترابط الوثيق بين العقل والشرع، وتاكيده على مقاصد الشريعة في آرائه وآثاره ومصنفاته، خصوصًا في كتابه المشهور «القواعد والفوائد»، الذي وصفه بالضوابط الكلية في اجازته لابن الخازن، في الثاني عشر من شهر رمضان عام 784، إذ قال فيها: «فمما صنفته كتاب القواعد والفوائد في الفقه. مختصر يشتمل على ضوابط كلية اصولية وفرعية تستنبط منها احكام شرعية لم يعمل للاصحاب مثلها» [5].
ولا يخفى أن هذا الكتاب ليس فقهيا فقط، بل يشتمل على اصول الفقه وبعض القواعد العربية، ذات الطابع الفقهي، وهو الغالب عليها. كذلك يشير الى ابداعاته فيها أحد المحققين والشارحين لها، بانها تحقيقات، هي لطائف الأسرار، واحتوت على اعتبارات، هي عرائس الأفكار[6]. وينبغي أن نشير هنا الى ان هذا الموضوع والتصنيف فيه، خصوصًا في موضوع علل الشرائع ومقاصد الأحكام، ليس من ابداعات الشهيد، بل كتب فيه عدد من علماء الامامية، منهم شيخ المحدثين الصدوق{، في اثره القيم «علل الشرائع». ومن علماء السنة، كان الامام محمد ابو حامد الغزالي، متقدمًا في ذلك الأمر.
ومنها تقسيمه أحكام الشريعة الى العبادات والسياسات، واهتمامه بالاحكام السياسية ومباحث الحكومة الاسلامية، ولا سيما آراؤه في ولاية الفقيه العامة، والتأكيد على الاستدلال العقلي والنقلي لاثباتها وبيان احكامها. ومما اشتهر عنه التفريق بين الحكم والفتوى. وهذا الموضوع من اهم المطالب للرد على القائلين بالفصل بين الدين والسياسة، الذي استوحي من الآراء السائدة في العالم الغربي. وللأسف، شاعت كنظرية شاملة بين المسلمين في العصور الأخيرة. والإمام الخميني في عصرنا هو الرائد الكبير والفقيه المجاهد، الذي رد على هذا الراي الفاسد في اكثر كتبه ورسائله، من خلال تأكيده على توحيد الفكر الاسلامي وعدم الفصل بين العبادة والسياسة، حتى وصف صلاة الجمعة ومناسك الحج بانهما اعمال ومناسك عبادية وسياسية معًا. والذي يلفت النظر أن سماحته في بيان حكمة بعض الأحكام، يأخذ وينقل عن العلماء السابقين، كما في سفره القيم المسمى بـ«أداب الصلاة»، ففيه بعض الكلمات المستفادة من كتاب «علل الشرائع» للصدوق (ره).
ومنها اهتمامه بتعليم النساء على طريق الاجتهاد. فنقرأ في التاريخ أن زوجته المكناة بـ«أم علي»، وكذلك ابنته أم الحسن، كانتا فقيهتين، وفق ما يقول الشهيد الثاني: «رأيت بخط السيد الجليل تاج الدين بن معية، إجازته لاستاذنا شمس الدين محمد (يعني الشهيد الأول)، وابنيه محمد وعلي، وأيضًا لأختهما فاطمة، أم الحسن».
وهكذا ذكر العلامة السبيتي في مقدمته على اللمعة الدمشقية في وصف حالها: «هي فاضلة من فضليات النساء. وكانت من الأعلام. وكان ابوها يأمر النساء بالرجوع إليها في الأحكام.
الدرس الخامس:
وماذا بعد الجهاد العلمي والعملي المستمر، والصبر في اصعب الظروف في سبيل الهدف؟
إن الدرس المهم الذي نتعلمه منه في ختام حياته، هو تلك الصفحة الذهبية الأخيرة من دفتر عمره الشريف، الذي ختمه بدمه المقدس، وهو استشهاده في سبيل حرية الفكر والاجتهاد، حينما كان عمره اثنتين وخمسين سنة، في يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى سنة 786. وهذا آخر ما علمناه في حياته، وهو درس الصبر والاستقامة، وتحمل السجن والتضييق في جهاده العلمي والعملي في سبيل الله تعالى. والملفت للنظر والجدير بالاعتبار، ان هذا العالم الورع والفقيه الكبير النحرير حسب النقل، بعدما حبس مرتين، قتل بالسيف ثم صلب ثم احرق جسده الشريف. وروي انه رجم قبل الاحراق. ومن العجيب ان قتله ورجمه وحرقه لم يكن بيد الأعداء، بل بحكم قضاة المسلمين، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وهذا في ظني من اهم الدروس واكبر العبر في يومنا هذا، ونحن نشهد كل هذا التطرف والفتن الطائفية.
وعلينا أن نتعلم من الحوادث المرة في تاريخ الاسلام، ونعلم أن الفتنة الطائفية لو خلّيت وسبيلها، ستجر المجتمع الاسلامي والديني إلى الزوال والانهدام.
وفي الختام ايها الاخوة الكرام من العلماء والمثقفين والفضلاء، ألا يجب علينا ان ننظر بعين الاعتبار الى منطقةجبل عامل، وخصوصًا الى جزين، التي مر عليها زمان كانت فيه مركزا مهما للعلم والدين والثقافة الاسلامية، فنقل في التاريخ أنه حضر في تشييع احدى الجنائز سبعون مجتهدا في زمن الشهيد الثاني. واليوم - للأسف - لم يبق من المدارس والمراكز التعليمية عين ولا أثر، فضلاً عن العلماء والفضلاء. وعلينا ان نستذكر اننا بحاجة الى استرجاع ذلك التالق العلمي والفقهي والاجتهادي المنفتح على الزمان والمكان في عصرنا هذا، لنقدم خدمات جلّى للبشرية الظامئة الى الافاق المعنوية والقيم الانسانية، فالعلم يجمع، بينما الجهل يفرق. فإلى مزيد من استلهام دروس أولئك العظام، الذين كانوا خيرًا وبركة ونفعًا لكل الناس، في كل زمان وفي كل مكان.
[1](*) عضو اللجنة المركزية في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية - ايران .
[2] بحار الانوار المجلد 107 الصفحة 178
[3] بحار الانوار المجلد 107 الصفحة 183
[4]راجع المجلد الخامس والعشرين من بحار الأنوار للعلامة المجلسي تجد فيه اسماء كثيرة للعلماء منهم من تلقى اجازة من الشهيد وبعضهم من وصف بما يشعر بانهم من تلاميذه وكثير منهم تدل القرائن على انهم من معاصري الشهيد. واذا اردت معلومات اكثر راجع موسوعة الشهيد الأول وهكذا موسوعة اعلام الدعوة والوحدة والاصلاح لمؤلفه المحقق الشيخ محمد الساعدي صفحة 471.
[5] انظر بحار الانوار المجلد 107 الصفحة 187
[6] راجع الباب الثالث من المجلد الأول من موسوعة الشهيد الأول رقم الصفحة 366
الشهيدان برؤية حضارية
د. محمد علي آذرشب (*)
العودة إلى التاريخ ـ إذا كان بذهنية واعية ـ يستطيع أن يكون فرصة للانطلاق نحو المستقبل، خاصة حين يتناول أسباب التقدم والتخلّف على الساحة التاريخية، وحين يحاول اكتشاف السنن التي تتحكم في هذه الساحة.[1]
أصحاب المدارس الفكرية، الإسلاميون منهم وغير الإسلاميين اتجهوا إلى اكتشاف هذه السنن لتوضح لهم معالم الطريق. السيد الشهيد محمد باقر الصدر عَمَدَ إلى ذلك في محاضراته عن التفسير الموضوعي، وقبلَه حاول ماركس في رأس المال، وبعده فوكوياما في نهاية التاريخ والإنسان الأخير.
تاريخ الأمم والشعوب، بل والأفراد، يستطيع أيضاً أن يَكْشِفَ لنا حقائق هامة في هذا الصدد، وكان للمسلمين اهتمام بهذا الأمر منذ القديم على نحو ما فعل ابن خلدون في العِبر وابن مسكويه في تجارب الأمم.
الاهتمام بهذا الأمر يستند إلى خلفية ضرورة الاستفادة من الماضي للانطلاق نحو بناء المستقبل. وهذه هي الرؤية الحضارية لتاريخ الأفراد والجماعات. فالحضارة في فهمنا هي نتاج الحركة المستقبلية للإنسان في المجالين المعنوي والمادي، وهذه الحركة المستقبلية وليدة طبيعة الإنسان الحيّة التوّاقة إلى الكمال.
نحن اليوم أمام شخصيتين في تاريخنا العلمي استطاعا أن يخلدا على مرّ القرون، وتذكرهما الأجيال بإكبار وإجلال لما اضطلعا به من دور علمي وعملي. فما هو سبب ارتفاعهما إلى مستوى البقاء والخلود والعطاء المستمر؟
نحن نعتقد أنّ السبب يعود إلى أن المشروع الحضاري الإحيائي الإسلامي قد تجلّى فيهما فكانا حيين وإحيائيين.
معنى الإحياء
الإحياء هو هدف الإسلام النهائي، بل ويمكن تلخيص المشروع الإسلامي بأجمعه في الإحياء لقوله سبحانه: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ{ والإحياء هو تفعيل «نفخة روح ربّ العالمين» في الكائن الإنساني.
القرآن يرى أن الإنسان مخلوق من طين: }إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ{ وهذا الطين يمثّل الجانب الهابط من الإنسان ـ كما يقول الشهيد الصدر ـ وفيه نفخة من روح ربّ العالمين: }فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي{ وهذه النفخة تؤهّل الإنسان لأن يتكامل مادياً ومعنوياً، دون حدّ لهذا التكامل.
إذا ابتعد الإنسان عن المثل الأعلى السامي فإنه يقبع في الظلمات، ويعيش لأهوائه وشهواته، ويكون مثله الأعلى ـ أو إلهه بالتعبير القرآني ـ هواه: }أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ{.
الدين ينتشل الإنسان من الظلمات إلى النور: }يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ{، وفي النور يرى الجمال فيعشق ويتحرك نحو المثل الأعلى المطلق سبحانه. نحو البناء الحضاري.
الذاتية
الذاتية هي الانغماس في خصلة الطين، وهي أكبر صنم يقف حائلاً أمام تكامل الإنسان والمجتمع.
والاحيائيون جميعاً حاولوا تحرير الإنسان من هذه الذاتية الضيقة، وتحريكه نحو مثل أعلى خارج ذاته، وإيجاد الدافع لهذه الحركة.
الإنسان الغارق في ذاتياته قد يتحرك في مسير يبدو أنه يستهدف خدمة دينية أو اجتماعية، لكنه في الواقع يكرّس ذاته. وهذا هو «الرياء» الذي دعا الإسلام إلى محاربته في النفس، وأطلق على هذه الحرب اسم «الجهاد الأكبر».
الذاتية تحول دون بروز مظاهر الحياة في الفرد والمجتمع، بل تؤدي إلى التخلف على المستوى الفردي والاجتماعي، وإلى ألوان الصراع والنزاع، وألوان السلبيات السلوكية كالحقد والحسد.
مظاهر الحياة الحضارية وتجلياتها في حياة الشهيدين
التعارف
التعارف في المنظور القرآني هو سبب التنوع في البشرية: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا{. واضح أن التعارف هنا يعني «التبادل المعرفي». فالله سبحانه شاء أن يكون كل من الذكر والأنثى ذي طبيعة خاصة، ومعرفة أحدهما الآخر يشكل قاعدة هامة للتكامل والنماء الإنساني. وهكذا الشعوب والقبائل، لكل منها من المعارف ما يحتاجه الآخر. والتعارف بينها يؤدي إلى النماء والكمال. ولعلّ ذلك هو سبب نشوء الحضارات بعد هجرات الشعوب من مكان لآخر، إذ يؤدي ذلك إلى تعارف الشعوب.
ومن الطبيعي أن التعارف يتطلب حياةً تُخرج الإنسان من محيطه المحدود، وتجعله ينطلق في الكون الفسيح. وفي حياة الشهيدين الأول والثاني نرى مظاهر حركة دائبة على ساحة العالم الإسلامي. الشهيد الأول يغادر جبل عامل إلى الحلة ثم إلى بغداد ودمشق والقاهرة ومكة المكرمة والمدينة المنورة ومقام إبراهيم، والشهيد الثاني غادر جبل عامل إلى دمشق ثم إلى مصر وإلى بيت المقدس.
هذه الحركة العلمية الدائبة، مظهر هام من مظاهر التعارف والتكامل والتحضّر. لقد كانت موجودة على صعيد العلماء والأدباء بقوّة في عصر ازدهارنا الحضاري، نلمس ذلك من حركة العلماء بين خراسان والأندلس، وحركة الأدباء بين حواضر العالم الإسلامي. كان هذا التحرك موجودًا على الرغم من مشاق السفر وأخطاره.
ولا بدّ ونحن نستشرف مستقبلنا الحضاري أن نجعل خروج العلماء من بيئتهم المحدودة أحدَ معايير التقويم العلمي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تتوفر للعلماء والمثقفين سبل التواصل العلمي والثقافي، خاصة ونحن نعيش إرهاصات ربيع إسلامي تتجه فيه رقابات القوى الطاغية وضغوطها نحو الزوال.
الاستماع
الاستماع يحتاج إلى الخروج من الذاتية. فالغارق في ذاتيته يتكلم فقط، ولا يسمع. وإذا رأيته ساكتاً أمام مُحاوِر يكلّمه فإنه يتكلم مع نفسه ليردّ. فلات ثمة استماع. والسبب ـ كما ذكرنا ـ هو الذاتية التي تتحول إلى صنم وإلى طاغوت بالتعبير القرآني. السماع يتحقق حين يتحقق اجتناب الطاغوت. والقرآن الكريم يذكر هذه العلاقة بوضوح في آيتين متواليتين: يقول سبحانه: }وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ{.
في حياة الشهيدين نرى شوقاً إلى الاستماع، أو ما يسمى اليوم الانفتاح على الآخر. فقد حرصا على أن يستمعا للآخر في الفقه والحديث والقراءات والعلوم الأخرى. كما أنهما درّسا الفقه والحديث على غير مذهبهما، ودرّسا الفقه المقارن على المذاهب الخمسة.
الفكر المقاصدي
فكر الإنسان الذي يعيش لذاتياته ضيّق، لأنه يدور في إطار المصلحة الشخصية. الإسلام لدى الذاتيين يتحول إلى دكّان، وهؤلاء يحاربون كل من يهدّد دكانهم بخطر. أما المتحررون من ذاتيتهم فيتجهون إلى التفكير في مقاصد الإسلام الكبرى.
الاتجاه الفكري لدى الشهيدين نحو واجب العلماء في رعاية شؤون الأمة والدفاع عن مقدراتها وتطبيق الشريعة ضمن مشروع ولاية الفقيه يأتي في هذا السياق.
الوحدة
الوحدة من مظاهر الحياة، فالجسم الحيّ مترابط في وحدة عضوية «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى». والأحياء يميلون دائماً إلى البحث عن سبل الوحدة والوئام والاشتراك، والذين يفتقدون عناصر الحياة يميلون إلى التمزيق والتفتيت والبحث عن المستفزات ومواطن الافتراق. وإذا وجدتهم يأتلفون مع أحد فإنما يتخذونه شقة أخرى من المقصّ فيكونون معه كشقّي مقصٍّ تجمعتا على غير شيء سوى التفرقة.
في حياة الشهيدين مظاهر بارزة للوئام بين الأمة، نجده في موقفهم من الدولة العثمانية وفي ارتباطهم بعلماء العالم الإسلامي، وفي خطابهم العلمي والثقافي، وهي تبلور هذه الروح الحيّة الحضارية التوّاقة إلى وحدة الأمة.
العشق
العشق من أبرز مظاهر الحياة. وهو الحرقة التي تضطرم في نفس الإنسان شوقاً إلى الجمال، ومن مظاهر العاشق أنه يعزف عن البطر والراحة والدعة، ويتحرك نحو كل جميل من كرم وأريحية وإباء نفس وعطاء وانسجام ووئام. نلاحظ ذلك في سيرة العاشقين جميعاً، ومنهم الشهيدان. الشهيد الأول يُنشد ما يبيّن ارتفاعه إلى مستوى كبار العاشقين يقول:
ليس التصوّف عُكازاً ومسبحة
كلاّ ولا الفقر رؤيا ذلك الشرف
وأن تروح وتغدو في مرقّعة
وتحتها موبقاتُ الكبر والسّرَف
وتُظهر الزهدّ في الدنيا وأنت على
عكوفها كعكوف الكلبِ والجيفِ
الفقر سِرٌّ وعنك النفس تحجبُهُ
فا رفع حجابك تجلو ظُلمة التلفِ
وفارق الجنيس واقدِ النفس في نَفَس
وغِبْ عن الحسِّ واجلب دمعة الأسفِ
واتل المثاني ووحّد إن عزمت على
ذكرِ الحبيب وصف ما شئت واتصفِ
إلى أن يقول:
وإن سقاك مدير الراحِ من يدهِ
كأسَ التجلّي فخُز بالطاسِ واغترفِ
واشرب وإسقِ ولا تبخل على ظمأٍ
فإن رجعت بلا رِيٍّ فوا أسفِ
ولعلّ ما ذكر من اهتمام الشهيد الأول بأسرته علمياً وفقهياً وسلوكياً يصبّ في صفة العاشقين، فزوجته أمّ عليّ فقيهة وابنته ستّ المشايخ فقيهة.
وما ذكره الملازمون للشهيد الثاني يدلّ على ذوباته في المعشوق. قيل عنه: «لم يصرف لحظة من عمره إلاّ في اكتساب فضيلة. ووزع أوقاته على ما يعود نفعه في اليوم والليلة إليه. أما النهار ففي تدريس ومطالعة وتصنيف ومراجعة، وأما الليل فله فيه استعداد كامل لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل»، و«هذا ما غاية اجتهاده في التوجّه إلى مولاه، وقيامه بأوراد العبادة حتى تكلّ قدماه، وهو مع ذلك قائم بالنظر في أحوال معيشته على أحسن نظام، وقضاء حوائج المحتاجين بأتمّ قيام، يلقى الأضياف بوجه مسفر عن كرم كانسجام الأمطار».
وقال من لازمه أيضاً: «ولقد شاهدت منه سنة ورودي إلى خدمته أنه كان ينقل الحطب على حمار في الليل لعيالِهِ، يصلّي الصبح في المسجد ويشتغل بالتدريس بقيّة نهاره». وقال: «وكان شيخنا المذكور مع ما عرفت يتعاطى جميع مهمّاته بقلبه وبدنه، حتى لو لم يكن إلا مهمّات الواردين عليه، ومصالح الضيوف المترددين إليه، مضافاً إلى القيام بأموال الأهل والعيال، ونظام المعيشة وأسبابها من غير وكيل ولا مساعد يقوم بها. حتى أنه ما كان يعجبه تدبير أحد في أموره..».
هذه بعض معالم التوجّه الحضاري لدى الشهيدين. وجدير بنا ونحن نتطلع إلى مستقبل حضاري تعود فيه الحياة إلى هذه الأمة أن نقرأ تراثنا وشخصياتنا وتاريخنا بنظرة حضارية نستجلي فيها منعطفات منحى الحركة الحضارية فيما مرّ على أمتنا لبناء مستقبلنا الحضاري الذي يرفعنا ـ بإذن الله ـ إلى مستوى الأمة الشاهدة الوسط على الساحة العالميّة.
[1] أستاذ في جامعة طهران.
أعمال جلسات المؤتمر
اليوم الثالث:
الخميس 2 حزيران 2011م -بعلبك - قاعة الشهيد السيد عباس الموسوي (رض)
الجلسة السادسة والختامية
برئاسة الشيخ محمد يزبك
نائب الرئيس السيد هاشم الشخص
تلى الجلسة جولة في المنطقة للمشاركين، شملت زيارة لمقام السيدة خولة بنت الحسينL وآثار مدينة بعلبك والمدرسة النورية، كذلك زيارة مقام نبي الله شيثQ وضريح سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي{ في بلدة النبي شيث البقاعية.
بين يدي الشهيد الثاني في
مؤتمره التكريمي
الشيخ محمد يزبك (*)
بعلبك بين الماضي والحاضر
هي مدينة الشمس، نورها ساطع لن يغيب وهل يغيب الخير والعطاء؟ أعمدة قلعتها تختصر ماضيها، وحولها مسجد وكنيسة يحكيان عيشها الرسالي، وفيها مقام السيدة خولة ومسجد رأس الإمام الحسين Q، كل ذلك يؤكد دورها وما أعدّ لتكون واحة من واحات الأدب والعرفان والفلسفة والحضارة، وساحة ثورةٍ على الظلم والإستبداد والتفرقة.[1]
إستجاب أهل بعلبك والجوار لنداء الفقيه الشيخ أحمد بن محسن بن علّي الأنصاري البعلبكي لمقاومة الزحف المغولي، واجتمع تحت راية الجهاد عشرة آلاف وكسر الشيخ الشيعي الإصطفاف المذهبي والطائفي بتجاوزه كل الحواجز دفاعاً عن الإنسان وقيمه ومعتقداته. ودخل بعلبك وأقام فيها الشيخ زين الدين بن علي الجباعي{، ودرس في مدرسة (النورية)، الفقه على المذاهب الخمسة.
وحطَّ الشيخ حبيب آل إبراهيم راحلة دعوته في خمسينات القرن الماضي، فاتحاً أبواب الحوار وداعياً إلى الوحدة والأخوة. إلى العديد من علمائنا الكرام، حتى شهدت مرجة رأس العين أكبر مهرجان في تاريخ لبنان عام 1975، وقد بايعت الجماهير الشعبية الإمام موسى الصدر من أجل الوحدة الوطنية والإسلامية ورفع الحرمان والإهمال، والإنطلاق إلى مواجهة عدو الوطن والإنسان الشر المطلق إسرائيل في مقابل الحق المطلق فلسطين. إلى عودة العلماء من النجف الأشرف وتأسيس حوزة الإمام المنتظر الدينية |، برعاية سيد شهداء المقاومة الإسلامية، والتقريب بين المذاهب بوضع أسس لتجمع علماء المسلمين، والتفاعل الكبير بين علماء بعلبك. إلى إنطلاق المقاومة، إلى يومنا الحاضر، بعلبك حاضرة وفيّة للمقاومة وسيدها، ولخط الإمام ونهجه في ظل الإمام الخامنئي }، وستبقى داعية الوحدة وحاملة القضية.
بعلبك اليوم سعيدة، إذ تحظى برعايتكم وتشريفكم وعقدكم مؤتمر تكريم الشهيدين { في لبنان، وكان لبعلبك هذا النصيب الوافر من حضوركم المبارك فلا نملك إلاَّ الشكر والإمتنان. وكل الشكر للإمام الخامنئي }، لمواكبته تراث العلماء. واستجابة لرغبته الكريمة، حظي ملف إحياء تراث العلماء في لبنان بعناية خاصة، وكان الأخ العلامة الشيخ حسن بغدادي (حفظه المولى) مسؤوله. والشكر للجمهورية الإسلامية، ولكل القيمين على مجمع التقريب والوحدة، والساعين لإحياء تراث العلماء الوحدويين، ليكون ذلك مدرسة لكل عاشقي طريق الوحدة.
الشهيد الثاني وتطلعاته لوحدة الأمة:
جبل عامل، جبل أشم، بانتمائه ورفضه، قاهر مستعصٍ، منذ أن عرف وانطلق إنسانه الذي عانق أبا ذر روحاً وعقيدة وإيماناً ومقاومة، إنتماءاً ورفضاً، وما زاده الإبعاد إلا عزيمة وقوة وتصميماً على مواصلة الطريق بالدعوة إلى الحق، وقد بذر بذوره الولائية الخالصة لمن أمر الله تعالى بولايته، وتفاعل الناس مع الصادق قولاً وعملاً، والتزكية من الرسول الأكرم P شهادة حق: (ما أقلت الغبراء وما أظلَّت السماء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر). وقد أرعب الحاكم، فكتب نصيحته طالباً إبعاده، وإلا أفسد عليه أمر الناس في بلاد الشام. وأبعد ثانية إلى الربذه ليعيش ما تبقى من عمره وحيداً، ويموت وحيداً، وودعه أمير المؤمنين علي Q بكلمات قد أنصفته وخلدت مسيرته: (يا أبا ذر إنك غضبت لله فارجُ من غضبت له إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك، وستعلم من الرابح غداً والأكثر حسداً، ولو أن السماوات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثم إتقى الله لجعل منهما مخرجاً. لا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، ولو قرضت منها لأمّنوك).
في قرية من قرى هذا الجبل (جبل عامل) جُبع، ومعروفة بجباع الحلاوة. ومن أسرة علمية عاشت الحق وأهله. وفي بيت متواضع كانت ولادة شيخنا الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد، المعروف بالشهيد الثاني (رض)، في الثالث عشر من شوال سنة 911 هجري.
في البلدة الوديعة الجميلة المتميزة بكثرة المياه وبأشجار الفواكه وكروم العنب، وكأن الطبيعة قد ألقت بجمالها كله على هذه البقعة، والتي كانت قاعدة من قواعد العلم العاملي. ثلاثة قرون وأكثر، وهي مثابة العلم، ورحلة العلماء ومنتجع الفضلاء والأدباء. وحسبك أن ينتسب إليها أمثال الشهيد الثاني، صاحب المصنفات التي لا تزال من مفاخر جبل عامل.
نشأ وترعرع وتربى على يد والده وتتلمذ عنده لسنوات، وقد حباه بروحه الطاهرة العلوية وسيرته واهتمامه بالدين وشؤونه، مع كدّه وعمله في الأرض يكفي به مؤونة عياله، وقد رباهم على ذلك. فكانت سيرته الله والعمل وطلب العلم. ثم انتقل إلى (ميس) طلباً للعلم، ومن بعدها قصد كرك نوح. وفي الثلاثين ونيف من عمره نال درجة الإجتهاد، وكان يتنقل في الأقطار من بلد إلى آخر وراء ضالته، كما في حديث أمير المؤمنين Q: «العلم ضالة المؤمن». وأقام في دمشق دارساً ومدرساً ومحاورًا، وذهب إلى فلسطين وغزة للقاء العلماء، وإلى مصر حيث والتقى المشايخ، وإلى الحجاز والعراق وإلى الأستانة، وقد أعطي إجازة التعليم في المدرسة النوريه في بعلبك، وأقام فيها سنتين يدرس الفقه على المذاهب الخمسة. وهذه المدرسة من المدارس التي أمر بإنشائها (نور الدين زنكي)، وقد أحب أهل بعلبك وأحبوه، وتحدث عن تلك الأيام بأنها ميمونة، بما تنطوي عليه من براءة وعظمة ومثلٍ وخلوص.
علماً أن المدرسة النورية كانت تحت إشراف قاضي القضاة الشافعي، بل كان النفوذ للمذهب الحنبلي يومها، مع كل ذلك كان العلم هو رائده والحجة والبرهان، ولذا أحبه طلابه وقد فتح قلوبهم على الفقه المقارن وفهم ما يملكه الاخر من دليل وبيان، وأن الناس أعداء ما جهلوا. كثيرة هي المشتركات وعلينا أن نحترم آراء العلماء واجتهاداتهم، وعلى الطالب أن يتأمل، يرضى ويُرضي.
كان يركز على أحاديث رسول الله P التي تتناول تأكيد وحدة الأمة. وفي حديثه المبارك (أمتي مباركة لا يدرى أولها خير أو آخرها خير)، يعني الخير في أمتي في أولها وفي آخرها، وأن ميدان التنافس بين أبناء أمة رسول الله P، ينبغي أن يكون في الخير والعطاء والعلم والمحبة والرحمة، كما كان رسول الله P.
وما ورد عنه P: «بشَّر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض».
يا رسول الله بشر أمتك بالثناء والعظمة بالإلتزام بهذا الدين الحنيف الذي كان سبب رفعتها ونصرها والتمكين لها في الأرض }وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ{(القصص/6)، }الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {(الحج/41) وهي الأمة الوارثة.
علينا أن نحافظ على وحدة الأمة فإن يد الله مع الجماعة هي الأمة التي لا تزال طائفة منها قوامة على أمر الله، لا يضرها من خالفها ما دامت متمسكة بالحق وعاملة به.
كان الشهيد الثاني {: متأثراً بكلام للإمام الصادق Q: (رحم الله عبداً حببنا الى الناس، ولا يبغضنا إليهم، أما والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعز، وما استطاع أن يتعلق عليهم بشيء).
إنه العالم العارف، شخصهُ مع الخلق وقلبه مع الله تعالى، ولو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه تلك هي سيرته وجهاده فهو الأقرب إلى درجة النبوة، فهو من أهل العلم والجهاد وهو صاحب المداد ودم الشهادة وهو الحيّ وإن كان ميتاً بما خلد من سيرة مباركة. وعلم عشرات من الكتب والرسائل والشروحات واستفاد من عشرات العلماء ولم يفرق بين عالم وآخر الى أي مذهب إنتمى. ضالته العلم والمعرفة. وقد نال من مشايخ دمشق الإجازة بالرواية كما تخرج على يديه العشرات من أكابر العلماء ومشايخ الإجازة.
دعوته إلى الوحدة نابعة من خالص توحيده. وهل الإسلام إلا كلمة التوحيد ووحدة الكلمة؟ إنطلق من هذا الهدف برؤية واضحة. لا غبار ولا تشويش. يعبّد الطريق إلى وحدة الأمة، عملياً بالإنفتاح والحوار، بقلب مشع وعقل نير وفكر وقّاد.
وقد آلمه كثيراً ما آلت إليه الأمة الإسلامية، من كيانات مذهبية مغلقة على ذاتها لا تعارف ولا تحاور. وفي لقائه في مصر مع الشيخ علي بن محمد البكري من كبار المشايخ، صرح له عن قلقه وحزنه من تقوقع المذاهب على نفسها.
وقد درّس في مدارس عديدة بعيداً عن المذهبية.عاش بروحه المنفتحة ورسالته الوحدوية عظيماً، ورحل عظيماً ويبعث عظيماً، يسعى نوره بين يديه. وقد قضى عمره في الجهاد ومقارعة الباطل بالحق، والإنغلاق بالإنفتاح، وقد ترجل عن فرس جهاده ومقاومته وقد تجاوز الخمسين بعد أداء فريضة الحج، واعتقاله وجلبه إلى القسطنطينية وقتله. ذنبه الوحيد أنه عالم منفتح وداعٍ وحدوي، يؤمن بالإسلام فكراً ومنهجاً وعملاً، ويلتزم بخط ذوي القربى الذين أمر الله تعالى بمودتهم }قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى{(الشورى/23).
وعرج إلى لقاء ربه شهيداً محتسباً. ويروي والد الشيخ البهائي (رض) بأنه دخل يوماً على الشهيد الثاني فوجده مستغرقاً في فكر عميق، فسأله عن الأمر الذي شغل باله، فقال: «يا أخي أظن أني سأكون ثاني الشهيدين، لأنني رأيت البارحة في المنام أن السيد المرتضى علم الهدى(رض)، قد أقام وليمة جمع فيها علماء الإمامية في بيت، فلما دخلت عليه قام ورحب بي، وقال: «إجلس بجنب الشهيد فلما إستوى بنا المجلس إنتبهت»».
ما أحوج العالم والعالم الإسلامي، إلى هذه الروحية الطيبة الطاهرة المحبة لله والإنسانية وحاجتنا كبيرة إلى دعاة الوحدة والرحمة والمحبة.
لن تكون الساحة للشيطان الأكبر وقوى الطاغوت والمستكبرين ودعاة التفرقة والتكفير والبغضاء، ولن تكون للاعبين بنار الفتنة الطائفية والمذهبية. إن كل ذلك كيد الشيطان وسبيله فقاتلوا أولياء الشيطان }إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا{(النساء/76).
وما علينا إلا سبيل الله تعالى، سبيل الوحدة والإعتصام بحبل الله المتين }وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ{(آل عمران) وهو السبيل الأنجح لسعادة الدارين.
سيبقى الشهيد الثاني { رمزاً ومناراً للوحدويين يلاحق الظالمين والمفرقين، ولن يكون خلاص منطقتنا والعالم من الفوضى والهرج والمرج إلا بالتمسك بالوحدة والحوار الهادئ والهادف والنصيحة والعمل بما يرضي الله تعالى.
[1](*) رئيس الهيئة الشرعية في حزب الله.
أثر الشهيد الثاني في ايران من خلال كتبه وتلامذته الشيخ حسين بن عبد الصمد نموذجاً
السيد محمد حسين رئيس زادة (*)
سوف احاول في مداخلتي هذه ان اتناول على نحو الاجمال الرابطة التاريخية بين الفكر الديني الذي مثَّله علماء جبل عامل في لبنان وتطور العلوم الدينية الفقهية والاصولية والعقلية في ايران.[1]
أما الوجه التفصيلي الذي سأركز عليه فهو الاضاءة على الدور المركزي الذي قام به الشيخ زينالدين الجبعي المعروف بالشهيد الثاني في تمتين هذه الرابطة المعرفية. وخصوصاً لجهة الدور الذي لعبه تلميذه الشيخ عبدالحسين بن عبدالصمد العاملي والد الفيلسوف والعارف الكبير بهاء الدين العاملي المعروف بالشيخ البهائي.
من الثابت تاريخياً، أن الثقافة الشيعية في ايران قد تأثرت كثيراً بمنجزات علماء جبلعامل، اولئك الروّاد الذين بذلوا جهداً كبيراً في الحفاظ على فقه آل البيت الاطهارR، وكذلك في العمل على تبيين وتحقيق المعارف الالهية. وقبل ستمئة عام كان علماء ايرانيون قد هاجروا الى لبنان (منطقة جبل عامل والبقاع) ليستفيدوا من الحوزات العلمية التي تتوجها دروس علماء كبار ابرزهم الشهيدان الاول والثاني والمحقق الكركي وامثالهم. ولكن التواصل المعرفي لم يتوقف عند هذا المستوى بل لقد استمر التأثر والتأثير الى يومنا. ففي الحوزات العلمية الايرانية مازال يُدَّرس كتاب اللمعة الدمشقية وشرحها وهو النص الفقهي الفريد الذي يضم جميع ابواب الفقه. حيث يدرسها طالب العلم في ايران كمادة مرجعية مميزة. ويمكن القول انه بعد دراسة هذا النص لا يوجد نص دراسي في الحوزات يحتوي تمام أبواب الفقه كهذا الكتاب لكي يدرسها طالب علوم الدين.
اضافة الى ذلك فقد تأثرت الثقافة الدينية في ايران بحضور علماء كبار من جبلعامل سافروا الى ايران ولعبوا دوراً كبيراً في هذا المجال منهم الشيخ البهائي ووالده الشيخ حسين بن عبدالصمد الذي هو من ابرز تلاميذ الشهيد الثاني وكذلك المحقق الكركي والشيخ الحر العاملي وغيرهم.
بعد انقسام العالم الاسلامي الى دولتين: الصفويون في ايران والعثمانيون في تركيا، عيّن كل واحد منهما مشايخ للإسلام في مناطق نفوذه، في هذا المجال طلبت الدولة الصفوية الى الشهيد الثاني قبول الزعامة الدينية للشيعة في ايران وان يكون شيخاً للإسلام في هذه البلاد، ولكنه رفض الذهاب الى ايران ليمضي على نفس طريق ونهج الشهيد الاول الشيخ محمد بن مكي الجزيني الذي رفض تلبية دعوة حاكم خراسان علي بن المؤيد ليكون مرجعاً شيعياً هناك سنة 782هـ. إذ حرص على البقاء في المنطقة لأجل حماية وتطوير منجزات جبلعامل العلمية، التي عكف على العناية بها بعد عودته من الحوزة العلمية في مدينة الحلة العراقية.
ولعل الجانب المهم في الجهاد العلمي للشهيد الثاني، هو سعيه الكبير لمواصلة مشروعه الوحدوي والتقريب بينالمذاهب الاسلامية، لاسيما من خلال العلاقة بعلماء المذاهب الاسلامية. ولكن من أجل دفع اتهام القادة الصفويين له اعرض عن السفر الى ايران حتى لزيارة امام الرضاQ، على الرغم من معرفته بان الأرضية في ايران كانت مهيَّأة لاستقباله استقبال الفاتحين، خصوصاً وأن السلطة تعرف مكانته واهميته في المجال العلمي.
وهكذا لم توفق السلطة في اقناع الشهيد الثاني للذهاب الى ايران. ولكن من حسن الحظ أن استفاد الشعب الايراني من تلميذه الشيخ حسين بن عبدالصمد الذي هو من اهم تلاميذ الشهيد الثاني، إذ لازمه مدة من الزمن وكان رفيق درسه في رحلة الشهيد عام 952هـ الى اسطنبول لأجل لقاء الفقهاء القريبين من السلطة. وكان من المتعارف عليه أن يطلب القاضي من أي قادم «بيان تعرفة» من شيخ الاسلام في منطقته، وبما ان الشهيد ليس لديه بطاقة تعرفة فقد بقي الشيخ حسين بن عبدالصمد ثمانية عشر يوماً لا يلتفت اليه أحد، الى أن فَرَغَ من كتابة عشرة مباحث في الفقه والتفسير وغيرهما، وكانت في غاية البراعة والدقة. وعندما قدمها الى القاضي (محمد بن قطب الدين قاضي زاده الدولي) سُحِرَ بمكانته العلمية قائلاً له: مثلك لا يحتاج الى بيان تعرفة. ثم ادخلهما على السلطان سليمان الذي امر لكل واحد منهما بوظيفته في المنطقة، فكانت المدرسة النورية من نصيب الشهيد الثاني في بعلبك، كما منح وظيفة مرموقة في بغداد للشيخ عبدالحسين بن عبدالصمد. الا أن إقامة الشيخ حسين لم تطل في بغداد، فالتحق باستاذه الشهيد الثاني في مدينة بعلبك، وكانت عائلة الشيخ حسين بن عبدالصمد هناك، وبعد مرور سنتين على المكوث في بعلبك وكانت الامور مستتبة كما ينقل تلميذ الشهيد الشيخ محمد بن العودي: «كنا في أحسن حال وعاشرنا اهلها على افضل وجه وكنا نعين المسلمين كل طبق مذهبه». حتى اذا تحرك الكيد والحسد والتآمر على وحدة الأمة الاسلامية، تعرض الشهيد الثاني للمضايقات والتهديد بالقتل مما دفعه لترك بعلبك والتخفي في جبع وجزين من سنة 955هـ حتى سنة 965هـ السنة التي قتل فيها. والملاحظة هنا انه على الرغم من هذه الاوضاع الحرجة لم يلجأ الشهيد الثاني ولا تلميذه الشيخ حسين بن عبد الصمد الى ايران، بل انهما فضَّلا المواجهة.
لكن بعد ما وصل الأمر الى حد لا يُطاق اضطر تلميذه الشيخ عبدالحسين الى مغادرة بعلبك. ففي سنة 960هـ ذهب مع عائلته الى ايران بعدما بلغه خبر فصل استاذه الشهيد الثاني، و كانت معه العائلة من بينهم ابنه الشيخ محمد البهائي وهو ابن اثنى عشر سنة.
المحطة الاولى، كانت في اصفهان. وكان شيخ الاسلام فيها الشيخ علي المشار وهو لم يكن يعرف الشيخ حسين بن عبدالصمد، لكن بمجرد ان سمع انه من تلاميذ الشهيد الثاني كرّمه وقدّمه الى الشاب الصفوي(طهماسب) كعالم فاضل من تلاميذ الشهيد، وبمجرد ان عرف الشاه ذلك طلبه الى عاصمة الدولة الصفوية (قزوين) في ذلك الوقت، حيث اقام فيها سبع سنين، امامًا لصلاة الجمعة. بعد ذلك انتقل الى خراسان ليكون شيخ الاسلام فيها، ليطلب الى الشاه الصفوي من هناك ان يذهب الى مدينة هراة التي كانت تمتلئ بالمشاكل وتحتاج الى عالم قدير، حيث بقي فيها ثماني سنوات.
من هنا نجد كيف تعاملت السلطة الصفوية مع تلاميذ الشهيد الثاني، فكانوا يقدرون بكل فخر واعتزاز كل من ينتمي الى الشهيد الثاني، الذي احتل مكانة لا تُوصف وقدر لا يُثمّن، ولم تكن الدولة لتوافق على مغادرة أحد من هولاء العلماء ايران الا لضرورات استثنائية، مثلما حدث مع المحقق الكركي، نتيجة انقسام داخلي حول مشروعه الديني، الذي توّجه بتأصيل قل نظيره حول موقعية الوليالفقيه بوصفه نائب الإمام |، لكنه مات قبل العودة.
وفي تلك اللحظة طلب الشيخ حسين بن عبد الصمد الخروج من ايران، على خلفية المشكلة التي كانت تواجه بعض علماء جبلعامل، نتيجة الانقسام داخل السلطة، وخصوصاً ان هناك تيارًا لم يكن يحبّذ المشروع الديني، وانما كان البعض من هذا التيار يحتاج الى غطاء شرعي لتغطية اهوائه ونزواته. هذا بالاضافة الى استغلال سيرة التقوى والزهد والعزوف عن الدنيا التي عرف بها هؤلاء الأجلاء من العلماء. ان هذه الوضعية ستشكل لدى مجموعة من هؤلاء حافزاً للمغادرة والابتعاد عن شرور السلطة. ذلك ما عبّر عنه ولده الشيخ البهائي في احدى رسائله، إذ يقول: «ان منطق السلطة على كل جاهل وان والدي لو لم يأت الى بلاد العجم ويختلط بالملوك لكنت من أزهد البشر».
كان الشاه اذا أراد ان يتخلص من شخص او يعفيه من مهامه يعرض عليه الحج، فان وافق فمعناه تنحيته عن منصبه. لهذا نرى ان الشيخ حسين عبدالصمد جاء وطلب الرخصة للحج له ولولده الشيخ البهائي، فأعطاه الشاه الرخصة من دون الاذن للبهائي، فذهب الشيخ حسين الى الحج ومن هناك قدّر أن ذهب الى البحرين، تلبية لدعوة له من بعض علمائها. وكانت رحلته بسبب رؤية رآها، ومفادها ان البحرين بشعبها قد رفعها الله الى الجنة، فذهب الى البحرين ومات ودفن فيها. في حين استقر المقام بولده الشيخ البهائي في إيران، حيث اصبح شيخاً للإسلام في اصفهان، بعدما اصبحت عاصمة الدولة الصفوية الى ان مات هناك، حيث نقل جثمانه الى مدينة مشهد، ليدفن الى جوار الامام الرضاQ، حيث اصبح قبره مزارًا للمؤمنين.
[1](*) المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية في بيروت
الشهيد الثاني:
الوحدوي المتعمّق في المذاهب
الشيخ احمد الزين (*)
لدى مطالعتنا لسيرة الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح الطوسي، نجد أنه من بلدة جبع في جنوب لبنان، وهو من مواليد الثالث عشر من شوال سنة إحدى عشرة وتسعماية هجرية. هو فقيه كبير وعالم جليل درس ودرّس الفقه وصنف وأحسن في كل ذلك، ولكنه مضى شهيدًا في عاصمة الدولة العثمانية، لأنه اختار ان يسير عاملاً وساعيًا في سبيل الوصول إلى الوحدة الإسلامية، وإعادة المعنى الصادق للأمة الإسلامية والتوجه الإسلامي والمذهبي، وهو ان يكون هذا التوجه التزامًا صادقًا بكتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى P وصحبه، بعيدًا عن التسلط والاستبداد والعصبيات على اختلاف أشكالها، وان يأتي الحكم الشرعي معالجًا لجميع المشاكل والأحداث الطارئة.[1]
من أجل ذلك رأينا العالم الكبير الشهيد الثاني، والذي أتى بعد الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني، رأيناه الرحالة الكبير الذي ينتقل من بلد إلى بلد آخر، من دون ان يهدأ له بال، طالبًا للعلم، منشدًا للحق، متحمّلاً أعباء ومشقة السفر ومتجاوزًا الفروقات والاختلاف في الرأي والاجتهاد، وملتقيًا وآخذًا من كبار العلماء في سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليؤكد الوحدة الإسلامية، وإن تعددت مذاهبها وتباعدت أمصارها.
فها هو في دمشق ياتي إلى الشيخ المحقق شمس الدين بن محمد بن مكي ويقرا عليه من كتب الطب شرح الرجز النفيس وغاية القصد في معرفة القصد وفصول الفرغاني وبعض حكمة الأشراف للسهروردي. ويذهب في دمشق أيضًا إلى الشيخ أحمد بن جابر ليقرأ عليه في علم القرآن، وكذلك قراءة ابن نافع وأبي عمرو وعاصم.
وها نحن نراه يرتحل إلى مصرسنة 942هـ، ليلتقي بعدد كبير من علمائها، ومنهم الشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفي، ويقرأ عليه جملة من الصحيحين، ويجيزه شمس الدين على روايتهما. ويلتقي في مصر أيضًا بالشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي، حيث يقرأ عليه منهاج النوري في الفقه، ومختصر الأصول لابن الحاجب، وشرح العضدي مع مطالعة حواشيه، ومنها السعدية و»الشريفين» وشرح تصريف العربي وشرح ورقات لإمام الحرمين الجويني في أصول الفقه وأذكار النوري وتوضيح ابن هشام في النحو. وقد اعطاه الشيخ شهاب الدين الإجازة العامة بما يجوز له روايته، وكان ذلك سنة 943هـ.
وفي مصر أيضًا ذهب الشهيد الثاني إلى الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي ليقرأ عليه جميع شرح الشافية للجاريردي، وجميع شرح الخزرجية في العروض والقوافي للشيخ زكريا الانصاري.
وهكذا أخذ الشهيد الثاني ينتقل بين علماء المذاهب الاجتهادية في مصر ليأخذ عنهم ويعطيهم، فنراه يذهب إلى الشيخ أبي الحسن البكري، ومنه إلى الشيخ المحقق ناصر الدين الدقاني المالكي، ويقرأ القرآن الكريم على الشيخ ناصر الدين الطلاوي الشافعي في القراءات السبع. وكذلك يذهب إلى الشيخ شمس الدين محمد بن أبي النجا النحاس ليتابع القراءات الشبع في القرآن الكريم، ويذهب إلى الشيخ عبد الحميد السمهوري والشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الشافعي وإلى الشيخ عميرة والشيخ شهاب البلقيني وشمس الدين الديروطي وشهاب الدين بن عبد الحق، وإلى غيرهم من علماء ومشايخ مصر.
ويكمل ارتحاله إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والعمرة، وزيارة الرسول P.
ثم يأتي إلى العراق لزيارة الأئمة الأطهارR من دون أن ينسى الذهاب إلى القدس، ويلتقي هناك بعلمائها ومنهم الشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، ليعود بعدها إلى بلده جبع.
ومما تقدم في سيرة العالم الكبير زين الدين بن علي الشهيد الثاني وسفره إلى مصر والتقائه بعدد كبير من علمائها من جميع المذاهب الإسلامية، حيث التقى بعلماء من الحنفية وآخرين من الشافعية وكذلك من المالكية والحنابلة وأخذ عنهم وأخذوا منه وأجازوه بالحديث والنقل عنهم، وهو العالم الشيعي الجعفري على مذهب الإثني عشرية، وإن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على مسائل عدة:
[1](*) رئيس مجلس الأمناء في تجمع العلماء المسلمين - لبنان.
الإصلاح يبعث العالم شهيدًا
د. حسن يعقوب (*)
بعد اتمام النعمة و كمال الدين على البرية اجمعين مع خاتم المرسلين محمدP، اطبقت الدنيا من جديد على نفوس محبيها، فراقهم زبرجها، و تحولت دولة العدل و الرسالة على مر السنين الى سلطة للمتحكمين والطغاة. فتجدد النضال و الجهاد للحفاظ على أم الرسالة وروحها، فسطرت الملاحم و قدمت التضحيات التي تعمدت بالدماء و الشهداء.[1]
و كان التصدي للانحراف عملا شاقًا و صعبًا، حتى و صل الى قمة العطاء والفداء، التي جسدها سيد الشهداء الامام الحسينQ، فحدد قواعد الاشتباك بين الحق و الباطل عندما قال: و الله ما خرجت اشرا و لا بطرا انما للاصلاح في امة جدي رسول اللهP. و اعلن انه ان «لم يستقم دين جدي الا بقتلي فيا سيوف خذيني..»..
من هذا المنطلق يمكننا ان نقارب حركة الشهيدين الجليلين رضوان الله عليهما. إذ إن شهيدنا الاول الذي ولد في جزين، نشأ في بلدة لم يستطع الاحتلال الصليبي أن يدنسها، فظلّت طاهرة عصية بسبب وعورة جبالها الطبيعية، وحافظت الى حد ما على حرية الحركة العلمية التي يتحدر شهيدنا من احدى عائلاتها المؤسِسة.
ولانه انصرف الى تلقي العلوم، والتفكر والتبحر فيها، والتدبر باستخدامها، وضع لنفسه نهجًا يلتقط من خلاله كل صنوف العلوم والمدارس، فعمد بعد انتقاله الى الحلة في العراق على حياكة قاعدة واسعة من الاساتذة والفقهاء الاعلام متعلما محاورا وباحثا في مداخل العلوم ومخارجها، مطلعا على كل المذاهب الاسلامية، حائزًا على شرعية دينية وعلمائية واجتماعية توسع مساحة المشترك وتقلص تاثير التباينات.
واذا تاملنا في حركة اسفاره، من بغداد الى دمشق والقاهرة ومكة والمدينة المنورة ومقام الخليل ابراهيم، واتصاله بالعلماء الاعلام في هذه الامصار وقراءته فيها على اربعين شيخا من علماء السنة والشيعة، حتى لقب بافقه جميع فقهاء الافاق، ولقب ايضا بشيخ الشيعة والمجتهد في مذهبهم، نجد من خلال هذه المتابعة السريعة ان شهيدنا رضوان الله عليه امتلك رؤية ومشروعا خطط له بكل دقة واناة، وعمل على تامين كل الظروف والاسباب لنجاحه؛ لذلك بامكاننا القول وبموضوعية ودون مبالغة، ان الشهيد الاول كان يؤسس لحركة الاصلاح التي كان العالم الاسلامي بحاجة ماسة لها.
في هذا السياق لا بد لنا ان نتوقف عند علاقته الغامضة ولقائه في الحلة مع علي بن المؤيد العلوي الخرساني، الذي اصبح فيما بعد ملكا على خرسان، على رغم ان المصادر التاريخية لم تذكر شيئا عن ما دار بين الرجلين، الذين شغلا موقعين قياديين في السياسة والدين، ويؤمن كلاهما بنفس المعتقد، مما يدفعنا للحاظ البعد السياسي في حركة سيدنا الشهيد الاول رضوان الله عليه.
وبما انه لا يمكن لنا دراسة شخصية علمائية تاريخية فاعلة ومؤثرة بمعزل عن الواقع الاجتماعي والسياسي، فإن الظروف الموضوعية المحيطة بالامام الجزيني، توضح لنا مستوى الاخطار التي تترافق مع حركته.
فقد حمل راية ولاية الفقيه، في زمن كان الصراع محتدما بين العثمانيين الذين اعتمدوا مبدأ الخلافة العريق مفهوما للشرعية يستندون اليه في حكمهم و حكموا بوصفهم خلفاء، والصفوين الذين اعتمدوا مبدأ ولاية الفقية، بوصف الفقيه نائبًا عامًا عن الامام، ما منح الصراع السياسي و العسكري وجهًا فكريًا و ثقافيًا.
اما شهيدنا الثاني زين الدين بن علي الجبعي، الذي يبعد قرنا و يزيد عن شهيدنا الاول، فبعد ختمه القران الكريم في التاسعة من عمره، انتقل الى ميس ثم إلى كرك نوح، ثم عاد الى قريته. وتوجه بعد ذلك إلى دمشق فمصر والعراق وبيت المقدس، مؤسسًا أثناء هذها الأسفار، شبكة واسعة من العلاقات، تلقى عبرها العلوم من العشرات من العلماء الاعلام. ثم سافر الى القسطنطينية، وتجرّأ على المكوث في اسطنبول، ونسج علاقات طيبة مع كل من التقاهم، حتى كلفه السلطان العثماني تولي مقاليد المدرسة النورية في بعلبك وهي من اهم المدارس في ذاك العصر، يدرس فيها المذاهب الاربعة ويلقى محبة وإلفة من كل ابناء المنطقة، واصفا ايامه في بعلبك بانها «ايام ميمونة واوقات بهجة ما راى اصحابنا في الاعصار مثلها».
يتبين لنا من خلال حركة هذا العالم الشهيد، انه استطاع ان يضع يده على مكمن القوة عند السلطة آنذاك وينسفه من جذوره، لانه تمكن من تفكيك الفتنة بين المذاهب والتقريب بينها، الأمر الذي يجعله رائدا فذا من رواد الوحدة الاسلامية التي تحطم منطق التفرقة والفتنة التي يعتمدها الحكام لتثبيت سلطتهم.
ولانني تعمدت المرور سريعا و باختصار شديد لضيق الوقت وافساحا في المجال للاخوة المنتدين اردت تسليط الضوء على لب الاشكالية التي دفعت السلطة لمحاربة شهيدينا العالمين وقتلهما.
لذلك نرى لزاما علينا اسقاط التاريخ على واقعنا، واعتبار ان الفتنة المذهبية عمل متواصل لقوى الشر المتحكمين ظلما بالعباد، يتوسلون التفرقة والععصبيات والفتن لبقائهم على روؤس العباد. وبما أن فلسطين هي اعلى راية جهادية على الاطلاق، فإنها الطريق الانجع للوحدة بين المسلمين، والقدس الشريف باب التقارب بين الاديان السماوية. فالوحدة فلسطين والراية القدس.
بالعودة الى عالمينا فانني اجزم انهما لو عاصرا احتلال فلسطين واغتصاب القدس لكانا اول من افتتح قافلة الشهداء.
فبعد تكليف وكلاء في مناطق واسعة للتبليغ والهداية وجمع الحقوق الشرعية والاضطرار لتشكيل قوة عسكرية كما يتبين لنا عند الشهيد الاول، والتي اسفرت في احدى المحطات عن واقعة دموية سقط خلالها المئات من الشهداء كما تظهر لنا قبور الشهداء في بقعة من الارض على يمين الطريق العام الذي يصل الى مدينة النبطية، والذي يعرف الآن بـ»مقام محمد الشهيد»، وقبول العامة بنزع الفوارق والتباينات بين المدارس العلمية والقدرة على التقريب بين المذاهب، كما تبين لنا واضحا عند الشهيد الثاني.
ولا نغفل النظام المالي الدقيق والمحاسبي لدى الوكلاء عند الشهيد الاول.
كل ذلك وغيره يدفعنا للقول ان العالم عندما يخرج من كنوز الاسلام ما هو محظر على مجتمعه، فيصبح كلامه كلاما ممنوعا وفهمه الرسالي فهما ممنوعا، عندها يصبح من الوجوه الممنوعة ووجوده البارز كفقيه شيعي في رقعة الدولة العثمانية ممنوع، ويتعرض للخطر حيث لم يكن الآخرين في خطر، فتصدر القرارات باستحلال دمائهم ووسمهم زورا بما هم منه براء، فينالا الشهادة على ايدي الطغاة الحاقدين.
و لا يدرك هؤلاء الطغاة ان قتل العلماء و تشريدهم مبعث لتحرير الامة، و طريقًا منيرا في عالم من الظلام. و ما خلود شهيدينا و انتقال علومهما الى كل الاجيال وقيامنا بكل تواضع و تقصير بسرد بعض الماثر و الاعتراف بالفضل العظيم، الا دليل على ما اسره في لقاء خاص الامام المغيب السيد موسى الصدر قائلا: «لقد وضعنا اللقاح و تم الحمل و الولادة آتية باذن الله تعالى».
[1](*) نائب سابق في البرلمان اللبناني.
قراءة في المنهج الفقهي عند الشهيدين
(التطابق ونقاط الاختلاف)
السيد هاشم بن السيد محمد الشخص (*)
تمهيد:[1]
لا يختلف إثنان في أن الشهيدين العامليَّـين الأول والثاني كانا من كبار فقهاء الطائفة وأجلائها المتميزين الَّذَين قلَّ نظيرهما في فقهاء الامامية بل في فقهاء المسلمين عامة، سواءً من حيث الإستيعاب والشمولية أو من حيث العمق ودقة النظر أو من حيثُ الإبداع والتجديد.
ومن الملفت للنظر أنَّ هذين العلمين الجليلين رغم تباعدهما الزمني ـ إذ يفصل بينهما قرابة القرنين من الزمن ـ وعدم تلاقيهما في النسب، إلا أن هناك بينهما اشتراك وتشابه في أمور عديدة، حتى كأنَّ الشهيد الثاني امتداد للشهيد الأول ونسخة أخرى عن شخصيته وكأنَّه جاء متممًا لأعماله ومشاريعه.
وإذا أردنا أن نُحددَ نقاط التشابه والإشتراك بين هذين العلمين يمكن أن نشير إلى أهمها فيما يلي:
موضوع البحث:
بعدما مرَّ في التمهيد يتجلَّى بوضوح أن الشهيدين من الناحية العلمية و الفقهية بشكل خاص يبدوان كنسخة واحدة لاتكاد تفرق بينهما، بحيث لو نَسبَ أحدٌ بعض كتب أحدهما إلى الآخر لكان مقبولاً ومناسبًا.
وكأنَّ الله تعالى قد عوَّض عن قصر عمر الشهيد الأول ـ الذي استُشهد ولم يُتم بعض كتبه ومشاريعه العلمية ـ بالشهيد الثاني الذي جاء بعد حوالي قرن ونصف من الزمن ليتم ويشرح ويوضح ماجاء به الشهيد الأول.
وخطر ببالي وأنا أقرأ وأكتب عن هذين العلمين الجليلين تخميس بعض أبيات القصيدة الأزرية الشهيرة في مدح أميرالمؤمنينQ، إذ رأيت تخميس بعض أبياتها في وصف النبي P والامام علي Q ينطبق تمامًا على الشهيدين الجليلين، إذ يقول:
إن تُميِّزْهما بإسم ورسمٍ
لمْ تُميزهما بِعلمٍ وحلمٍ
فهما واحدٌ كروحٍ بجسمٍ
انما المصطفى مدينة علمٍ
وهـو البابُ مَنْ أتاه أتاها
فالشهيد الأول هو الأصل والمؤسس والشهيد الثاني متمم ومحلل وشارح ومفتاح لما جاء به الشهيد الأول.
أهم نقاط التطابق:
أما نقاط التطابق في المنهج الفقهي بين العلمين فلعل أبرزها ما يلي:
وهذه الخصّيصة وإن كانت موجودة لدى العديد من علمائنا القدماء إلا أنها قد تبدو أوضح وأجلى لدى الشهيدين.
وهذا دليل سعة الإطلاع و الإحاطة الشاملة بآراء وأقوال الفقهاء و العلماء وأهل الفن، بل هو دليل بعد النظر والمنهج الأقوى في الإستدلال، إذ إن النظرة الناقصة للمسائل وعدم الإطلاع على آراء الآخرين وأدلتهم لايؤدي إلا إلى نتائج منقوصة وبعيدة عن الحقيقة والواقع.
والمعروف أن المحقق الحلي(ره) كان له قصب السبق في المنهجية الرائعة والتنظيم الدقيق لأبواب الفقه في كتابيه (الشرائع) و (المختصر النافع)، لكن الشهيد الأول أخذ بنهجه وزاد عليه.
يقول العلامة الحجة الشيخ محمد مهدي الآصفي في مقدمة (شرح اللمعة): «فقد ساير الشهيدُ (المحققَ الحلي) في تنظيم كتب الفقه وأبوابه، لكنه زاد عليه بجملة من التحسينات....ففي هذا الكتاب (اللمعة الدمشقية) يُقدم الشهيد أحكام كل باب قبل أي شيء آخر، ثم يبحث عما يلحق بها من الملحقات، ثم يُتبعها بعرض المسائل التي تتبع هذه الأحكام وترتبط بها، ثم يستقصي المندوبات والمكروهات فيما إذا كان في الباب مندوب ومكروه.والذي يُلفتُ النظر في هذا التنظيم والتبويب أنه يجمع إلى روعة النظام استيعاب أطراف المسألة. وحينما نَضُمُّ روعةَ التنسيق إلى استيعاب الفكرة إلى الايجاز في التعبير نحصل على مزاج فقهي وأدبي من أروع ما أنجزه الفكر الإنساني ومن أسمى ما تحتويه المكتبة الإسلامية»[2].
وهكذا سار على نفس النهج الشهيد الثاني في كتبه الفقهية.
نقاط الإختلاف:
وأما نقاط الإختلاف في منهج الشهيدين الفقهي فأهمها مايلي:
يقول السيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة): «الشهيد الأول أفقه وأدق نظراً وأبعد غوراً و أكثر وأمتن تحقيقا وتدقيقا، يظهر ذلك لكل من تأمَّل تصانيفهما، مع الاعتراف بجلالة قدر الشهيد الثاني وعظمه شأنه وعلو مقامه»[3].
وفي الختام: لابد من الإشارة إلى أن الشهيدين (الأول و الثاني) يمثلان مدرسة فقهية واحدة هي مدرسة فقهاء الحلة ـ المتمثلة بشكل أساس في العلمين الحلِّيين (المحقق والعلامة) ـ ولا يكاد يوجد بينهما اختلاف من حيث المنهج والطريقة والأسلوب، إلا بعض الاختلافات اليسيرة، كما أشرنا.
بعض الابتكارات الأصولية للشهيد الثاني
الشيخ محمد رحماني (*)
امتاز الفقه الشيعي علی سائر المذاهب والاتجاهات الفقهية في العالم بامتيازات عدة، يمكن أن نعدّ منها: انفتاح باب الاجتهاد.[1]
وهذا الانفتاح لم يساعد مذهب الشيعة علی صيانة الفقه من عوامل الخطر فحسب، بل أفاض عليه من البركات الكثيرة، منها: إعانته علی التطور والتوسّع علی الصعيدين: الكمي والكيفي، والمواكبة لحاجات ومتطلبات العصور المتعاقبة.
ولا شكّ في أنّ علم الأصول باعتباره وسيلة وآلة تعين الفقيه في ممارسة عمله الاجتهادي، قد شمله التطوّر والتقدّم هو الآخر، واحتلّ موقعاً رفيعاً علی هذا الصعيد، نظراً للترابط الحاصل بين هذين العلمين.
وهذا لم يكن ليحصل لولا وجود علماء باحثين وعاملين؛ ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل حفظ وتطوير هذا الإرث العلمي الكبير، وصيانته من عوامل الهدم أو التحريف.
ومن بين هؤلاء يبرز اسم ألمعيّ، كان له حظور ملفت في عرصة الفقه والأصول، وهو الشيخ البارع زين الدين العاملي، المشهور بالشهيد الثاني.
مكانة الشهيد الثاني في علم الأصول
لم يصل علم الأصول الشيعي إلى هذا التطور الذي هو عليه الآن فجأة، بل مرّ بسلسلة تحولات متعددة حتّی بلغ هذا المستوى.
وقد قسّم بعض مؤرّخي هذا العلم مراحل تطوّره إلی ثلاثة مراحل، وأسماها دورات وقيّدها بالخاصة:
الأولی: عبارة عن اهتمامات علماء الشيعة بالموقف الفكري لأهل السنّة، فكان التلاقح العلمي قائماً بين علماء المدرستين، فمن جهة ثمّة نقد لبعض البحوث الأصولية لأهل السنّة كبحث القياس مثلاً، ومن جهة أخری تأثّر بعض فقهاء الشيعة كابن جنيد مثلاً.
الثانية: وهذه الدورة عبارة عن الصدامات العلمية بين الأصوليين وعلماء الأخبار (الأخباريين) الذين تزعم تيارهم آنذاك الملاّ أحمد أمين الاسترآبادي، وكاد يغلب هذا التيار الحركة الأصولية لولا ظهور جملة من فحول الأصول البارعين أمثال: الوحيد البهبهاني والمحقق القمّي والشيخ الأنصاري الذين انتصروا للفكر الأصولي.
الثالثة: وهو العصر الحاضر وما يشهده من تطور نوعي في علم الأصول.
لكن ثمّة علماء يقسّمون تاريخ أصول الفقه إلی أربع مراحل، وأُطلق علی كلّ مرحلة مدرسة معيّنة، فخلص إلی أربع مدارس:
أولها: مدرسة ما قبل التدوين، وقد كان روّادها تلامذة الإمامين الصادقين L.
وثانيهما: وتبدأ من أوائل عصر التدوين، وكان أبرز روّادها ابن أبي عقيل وابن الجنيد.
وثالثها: مرحلة النموّ وتبتدئ بعصر الشيخ الطوسي.
ورابعها: مرحلة التكامل، وتبتدئ بعصر الوحيد البهبهاني واستمرت حتّی عصرنا الحاضر.
كذلك ثمّة تقسيمات أخری بلغت ثماني دورات، يذكرها أحد المتتبعين المعاصرين[2].
ورغم هذا الاختلاف إلا أنّها تشترك جميعاً في التأكيد علی أنّ هنالك ثلاثة مراحل أساسية، وهي عبارة عن: مرحلة التأسيس، مرحلة التوسّع، مرحلة التكامل. ولعلّ الاتفاق موجود بأنّ الأخيرة تبتدئ من القرن السابع؛ نظراً لما شهدته هذه المرحلة من تدوين كتب تخصصية في الأصول تشتمل علی مباحث معمّقة وقواعد متفرعة وأخری متصيّدة، دوّنت بأدبيات وقوالب مبتكرة لم تشهدها المراحل السابقة.
وقد برز إبّان هذه المرحلة جملة من الشخصيات الفقهية والأصولية اللامعة كالشيخ البهائي والشيخ حسن المعروف بصاحب المعالم، ومازالت أسماؤهم متلألئة في سماء الحوزات العلمية والدينية. ولعلّ من أشهرها شخصية الشهيد الثاني، الذي وبفضل ابتكاراته والامتيازات التي أكسبت هذا العلم رونقاً باهراً، أضحى أشهر من أن يُعرّف.
إنّ إلقاء نظرة عامة علی محتوی كتابه النفيس «تمهيد القواعد» وما ضمّ من مباحث أصولية، يدفع الباحث إلی الاعتقاد بأنّه قائم علی منهجية مبتكرة خاصة به، نذكر شطراً منها:
1. الاستفادة من المنهج التطبيقي:
ففي مورد القاعدة (96) وعند الحديث عن حجية الاستصحاب يقول: «إنّ الأصل في كل حادث تقديره في أقرب زمان». ويشرع في توضيح القاعدة وبيان أقسامها، ثم يأتي بعشرين ونيّف من المصاديق علی هذه القاعدة.
وكذلك الأمر بالنسبة إلی القاعدة (98) في مجال التعارض بين أصلين، فهو يذكر قرابة أربعين مورداً مصداقاً لها.
وينسحب ذلك أيضاً عند ذكر القاعدة (99) بصدد تعارض الأصل والظاهر ويأتي بخمسين مثالاً علی ذلك.
إنّ هذا الابتكار ليس بالأمر السهل، وليس باستطاعة أيّ فقيه وأصولي تقديم شواهد غزيرة علی قاعدة واحدة، إن لم يكن يتملك تسلّطاً واسعاً وتتبعاً عظيماً علی الموارد الفقهية والحياتية.
2. عرض الأقوال والآراء المختلفة:
إذ يعرض في كتابه ألوان الآراء الواردة في المسألة من دون ملل أو كلل. فمثلاً حينما يأتي علی القاعدة (31) وهي حول مفهوم الأمر الأعم من صيغة الأمر أو الفعل المضارع المحلّی(؟؟) بالألف واللام أو اسم الفاعل، فإنّه يذكر أربعة عشر قولاً ورأياً في هذه المسألة تحديداً! (التعجب في غير موضعه) وهو ما يشير إلی عمق نظرته وشموليتها.
3. الاهتمام بجوانب البحوث والمواضيع الجوهرية:
فإذا طرح موضوعاً لم يكتف بذكره بشكل عاجل، من دون ذكر مقدمة ممهّدة له، ثمّ تبيين حقيقة المسألة وأقسامها وأركانها، ثمّ لم ينته حتّی يورد توضيحات مبهماتها حتّی يخلص إلی ثمرتها.
4. الاستفادة من المطالب العربية في البحوث الفقهية:
وهذا امتياز آخر يضاف إلی مؤلّفات هذا الفقيه البارع، ممّا يشير إلی اهتمامه بضرورة تكامل البحوث الواردة علی صعيد الفقه، والتشويق إلی تكميلها وأن لا تكون سطحية وعابرة. وهذا ما جعله يعقد قسماً خاصاً أسماه «القسم الثاني: تقرير المطالب العربية وما يتفرع عليها من الأحكام الشرعية»، يذكر تحت هذا القسم ما يقارب مائة قاعدة مصطبغة بصبغة أصولية، ونافعة في طريق الاستنباط، إضافة إلی متفرعات كلّ قاعدة.
وهذا الابتكار ـ ولا شكّ ـ لم يسبقه أحد فيه، ويصلح أن يكون منهجاً متبعاً حتّی في عصرنا الحاضر.
5. الاستفادة من منهج القواعد:
فبالرغم من أنّ هذا المنهج قد سلكه من سبق الشهيد الثاني، سواء من الشيعة أو السنّة، إلا أنّ في مؤلفات هذا الفقيه البارع طعماً ونكهةً خاصة مختلفة عن الآخرين، ولاسيما قواعد الشهيد الأول.
امتيازات منهج الشهيد الثاني علی الأول
ولتوضيح أسلوب الشهيد الثاني، والنكهة التي تتميّز بها مؤلّفاته، يجدر بنا مقارنته بأسلوب فحل آخر من فحول هذا العلم، وهو الشهيد الأول الذي كان له باع في مجال القواعد، ولعلّ كتابه النفيس «القواعد والفوائد» أشهر من أن يعرّف. وعند مقارنة تمهيد القواعد بهذا الكتاب، نشهد فرقاً واضحاً بين منهج هذين الرجلين علی هذا الصعيد، نذكر بعضاً منه:
أمّا غاية الشهيد الثاني فهي ـ إضافة إلی التفريع ـ التطبيق، فهو أحياناً كثيرة يشير إلی المنهج الاستدلالي لتفريعه، ثم يسعی إلی تطبيقه.
بعض من أفكاره في أصول الفقه
1. الحد الأقلّ والأكثر من الدين:
من البحوث المهمّة التي يطرحها الشهيد الثاني (ضمن القاعدة 87) كون جميع أفعال النبيP حجة، إلا ما ثبت بالدليل على خلاف ذلك.
لكنّه في هامش هذا البحث يتعرّض لمسألة مبتكرة، وهي أنّه إذا كانت كلّ أفعال النبيP إنّما هي في مقام بيان الأحكام الشرعية فتحمل علی العبادة، وهو الهدف من بعثة الأنبياء، وكذلك يمكن حملها علی الفعل العادي من باب أنّ الأصل عدم التشريع، فعند الشكّ أيّهما يقدّم؟ يقول: في المسألة خلاف.
ثم إنّه يفرّع علی هذه المسألة جملة مسائل، منها:
أ- حكم جلسة الاستراحة في الصلاة، واجبة أم لا؟
ب- دخول مكة من طريق كذا والخروج من طريق كذا، فواجب أم لا؟
ج- نزول النبي P في حجة الوداع في منطقة «محصّب» هل هو واجب علیالآخرين أم لا؟
ثم يقول مضيفاً ومجيباً: «وعندنا ذلك كلّه محمول علی الشرعي، لعموم أدلّة التأسّي».
وهذه القاعدة وما ترتّب عليها من فروع تعدّ اليوم من البحوث الفقهية الرائجة، وتحت عنوان: هل الدين الحدّ الأقلّ أم الأكثر.
2. دوران الحكم بين الحكومة والأصل الأوّلي:
يذكر في آخر شرحه للقاعدة (89) أنّ فعل النبيP أو قوله هو أحياناً من موقع تبليغ الأحكام الشرعية، بحيث يقع موقع الفتوی، من مقام الإمامة ولوازمها، مثل حكم الجهاد والتصرّف في بيت المال، وأحياناً من موقع القضاء ولوازمه. ثم يضيف بعد ذلك متسائلاً: في حال الشكّ ما العمل؟ وثمرة هذا البحث تظهر في مثل قولهP: «من أحيا أرضاً ميتاً فهي له». فلو كان في مقام التبليغ فلا يلزم إذن الإمام في عصر الحضور أو نائبه (ولي الفقيه) في عصر الغيبة، ولو كان غير ذلك فالإذن لازم في المقام.
ومن هنا ففي موارد الشكّ يجب الحمل علی ما في حيثية الصدور، من باب ترجيح الغالب علی النادر.
3. دوران الفعل بين الوجوب والندب:
لو ثبت فعل من أفعال النبي الأكرمP بقصد القربة، لكن شكّ في أنّه واجب أم مستحب، فهل يحمل علی الوجوب أم الندب؟
يذكر الشهيد الثاني هذه المسألة في ذيل القاعدة (89)، ويعقّب أنّ لها ثمرات فقهية، منها: رعاية التأسي برسول الله في تحصيل الطهارة من غير الغسل، الموالاة في الطواف، تقديم خطبة الجمعة أو العيد إذا اجتمعا، المبيت في المشعر الحرام... وغير ذلك.
ومن هنا فمن الضروري مطالعة تاريخ وسيرة المعصومين R، إذ إنّ مصاديق هذه المسألة وما يماثلها تكثر في سيرتهمR.
4. تعارض الأصل والظاهر:
من البحوث التي انفرد بطرحها الشهيد الثاني، هو بحث تعارض الأصل مع الظاهر الذي يطرحه مفصّلاً في القاعدة (99)، حيث يبحثه في أربعة أقسام:
أولها: الموارد التي يعمل بظاهرها، والأصل الترك، فأتی بما يقارب أحد عشر مصداقاً فقهياً لها.
ثانيها: الموارد التي يعمل بالأصل لا الظاهر، من باب أنّه دليل شرعي، فأتی بسبعة مصاديق.
ثالثها:الموارد التي يعمل بالظاهر، وترك العمل بالأصل، ليس من باب أنّه دليل شرعي، وإنّما هو من باب تقديم الظاهر علی الأصل. وأتی بستة عشر مصداقاً لها.
رابعها: في موارد الشك، أيّهما يقدّم: الظاهر أم الأصل؟ وقد أورد سبعة مصاديق عليها. وبهذا يكون المجموع ما يقارب الخمسين فرعاً فقهياً كمصاديق وأمثلة للقاعدة المذكورة.
5. الضابط في دلالة الأمر علی الوجوب:
ثمّة موارد يتحرك المكلّف نحو امتثال المأمور به، بصيغة الأمر لكن بصرف النظر عنه، فالدلالة في مثل هكذا موارد ليس علی نحو الوجوب، لأنّ الغاية من وجوب المأمور به هو البعث والتحريك للمكلّف لتحقيق أمر أو فرض.
يقول M في القاعدة (33): «إذا أمر بشيء يتعلّق بالمأمور، وكان عند المأمور دافع يحمله علی الإتيان به، فلا يحمل ذلك الأمر علی الوجوب لأنّ المقصود في الإيجاب إنّما هو الحثّ علی طلب الفعل».
إنّ هذه الالتفاتة من الشهيد الثاني تعدّ إحدی اهتمامات هذا الفقيه علی نحو الدقّة في تشخيص المطالب، وإحدی الخصائص التي تميّز بها عن غيره من الفقهاء.
6. أقسام متعلّق الواجب:
يذكر الشهيد الثاني في القاعدة (12) مورداً ظريفاً يتعلّق بالحكم الإسلامي وما يصدق عليه من أمور، مثل المسح علی الرأس في الوضوء، والأضحية في الحج، يذكر ستة ثمرات فقهية مترتبة علی هذه المسألة.
منها: لو صدق بشدة مسمّی المسح، فهل يحكم عليه بالوجوب أم الاستحباب؟ أقوال، أحدها التفصيل بين أن يكون المسح دفعة واحدة أو دفعات أو بالتدريج. ففي الأول يصدق الواجب، والثاني، بمقدار مسمّی الواجب والباقي مستحب.
ولا يخفی أنّ لهذه القاعدة مصاديق كثيرة، من جملتها: الزيادة علی التسبيح الواحد في الركوع والسجود، والزيادة في مقدار الحلق أو التقصير. فهو يذكر خمسة ثمرات فقهية مترتبة علی هذا التفريع.
7. مدلول النهي بعد الوجوب؛
من جملة البحوث التي طرحها الشهيد الثاني هو البحث في أنّ النهي الوارد بعد الوجوب دالّ علی الحرمة أم لا؟ فهو يعتقد أنّ البحث في دلالة الأمر علی الوجوب كما هو مهم ورائج بين المحقّقين، كذلك هذا البحث وهو دلالة النهي على الحرمة، فيقول في القاعدة (41): «من قال: إنّ الأمر بعد التحريم للوجوب، قال: إنّ النهي بعد الوجوب للتحريم أيضاً».
8. تقديم الاستصحاب علی قاعدة اليد:
المشهور بين الأصوليين في موارد تعارض الأصل مع الأمارة، تقدّم الأمارة، فعند تعارض قاعدة اليد وهي أمارة علی الملكية مع استصحاب عدم الملكية لغير ذي اليد، فتقدّم القاعدة هنا. لكن الشهيد الثاني يقدّم استصحاب عدم الملكية في المقام، يقول في القاعدة (96): «لو تعارض الملك القديم واليد الحادثة ففي ترجيح أيهما قولان.. والأوّل مقدّم».
9. حجية قياس منصوص العلّة:
انّ الشهيد بعد تقسيمه للقياس إلی منطقي وفقهي كتب يقول: إنّ قياس منصوص العلّة أو النصّ الدالّ علی العلّة قطعي أم الظاهر والظنّي؟ الأول هو الحجة، وقد ترتب عليه فروعات كثيرة.
بعض من أفكاره في القواعد الأدبية
ذكر جملة من القواعد الأدبية التي تدخل في مجال الأصول، ولها علاقة بعملية الاستنباط، منها:
1. صدق الكلام علی الكتابة دون غيرها:
وقع بين أصحاب النظر بحث مبني علی أنّ إطلاق الكلام علی الكتابة هو من باب المجاز، أم هو من باب الاشتراك اللفظي والحقيقي؟ يطرح الشهيد هذا البحث في القاعدة (103) وذكر له ثمرات فقهية مترتبة عليه، مثل: رجل له زوجتان وقال: إحداهما طالق! وأشار إليها. ففي صورة صدق الكلام علی الإشارة مجازي، فالطلاق غير واقع، وإذا كان الإطلاق من باب الاشتراك اللفظي فالطلاق واقع.
2. مفهوم اسم الفاعل والمفعول:
برأي علماء الصرف والنحو أنّ اسم الفاعل والمفعول إذا أُطلق فيشمل حقيقة الماضي والحال والمستقبل. أمّا الأصوليون فقد اتفقوا علی أنّ معناه يشمل الحال والمستقبل، واختلفوا في الماضي، فقال الأشاعرة بأنّ الإطلاق مجازي، بينما ذهب الإمامية والمعتزلة إلی أنّه حقيقي.
يذكر الشهيد الثاني هذا البحث الأدبي ضمن القاعدة (115) مع ذكر بضع ثمرات فقهية، مثل: قول القائل: وقفت داري علی حفّاظ القرآن. فلو أنّ شخصاً كان حافظاً للقرآن لكنّه الآن نسي، فعلی مذهب الأشاعرة لايصدق عليه، والإمامية تری أنّه يصدق عليه.
3. الترخيم:
وهو عبارة عن حذف آخر الاسم في النداء وغيره... ومن ثمرات هذا البحث الأدبي في مورد أنّ الزوج لو قال لزوجته: «أنت طالِ» بحذف القاف هل تقع صيغة الطلاق أم لا؟ يتعرض الشهيد الثاني للمسألة في القاعدة (200) مع ذكر جملة ثمرات لها، ويری أنّ الطلاق لم يقع بسبب أنّ صيغة الطلاق توقيفية من وجهة نظر الشرع، وعليه يجب أن يتحقّق بشكله الخاصّ به.
4. تبديل الحاء بالهاء، والقاف بالكاف:
من البحوث المطروحة جواز أو عدم جواز تبديل هذه الحروف وإن لم تكن شائعة، لكنّها تشتمل علی ثمرات فقهية، مثل: من يلفظ «الحمد» و«الرحمن» و«الرحيم» بالهاء، فهل صلاته صحيحة؟ يذكر الشهيد في القاعدة (200) أصل المسألة، وأنّها مبتنية علی أنّ القراءة الواجبة يجب أن تكون مطابقة لإحدی القراءات المتواترة. ثم قال: هذه القراءة لو أمكن تصحيحها فهي باطلة، وإن لم يمكن فهي أشبه بمن يلثغ، أي لا يستطيع تلفّظها صحيحة.
5. معنی الفعل المضارع:
ينقل الشهيد الثاني ضمن القاعدة (141) أقوالاً مختلفة حول معنی المضارع:
أ- مشترك بين الحال والمستقبل.
ب- حقيقي في الحال ومجازي في الاستقبال.
ج- عكس الثانية.
د- حقيقي في الحال ولا يستعمل في الاستقبال، لا حقيقةً ولا مجازاً.
ه- عكس الصورة السابقة.
ويرتّب الشهيد بعض الثمرات الفقهية علی هذه الأقوال، مثل: إذا أقسم أحدهم وقال: «والله لأصومنّ» ففي صورة عدم القرينة علی تعيين الحال أو الاستقبال طبق المعنى الأول، فعليه الصيام، الآن أو بعد ذلك، وطبق المعنی الثاني والرابع فأداء الصوم في الوقت الحاضر واجب.
6. ذكر الوصف في نهاية الجمل المتعددة:
يطرح الشهيد في القاعدة (192) بحثاً أدبياً اختلف فيه أرباب هذا الفنّ، وهو في حالة أنّ الكلام إذا اشتمل علی عدّة جمل، وفي نهايتها أتی بوصف، مثل قول القائل: وقفت داري علی أولادي وأولاد أولادي والطلاب والقرّاء العدول. فهل وصف العدول متعلّق بالكلّ أم بالأخير خاصة؟ يذكر الشهيد الثاني أنّ الوصف بناءً علی تعلّقه بكلّ الجمل فهو قيد لها جميعاً وبدون هذا القيد لا يكون حكم، لأنّ الموضوع لم يتحقّق.
7. أقلّ عدد:
في بحث الأعداد، قالوا: إنّ العدد الأقلّ اثنان، وأمّا الواحد فليس هو جزء العدد، بل هو أصل. فهو يذكر في القاعدة (135) أنّ لهذا البحث جملة ثمرات فقهية في باب الاقرار والوصية والنذر... وغيرها.
بعض أفكاره ونقودها
طرح الشهيد الثاني بعضاً من الأفكار لم يرحّب بها الأصوليون، بل وصارت هدفاً لنقودهم، نذكر أهمّها:
1. مفهوم الوصف:
ذكر الشهيد الثاني حجية المفهوم والشرط بعد أن أورد أقوالاً، واختار القول الثالث وهو التفصيل بين المفهومين. ذكره في القاعدة (25) رغم أنّ المشهور في الوقت الحاضر بينهما تفاوت كبير علی صعيد الحجية وعدم الحجّة.
2. مفهوم الزمان والمكان:
من جملة البحوث التي تعرض لها أيضاً مفهوم الزمان والمكان، ذكره في ذيل القاعدة (28) فيقول: «مفهوم الزمان والمكان حجة عند جماعة ومردود عند المحققين».
3. مدلول الفكرة الواقعة في سياق الشرط والإثبات:
من البحوث التي طرحت في عصر الشهيد الثاني هذا البحث وهو أنّ الفكرة الواقعة (أ) في سياق النفي (ب) في سياق الشرط (ج) في سياق الإثبات، فهي من ألفاظ العموم وهل تدلّ عليه أم لا؟ يری الشهيد أنّ ثلاثتها تدلّ علی العموم. ذكر ذلك ضمن القواعد (53، 54 و 55).
4. دخول المتكلم في عموم الخطاب:
ذكر في القاعدة (60) أنّ المتكلم الذي يدخل في متعلّق عموم الخطاب، فهل هو داخل في خطاب الخبر فحسب أم هو يدخل في أعمّ من ذلك كأن يكون للأمر والنهي أيضاً؟
وقد رتّب علی المسألة عشرة فروع فقهية كلّها تدخل في عملية الاستنباط.
5. بطلان المعاملة المنهي عنها:
يری الشهيد الثاني أنّ النهي في المعاملات كالنهي في العبادات موجب للفساد. يقول في القاعدة (42): «النهي في العبادات يدلّ علی الفساد مطلقاً، وكذا في المعاملات، إلاّ أن يرجع النهي إلی أمر تقارن للقصد غير لازم له، بل منفك عنه، كالنهي عن البيع يوم الجمعة وقت النداء».
6. دخول العبيد في عموم خطابات الشارع:
في نهاية القاعدة (61) يطرح الشهيد الثاني مسألة دخول العبيد والرقّ في عموم الخطابات الشرعية، كالمسلمين والمؤمنين. ورتّب علی ذلك بضع نتائج فقهية وإن كان هذا الموضوع لم يلق ترحيباً من الآخرين.
7. اختصاص الخطابات بالمشافهة:
ذكر في القاعدة (63) أنّ الخطابات مثل «يا أيّها الناس» تشمل الحاضرين في عصر الخطاب فقط، ولا تشمل ما بعدهم يقول: «خطاب المشافهة نحو (يا أيّها الناس) ليس خطاباً لمن بعدهم، وإنّما يثبت الحكم بدليل آخر كالإجماع».
8. الاختصار في بحث الخبر:
من جملة البحوث التي تعرّض لها، واشتهرت في كتب الأصوليين إلی الآن هو بحث حجية خبر الواحد، ومن جهات متعددة، حيث يذكر في الباب (8) من المقصد الثاني من كتابه التمهيد، مطالب عديدة متعلقة بهذه المسأله. وكذا في القاعدة (90) حيث يذكر تعريف الخبر وفروع ذلك، وفي القاعدة (91) يبحث في مفهوم الصدق والكذب، وفي القاعدة (92) حول القرائن المسبّبة للخبر ودخلها في مصداقه. فالموضوع رغم أهميته في علم الأصول، وقد أفرد له الأصوليون أبواباً خاصة به، إلا أنّ الشهيد لم يتعرّض له إلا اختصاراً، ولعلّ ذلك عدّ من وارد نقص كتابه.
9. تهميش البحوث الأصلية:
فالشهيد الثاني وخلال بحثه حول «المفاهيم» وهو من البحوث المحورية والمهمة في علم الأصول، نجده يوردها في الحواشي أو الملاحق لبحوث أخری. ونری أنّ ذلك نقصاً يلحق بالكتاب.
10. عدم اهتمامه بالبحوث العقلية:
لم يبد الشهيد الثاني اهتماماً بالبحوث المتعلّقة بالعقل، بل يكاد لم يذكرها في كتابه، في وقت تشكّل هذه البحوث أحد مصادر استنباط الأحكام، وتحتلّ مساحة واسعة من علم الأصول، ولها أثر في مقدمات الأدلّة الأخری.
المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين
المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين
الفهرس
المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين
على هامش المؤتمر، لقاء مع السفير الإيراني الدكتور غضنفر ركن أباد
على هامش المؤتمر، لقاء مع السفير الإيراني الدكتور غضنفر ركن أباد
على هامش المؤتمر، لقاء مع السفير الإيراني الدكتور غضنفر ركن أباد
على هامش المؤتمر، لقاء مع السفير الإيراني الدكتور غضنفر ركن أباد
على هامش المؤتمر، لقاء مع السفير الإيراني الدكتور غضنفر ركن أباد
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح
لقطات من الحضور في جلسة الإفتتاح