جمعية الإمام الصادق Q
لإحياء التراث العلمائي
جمعية الإمام الصادق Q
لإحياء التراث العلمائي
سلسلة ندوات الفقه المقارن
الندوة الثانية بمناسبة الحج 1432هـ.
زيارة القبور والمقامات
من وجهة نظر المذاهب الإسلامية
ندوة المقامات
$
ندوة المقامات
الجهات الداعية:
وبمشاركة:
الكتاب: ندوة المقامات |
إعداد: الشيخ حسن بغدادي |
الطبعة الأولى 2011 م - 1432 هـ - بيروت-لبنان |
جميع حقوق الطبع محفوظة |
مقدمة
اذ نضع بين أيدي القراء الاعزاء هذه السلسلة من الندوات العلمية (ذات الفقه المقارن)، نهدف الى الاضاءة على جملة عناوين، هي محل ابتلاء عموم المسلمين من خلال التنقيب والبحث في تراث علمائنا الاجلاء.
فالفقه المقارن، او الذي نسميه «فقه الاختلاف»، هو البحث والعرض والاطلاع على الآراء ومباني علماء المذاهب الاسلامية، وهذا لم يكن فعلا مستحدثا، وانما سبقنا اليه كبار السادة الاعاظم منذ مئات السنين.
فالشيخ الطوسي، منذ ما يقرب من ألف عام، كتب في الفقه المقارن من خلال كتابه «الخلاف» المكون من أجزاء عدة، استعرض فيه آراء علماء المذاهب الاسلامية.
وكذلك فعل منذ سبعمائة سنة، العلامة الحلي في كتابه «منتهى المطلب»، وهو من أجزاء عدة. وقد كان العلامة الحلي مطلعا على مباني المذاهب الاسلامية أكثر من فقهاء المذاهب أنفسهم، وسار على نفس الطريق والنهج، بل زادا عليه، العالمان الكبيران: الشيخ محمد بن مكي الجزيني، المعروف بالشهيد الاول (المستشهد في دمشق أيام المماليك سنة 786 هـ). والشيخ زين الدين بن علي الجباعي، المعروف بالشهيد الثاني، (المستشهد سنة 965 هـ، في اسطنبول في العهد العثماني).
وقد أضافا على مفهوم الفقه المقارن، نهجًا جديدًا، وهو الاتجاه مباشرة إلى علماء المذاهب الاسلامية في عواصم العالمين، العربي والاسلامي، فزارا دمشق ومكة المكرمة والمدينة المنورة وفلسطين ومصر واسطنبول، إضافة إلى نشاطيهما في لبنان.
وكما عبر الشهيد الاول في اجازته لابن الخازن الحائري في دمشق :«قرأتُ على أربعين شيخًا من علماء أهل السنة».
وكان الهدف من هذا الاسلوب والنهج تحقيق أمور عدة:
الاول
هو المنحى العلمي والاستفادة المباشرة من خلال:
الدرس والمباحثة والمماحكة العلمية، حتى اذا ما افتوا بمسألة أو حكموا بقضية، تكون هذه الفتوى ناتجة عن محصلة علمية، يكون صاحبها قد استفرغ الوسع عن جميع الادلة والمباني الفقهية لدى علماء المذاهب الاسلامية، وهذا لا يتحقق الا بالاطلاع على مباني المذاهب الاسلامية.
الثاني
هذا الاسلوب يفرض على علماء المذاهب، الاطلاع على مباني الفقه الجعفري، وبالتالي هو اسلوب جديد بما يفرض الاطلاع والمعرفة، كي لا تبقى علومهم ناقصة، ويكون أقرب لالقاء الحجة عليهم.
الثالث
هذا التواصل يؤدي الى مودة ورحمة، وسرعان ما ينعكس على عموم المسلمين، وهذا ما ظهر من وجود الشهيد الثاني في بعلبك (المدرسة النورية) سنة 953 هـ، عندما كان يُدرّس الفقه طبق المذاهب الاسلامية الخمسة.
الرابع
الفقه المقارن يفتح أفاقا علمية واجتماعية وفكرية، على كل ما يهم المسلمين في حياتهم السياسية والاجتماعية والسلوكية، وخصوصًا في القضايا المشتركة التي تكون اسرع الى توحيد المشاعر، مثل: مناسبة الحج وزيارة قبر النبي P والأعياد.
الخامس
الفقه المقارن يقطع الطريق على المصطادين في الماء العكر، الذين يعملون، ليلًا نهارًا، للنيل من وحدة المسلمين، من خلال التشويش في ذهنية علماء المذاهب الاسلامية، وهذا ما نسعى نحن الى تجنبه والخلاص منه، من خلال التفكير الجدي في معالجة الكثير من القضايا المشتركة التي تهمنا جميعًا.
في موضوعنا هذا، زيارة القبور والمقامات، هناك فئة خارجة على إجماع المسلمين، حاولت ولا زالت تعمل على بث الفرقة بين المسلمين، وخصوصا في قضية زيارة القبور والمقامات، وهي تدعي زورًا أنها من بدع الشيعة، مع العلم ان هانك اجماع بين المذاهب الاسلامية، على استحباب هذه الزيارة، والدعاء والاستغفار، وشد الرحال، الى ما هنالك من أمور متصلة.
ومن خلال هذه الندوات تتاح لنا فرصة الاطلاع، واطلاع الاخرين على الوجه الحقيقي لإجماع علماء المذاهب الاسلامية على هذه المسائل.
وانا هنا أشكر سماحة آية الله الشيخ محمد علي التسخيري، الامين العام لمجمع التقريب بين المذاهب الاسلامية،على تعاونه ورعايته لهذه الندوات العلمية والفكرية ذات طابع الفقه المقارن. وكنا سابقًا قد اقمنا، وبالتعاون مع هذا المجمع الكريم، الندوة الاولى حول «الفقه المقارن في احكام الحج من خلال رؤى الشهيدين (قدس سرهما)»، سائلين المولى عز وجل ان يعيننا على هذه المهمة الشاقة والصعبة، انه نعم المولى ونعم النصير .
الشيخ حسن بغدادي
مسؤول احياء تراث علماء الشيعة في حزب الله
رسالة موجهة من الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية إلى الشيخ حسن البغدادي يشكره فيها على القيام بهذا الدور التقريبي.
فضيلة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حسن بغدادي
عضو المجلس المركزي في حزب الله ورئيس جمعية الإمام الصادقQ لإحياء التراث العلمائي - بيروت
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
تلقيت ببالغ الشكر والامتنان تفاصيل الندوة التي نظمتها جمعيتكم الموقرة بالتعاون مع المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية وجامعة المصطفىQ العالمية تحت عنوان «أحكام زيارة القبور والمقامات بين وجهة نظر المذاهب الاسلامية» وإنني إذ أشكركم على نشاطاتكم التقريبية المباركة، وأرجو من الله جل وعلا أن يوفقكم ويسدد خطاكم لخدمة إمتنا الإسلامية العظيمة
طهران في 23/10/2011م
كلمة الشيخ حسن بغدادي*
الأحاديث المشتركة الواردة عن رسول اللهP
ضمن سلسلة ندوات الفقه المقارن، وبمناسبة حلول موسم الحج الإلهي - الندوة الثانية، كانت إطلالة على احكام زيارة القبور والمقامات الشريفة، التي اعتاد المسلمون طوال التاريخ على زيارتها في موسمي الحج والعمرة. فبعد الانتهاء من مناسك الحج والعمرة يتوجهون إلى زيارة النبيP والأئمةQ وآل الرسول والأصحاب، والشهداء في مقبرة البقيع، مضافًا لزيارة شهداء أحد وفي مقدمتهم زيارة سيد شهداء عصره الحمزةQ، وكذلك زيارة مقابر قريش في مكة المكرمة التي طالما كان رسول اللهP يتردد إليها، ففيها كافله أبو طالب(رض) وزوجته خديجة (رض) ومئات الشهداء والقادة والأصحاب.
ولعل زيارة القبور والمقامات الشريفة، من العناوين التي أجمع عليها المسلمون على مختلف مذاهبهم، إلا انه خرج على هذا الاجماع بعض الجهات، كالوهابية، التي حاولت أن تفرض قناعاتها على المسلمين، بعيدًا عن الحوار والمنطق، تاركين سيرة الرسولP والأحاديث المتواترة وما سار عليه الأصحاب وائمة المذاهب، خلف ظهورهم، محاولين التستر وراء أقوال وأحاديث لا علاقة لها بالموضوع على الإطلاق، كحديث «خير القبور الدوارس»، مع العلم اننا نقول بصحة هذا الحديث، ويجمع عليه المسلمون، إلا أنه خارج عما نحن فيه من الحديث عن الزيارة التي تذكّر بالآخرة، لا عن تشييد القبور.[1]
في هذه الندوة سنعالج المسألة بالتفصيل، وبمقاربة علمية، بعيدًا عن التعصب والغوغائية، ضمن مجموعة محاور، وإن ظهر لأول وهلة أن فيها شيئًا من التداخل، إلا أن التفصيل في هذه المحاور سوف يتمم الفائدة.
المحور الأول:
علاقة الإنسان بالحياة بعد الموت:
ومحور الحديث هو انفصال الروح عن الجسد بعد الموت، وأن الموت ينهي الجسد، وتبقى الروح في عالم لا يمكن إدراكه بالمادة المجرّدة، لذلك لا يمكن مشاهدة هذه الروح الا من خلال الروح التي تتجرد عن الجسد في حالة النوم، فتستطيع حينئذ الروح المجردة من المادة عند النوم ان تشاهد وتلتقي الروح التي خرجت من سجن البدن بالكامل بعد الموت، وهذا ما يسمى عالم الأرواح أو عالم البرزخ، الذي تكون فيه الأرواح بدون أجساد، من دون أن تدرك حقيقة تلك الروح. في هذا المعنى تبقى العلاقة بين الروح التي خرجت من الجسد بعد الموت وبين الدنيا في محطات متعددة، تعرضت لها الأحاديث الشريفة، وإلا لو قلنا بالانقطاع التام لما بقي معنى للوصية وللقول بحق الانسان التصرف في ثلث التركة بعد الموت.
إذًا، هذا المحور يُثبت هذا التواصل، وينفي الانعدام الكلي بعد الموت، فالموت ينهي الجسد فقط، وما دفنه إلا تكريمًا له، ورفعًا للحرج عنا، نحن الأحياء.
المحور الثاني:
المبنى الفقهي لدى علماء المذاهب في زيارة القبور.
المحور الثالث:
سيرة الرسول الأعظمP في زيارة القبور، وفلسفة هذه الزيارة .
المحور الرابع:
الأحدايث المشتركة التي وردت عن رسول اللهP من طرق الفريقين، والتي تُثبت استحباب الزيارة، وتفند كل الشبهات والإشكالات التي حاول البعض أن يُثيرها من خلال فهم خاطئ بالحد الأدنى.
قبل استعراض الاشكالات الواردة والاجابة عليها والاستفادة من الاحاديث المشتركة في اثبات استحباب الزيارة، أقول : زيارة القبور تؤسس لأمور أربعة:
الأول: بعدما نثبت علاقة الانسان بالدنيا بعد الموت وبقاء هذا التواصل من خلال الروح، تكون الروايات التي دلت على استحباب زيارة المؤمنين لإدخال السرور عليهم في دار الدنيا شاملة لإدخال السرور عليهم في عالم البرزخ.
الثاني: بناء على تحقيق وثبوت الأول، فإن الدعاء والاستغفار لهم سوف يجعل المزيد من الحسنات في كفة حسناتهم، ويمحو الكثير من السيئات عنهم.
الثالث: زيارة القبور تحقق العبرة والتذكر.
فالإنسان المفطور على الامل والاسترسال في حب الحياة والبقاء، بحاجة إلى من يقطع عليه أمله ويذكره بالموت والرحيل، ويقلل من تمسكه بالدنيا، وهذا لا يتحقق الا بالموعظة الحسنة وزيارة القبور للاعتبار، ولمشاهدة آثار قوم كانوا أكثر منا قوة وبطشًا وحضورًا، فاصبحوا أثرًا بعد عين، في عالم قريب منا وبعيد جدًا عنا، وبهذا نقبل باليسير ونقنع بالقليل وتهون علينا أمور معاشنا.
الرابع: الثواب الذي نحصل عليه - نحن الأحياء- من خلال اتيان المستحبات التي يثيب الله تعالى عبده عليها، خصوصًا أنها تأتي بملء الإرادة.
لقد حاول البعض الخلط بين هذه القضايا المشروعة والمستحبة، وبين توهم أمور لا وجود لها عندنا.
ولتوضيح المطلب يمكن تلخيص الاوهام والاشكالات التي افترضها المخالفون بثلاث شبهات أو إشكالات:
الإشكال الأول: التمسك بروايات النهي عن تشييد القبور، ورواية «خير القبور الدوارس».
الاشكال الثاني: الميت بعد الدفن يصبح ترابًا، وعليه لا تبقى قيمة له، وزيارته فيها شيء من الخرافة، فأنت تزور التراب وتقدسه.
الاشكال الثالث: الدعاء والاستغفار يلزم منه الدعاء لغير الله تعالى، وبالتالي التوسل المحرم الذي يؤدي الى الشراكة ونهايته الشرك.
الجواب على الإشكال الأول:
فنحن لا ننكر هذا الكلام، ونعتقد بصحة الروايات التي نهت عن تشييد القبور، وكذلك نعتقد برواية «خير القبور الدوارس»، وهذا باجماع المسلمين، مضافًا إلى أن تشييد القبور يتنافى مع غرض الزيارة (العبادة والتأمّل)، حتى يتنبه الاحياء، فتخشع قلوبهم بمشاهدتهم لمصيرهم الحتمي الذي ينتظرهم. ولكن هذا الاشكال خارج دائرة بحثنا. نحن نبحث في مشروعية الزيارة التي تذكر بالآخرة، وكلما كان القبر دارسًا كانت العبرة اشد. وبالتالي نحن نحاكي الروح التي اثبتنا حضورها بدليل الوصية، فلو انقطعت عن الدنيا بشكل تام لا يبقى معنى للوصية. ولما بقي حق التصرف للانسان بثلث التركة بعد الموت، ولما كانت كل تلك المستحبات التي نفعلها للميت لحظة الاحتضار، الى الغسل والتشييع والدفن، هذا كله لطمأنة الروح ولجعلها تهدأ من هول ما شاهدته. فصحيحٌ الروح خرجت بالموت من سجن هذا البدن، إلا أنها تبقى مشدودة اليه ومتعلقة به نتيجة تلك العُلقة التي ترسخت طوال تلك السنين.
اما ما يتعلق بالنبي P وآلهQ والأصحاب والشهداء، فتشييد قبورهم والبناء عليها والمحافظة عليها يدخل تحت عنوان تعظيم الإسلام وأهله.
الجواب على الاشكال الثاني (اننا نزور التراب):
فهذا ايضا غير صحيح، بعدما اثبتنا فصل الروح عن البدن، وعدم الانقطاع التام بالموت حتى يوم القيامة، يوم البعث للحساب، وهذا معنى الحديث الشريف: «من سن سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها االى يوم القيامة».
الجواب على الاشكال الثالث (التوسل):
فأيضًا نقول: اذا كان الدعاء والتوسل والاستغفار بصاحب القبر ابتداء وانتهاء من دون صلة الموصول فنحرم ذلك، وما اجمع عليه المسلمون وعلماء المذاهب لا يدل على هذا المعنى، بل هو محض افتراء، او جهل من المدعي بحده الادنى. فمثلا، عزرائيلQ عندما يقبض الارواح هل يصبح شريكا لله تعالى، ام ان ما يقوم به هو باذن من المولى عز وجل. كذلك اذن الله عز وجل لأوليائه ان يشفعوا للناس، وان يستغفروا لهم، فأنا عندما اطلب من النبيP المغفرة فكأنني اطلبها من الله تعالى، وإنما اتوجه الى نبيه لانه تعالى طلب مني ذلك، ان اقدم اشرف الناس شفعاء لي بين يديه تبارك وتعالى. فنحن بهذا المعنى لا نشرك مع الله احدا، إذ نؤمن بالله وحده لا شريك له ابدا، وما ورد في زيارة النبيP والدعاء وطلب الاستغفار لا يدل على هذا المعنى كما في قوله تعالى }ولو انهم ظلموا انفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما{ النساء - آية 64.
والسمهودي في وفاء الوفاء ص 411 قال: ان العلماء فهموا من هذه الآية العموم لحالتي الموت والحياة، وانه يستحب لمن اتى قبر النبيP ان يتلو هذه الآية.
اما الاحاديث التي وردت في استحباب زيارة القبور فهي على قسمين : قسم مرتبط بزيارة عموم قبور المؤمنين، وقسم خاص بالنبيP وآله وأصحابه.
اما القسم الاول:
فقد ورد عن رسول الله P : كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها في الدنيا تذكر الآخرة، يبقى السؤال: لماذا النهي عن زيارة القبور اذا كانت تذكر الآخرة، ويمكن ان نعلل ذلك بان اصحاب القبور قبل الاسلام كانوا مشركين، والناس حديثو عهد بالاسلام، وبعدما كثر الشهداء والمؤمنون في المقابر بات الموضوع مختلفًا، فلا دعاء ولا استغفار للمشركين.
وروى مسلم في الصحيحين: ان النبي P زار امه فبكى وابكى من حوله وقال: استاذنت ربي ان ازور قبرها فاذن لي، فزوروا القبور فانها تذكركم بالموت.
وكما جاء في صحيح بن ماجه ج 1 / ص 114:
عن عائشة: ان رسول اللهP رخص في زيارة القبور.
وعن عائشة ايضا كما في صحيح مسلم ج 3 ص 46 (باب ما يقال عند دخول القبور) قال P: أمرني ربي ان آتي البقيع فاستغفر لهم، فقالت : كيف اقول يا رسول الله. فقال P : السلام على اهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المتقدمين منا والمتأخرين. إنا الله بكم لاحقون.
روى مسلم وابن ماجه واحمد وغيرهم عن بريدة (رض) قال: كان رسول الله P يُعلمهم اذا خرجوا الى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام على اهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا ان شاء الله للاحقون.
وروى مسلم والطبراني عن ابي هريرة ان النبي»P اتى المقبرة : فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون.
وروى مسلم ايضا والنسائي وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله P: السلام على اهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله للاحقون.
وروى الترمذي في سنته عن ابن عباس (رض) عنهما قال: مر رسول الله P بقبور المدينة فاقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم، انتم سلفنا ونحن بالأثر». قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وبالاسناد الى صفوان بن يحيى قال: قلت لابي الحسن موسى بن جعفرQ: بلغني ان المؤمن اذا اتاه الزائر انس به فاذا انصرف عنه استوحش فقال : لا يستوحش، وهذا اقرار - وسائل الشيعة.
فالامامQ يقر مشروعية الزيارة وانها تدخل السرور على ارواح المؤمنين.
وبالاسناد اتى محمد بن مسلم قال: قلت لابي عبد اللهQ : الموتى نزورهم؟ قال: نعم. قلت: يعلمون بنا اذا اتيناهم؟ قال Q: اي والله انهم ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستانسون اليكم - وسائل الشيعة.
وبالاسناد الى هشام بن سالم عن ابي عبد الله Q قال: سمعته يقول:
عاشت فاطمة Q بعد ابيها خمسًا وسبعين يومًا لم تُر كاشرة ولا ضاحكة، تاتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين، الاثنين والخميس، فتقول: ها هنا كان رسول الله، وها هنا كان المشركون - وسائل الشيعة.
اما القسم الثاني من الروايات المتعلقة بزيارة مقام النبي P والأئمةQ، فقلنا أن هذا يدخل في اطار التعظيم والتكريم والتعريف بهم، وعدم نكران الجميل، كونهم Q سببا في هدايتنا، وتحملوا من الصعاب والمشقة والقتل في سبيل سعادتنا، فاقل الواجب ان نزور قبورهم ونشكر جميلهم، ونعظم شانهم، ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب، ويمكن ان يكون ترك الزيارة من المحرمات اذا ادى الى التوهين والجفاء كما ورد عن النبيP: من اتى مكة حاجًا ولم يزرني الى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن اتاني زائرًا وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة- الكافي ج 4 ص 548 باب زيارة النبي P.
وهنا ذهب البعض: ان الجفاء للنبي هو محرم، والامام يجبر الناس على الزيارة لو تركوها لكونها من الجفاء المحرم، وتدخل تحت عنوان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال P : من زار قبري بعد موتي، كان كمن هاجر اليّ في حياتي، فان لم تستطيعوا فابعثوا اليّ بالسلام فانه يبلغني - تهذيب الأحكام ج 6 / ص3.
وقالP للحسينQ: يا بني من زارني حيًا أو ميتًا أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك، كان حقًا علي ان ازوره يوم القيامة واخلصه من ذنوبه - الكافي ج 4 - ص 548 باب زيارة النبيP.
وهناك العديد من الروايات عن الامام الصادقQ باستحباب زيارة الأئمة وتعظيمهم.
فقد قال الصادقQ:
من زار امير المؤمنينQ ماشيًا كتب الله له بكل خطوة حجة وعمرة وان رجع ماشيًا كتب الله له بكل خطوة حجتين وعمرتين - تهذيب الاحاكم ج 6 ص 20.
وقالQ:
زيارة النبي تعدل حجتين وعمرتين، وزيارة الحسينQ تعدل حجة وعمرة - تهذيب الاحكام ج6 ص 20.
وقيل للصادق Q:
ما لمن زار واحدًا منكم؟ فقال: كمن زار رسول اللهP - الكافي ج 2 ص 579.
الى آخره من الروايات التي وردت عن طريق الائمة والاصحاب ورسول اللهP في استحباب زيارة قبور الائمة الاطهارQ.
وأما الروايات الواردة عن طريق أهل السنة، فهي كثيرة ومستفيضة، وحتى من الصعب جمعها جميعًا، وإن قدم الشيخ جعفر سبحاني فصلًا في هذا الموضوع في كتابه «الملل والنحل»، فهو ينقل عن موسوعة العلامة الأميني الذي بذل جهودًا كبيرة في جمع الأحاديث.
ونحن هنا نكتفي بذكر بعض المصادر والنماذج كعينات عن تلك الأخبار المستفيضة التي نقلها الشيخ سبحاني عن موسوعة الأميني، إذ لا حاجة الى التكرار، وألحقها بمقالتي لمن يريد المراجعة بالتفصيل:
[1]* عضو المجلس المركزي في حزب الله.
الشيخ عبد الناصر جبري*
سيرة الرسول الأعظم P(مبحث كلامي)
قبل الكلام عن القبور وزيارتها وأسباب الزيارة أحب أن أتكلم عن الحياة، أعني الحياة الإنسانية لا النباتية ولا الحيوانية. إذ إن الحياة عندما بدأت لا تقف عند حد، إنما تتطور}وخلقناكم أطوارًا{، ولو كانت مختلفة بأشكالها وطبقاتها. بدأت عندما كنا بعالم الذر وأخذ الله العهد على بني آدم أن لا يعبدوا إلا إياه }وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ{ الأعراف(172).[1]
ثم عالم النطف ثم عالم الأرحام ثم عالم الطفولة والشباب والشيخوخة، ثم الانتقال إلى مرحلة الموت سواء في القبر أو البحر أو الانتشار وكذلك النوم أو اليقظة. كل هذا حياة، ولو اختلفت القيود التي حولها من طعام أو شراب من طريق الفم أو غيره أو عدم التقيد بالطعام، كما هو الحال في عالم الذر «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». وهناك حياة أخرى بعد الموت بدليل التواصل بين البشر الأموات مع الأحياء، بدليل الرؤى والأخبار عن أشياء لعلها تتعلق بالأموات ولعلها بالأحياء. هذه طبقة من طبقات الحياة. وهناك طبقة لا تتقيد بهذه القيود من مأكل ومشرب ويقظة ومنام، كحياة سيدنا الخضر وسيدنا الياس L وحياة الإمام الثاني عشر Q على مذهب السادة الجعفرية، أي يمكنهم أن يكونوا في أمكنة كثيرة في وقت واحد وأن يأكلوا ويشربوا متى شاؤوا، فهم ليسوا مضطرين ومقيدين بضرورات الحياة البشرية دائمًا، وهناك طبقة من الحياة، مثل طبقة سيدنا إدريس وسيدنا عيسى L, تكتسب لطافة نورانية بالتجرد من ضرورات الحياة البشرية, فهما موجودان في السماوات بجسميهما الدنيوين، وينزل السيد المسيح Q آخر الزمان ليحكم بالقرآن ويكسر الصليب ويقتل الخنزير. وهناك طبقة من الحياة، ذكرها القرآن الكريم، وهي حياة الشهداء وما يلحق بها (بل أحياء عند ربهم يرزقون). وكذلك حياة الأنبياء في قبورهم يصلون. وهناك حياة أهل القبور. لذلك كان النبي الأعظم P عندما يدخل المقابر ليزور أصحابه يقول لهم: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا بكم إن شاء الله لاحقون، اللهم لا تفتنّا بعدهم ولا تحرمنا أجرهم، واغفر لنا ولهم». فلو لم يسمعوا لم يكن النبي P ليسلّم عليهم، وإلّا لكان الدفن نهاية الوجود، فالجسد آلة للذات أو الروح، للرقي بالإنسان إلى مصافي القرب، وبعد الانتهاء من هذا الجسد يدفن ليعود إلى أصله وتعود الروح إلى مكانها. فلما قتل قابيل أخاه هابيل: }فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ{ المائدة (30-31).
وقد ورد عن الإمام علي بن أبي طالب Q ورضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله P أن ندفن موتانا وسط قوم صالحين فإن الموتى يتأذون بالجار السوء كما يتأذى به الأحياء، لذلك كانت زيارة القبور. بخصوص عموم المسلمين:
اسرد حيث الصالحين وسمهم |
فبذكرهم تتنزل الرحمات |
واحضر مجالسهم تنل بركاتهم |
وقبورهم زرهم إذا ماتوا |
فعودة الروح للبرزخ وعودة الجسد لأصله لا ينافي نقاء بقاء العلاقة بينهما، ولقد ورد عن النبي P: ما من أحد يمر قبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه، وأخرج الطحاوي عن عمرو بن حزم بلفظ: رآني رسول الله P على قبر، فقال: انزل عن القبر لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك، لذلك كان عليه الصلاة والسلام، إن دخل البقيع خلع حذاءه الشريف خلال زيارته لأصحابه. وقد زار النبي الأعظم P قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة. وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله P يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية. فالحياة البرزخية حياة حقيقية ولو اختلفت صورها فهي استمرار للحياة الأولى، ولكن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم مميزات، إذ لا تفنى أجسامهم، فهم أحياء في قبورهم يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور، وخلال إسراء النبي الأعظم P رأى نبي الله موسى Q وهو قائم يصلي في قبره، وكذلك عندما مرّ بسيدنا إبراهيم Q رآه قائمًا يصلي في قبره.وجاء في السنن عن اوس ابن أوس قال: قال رسول الله P: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي يقولون قد بليت فقال P: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وما من مسلم يسلم عليه P إلا رد الله عليه روحه حتى يرد P، ولذلك كان التبرك بالنبي الأعظم P في حياته وبعد مماته، وكذلك بالأولياء والصالحين كما كان مباحًا للأمم السابقة، وقد ذكر ربنا تبارك وتعالى في القرآن الكريم فضيلة التابوت :}وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ البقرة (248)
والحديث عن هذا الموضوع لطيف وجميل ولكن الوقت لا يسمح والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1]* عميد كلية الدعوة الاسلامية - بيروت
الشيخ مصطفى جعفري*
المبنى الفقهي لدى علماء المذاهب
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على حبيبه محمد المصطفى وعلى آله وصحبه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان الى يوم الدين .[1]
الموضوع:حول زيارة القبور والتبرك بها
يمكن تلخيص الموضوع بثلاث نقاط وخاتمة
النقطة الأولى: إشارة إلى تــاريخ البحث عن المــــوضوع
النقطة الثانية: كـلام حــــول زيارة القبور بشكل عام
النقطة الثالثة:كلام حول زيارة قبر النبي الأعظمP
خاتمة المطاف
النقطة الأولى
إشارة الى تاريخ البحث
قد جرت سيرة المسلمين منذ عصر الصحابة, على زيارة القبور والتبرك بها والتقرب الى الله باتيانها, وهذه -كما سنشرح- من المتسالم عليها بين فرق المسلمين فلم ينكر أحد منهم ذلك، إلّا القول الشاذّ الذي صدر من ابن تيمية الحرّاني في القرن الثامن, وتبعه محمد بن عبد الوهاب النجدي, إذ خالفا تلك السّنة الجارية وتشدّدا في إنكارها، وأفتيا بحرمة شدّ الرحال لزيارة النبيP وعدّا السفر لأجله معصية حتى ادّعى ابن تيمية أنّ أحدًا من المسلمين لن يستطيع أن يثبت لزيارة قبره الشريف فضلًا ما، وقال هذا واضح من سيرة المسلمين الأولين.[2]
ولكن قد خالفه أعلام عصره فقابلوه بالطعن والردّ الشديد، كتقي الدين السكبي في تأليفه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» و «الدرّة المفيدة في الردّ على ابن تيمية»، وقاضي قضاة المالكية تقي الدين أبي عبدالله الأخنائي، وفخر بن المعلم القرشي، وتقي الدين الحصني، وتاج الدين الفاكهاني، ومحمد بن عبد المجيد الفاسي والى غير هؤلاء من كبار علماء المذاهب الأربعة.
ومن ضمن هؤلاء الأكابر من علماء السنّة، نرى أن الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أخذ في الردّ على أخيه محمد بن عبد الوهاب في «الصواعق الإلهية في الردّ على الوهابية».
وقد أصدر الشاميّون فتوى وكتب عليها البرهان بن الفركاخ الفزاري وقال بتكفيره ووافقه على ذلك الشهاب بن جهبل، وكتب تحت خطّه كذلك المالكي، ثم عرضت الفتوى لقاضي قضاة المذاهب الأربعة بمصر أيام تلك الفتنة في سنة 726هـ، فكتبوا عليها كلمات مؤيّدة لها وحكموا بحبسه والمبالغة في زجره حسبما تندفع تلك المفسدة وغيرها من المفاسد[3].
وهكذا استنكر علماء الاسلام على ابن تيمية ما أبدعه من الآراء المحدثة الشاذة، عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ونودي عليه، كما عن ابن حجر العسقلاني بدمشق، من اعتقد عقيدة ابن تيمية حلّ ماله ودمه.[4]
يقول الشيخ تقي الدين السكبي: «إن من المعلوم من الدين وسِيَر السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين، فكيف بالأنبياء والمرسلين ومن ادّعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء، فقد أتى أمرًا عظيمًا نقطع ببطلانه وخطئه فيه، وفيه حطّ لدرجة النبيP الى درجة من سواه من المسلمين، وذلك كفر متيقن، فإنّ من حطّ رتبة النبي P عمّا يجب له فقد كفر[5].(انتهى كلامه).
النقطة الثانية
الكلام حول زيارة القبور بشكل عام
1- الحثّ على زيارة القبور في السنّة
ورد في السنّة الصحيحة، المتفق عليها، الأمر بزيارة القبور والحثّ عليها. واتفقت آراء أعلام المذاهب الاسلامية على الفتيا بمفادها وأنّها تستحب، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها، أخذًا بظاهر الأمر .
فمن تلك النصوص:
- ما رواه بريده: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها. أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في سننه.
- وعن عبد الله بن مسعود: ألا فزوروا القبور فإنها تُزهّد في الدنيا وتُذكّر بالآخرة. أخرجه ابن ماجة في سننه.
وعن عائشة: كان P يخرج الى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون غدًا مؤجّلون وإنّا بكم انشاء الله لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد. أخرجه مسلم في صحيحه.
وكانت فاطمة O تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلّي وتبكي عنده. أخرجه البيهقي في سنته والحاكم في المستدرك.
2- رأي فقهاء المذاهب الأربعة في زيارة القبور
قد أفتى باستحباب زيارة القبور فقهاء المذاهب الاربعة كالشيخ يوسف الأردبيلي الشافعي وابن نجيم المصري الحنفي وابن حجر المكّي الهيتمي والشيخ محمد الخطيب الشربيني والملّا علي الهروي القاري الحنفي وابن عابدين والشيخ ابراهيم الباجوري والشيخ عبد الباسط ابن الشيخ علي الفاخوري وعبد المعطي السقّا .
وقال عبد الرحمن الجزيري في الفقه على المذاهب الأربعة: زيارة القبور مندوبة للإتّعاظ وتذكّر الآخرة وتتأكد يوم الجمعة ويومًا قبلها ويومًا بعدها.[6]
3- سيرة المسلمين في زيارة القبور (القبور المقصودة بالزيارة)
هناك قبور تقصد بالزيارة في القرون الاسلامية منذ يومها الأول، ولأعلام المذاهب الاربعة حولها كلمات تعرف من خلالها سيرة المسلمين وشعارهم في القرون الخالية حول زيارة القبور والتبرك بها والدعاء والصلاة لديها، منها:
الى غير هؤلاء من أكابر العلماء الذين تزار قبورهم ويتوسل ويتبرك بقبورهم.
النقطة الثالثة
الكلام حول زيارة النبي الأعظمP
1- الحثّ على زيارة النبيP في السنّة
فقد أخرج أئمة المذاهب الأربعة وحفّاظها في الصحاح والمسانيد أحاديثَ جمّة في الحثّ على زيارة قبر النبيP منها:
والأحاديث المتواترة في هذا المعنى كثيرة جدًّا يبلغ حدّ التواتر بلا شك وشبهة تعتريه.
2- كلمات أعلام المذاهب الأربعة حول زيارة النبيP.
قال أحمد بن محمد المحاملي الشافعي في التجريد: ويستحب للحاج إذا فرغ من مكّة أن يزور قبر النبيP.
وقال طاهر بن عبد الله الطبري: ويستحب للحاج أن يزور قبر النبيP بعد أن يحجّ أو يعتمر.
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية:
فإذا عاد - وليّ الحاج- سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول اللهP ليجمع لهم بين حجّ الله وزيارة قبر رسول اللهP رعايةً لحرمته وقيامًا بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحجّ فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحسنة.
وقال محفوظ بن أحمد الكلوداني الفقيه الحنبلي في كتاب الهداية: وإذا فرغ من الحجّ استحب له زيارة قبر النبيP وقبر صاحبيه.
وقال عيّاض المالكي في الشفاء: وزيارة قبرهP سنّة مجمع عليها وفضيلتها مرغّب فيها.
وقال ابن هبيرة في كتاب اتفاق الأئمة: اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل على أنّ زيارة النبي مستحبة.
وقال الامام محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي في المدخل في فضل زيارة القبور (ملخصًا): وأمّا عظيم جناب الأنبياء والرسلP فيأتي اليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء اليهم فليتّصف بالذّلّ والانكسار والفقر والحاجة، ويحضر قلبه بعين قلبه لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ثم يثني على الله تعالى ثم يصلّي عليهم ويترضّى على أصحابهم ثم يترحم على التابعين لهم بإحسان، ثم يتوسل الى الله تعالى في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم فإنهم باب الله المفتوح وجرت سنّته سبحانه بقضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم.
ثم قال: وأمّا في زيارة سيد الأولين والآخرينQ فكلّ ما ذُكر يزيد عليه إضعافه لأنه الشافع المشفع الذي لا تُردّ شفاعته ولا يخيب من قصده، إذ إنه Q قطب دائرة الكمال، فمن توسل به واستغاث به أو طلب حوائجه منه فلا يُردّ ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار.
وقال الشيخ السبكي الشافعي في كتابه شفاء السقام في زيارة خير الانام ردًّا على ابن تيمية بعد ذكر كثير من أحاديث الباب جعل بابًا من نصوص العلماء من المذاهب الأربعة على استحبابها وإن ذلك مجمع عليه بين المسلمين.
كما أنه عقد بابًا في كون السفر الى الزيارة قربة وأثبته بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، فقال في استدلاله بالإجماع: الإجماع لإطباق السلف والخلف فإنّ الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحجّ يتوجهون الى زيارتهP ومنهم من يفعل ذلك قبل الحجّ، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء من الأعصار القديمة، وذلك أمر لا يرتاب فيه وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون اليه وإن لم يكن طريقهم ويقطعون فيه مسافة بعيدة ويُنفقون فيه الأموال ويبذلون فيه المهج معتقدين أن ذلك قربة وطاعة. وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء غيرهم يستحيل أن يكون خطأ.
وقال السمهودي في وفاء الوفاء بعد ذكر احاديث الباب وأمّا الاجماع: فأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي .
وقال الشيخ محمد الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: أمّا زيارته فمن أعظم القربات للرجال والنساء .
وقال الشوكاني في نيل الاوطار قد اختلفت في زيارة النبي اقوال أهل العلم فذهب الحميري الى أنها مندوبة، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية الى أنها واجبة. وقالت الحنفية: انها قريبة من الواجبات، وذهب ابن تيمية الى أنها غير مشروعة.
وقال الشيخ سلامة العزّامي الشافعي في فرقان القرآن [8]:
ما ملخصه: وقال ابن تيمية من طاف بقبور الصالحين او تمسّح بها كان مرتكبًا أعظم العظائم فمرّة يجعله من الكبائر وأخرى من الشرك، وقد فرغ العلماء المحققون والفقهاء المدققون من بحثها وتدوينها قبل أن يولد هو بقرون فيأبى إلّا أن يخالفهم وربما ادّعى الاجماع على ما يقول وكثيرًا ما يكون الاجماع قد انعقد قبله على خلاف قوله.
ثم قال: وانت إذا تأملت في الامور التي كفّر بها المسلمين وجعلها عبادة لغير الله وجدت حجّته ترجع الى مقدمتين صدقت كبراهما وهي كل عبادة لغير الله شرك وهي معلومة من الدين بالضرورة وكذبت صغراهما وهي قوله: كل نداء لميّت أو غائب أو طواف بقبر أو تمسّح به أو ذبح أو نذر لصاحبه فهو عبادة لغير الله .
ثم يخرج من هذا القياس الذي فسدت إحدى مقدمتيه بنتيجة لا محالة كاذبة وهي أن جمهور المسلمين -إلّا إيّاه ومن شايعه- مشركون كافرون.
وقد أجاد تلخيص هذا المذهب وتزييفه منطقيًا كل الاجادة سيد أهل التحقيق الامام أبو عبدالله محمد بن عبد المجيد القاسي المتوفي سنة 1229هـ، في مؤلَّف ردّ به على ذلك المذهب.
فيقول: ولقد تعدّى هذا الرجل على الجناب المحمدي فقال:
إنّ شدّ الرحال الى زيارته معصية، وان من ناداه مستغيثًا به P بعد وفاته فقد أشرك، وإن كان المستغيث ممتلئ القلب بأنه لا خالق ولا مؤثر إلّا الله وأنّ النبي P إنما ترفع اليه الحوائج ويستغاث به على أن الله جعله منبع كل خير، مقبول الشفاعة، مستجاب الدعاء كما هي عقيدة جميع المسلمين مهما كانوا من العامّة. انتهى.
وأخبر عبدالله بن محمد الانصاري المحدّث قال: رحلنا من شيخنا الفاكهاني (الفقيه المالكي المتضلع، له تآليف قيّمة، متوفي 734) الى دمشق فقصد زيارة نعل سيدنا رسول الله P التي بدار الحديث الأشرفية بدمشق وكنت معه، فلمّا رأى النعل المكّرمة حسر عن رأسه وجعل يقبّله ويُمرّغ وجهه عليه ودموعه تسيل وأنشد:
فلو قيل للمجنون ليلى ووصلها
تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها
أحبّ الى نفسي وأشفى لبلواها [9]
خاتمة المطاف
منتهى القول في زيارة القبور
هذا قليل من كثير مما تداولته أجيال المسلمين من لدن عهد رسول الله P من زيارة قبور الأئمة والأولياء والنبي الأعظم P وشدّ الرحال اليها .
فهل كان المسلمون الأوائل يرون ما يأتون به من الأعمال في مشاهد الموتى كفرًا ثم يتقربون به الى الله؟ كلا.
فحقيق أن نقول :إنه ليس بين المذاهب الأربعة والشيعة اختلاف في هذه المواضيع الهامة وإنما هي مما تسالمت عليه الأمّة الاسلامية.
توسّل الشافعي بآل البيتR:
آل النــــــــــــــــــبي ذريعتي |
وهم اليــــــــــــــــــه وسيلتي |
أرجو بهم أُعطى غدًا |
بيدي اليمين صحيفتي |
ابن حجر /الصواعق المحرمة/ص 180
أنشدت صفية بنت عبد المطلب قصيدة بعد وفاة النبيP في رثائه وجاء فيها قولها:
ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا |
وكنت بنا بـــــــــــــــرًّا ولم تكُ جافيا |
وكنت بنا بـــــــــــــــرًّا رؤوفًا نبيّنا |
لبيك عليك اليوم من كان باكيا |
ذخائر العقبى/ الطبري/ص352
روى الامام القسطلاني في المواهب اللدنية:
وقف اعرابي على قبره الشريفQ وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك فاعتقني من النار على قبر حبيبك.
ثم أنشد القسطلاني:
إنّ الملوك إذا شابت عبيدهم |
في رقّهم اعتقوهم عتقَ أحــــــــــــــــــــــــرار |
وأنت يا سيدي أولى بذا، كرما |
قد شبت في الرق فاعتقني من النار |
من زار قبر محــــــــمــــــد |
نال الشفاعة في غدِ |
بالله كرّر ذكــــــــــــــــــــــــــــره |
وحديـــــــــثه يا منشدي |
واجعل صلاتك دائمًا |
جهرًا عليه تهـــــــــــــتدي |
فهو الرسول المصطفى |
ذو الجود والكفّ النـدي |
وهو المشفّع في الورى |
من هول يـــوم المــــــــــوعد |
والحوض مخصوص به |
في الحشر عذب المورد |
صلّـــــــــــــى عليه ربــــــــــــــــنا |
مـــــــا لاح نـــــجم الفـرقــــــــد |
الشيخ شعيب في الروض الفئق 2/ 138 /الغدير /ج5 /164
[1]* ممثل جامعة المصطفى العالمية في لبنان.
[2]الغدير /5 /138- الصراع / 1 / 171
[3] محمد زاهي الكوثر، تكملة السيف الصقيل
[4] الدرّ الكامن، ج1/147
[5] شفاء السقام، ص 130
[6] الغدير / 5 -251-261
[7] راجعه: عبد الحسين الأمين، الغدير في الكتاب والسنة والأدب.ج5/ص143-164
[8] فرقان القرآن 133/ الغدير/ ج5/ص 226
[9] الديباج المذهب/ص187 /الغدير /ج 5/ ص228
الشيخ أحمد مبلغي*
علاقة الإنسان بالدنيا بعد الموت
الحدود والمعيار
بسم الله الرحمن الرحيم
تنتظم مباحث هذه الورقة في محورين:[1]
- نقاط عامة حول الروح
- نشاطات وفعاليات الروح
المحور الأول: نقاط عامة حول الروح
هناك حقائق عامة ترتبط بالروح ينبغي في كل بحث عنها الالتفات إلى هذه الحقائق والانطلاق منها، وهي ما يلي:
1. ندرة معلومات الإنسان ومعرفته بالروح
الأولى: لقد أشار القرآن الكريم إلى الروح في الآية 85 من سورة الإسراء، في قوله تعالى: }وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا{ ومن خلال خطاب «أُوتِيتُم» في قوله: }وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا{، نُدرك بأنّ موضوع ندرة معلومات الإنسان حول الروح من الأمور الثابتة وغير القابلة للتغيير؛ أي أنّه بالرغم من أنّنا نشهد ازديادًا في حصول الإنسان على المعلومات، وزيادةً في حجم اطلاعاته بمرور الزمان، لكن يبقى هذا الإنسان يعاني من ندرة المعلومات والمعرفة المتعلقة بالروح في عصره الحاضر والمستقبل؛ لأنّ هذا الخطاب القرآني يشمل جميع الناس في كل زمان ومكان.
كما أنّ التجربة البشرية أيضًا تدل على أنّ الإنسان وإنّ كان قد تطوّر في الميادين المختلفة، لكن حجم معلوماته حول الروح بقيت كما هي، لم تتجاوز مقدار ما كان يملكه البشر في السابق من معلومات، وإن كان بإمكان الإنسان أن يحصل على جانب من العلم في بعض الموارد ويتوصّل إلى نتائج جديدة، لكن يبقى هذا العلم قليلًا في الجملة، ونحن مضطرون لمواجهة هذا الفقر في المعلومات حول الروح، بالرغم من وجود كل التطورات والتقنيات التي حصل عليها البشر في جميع الميادين؛ ولذلك لا نجد اليوم جامعة من جامعات العالم ـ مثلًا ـ يتواجد فيها باحثون يتعرضون لدراسة مسألة الروح وتحليل أبعادها المختلفة.
تؤكّد الآية القرآنية }وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي{ على أنّ الله تعالى خلق الإنسان من الروح.
عندما نلتفت إلى معنى قوله تعالى: }وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي{ بشكل دقيق؛ نجد أنّ هذه المسألة التي تتحدث عنها الآية في هالة من الجهل، إذ تتضمن أسئلة عدّة، مثلًا: كيف يكون هذا النفخ؟ وما هو نوع علاقة روحنا مع الله تعالى؟ وأمثال ذلك، وأنّ جميع هذه الأسئلة شاملة لهذا الجهل الذي أشار له القرآن الكريم في قوله تعالى: }وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا{.
تجدر الإشارة إلى أنّ هناك آيات تشير إلى الروح، مثل قوله تعالى: }إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ{، فقد أطلق القرآن الكريم في هذه الآية المباركة على عيسى كلمة «روح ا...».
بناء على ذلك إذا اعتقدنا بأنّ الله تعالى ينفخ من روحه في جميع أجساد البشر، سوف نواجه السؤال التالي: لماذا أطلق على النبي عيسى Q كلمة «روح»؟
وهنا أيضًا لا نتمكن من الإجابة على هذا السؤال بصورة واضحة، لكن يمكن لنا أن نستنتج بأنّ هاتين النفختين تختلفان.
2. إمكانية الحصول على صفات الروح ونشاطاتها:
ومع ندرة المعلومات التي نمتلكها حول الروح، لكن من خلال المعطيات القليلة التي حصلنا عليها عن الروح يمكن لنا دراسة موضوعها وتحليل أبعادها على ضوء الآيات والروايات، فضلًا عن تجارب الإنسان، بحيث نتوصل إلى نتائج مفيدة عن صفات الروح وعلاقتها بجسد الإنسان، وما يمكن أن تقوم به من أعمال ونشاطات مختلفة، تمثل بعضها علاقاتها وارتباطاتها مع الأشخاص في الدنيا.
3. روح الإنسان أكثر حرية وقدرة في عالم البرزخ
إنّ عالم البرزخ محل لتحرر الروح أكثر وحصولها على قدرة أكبر، وبالرغم من أننا لازلنا على قيد الحياة ونعيش في هذا العالم، وليس لدينا تجربة عن عالم البرزخ وطبيعة عمل الروح فيه، لكن يمكن لنا على ضوء الروايات والنصوص التي وصلتنا الاستنتاج بأنّ روح الإنسان في البرزخ تكون متحررة من القيود والأغلال، بل إنّ هذه الحرية والقدرة تربو على ما كانت عليه في عالم النوم، وهي في حالة تكامل قياسًا إلى ما كانت عليه في عالم الرؤيا.
4. إثبات نشاطات وفعاليات للروح إثبات لوجود نوع من الحياة لها
الحقيقة أن الروح لها نشاطات وفعاليات عدة، سنذكرها ونثبتها إنشاء الله سبحانه، وهذه النشاطات والفعاليات لو أثبتناها فهي تدل على كونها ذات حياة، ولكن ينبغي الالتفات إلى أن هذه الحياة التي ننسبها إلى الروح لا تعني الحياة المادية الثابتة قبل الموت؛ بل هي حياة برزخية خاصة؛ إلا أن السؤال الذي نواجهه أن كل روح لو كانت ذات نشاطات، وهذا بدوره يدل على وجود الحياة لها، فلماذا جعل القرآن أرواح الشهداء أحياء، مما يبدو منه أن غيرهم ليسوا بأحياء؟ قال تعالى: }وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{؛ هذه الآية تؤكد على أنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون.
هناك جوابان لذلك:
الجواب الأول:أن الحياة التي للأرواح بشكل عام غير هذه الحياة التي هي ثابتة للشهداء، وفي إطار ذلك قد يُتصور نوع حياة لهم على غرار الحياة التي كانت لهم قبل استشهادهم، ولكنه من الواضح عدم وجود فرق بين الشهيد وغير الشهيد في هذا المجال؛ باعتبار أنّ الموت صفة تعرض على جسم الإنسان، فتُشل حركة جسده الميت وتتوقف عن العمل.
الجواب الثاني: أن القرآن الكريم أطلق على الشهداء لفظة «أحياء» في هذه الآية لا على أساس الحياة المادية التي نعيشها وأخذ الجسم بنظر الاعتبار، بل على أساس كون أرواح الشهداء تتمتع بدرجة ومرتبة أرفع وأسمى من مرتبة العلم والنشاط التي تمتلكها الأرواح الأخرى؛ أي يكون لها نفس العلم والوعي كل اللذين تمتلكهما أرواح البشر في عالم البرزخ، ولكن بمرتبة أعلى وتكامل أسمى، وهذا ما يمكن استنتاجه من خلال لفظة «حي» في الآية المباركة.
وهذا الجواب صحيح كما هو معلوم، وعليه ننسب صفة الحي إلى أرواح الشهداء وغيرهم. فأرواح جميع الناس تكون حيّة. وبما أنّ صفة الحياة يمكن إطلاقها على كل الأرواح، لا يكون هناك فرق بين روح الشهيد وغير الشهيد؛ غير أن الحياة التي يتمتع بها الشهيد، ذات درجة أقوى بالقياس إلى حياة غيره، فهي حياة ذات نشاطات مصحوبة بشعور وإدراك وعلم واسع.
وغني عن البيان أن حياة النبي P بعد وفاته أكمل من حياة الشيهد بكثير، قال البيهقي: ألّفنا كتابًا خاصًّا في إثبات حياة الأنبياء بعد وفاتهم، وذكر السمهودي جملةً من الأحاديث واستفاد منها قائلا: «إنّ الله عزّ وجلّ يردّ على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربّهم كالشهداء»[2].
وقال في وفاء الوفاء: «لاشكّ في حياته بعد وفاته، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم حياةً أكمل من حياة الشهداء التي أخبر الله تعالى بها في كتابه العزيز، ونبيّنا P سيّد الشهداء[3].
ثم روى عن البيهقي أنّه قال: ولحياة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بعد موتهم شواهد من الأحاديث الصحيحة[4].
5. للأرواح مستقر:
ربما يتصور أن الروح بما أنها ليست من سنخ الجسم والمادة، فلا مكان لها تستقر فيه، ولكن الحقيقة أن هناك أمرين يجب التفكيك بينهما، أحدهما أن الروح من غير سنخ الجسم فلا تشغل مكانًا، والآخر أن عدم كون المكان لها لا يعني أنها في كل مكان، وأنها حاضرة لا في مكان خاص، بل لها مستقر ولكنه غير مكاني، حقيقته غير معلومة لنا، غير أن كل ما نعلمه أنه برزخي. وقد عبر الإمام الصادقQ عن هذا المستقر بالحجرة فيما روي عن إبراهيم بن الجازي، إذ قال: قلت لأبي عبداللهQ «أين أرواح المؤمنين»؟ فقال: «أرواح المؤمنين في حجرات في الجنة»، قلت: «فأين أرواح الكفار»؟ فقال: «في حجرات في النار».[5]
6. للأرواح صور:
وهذا أيضًا ما ورد في روايات الائمة R، قال الإمام الصادقQ «إذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته (في الدنيا)،... إذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا». وفي حديث آخر عن الإمام الصادق Q «إن الأرواح في صفة الأجساد». وفي حديث آخر: «حتى إذا رأيته، قلت: فلان».[6]
وغني عن البيان أن اعتبار وجود صورة لها لا يعني اعتبار أنها جسم، بل هذه الصورة برزخية.
المحور الثاني: نشاطات وفعاليات الروح
ونتحدث عن هذه النشاطات في مجالين:
المجال الأول: أعمال وحالات شخصية:
ليس القيام بأعمال شخصية أمرًا منحصرًا بالدنيا، بل الروح في عالم البرزخ تأتي بأعمال تنفعها ولا صلة لها بغيرها، وكما أن حالات مثل السرور أو الغم تطرأ على الحي، كذلك الميت أيضًا تطرأ عليه مثل هذه الحالات. أما الأعمال الشخصية فهي تتمثل حسب ما في بعض الروايات في عملين:
1- الأكل والشرب: يقول الإمام الصادقQ : «أرواح المؤمنين في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها». [7]
والرزق الذي تحدث القرآن الكريم عن وجوده وثبوته للشهداء إشارة إلى وجود مثل هذا الفعل لهم، ولكنه يتميز عما كان لغير الشهداء من فعل الأكل والشرب.
2- الدعاء: يقول الإمام الصادق Q : [«... ويقولون(أي: المؤمنون): ربنا أقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا.... ويقولون(أي: الكفار): ربنا لا تقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا»]. [8]
وأما الحالات في عالم البرزخ، فهي وعي الأرواح وحزنها وفرحها. وتجدر الإشارة إلى أنّ لهذا الوعي منازل ودرجات مختلفة، تتم للأرواح حسب ما لهم من درجات كمالية وحسب ما كانت لها من أعمال. وروي عنه أيضًا أنّ رسول الله P قال:«علمي بعد وفاتي كعلمي في حياتي»[9].
عذاب الأرواح في البرزخ
من الواضح أنّ جسم الإنسان يتلاشى في عالم البرزخ، وإذا كان محكومًا عليه بالعذاب فإنّ روحه هي التي تتعذب؛ أي أنّ الروح تعيش في وضع صعب وترى العذاب في ذلك العالم، وهذا ما أشارت إليه الروايات الشريفة.
لكن أحيانًا تُذكر بعض العبارات تتعلق بعذاب الروح تشبه ما يحدث في عالم المادة؛ وما ذلك إلا لتقريب هذا الأمر إلى ذهن الإنسان ومقدار فهمه واستيعابه، وإلا فإنّ عذاب الروح يختلف عن عذاب الجسم؛ لكن بما أننا نتعامل مع الأبعاد المادية للدنيا، أصبحنا نحكم على عالم البرزخ على أساس هذه الأبعاد الدنيوية.
المجال الثاني: نشاطاته إزاء الآخر أو مع الآخر:
وهذه تنقسم بدورها إلى قسمين:
القسم الأول: نشاطات الارواح بعضها مع البعض:
إنّ أرواح المؤمنين ترتبط مع بعضها في عالم البرزخ، وهناك جملة من الروايات تستفاد منها تفاصيل هذه الارتباطات وفي ما يلي إشارة إلى بعضها:
1- الالتقاء والتزاور:
إنّ الأرواح تلتقي بعضها مع البعض في البرزخ. روى أبوبصير عن أبي عبد الله Q، رواية قال فيها: «يلتقون»[10]
2- التسائل والتعارف:
نقرأ تتمة الرواية التي أشرنا إليها عن أبي بصير عن أبي عبد الله Q، بعد قوله: «يلتقون»، هكذا:
«قلت يلتقون؟ فقال يتساءلون ويتعارفون حتى إذا رأيته، قلت: فلان.» [11]
وهذا الارتباط ليس مجرد التقاء وتعارف، بل يسبب هذا الارتباط أن تصبح الأرواح مطلّعة على ما لا تعلمه قبل هذا التعارف والتساؤل. فمثلاً، لو أنّ روح أحد المؤمنين دخلت إلى عالم البرزخ، وسألها المؤمنون من الأموات قبلها عن حال بعض الأشخاص الذين كانوا يعرفونهم على قيد الحياة، وأخبرتهم بأنّهم قد ماتوا من قبل، ستعلم حينها الأرواح المؤمنة بأنّ أولئك الأشخاص لم يكونوا من المؤمنين، وإلا لتمكنت هذه الأرواح من التعرّف عليهم والارتباط معهم في عالم البرزخ.
قال الإمام الصادقQ:
«إِذَا قَدِمَت الرُّوحُ علی الاْرْوَاحِ تُقُولُ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا قَدْ أَفْلَتَتْ مِنْ هَوْلٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ يَسْأَلُونَها: مَا فَعَلَ فُلاَنٌ؟ وَمَا فَعَلَ فُلاَنٌ؟ فَإِنْ قَالَتْ لَهُمْ: تَرَكْتُهُ حَيًّا، ارْتَجَوْهُ؛ وَإنْ قَالَتْ لَهُمْ: قَدْ هَلَكَ، قَالُوا: قَدْ هَوَي هَوَي»
القسم الثاني: نشاطاته إزاء الأحياء:
وهذه النشاطات متعددة، وتتوسع وتتضيق دائرتها حسب كمالات الروح ودرجة حياتها البرزخية، وإليك إشارة إلى جملة منها:
أولًا: ارتباطها مع النائم :
إنّ الحرية الفائقة على الحد المتعارف والقدرة الكبيرة على السير، تُعَدُّ من جملة الخصائص التي تتمتع بها روح الإنسان في عالم الرؤيا، إذ فيه تتحرر الروح من الجسد بشكل محدود ومؤقت، وتزداد قدرتها على السير، ومع أنّ جسد الإنسان يعيش في سبات حال النوم، لكن الروح تكون لها القابلية المفتوحة على التحرر من قيودها التي كانت تحدّها في حال الاستيقاظ.
وهذه القابلية تجعل الروح في حالة النوم مستعدة لأن ترتبط بها روح الميت أحيانًا. وبتعبير آخر قد يتفق أن يحصل ارتباط بين روح من مات مع روح من نام، وحتى هذا الارتباط قد يتضمن إخبار جملة من الحقائق المتعلقة بأوضاع الأحياء الحالية أو المستقبلية، بحيث عندما يستيقظ الإنسان يمكن له أن يواجه هذه الحقائق في الحال أو المستقبل، ولقد حدث هذا الأمر للكثير من الناس.
ووجه إمكان ارتباط أرواح الأموات بروح الإنسان النائم، هو أنّ عالم النوم يكون أشبه شيء بعالم البرزخ؛ لهذا السبب يمكن للإنسان أن يلتفت أحيانًا إلى أحلام في المنام، تعكس ما يتم في المستقبل أو تعكس الوضع الحالي للنائم.
ثانيًا: زيارة الأهل ورؤيتهم
من جلمة نشاطات الأرواح أنها تنزل لرؤية أهلها والاطلاع على أحوالهم.
قال الإمام الصادق Q:
«إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَزُورُ أَهْلَهُ فَيُرَى مَا يُحِبُّ وَيُسْتَرُ عَنْهُ مَا يَكْرَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ لَيَزُورُ أَهْلَهُ فَيُرَى مَا يَكْرَهُ وَيُسْتَرُ عَنْهُ مَا يُحِبُّ».
وروى أبو بصير: أنّ الصادق Q قال: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ وَلاَكَافِرٍ إِلاَّ وَهُوَ يَأْتِي أَهْلَهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَإِذَا رَأَى أَهْلَهُ يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ حَمِدَ اللَهَ علی ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَى الْكَافِرُ أَهْلَهُ يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ كَانَتْ علیهِ حَسْرَةً».
ثالثًا : رؤيته وسمعه:
عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَQ: «... وَ إِنَّهُ لَيَعْرِفُ غَاسِلَهُ». وقال الإمام السجادQ : «إن المؤمن ليعرف غاسله وحامله».
وجاء في رواية: «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المؤمن كان عرفه، فيسلّم عليه، إلاّ عرفه وردّ Q».
رابعًا: استيناسه بالحي الذي زاره
وفي رواية: « ما من رجل يزور قبر أخيه، فيجلس عنده، إلاّ استأنس به حتّى يقوم».
[1]* رئيس مركز الدراسات الإسلامية بمجلس الشورى الإيراني وممثل مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية.
[2] . المصدر السابق: 1353.
[3] . وفاء الوفا 4: 1352.
[4] . وفاء الوفا: 1352.
[5] المحاسن للبرقي، 1: 178.
[6] المحاسن للبرقي، 1: 178.
[7] المحاسن للبرقي، 1: 178.
[8] المحاسن للبرقي، 1: 178.
[9] . وفاء الوفا 4: 1352.
[10] المحاسن للبرقي، 1: 178.
[11] المحاسن للبرقي، 1: 178.
صور ندوة المقامات
الفهرس