جمعية الإمام الصادق Q
لإحياء التراث العلمائي
جمعية الإمام الصادق Q
لإحياء التراث العلمائي
المؤتمر الفكري
في ذكرى مؤتمر وادي الحجير
في 24 نيسان 1920م
الكتاب: |
المؤتمر الفكري في ذكرى مؤتمر وادي الحجير |
إصدار: |
جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي |
تاريخ الإصدار: |
24- نيسان - 2012م - 1432 هـ |
المقدمة
منذ إنطلاقة مشروع إحياء تراث علماء الشيعة في لبنان, وفي ذاكرتنا تلك المحطة الاستثنائية التي مرَّ بها جبل عامل على أثر نهاية الحكم العثماني وقيام الإحتلال الفرنسي, حيث عمد الاستعمار إلى التحايل على شعوب المنطقة, من خلال وعده بالإستقلال والحكم الذاتي, وإذا به يمهّد لمناخ إحتلالي يستطيع من خلاله أن يمرّر مشروعه في تفتيت المنطقة وسلب ثرواتها ومواجهة إسلامها, من خلال دعم الحركات التبشيرية المتصهينة, الّتي نشأت إلى جنب الإحتلال, مستفيدة من تداعيات الحكم العثماني, وجاء الإحتلال وكل ظنّه أنه لن يلتفت إليه أحد, وأنّه المُخلِّص والمنقذ, وغيرَ ملتفت إلى أنّ تاريخ جبل عامل بكلِّ مكوناته لن ينام على ضيم, ولن يمرّ هذا الخداع, وبالتالي لن يكون هذا الإحتلال مرحباً به. وبالفعل, جاء مؤتمر وادي الحجير الذّي انعقد في 24/نيسان/1920, وبدعوة كريمة من العلامة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين, تتويجاً لمناخ الرفض الذي ساد في جبل عامل, من قبول الإحتلال الفرنسي, وما حدث في مدينة النبطية, هو نموذج عن كل مدن وقرى جبل عامل, فعندما قدِم الحاكم العسكري الفرنسي الى مدينة النبطية لم يلقَ حفاوة من الشيعة, سوى من بعض العملاء من النصارى وشكروه على قدومه, ينما وقف الشيخ أحمد رضا قائلاً: «نحن نشكر فرنسا كمحرّر للشعوب ولا نشكرها كمستعمر لبلدنا, وخصوصاً أنّ الفرنسيين جاؤوا كمشروع لاستمرار النهج الصليبي الذي كان في المنطقة». وهذا ما عبّر عنه بصراحة (الجنرال غورو) عندما ألقى خطاباً في دير البلمند, وممّا قاله: «دعوني أستعيد وإياكم تلك الذكريات العظيمة الّتي ترفّ فوق هذا الدير القديم, ألا وهي عمل أبائي الصليبيين الذّي قاوم الدهر واخترق الأجيال».
من هنا نحن في جمعية الإمام الصادق لإحياء التراث العلماني وفي كل عام نحيي هذه الذكرى, من خلال التعاون مع أحد الوجوه الثقافية والإجتماعية. أردنا في هذا العام أن نتعاون في عقد هذا المؤتمر مع اتحاد بلديات جبل عامل, لتسليط الضوء على هذه المحطة التاريخية, التي لها ما قبلها وأسسّت لما بعدها, على أمل أن نتمكن إنشاء الله تعالى في كل عام وفي ذات المناسبة, من إحياء هذه الذكرى, وتسليط الضوء بما يتلائم والمرحلة التي تعيشها منطقتنا, وهنا لا بد من توجيه التحية الى أبطال المقاومة الإسلامية الذين أعادوا الحياة والمجد لهذا الوادي المعبّر عن جبل عامل, وعن تلك المرحلة العصيبة التي مرّ بها في زمن الاحتلال الفرنسي, ليعود هذا الوادي مجدداً الى الواجهة من بوابة الإنتصار الإلهي المدوي في تموز 2006م, على أعتى الإحتلالات وهو الإحتلال الإسرائيلي, والتحية الخاصة لسيد المقاومة الإسلامية سماحة السيد حسن نصر الله الذي برز في هذه المرحلة كالإمام السيد عبد الحسين شرف الدين مرشد المقاومة في وادي الحجير, والشكر أيضاً لكلّ الجهود التي بذلت في سبيل نجاح هذا المؤتمر، وأخصّ بالشكر رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله سماحة السيد هاشم صفي الدين لرعايته ومواكبته لأعمالنا في إحياء هذا التراث.
والله ولي التوفيق
حسن بغدادي
مسؤول إحياء تراث علماء الشيعة في حزب الله في لبنان
24/نيسان/2012 م
الكلمة الترحيبية
الإفتتاحية
كلمة ترحيبية: الحاج علي الزين[1]
السادة العلماء الأفاضل،
الأخوة (والأخوات) المحترمون المشاركون في المؤتمر،
سعادة سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدكتور غضنفر ركن أبادي،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
كم يشرِّفني أن أرحِّب باسمي وباسم اتحاد بلديات جبل عامل أشد الترحيب بحضوركم الكريم لفعاليات اللقاء الفكريِّ «وادي الحجير عميدُ الإنتصارَين» وأنا أحبُّ أن أسميه لقاء - مؤتمر وادي الحجير تيمُّناً بالأصل الذي منه بدأت مسيرة وادي الحجير في تاريخ جبل عامل، في مثل هذا اليوم..وقــــفَ أهلُنا..أهل جبل عامل الأشم..وقفةً أبيةً شامخةً، ليُعلِنوا وبصوتٍ مرتفعٍ، وعلى تموُّجات أصوات صهيل الخيول، وقرقعة البنادق، التزامَهم بخيار المقاومة في مواجهة الوصاية والإحتلال الأجنبي... ورفضاً لمشاريعه السياسية الإستعمارية.. وليُثبِتوا انتسابهم الطبيعيَّ للهويَّة القومية العربية وللنزْعة العروبية... وانتماءهم للعنوان الحضاريِّ الإسلاميِّ العام، رغم الظلم الكبير الذي لحق بهم على أيدي حكام السلطنة العثمانية، من دون التخلي عن حبِّهم وولائهم الوطنيِّ أبداً، في وقتٍ لم تكن فيه الهويَّة الوطنية اللبنانية قد تبلورت بصورةٍ مستقلةٍ بعدُ، بل كانت النزعة الوطنية آنذاك استراتيجيةً اعتمدها الإستعمار الأجنبيُّ (الفرنسيُّ) لتأسيس كيانٍ لبنانيٍّ تابعٍ لمنظومةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ استعماريةٍ، أرادَ إقامَتَها على ضِفافِ المتوسط، وبالمناسبة؛ لا يزال حلم السياسة الخارجية الفرنسية على حاله إلى الآن، في السعي لإقامة اتحادٍ ورابطةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ بين الدول والكيانات الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط،وقد قرأ نُجباء جبل عامل وثواره هذا الموقف باكراً،ووقفوا بوضوحٍ ضد قيام هذه الكيانية اللبنانية، ليس لعدم رغبتهم بفكرة الإستقلال الوطنيِّ - وهم أكثرُ من عانى من تسلط السلطنة العثمانية - بل منعاً من توظيف مظلوميَّتهم ومعاناتهم في مشروعٍ يقوم على تفتيت حلم الدولة العربية الوليدة، وتجزأة وإضعاف الفكرة العروبية.
في مثل هذا اليوم من عام 1920 وفي هذه الواحة من ساحات جبل عامل المعطاء، جبل المقاومة والثورة والجهاد، جبل العزة والشموخ،.... وقفَ أهلنا ليخطّوا لمستقبلنا مساراتٍ في السياسة والثقافة والإجتماع، لا نزال نعيش في ظلالها إلى زماننا الحاضر، لنقف نحن اليوم أمام مشاهدهم وأرواحهم، ونردَّ التحية بأحسن منها، ولنعلن إكمال معركة الدفاع عن قيم هذا الجبل، ولمتابعة المسيرة الظافرة على هدي بوصلةٍ تتجه دائماً نحو تحقيق الإنتصارات.
وستبقى كلمات وتوجيهات الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين وعشرات العلماء، وصيحات صادق حمزة وأدهم خنجر والثوار الذين انسلّوا من كلِّ حدبٍ وصوب.... ستبقى شاهدةً على هذه المحطة الفاصلة، وتلك المداولات الحاسمة، التي عقدت في خيامٍ نصبت أوتادها على تراب هذه الأرض العاملية الطاهرة التي نقف عليها الآن، وبُحثت في أكنافها خياراتٌ كبرى وقضايا مصيريةٌ، أَرست لمعادلاتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ وتاريخيةٍ جديدة، تركت بصماتها على مسيرة جبل عامل ومستقبل البلاد والعباد في لبنان وسوريا وفلسطين إلى الآن.
ورغم مرور اثنين وتسعين عاماً على انعقاد هذا المؤتمر الشهير، لا يزال هذا الثبات متواصلاً في موقف أهل هذا الجبل إلى الآن،حتى أصبح الثبات سمةً خاصةً بارزةً في أخلاقياتهم ومناقبهم السياسية، وهل من باب الصدفة أم أنه قضاء الله وقدره،أن يكون وادي الحجير؛ تلك الواحة التي ضُمِّخت جنباتها بدماء المجاهدين ورائحة عزائمهم وعبروها ليكمنوا، وليرصدوا، وليتمكَّنوا بعد 86 عاماً من تحطيم أسطورة الصهيونية - ربيبة الإستكبار الأمريكي - حتى تَتوَّج ذلك نصراً مؤزَّراً في المعركة الكبرى، عندما اصطاد المجاهدون عشرات الدبابات الصهيونية في عدوانِ تموز 2006.
إن مؤتمر وادي الحجير ليس حدثاً عادياً عابراً في تاريخ جبل عامل والمنطقة؛ هو من نوع الأحداث التي يكون لها ما بعدها، من التداعيات والنتائج، بل يكاد المرء يصاب بالدهشة لشدة تشابه الأحداث ووحدة المسارات، لكأنَّ المرء إذا ما استعاد شريط الأحداث يكاد أن يشعر بتطابقٍ مذهلٍ في نوعية العناصر والمراحل والعناوين والشعارات، في لحظتين تاريخيتين فاصلتين، ما أشبه الأمس باليوم ! بل ما أشبه اليوم بالأمس.
واليوم، لو أجرينا مقارنةً سريعةً على المشهدين - مشهد الحجير عام 1920 ألفٍ وتسع مئةٍ وعشرين، ومشهد لبنان عام ألفين واثني عشر 2012- ودقَّقنا في ركائز الهجوم الأميركي والصهيوني على المقاومة ونهجها وسلاحها، ونوعية المشاريع والقرارات الدولية التي حِيكَت وتحاك ضدها، وطبيعة الأساليب الإعلامية التي يُعمل عليها في سبيل ضرب وإخماد شُعلة المقاومة، لوجدنا أنفسنا أمام تقاربٍ يكاد يلامس التطابق، مع اختلافٍ في الأسماء والأشخاص والوجوه والكيفيات ليس أكثر.
إنَّ هذا الشعور بوجود خيوط وخطوط الإتصال والتواصل بين تلك المرحلة وتلك اللحظة، وبين هذه المرحلة وهذه اللحظة التي نعايشها الآن، هو ما حرَّك ودفع إلى عقد هذا المؤتمر في هذه اللحظة التاريخية، وفي هذا المكان نفسه، وهو ما أضفى على لقائنا الفكري هذا «مؤتمر وادي الحجير» أهميةً كبرى وقيمةً خاصة ولهذا، ولكلِّ ما سبق، وشعوراً بثِقَل هذه المسؤولية، أُعلن باسم اتحاد بلديات جبل عامل عن التفكير الجدِّي بمشروع إقامة وتشييد مَعلَمٍ جهاديٍّ وتراثيٍّ وسياحيٍّ، يحكي قصة هذه البقعة المباركة وحياتها النضالية والجهادية من وادي الحجير حتى الملحمة الكبرى في مجزرة الدبابات عام ألفين وستة، ويرويها للأجيال القادمة، ويليق بقدسية هذا المكان وتاريخه المُشرق، ومناقبية وتضحيات أبنائه الأعزاء، ويجسِّد جمال المكان كمنطقةِ سياحةٍ خصبة، وتاريخ المنطقة وتراثها الغنيَّ بالمواقف، وقيمَ أبناء جبل عامل في الثبات والشموخ والمقاومة.
وأخيراً، أترك لأساتذتنا وعلمائنا وضيوفنا الأجلاءِ منبر الكلام، وأجدِّد الشكر والترحيب بضيوفنا الكرام، وأخصّ بالشكر الجهة المنظمة لهذا المؤتمر جمعية الإمام الصادقQلإحياء التراث العلمائي، بشخص المشرف عليها عضو المجلس المركزي في حزب الله سماحة الشيخ حسن بغدادي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] -رئيس اتحاد بلديات جبل عامل-
كلمة الجهة المنظمة
كلمة سماحة الشيخ حسن بغدادي [1]
راعـي مؤتمرنا سـعـادة سـفيـر الجمهـوريـة الإسـلاميـة فـي بـيـروت الأخ الـعـزيـز الدكـتـور غـضنفـر ركـن أبـادي...
أيها الحفل الكريم:
فـي الذكـرى الثانيـة والتسعيـن على مؤتمر وادي الحجـيـر الـذي انعقـد نـهـار السبـت فـي24 - نيسـان - 1920م، وبرعايـةٍ مسؤولـةٍ مـن ذلـك القـائـد الفـذ، الذي كـان يتطلـع بنـور البصـر والبصيـرة إلـى مـا فيـه مصلحـة هـذه الأمـة.
كيـف لا يكـون كـذلك، وسلوكـه ونمـط تفكيـره، والشهـادات التـي صدرت بحقـه من كبار الفقهـاء فـي النجـف الأشرف كـالشيـخ الأخونـد والشيـخ طـه نجـف، بمجموعـها تدلّل علـى مكانتـه العلميـة والإجتماعيـة والسياسيـة، وأن الرادّ عليـه رادٌّ علـى الله تعالـى، وهـو علـى حـدِّ الشـرك بالله عـز وجـل.
قـرر الإمام شرف الدين تـرك بلدتـه الجميلـة (شحور) التي سكـن فيهـا بعـد عودتـه مـن النجــف الأشرف، وتوجه نحـو مدينـة صور، لأجـل بنـاء مدينـةٍ تُشكّـل عنوانـاً جامعـاً، يجتمـع حولـه النـاس مـن كافـة القـرى، لرفض فكـرةٍ أو للمطالبـة بحـقٍ.
وهـذا مـا ظهـر في مواجهـة تداعيـات الحكـم العثمانـي، فبعـد الـحـرب العـالميـةالأولـى ــ 1914م، استشعـر قائـد منطقـة سوريـا ولبنـان وفلسطيـن السفـاح (جمال باشا)، مَـيلاً مـن قِبـَل النـاس نحـو الحـريـة، فعمـد إلـى أخـذ الرجـال إلـى الحـرب، ونصـب المـشانـق، حتـى جـاع النـاس ومـات البعـض فـي الطرقـات.
هنـا أصدر السيـد شرف الـدين فتـوى تلـزم المـيسـوريـن شـرعاً، بـوجـوب المبـادرة إلـى إخراج أخماسهم وزكواتهم، من دون إذنٍ من أحد، أو التمييز في أصناف هذه المستحقة، وصرفها على المستحقين فوراً، وشكَّل سماحته لجنةً من القرى كي تساعد هؤلاء في صرف المستحقات على المحتاجين، بما يضمن إيصال الحق إلى أهله.
كما وقف الإمام شرف الدين مع أخيه الفقيه الكبير الشيخ حسين مغنية في مواجهة اللجنة التحضيرية الأمريكية التي جاءت إلى جنوب لبنان، للإطلاع على مزاج الناس في جبل عامل، هل هم مع إقامة دولةٍ مستقلةٍ أم... الخ
وهنا نجد أن السيد شرف الدين ومعه سماحة الشيخ مغنية قد رفضا بشكلٍ قاطعٍ أيَّ نوعٍ من أنواع الوصاية الأجنبية، وأيَّ تجزئةٍ للبلاد العربية، وأيَّة مساعدةٍ مالية ٍكونها توصل للوصاية.
كذلك واجه الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، مع أهالي جبل عامل بغضبٍ عامٍّ، قيام الإحتلال الفرنسي، وتفاقمت الأوضاع في جبل عامل إلى حدٍ بات المحتلُّ الفرنسيُّ يعمل على توتير الأجواء من خلال عملائه من المسيحيين، للوصول إلى فتنةٍ كبرى تشمل كل الوجود المسيحي والإسلامي في لبنان، يكون الرابح الوحيد في هذه الفتنة هو الإحتلال الفرنسي، وتنزلق المقاومة في وحول الفتن الداخلية والمهاترات، وبهذا تتشتَّت المقاومة وتنتهي.
في هذا المناخ العاصف كان الزعيم السياسي كامل الأسعد يعيش مأزقاً، نتيجة الأوضاع المتردية، وكانت العشائر في المنطقة الشرقية على حد تعبير السيد شرف الدين، تطالبه بتحديد موقفه مما يجري، هل هو مع مطالبة أهالي جبل عامل بضم هذا الجبل إلى سوريا الكبرى، أم مع بقاء جبل عامل تحت الإحتلال الفرنسي، وهنا إذا جاء جواب الأسعد أنه مع سوريا الكبرى، فهذا يلزم أن يعادي الإحتلال والعملاء، وإن رفض فعليه أن يتحضَّر لعقابٍ من المقاومة، فكان المخرج له من هذا المأزق هو التفاهم مع الإمام شرف الدين، بالذهاب إلى عقد مؤتمرٍ يُخرج البلاد من هذا المأزق، كما يخرج معه الزعيم الأسعد من مأزقه.
وبالفعل تم الإتفاق على الذهاب لعقد مؤتمرٍ عامٍّ يضم كلَّ الفعاليات الدينية والسياسية والإجتماعية للتشاور، والخروج بمقرراتٍ تنقذ البلاد من مأزقها وذلك في 24 ــ نيسان ــ 1920م، ولكن خلفية السيّد شرف الدين للدعوة للمؤتمر تختلف عن خلفية كامل الأسعد، وبعد حوارٍ حول المكان، تمّ التفاهم على أن يكون المؤتمر في وادي الحجير، للإعتبارات التالية:
أ-كونه يقع وسط البلاد ويربط الجنوب بالشمال.
ب-شهر نيسان قريبٌ من فصل الصيف والناس يحتاجون إلى الماء، ومنطقة الحجير فيها ينابيعُ ونهرٌ وكثافةُ أشجار، ومطاحن وهو المكان المناسب لهذا الجمع.
ج- الإعتبار الثالث وهو الأهم الإعتبار الأمني ــ وخصوصاً أن قادة المقاومة كأدهم خنجر وصادق حمزة، سيحضرون هذا الإجتماع، وبالتالي يحتاجون إلى مكانٍ يؤمِّن حمايتهم من الإحتلال وعملائه.
لقد استطاع الإمام شرف الدين أن يحوّل هذا المؤتمر إلى استفتاءٍ عامٍّ من خلال خطابٍ شكَّل منعطفاً مهماً في تاريخ جبل عامل، وعبّر عن الإنسجام التام بين القاعدة والقيادة، كما تمكن هذا المؤتمر من تقديم غطاءٍ شرعيٍّ وسياسيٍّ واجتماعيٍّ للمقاومة المسلحة، ضدّ الإحتلال الفرنسي، ولعلَّ هذه النقطة هي نقطة الخلاف والإفتراق مع الزعيم السياسي، الذي أزعجه حضور قادة المقاومة، معتبراً حضورهم يأخذ المؤتمر إلى مكانٍ مختلفٍ عما أراده.
وبعد خطابٍ ألقاه الإمام شرف الدين في ذلك الحشد الكبير الذي يعبّر عنه السيد شرف الدين (لقد جَلجَلَ الوادي)، وخصوصاً عندما أطلَّ هذا المارد عليهم، بدأت الهتافات والشعارات، وإطلاق النار الكثيف، وهنا كان لا بدَّ من أن يستثمر سماحةُ السيد هذا الحضورَ الهائل، والحماس ليتحدث إليهم بما فيه مصلحةٌ لهم ولبلادهم، وبتقديري كان المؤتمر عبارةً عن نفس هذا الحضور وخطاب سماحة السيد شرف الدين بهم، لاستنهاض الهمم، وتحميلهم مسؤولية مواجهة الإحتلال، وحرمة الإنزلاق باتجاه الفتنة الداخلية.
وبعد الإنتهاء من الخطاب، وكما يعبّر سماحة السيد شرف الدين في كتابه (بغية الراغبين) أنَّه انضم إلى خيمة العلماء، والزعماء، والأعيان، للتشاور والوقوف على ما يلزم الذهاب باتجاهه.
وبعد التشاور مع العلماء والأعيان خرج المؤتمر بالمقررات التالية:
أ - عدم الإنزلاق نحو الفتنة الداخلية
ب - رفض الإحتلال والهيمنة
ج - المطالبة بضم جبل عامل إلى سوريا الكبرى
د - تشكيل لجنة من الحاضرين تذهب إلى سوريا للقاء الملك فيصل.
وقد اعتذر أكثر الحاضرين عن المشاركة بهذه اللجنة، إما لمرضٍ كالشيخ مغنية، أو لهرم ٍكالشيخ موسى قبلان، وإن كان بتقديري الشخصي، الأكثرية خافت من الإنضمام إلى هذه اللجنة، فالإحتلال كان لا يزال جاثماً، وهو قادرٌ على العقاب، وبالفعل هذا ما حدث مع السيد عبد الحسين شرف الدين عندما حرق داره ونهب مكتبه في صور، ومع السيد عبد الحسين نور الدين كذلك، وقد هربا إلى خارج البلاد ــ إلى فلسطين، وكان من الممكن أن يمرّ هذا المؤتمر من دون عقابٍ لولا هذه اللجنة التي تشكلت من السيدين عبد الحسين شرف الدين، وعبد الحسين نور الدين، وانضم إليهما في سوريا السيد محسن الأمين.
في الختام
أيـها الـسـادة مـا أشـبـه الـيوم بالبـارحـة، فـهنـاك فـي لـبنـان مـن يـتـآمـر عـلـى المقاومـة وعلـى سـلاحـها، ويتـهمـهـا بمـا فعلتـه وبمـا لـم تفعلـه، وبمـا فعلـه الآخـرون، وأنـا أستعيـر هـذه الجملـة مـن سمـاحـة الإمام السيـد موسـى الصدر عندمـا قـال: «اتُّـهمنا بمـا عملنـا، وبمـا لـم نعمـل، وبمـا فعلـه الآخـرون»، ممنِّيـاً هذا الفـريقُ النفـسَ بحلـمٍ قـادمٍ يحمـل معـه أحـلامَ التـغيير فـي المنطقـة لمصلحـة العـدوين الأمريكـي والإسرائيلـي، ونقـول لـه هيهـاتَ أن يتحقَّـق مـا تحلمـون بـه، فلبنـان كـان عـصياً عندما كـان عودنا طريَّاً، فكيف اليـوم وقـد غدا أطفالنا عمالقة، ومقاومتنا باتت تطال بيارقُ بنادقها عنانَ السماء، أقلعوا عن حلمكم وعودوا إلـى رشدكـم.
وإذا كـان وادي الحجير ممراً للحرية والمقاومة في نيسان ــ 1920م، فهو اليوم أكثر حريةً ومقاومة، وخصوصاً بعد الإنتصار المدوّي في تموز ــ 2006م، عندما دمَّر أبناؤكم في المقاومة جبروتَ هذا العدو، وإذا كانت المؤامرة قد فشلت من بوابة الحجير 2006م، فسوف تفشل حتماً من بوابة دمشق، وعلى جماعة أمريكا أن يقبلوا هذه الحقيقة. بتحقيق شرق أوسط جديد، يقوم على حماية الأمن الإسرائيلي، ومسك منابع النفط، وتفتيت المنطقة، ومواجهة المدّ الأصولي.
أشكر حضورَ راعي المؤتمر الدكتور غضنفر ركن أبادي، كما أشكر السادةَ العلماء، وآلَ شرف الدين المشاركين، وفي مقدمتهم سماحة العلامة السيد عبد الله نجل الإمام شرف الدين، كما أشكر رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب الحاج محمد رعد، والسادة النواب، كما أشكر رئيس المكتب السياسي في حركة أمل الحاج جميل حايك، وعضو هيئة الرئاسة في حركة أمل الحاج د. خليل حمدان، والمنطقة الأولى في حزب الله، التي ساهمت في نجاح هذا المؤتمر، وأخص م. المنطقة الأخ السيد أحمد صفي الدين، ولا بدَّ من شكرٍ خاصٍ لاتحاد بلديات جبل عامل بشخص رئيسها الأخ الحاج علي الزين، وبلدية القنطرة بشخص رئيسها الأخ الحاج عبد الحميد الغازي، على تعاونهم معنا في إقامة هذا المؤتمر، وبذلهم لكل الجهود في سبيل إحياء هذه المناسبة، بشكلٍ يليق بصاحب الذكرى، كما أشكر كل الفعاليات والسادة الحضور والإعلاميين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] عضو المجلس المركزي في حزب الله والمشرف على مؤتمر وادي الحجير.
راعي المؤتمر
الدكتور غضنفر ركن آبادي [1]
والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين النبي المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين وأصحابه المنتجبين
السادة الكرام:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
بدايةً أحييكم وأحيي البادرةَ الطيبةَ لجمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي بشخص المشرف على أعمالها سماحة المجاهد الشيخ حسن بغدادي عضو المجلس المركزي في حزب الله واتحاد بلديات جبل عامل في إيقاد الشعلة العاملية تاريخًا وتراثاً وتكريماً للجهود والتضحيات التي بُذلت في سبيل تحرير الأرض والانسان.
فلكل زمن ٍ رجالاته... حيث ترتسم على كل أفق ٍ من آفاق العالم الاسلامي أسماءٌ معدودةٌ لرجالٍ معدودين امتازوا بمواهبَ وعبقرياتٍ رفعتهم إلى الأوج الأعلى من آفاقهم؛ فإذا أسماؤهم كالنجوم اللامعة التي تتلألأ في السماء، فكان لهم من نبوغهم النادر ما يجعلهم أفذاذًا في دنيا الإسلام وقدوةً تشكِّل مثالاً خلاقًا حريّاً بأن يحتذى من قبل الجميع... وفي الذكرى الثانية والتسعين لانعقاد مؤتمر وادي الحجير، لا يسعنا إلّا أن نذكر علماً من أعلام الدين، هو العلامة المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين...الذي كان الحارس الأمين لحقائق الإسلام ومصالح المسلمين؛ وهو العالم الرباني الذي اتسم بالوعي والحكمة، ولم يترك مناسبةً إلّا وتقدَّم لإلقاء التعاليم الإسلامية والإنسانية، والمناقب الخلقية على قومه وأتباعه حيث قرن من خلالها المثالَ بالواقع، والقولَ بالعمل ولمسَ مشكلاتِ الناس وهمومَهم وتطلعاتهم حتى حقق الحضور الإجتماعي والجماهيري، وباتت حياته الشريفة تزخر بهذا النوع من الحضور الملتزم الجاد، ومن المشاركة الفعلية في مسيرة مجتمعه، وأصبحت حياته عبارةً عن صفحاتٍ متنوعةٍ من التفاعل مع الناس، والسهر على شؤونهم الإجتماعية والدينية والسياسية حتى استوطن بذلك قلوبهم وأصبح قائدًا لهم، وحمل الراية في ظروفٍ سياسيةٍ ومصيريةٍ صعبةٍ جدًا.
فطوال قرونٍ ماضيةٍ، تعرَّض لبنان لتأثيراتٍ حادةٍ، نتجت عن لعبة التجاذب ما بين القوى السياسية الكبرى في العالم، وأدَّت إلى تغييراتٍ متواليةٍ مسَّت حدوده وكيانه، ووضعته تحت سيطرة الحكم العسكري الفرنسي. وهنا لم يقتصر دور سماحته على التبليغ والشؤون الإجتماعية فحسب، بل امتد إلى النضال ضد الإستعمار في العهد التركي أولا، ً ثم العهد الفرنسي، وبعدها في أيام الإستقلال... وكان نضاله امتداداً لحركات التحرير، وارتقاءً بها نحو كل ما يحقق العدل والحرية ويوطِّد الأمن، وقد أخذ سماحته ينبِّه إلى الإحتلال وتعسّفه وظلمه، وشرع يعقد الإجتماعات مع من كان يثق بهم ويتوسم فيهم النجدة والشهامة والوطنية، محفِّزاً هممهم إلى ما يرجوه للوطن من مواقفَ وطنيةٍ مشرِّفةٍ. ولا شك أن الطبقة الروحية هي أول من تطوَّع لأداء هذا الواجب وقد رأى سماحته أن يبدأ بهم، فتشاور مع العلماء على خطةٍ موحَّدةٍ يسير عليها الجميع، ودعاهم إلى مؤتمرٍ عامٍّ عُقِد في وادي الحجير، وكان هذا الإجتماع الحافل والأهم، حيث حضره وجهاء وثوار جبل عامل في نيسان 1920. انعقد المؤتمر وكان الهدف منه إطلاق المقاومة ضد الإستعمار وتقسيم الوطن العربي، ودعماً للحكم العربي الوطني، وقد ألقى سماحته خطبةً كانت بمثابة بيانٍ سياسيٍّ تاريخيٍّ مقاومٍ حيث وضع برنامج المقاومة وضوابطه داعياً إلى الوحدة الوطنية واحترام الطوائف. كل هذه النضالات السياسية والإجتماعية التي خاضها السيد شرف الدين قد سطَّرت الملاحم الجهادية ضد الأعمال العدائية التي اضطلع الغرب بها، وضد المطامع المشؤومة التي حكمت حركته وامتداده، بالإضافة إلى قطع دابر العملاء والخونة. وقد كانت البلاد الإسلامية المسرح الذي شهد جُلَّ هذه الإنجازات والنضالات...
أيها الأخوة الأعزاء،
في المئة والخمسين سنةً الأخيرة، برزت صفوةٌ من علمائنا المصلحين الملتزمين الكبار أمثال السيد شرف الدين، حيث تصدت بكل ما أوتيت من عزيمةٍ وصلابةٍ للهجوم العنيف الذي شنَّه الغرب على مختلف الأصعدة السياسية والثقافية والإقتصادية والعسكرية. ورغم الفارق الزمني بينهم، إلا أنهم يفكِّرون بالطريقة نفسها ويحملون المبادىء ذاتها... كيف لا وهي مبادىء محمدٍ وآل بيت محمدٍPحيث التزم العلماء الأجلاء دوماً جانب الجماهير والشعوب المحرومة والمستضعفة. وهذا ما رأيناه أيضاً في الثورة الإسلامية المباركة، حيث حقَّق الإمام الخمينيMحلم الأنبياء، وفجَّر أعظم ثورةٍ في التاريخ المعاصر وأطاح بأكبر القواعد الإستراتيجية الغربية في منطقة الشرق الأوسط، رغم قوة أمريكا في إيران آنذاك ونفوذها الذي لا ينكر، ورغم تأييد ودعم الدول القوية في العالم للنظام الشاهنشاهي الحاكم، فبث في روح الناس العزة والكرامة، ودعاهم إلى الصمود والتصدي للأعداء، وأخذ بيدهم إلى ساحات الجهاد المقدسة دفاعاً عن النهج الإلهي المقدَّس. ونحن اليوم، في ظلِّ القيادة الحكيمة للإمام الخامنئي} وحكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد، نؤكِّد على تمسُّكنا بهذا النهج الإلهي المقدَّس، وبذل الغالي والنفيس في سبيل إحقاق الحق ونصرة المظلومين والمستضعفين ودعم قضاياهم المشروعة.
أخيراً،
في الذكرى الثانية والتسعين لانعقاد مؤتمر الحجير، نؤكِّد أيضاً على دعم المقاومة في لبنان الشقيق وفي فلسطين، حتى تحرير القدس الشريف وتحرير كل بلاد المسلمين من دَنَس الصهاينة وأعوانهم، حتى لا تذهب دماء شهدائنا الأبرار هدراً بل نكمل ما بدأوا به، هذا ما عاهدنا الله عليه ولا نبدِّل تبديلاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] سعادة سفير الجمهورية الإسلامية
كلمة راعي المؤتمر
الموقف القومي في مؤتمر وادي الحجير
الجلسة الأولى
برئاسة الشيخ علي ياسين[1]
السيد حسين شرف الدين (أبو رائد)[2]
الموقف القومي في مؤتمر وادي الحجير
رجالاتنا، قادتنا، إصلاحيونا، وقفوا حياتهم على حمل أمورنا، على توعيتنا، إنهاضنا، إخراجنا من ظلمات جهلٍ وفقرٍ ومرضٍ، لإيقافنا على شؤوننا وهمومنا، لدفعنا أن نقوم إلى قضايانا ونسير بها لرفعها، لنفتح الطريق إلى غد أجيالنا، يعني أنهم يرسمون لنا خطوطاً نملأ ما بينها تجربة الفعل والتفاعل، ومدّ استيعابنا لها، وقدرتنا على تعميقها بحروفٍ من نورٍ تشع عبر الأجيال.
هؤلاء هم... أما نحن؟
نحن.. بين مستوعبٍ دون تأمل ما يلقى، ولذا نكون بين مؤيدٍ معتمدٍ على نتف أخبارٍ في ظلالٍ ضبابيةٍ عليها تاريخ، وبين متلقٍ لمختلقاتٍ يرميها في دربنا المتضررون أو أعداء النجاح. وبين هذا وذاك، يخرج علينا من يندب حظّ تاريخٍ سُرق وأُحرق وأُضيع. ودون تعبٍ، نلقي المسؤولية على أحدٍ ما، وبالذهنية (المستوعبية) عينها، عدا أننا لا نكون على مستوى الأبعاد القيادية أو الإصلاحية في سير كبارنا، مما يوقعنا على مسافةٍ بعيدةٍ عن الإقتداء، أو أن يكون في الإقتداء الكثير من السطحية.
نلتقي اليوم بمناسبة حدثٍ تأسيسيٍّ لنهضة أمةٍ وُضعت ركائزه الأولية في 24 نيسان 1920، في لقاءٍ جماهيريٍّ ضخمٍ ضمّ علماء وزعماء ومقاومةً شعبيةً وجماهير، وعُرف اليوم باسم مكان الإجتماع: مؤتمر وادي الحجير، كرّس لنفسه قائداً هو السيد عبد الحسين شرف الدين، بحيث اتحد الإسمان (المكان والقائد) عند كل من يعنيه وادي الحجير.
كيف درسنا، نحن الجيل الثاني أو الثالث ومن بعدنا، شخصية وسيرة هذا القائد الذي وضعته الأحداث في مواقع الصدارة؟.
الجانب الذي أخذ اهتماماً حقيقياً هو الجانب العلمي، ومنه قضية ما سُمي بفقه الإئتلاف وفقه الإختلاف، ثم مؤخَّراً، أخذ (المكان) ـ وادي الحجير ـ ينير شيئاً من السيرة، فهل هذه هي سيرته؟
يقول إمامنا المحتفى بذكراه اليوم في الشهر الأول من ورده صور (كانون الثاني 1908): (..وشكوت بثي وحزني ومصيبتي: بما أنّا لا جامع لنا، ولا مجمع، ولا جماعة، ولا جمعية، ولا جمعة، ولا عيد، ولا أذان، ولا عنوان، ولا مدرسة، ولا.. ولا.. يدخل الأجنبي صور، وهي عنوان الإمامية في البلاد العاملية، فلا يحسّ منهم بأحدٍ، ولا يسمع لهم ركزاً..) [البغية/115].
هذه الكلمات الموجزة تختصر فهماً وتشخيصاً لواقعٍ، وفي الوقت عينه برنامج عملٍ كبيرٍ، قضى سيدنا بعده خمسين عاماً، فما موقع هذه اللاءات من سيرتهM؟ وكيف تتبعناها؟ وما هو أثرها في حياة صور وجبل عامل الثقافية والإجتماعية والسياسية، وبالتالي لبنان؟ أعتقد أنَّ من حقّ قادتنا المصلحين أن ندرس سيرهم في ميادين واسعةٍ، فهذا أولى لتاريخنا أن يحفظ وأن يدوَّن.
يجدر بنا أولاً، أن نحدد الدلالة في عبارة الإصلاح ومؤداها العملي، وكيف تنطبق على سيدنا؟.
مشتقات (صَلَح) لها استعمالاتٌ متعددةٌ في القرآن، وكذلك في مداولاتنا، فهي في تقريب وجهات النظر، وهي في الإرشاد، وفي الإيمان، وفي الدعوة إلى الخط السليم، وترتقي حتى }وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ{ [هود117] ويمكننا من مختلف الإستعمالات أن نحدّدها في وجهين:
1ـ الإلتزام بالإصلاح سلوكاً ذاتياً والدعوة إليه.
2ـ حمل الإصلاح فكراً نظرياً مصحوباً بنهجٍ وحركةٍ تطويريةٍ عمليةٍ، بعملٍ يدفع بالناس إلى قضاياهم والسير معهم، متداركاً ما هو قائمٌ، ومؤسّساً لما يأتي. وهنا يتجلى إمامنا قائداً إصلاحياً.
من الخمسين سنة إصلاحاً، أقبس جذوة التأسيس لقواعد البناء القومي لجماعةٍ واسعةٍ من الناس، تزيد عن200 مليون إنسانٍ في ذلك الزمان، موزّعين في الصحراء بين مشيخاتٍ وسلطناتٍ وأماراتٍ وإمامةٍ تحكمها عوائل منها، أو من جماعاتٍ تتسلط على منطقةٍ بالغزو، وجميعها تقع تحت سلطاتٍ خارجيةٍ بريطانيةٍ، لها مصالحها الإستعمارية لاستغلال ثروات البلاد الطبيعية، أما السلطة العثمانية فهي أحياناً كثيرةً متأرجحةٌ وقلقةٌ.
في المنطقة الحضرية من المشرق العربي، من بلاد الرافدين شرقاً حتى عريش مصر غرباً، فحكومةٌ للسلطنة العثمانية ظاهراً، وموزعةٌ إقطاعاتٍ لعشائرَ وعائلاتٍ لها وجودها في مناطقها، كما تتناوشها الصراعات التي تحدث من الداخل العثماني (مملوكي ـ سلجوقي ـ فاطمي ـ أيوبي وسواها) ومن الخارج الشرقي المغول، والغربي الصليبيون.
أما الشمال الأفريقي، فله وضعٌ مختلفٌ عن هذا وذاك، وتتنازعه داخلياً عائلاتٌ أغلب أقسامها محكومةٌ بأُسَرٍ علويةٍ من ذرية الإمام الحسن بن عليQ. ومصر تديرها عائلةٌ بولونية الأصل.. والجميع خاضعٌ إما لسلطة بريطانيا أو فرنسا أو أسبانيا أو إيطاليا أو البرتغال.
من هنا كان اختيار الجانب القوميِّ العربيِّ في حياة سيدنا، وإن لم يكن واضحاً عندي إن كان في طرحه أسسٌ قوميةٌ، يقصد بها كامل الوطن العربي من محيطه حتى خليجه، وما كان يعنيه النشيد:
بلاد العرب أوطاني |
من الشام لبغدان |
ومن نجد إلى عدن |
إلى مصر فتطوان |
أم أنه يحصر الوحدة في مشرق الوطن العربي، وهو ما قد طمع به الشريف حسين في خروجه عن السلطنة العثمانية، واتّباع الخدعة البريطانية، بمملكةٍ عربيةٍ يرأسها هو، ويوزعها أربع ممالك يديرها ملوكٌ أبناؤه: فيصل في سوريا، وعبد الله في العراق، وزيد في اليمن، والعاصمة الأساسية الحجاز بإدارة علي، ومركزه هو فيها (ملك الملوك) حامياً للحرمين الشريفين وأمة الحرمين الشريفين.
مهما كان الأمر، فإنني أحدد حديثي الآن، في هذه الجلسة، بأن أختار هذه النقطة من حياة سيدنا، لأنها من جانبٍ لها علاقةٌ بتشتت الأمة، بعد تجزئة أرضها، على أن يتمّ التشتت على إثر تحميل الأجزاء ثقافاتٍ ليست من أصالتها، وهذا ما شكَّل الجانب القومي من فكره، وأبرز الشكل الإداري للدولة المرغوبة آنياً، وللدولة المرتجاة مستقبلاً، مع ملاحظة ما يمكن أن يقوم بوجهها من أمورٍ مقدّرةٍ وغير مقدّرةٍ، مما قد يسمح بحركةٍ وحدويةٍ جزئيةٍ، وعليه نمشي معاً فيما كان من أمرٍ وحدويٍّ أُسّس بين 1919 و1920.
وإن اتخذنا العامل القومي عنواناً في ذكرى الحجير، لما في الحركة المحيطة في تلك الظروف من دوافعَ ذاتيةٍ، ودوافعَ موضوعيةٍ، يتوحّد حولها العمل العام شعباً وقياداتٍ، لمقارعة الدواهي المقبلة إلينا بكل عناصر القوة الدولية، من عسكريةٍ وسياسيةٍ وأغراضٍ ومصالح، وأطماع استثمارٍ واستيطانٍ هو الأخطر في الإستهدافات المنظورة في الأيام المحيطة بأيام الحجير، والظروف مواتيةٌ للطامعين من جانبٍ في:
1ـ القرب من بلوغ الأهداف التي أسست لها عملية التشكيلات المجتمعية من إشكالاتٍ طائفيةٍ في جبل لبنان، درزيةٍ- مارونيةٍ، بين سنتي 1840 - 1861 حتى انتهى إلى تجزئة الجبل إلى هيئتين إداريتين، ثم جمعهما في كيانٍ مستقلٍ باسم المتصرفية.
2ـ تبنّي كلٍّ من الأطراف الأوروبية الرئيسة (فرنسا ـ إنكلتر ـ روسيا) مجموعاً طائفياً (كثالكة ـ دروز ـ أرثوذكس) حمايةً ودعماً. دون إهمال نكهة طيبٍ بوجودٍ إيطالي ونمسوي متفرجين من الداخل.
3ـ في الوقت الذي كانت تجري الإعدادات التجزيئية في الأرض السورية ـ أرض الصراع على المشرق منذ القدم ـ من خلال الخاصرة الرخوة (جبل لبنان)، في الوقت عينه كانت عمليات خلق كياناتٍ قوميةٍ إنفصاليةٍ عن السلطنة العثمانية من خاصرةٍ رخوةٍ أوروبيةٍ، كانت تعرف ببلاد البلقان(1)، التي استقلت عن السلطنة العثمانية بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وآخرها كانت بلغاريا سنة 1909، بتقاربٍ زمنيٍّ مع إعداد الأرض العربية لحركة استقلالٍ عربيٍّ، وقد سرَّع بإنضاجها وتوقيت إعلانها الإعدامات التي أجراها جمال باشا في دمشق وبيروت سنة 1916.
من جانب المحيط العربي، فالدوافع الذاتية والموضوعية قائمةٌ أيضاً وتفعِّلها:
1ـ الإستهدافات الموجَّهة لبنية السلطنة العثمانية، أو لمسمَّى الخلافة الذي تتلبسه السلطنة، إن كان من الدول الأوروبية المتحالفة التي ذكرنا، أو من محرِّكها الأفعل، الصهيونية العالمية، التي وجدت مبررات عملها المكشوف برفض السلطان عبد الحميد هجرة اليهود إلى فلسطين، مع الإغراءات المادية والمعنوية الكبرى التي كانت تقدَّم له، ومنها تغطية كامل الديون التي على الدولة، مستحقَّةً ومؤجَّلة الدفع. هذا الرفض الذي أوقعه نقطة استهدافٍ إعلاميٍّ وسياسيٍّ، ولا أستبعد انتقاء مجزرة الأرمن في تركيا من نفس نسيج حكاية محرقة الألمان لليهود، وبالأساس فإني أتقبَّل القول بيهودية أتاتورك وهو من (سالونيك)، البلدة التي تأسَّس فيها تشكيلٌ سريٌّ متعاونٌ متضامنٌ متكافلٌ لليهود الذين أطلق عليهم اسم (جديدي الإسلام)، إذ يتظاهرون بالإختلاط والعقيدة في الأوساط والمناسبات الإسلامية، وفي ما بينهم ممارساتٌ ووقائعُ أخرى. ولا أستبعد أيضاً أن يكون هذا التشكيل قد أغناهم عما درجوا عليه من ظهور (متنبئين) درج عليها اليهود من السنة الثالثة والثلاثين من غياب المسيح Qحتى القرن السادس عشر، نضوج أسس التنظيم ومهامه وخططه، في سالونيك فتوقفت حركة التنبؤ والتهييج للعودة إلى أورشليم منذ ذلك الحين.
2ـ قيام حزب الإتحاد والترقي بشعاراتٍ تقدُّميةٍ، رغب فيها العرب فانضمُّوا إليها، وإذا هي عنصريَّةٌ، بأشد ما تكون تعصباً للعنصر التركي، فاضطهدت بقساوةٍ، بأشد مما كان يتهم به عبد الحميد، فتوزَّع العرب بين جمعيات المنتدى الأدبي، والعربية الفتاة وسواهما. ونشطت على كامل مساحة الوعي العربي، إعلاماً وتفريعاً.
3ـ بداية ظهور أنشطةٍ حزبيةٍ لها توجهاتٌ مختلفةٌ إبتداءً من سنة 1870 ميلادية، وتلك هي فترة ولادة ما عُرف بعصر النهضة، وكانت التوجهات تتباين انعزالاً وانفتاحاً.
4ـ نشوء هذه الأحزاب في أعقاب مجيء البعثات التبشيرية الأميركية في عشرينات القرن التاسع عشر، ولحاق التبشير الكاثوليكي الفرنسي في ثلاثيناته، والإنعكاسات السلبية التي أحسَّ بها إسلاميو بيروت في سبعيناته وتأسيسهم جمعياتٍ تعليميةٍ مواجهةٍ لتلك، مع تولي مدحت باشا المشهور عنه أنه أبو الدستور، إدارة لبنان وسوريا في نفس الفترة، وهو واضع برامج وزارة المعارف العثمانية، فوجد في جمعية المقاصد ما يتناسب مع نظرته فدعم نشاطها.
5ـ قيام جمعيات الكلية السورية الأميركية (الجامعة الأميركية حالياً)، من أساتذة اللغة العربية الكبار (بستاني ـ يازجي) مع شيءٍ من الطرح العروبي، والتي ألّفت الجماعة المتنورة حولها.
هذا كله وسواه، وربط الثقافة والحضارة والتقدم بهؤلاء القادمين (لتحرير البلاد) من الرعب والخوف والتخلف، من جهةٍ، والإرتباط الديني الذي لا يرضى عن الخلافة بديلاً، مع رغبةٍ شديدةٍ بأن ترفع عن نفسها ما ينالها من تهمٍ بالظلم الواقعي أو المدَّعى، كل هذا أوجد وبالخصوص في الجزء اللبناني من سوريا، تبايناتٍ في الرأي شديدةً جداً.
عند المفرق الصعب
يعنينا مباشرةً في حديثنا، ما يحيط بنا، بر الشام؛ ساحلاً وجبلاً، وهو ما صار جمهورية لبنان بعد أن ثبت الإستعمار، وبعد أن استقرَّ التفاهم على حدوده بين الدولتين المستعمرتين (بريطانيا وفرنسا) ورفع اسم لبنان الكبير.
المجموعات البشرية التي كانت تسكن هذه المنطقة تشكَّلت على أساسٍ طائفيٍّ هو أقرب لما كان من تجاذباتٍ في الإعداد للقائمقاميتين، ثم المتصرفية، ولكن الجماعة المسيحية أو ما يطلق عليها د.عصام خليفة(2) «النُّخب» كانت تقدم مشاريعها أو طروحاتها لإقامة لبنان المستقل ضمن رؤيةٍ واضحةٍ عند فئاتها للحدود الجنوبية، وإن اختلفت فيما بينها، إذ منهم من حصر لبنان بحدود المتصرفية، ومنهم من تعداها فجعلها حتى الأولي، وآخر إلى الزاهراني، وثالث إلى الليطاني، ورابع حتى رأس الناقورة.
ولمَ حدود لبنان الجنوبية وحدها التائهة بين (النخب)، وللحدود مراجع ووثائق تاريخيةٌ معروفةٌ، أما ما وقفنا على مبرراتٍ للحدود، ليست أكثر من خطوطٍ وهميةٍ أقام عليها أفرادٌ حدوداً وهي:
1ـ توفير مدىً حيويٍّ جغرافيٍّ، وإعادة لبنان إلى حدود الأمارة(3)
2ـ التمثل ببلاد البلقان التي أمنت حدوداً أرضيةً ملائمةً لحدودها(4).
3ـ حل مسألة النمو الديموغرافي والهجرة باتجاه مناطق أكثر خصباً(5).
وهكذا الأقلية من النخب المسيحية، فكانت ترى وحدة سوريا لبنان بخصوصيةٍ مميزةٍ، أو بسوريا مع وصايةٍ فرنسيةٍ، حتى يطلع علينا بتوحيد سوريا مع مصر وتشكيل خلافةٍ عربيةٍ، يؤيِّد هذا جماعةٌ من النخب الإسلامية، وكلهم ممن يعيش في مصر، ويدعو للفكرة إعلامياً بجريدة المقطم.
أما النخب الإسلامية (سنة ـ دروز) فتطلب الإمبراطورية العثمانية في إطارٍ إصلاحيٍّ، وبين الإصلاح والإستقلال التام للبلاد العربية. أما الشيعة فليس لهم ذكرٌ إلا الإشارة في ص/53 من كتاب خليفة (وأمام لجنة كينغ ـ كرين) تكلَّم باسم جبل عامل السيد عبد الحسين شرف الدين، فطلب وحدة سوريا بحدودها الطبيعية التي تضم قسميها الجنوبي (فلسطين) والغربي (لبنان)، وكل ما يعرف ببر الشام... كما أن مؤتمر وادي الحجير الذي حضره عينةٌ كبيرةٌ من وجهاء الشيعة في الجنوب، من أهل دينٍ وسياسةٍ وأدبٍ وقادة مقاومةٍ، قد قرر الإنضمام إلى الوحدة السورية والمناداة بفيصل ملكاً، وهذا الخبر مرجعه أطروحةٌ جامعيةٌ ولم يكن مطروقاً.
في النص أعلاه ليس هنالك تعيين حدود، ولكنا نجده في نصوصٍ أخرى سنقف عليها. ولكن الكتاب نفسه ينقل في ص/27 تحديد الشيخ علي السبيتي لجبل عامل، وهو ما يتمسك به العامليون: «حد جبل عامل القبلي: النهر المسمى بنهر القرن الجاري شمالي طير شيحا إلى البحر جنوب قرية الزيب.. وشمالاً المسمى بالأوَّلي.. ومن الغرب البحر المتوسط، ومن الشرق، أرض الخيط إلى الوادي المسمى يعوبا إلى نهر الغجر فالحولة...»
الحركة التي دارت في أجواء عاملة، خلال سنتين، طويلة الليل، داكنة الفضاء، غنية الحمل، تبشِّر بأمرٍ، ولكنه غير متسرعٍ ولا متسارعٍ، فصافرة النهاية لم تحن، ولا تزال بقيةٌ ملحوظةٌ للدقائق التسعين من نهاية الشوط الثاني. فالمهم أن يكون قد أُحكم الإعداد. وهذا الإعداد هو موضوعنا «عاملة والتأسيس القومي» استيحاءً للمدار الإتحادي والتوحيدي للتحرك، والمقررات والتوجهات التي كانت واضحة المعالم بمشروعها المنبثق من ذات الأمة، والمنطلق من موضوعيتها ووعيها لحاجاتها التي فرضت أن تأخذ مساراً ليس هو مما كان من تعاهدٍ بريطاني مع الشريف حسين، إذ كان مقرراً للمملكة أن تمتد من سوريا حتى اليمن، مروراً بالعراق ونجد والحجاز، وإذا نحن أمام مملكةٍ سوريةٍ مستقلةٍ ومنفتحةٍ على اتحادٍ أو وحدةٍ.
ليس بين أيدينا، كما أننا لم نسبق بأن الأمر كان من لُعَب الأمم التي تغيِّر بالمسارات وتبدِّل بالإتجاهات. لا في دراساتٍ ولا أبحاثٍ ولا تحليلاتٍ تاريخيةٍ.
صحيحٌ أنني أمام تساؤلٍ كبيرٍ في هذا، ولكنني مع فقدان كل ما يمتُّ إليه بإجابةٍ أقف منه موضوعياً، فأعتبره من جانبٍ فيه تشكيل دولةٍ قوميةٍ تتوفر فيها كامل المقومات، ولو نظرياً، لأن تكون الدولة النموذج القطب، وبالخصوص إذا شكلت مع العراق وحدةً ولو جزئيةً.
هذا إن لم يكن في الأمر عملية إبعادٍ عن مضمون التعاهد مع الشريف حسين تحقيقاً لمبدأ الإنتداب الذي ينتهي إلى سايكس ـ بيكو، وصولاً لما نحن فيه اليوم ولما لا نعهد بعده.
مرجعية الحدود
مهما جاءت التبريرات التي ذكرت للحدود الجنوبية، فإننا لا نستطيع أن نخرج خطوطها الأساسية من خرائط فرنسية، وما كان عليها من تعديلٍ لاعتراضاتٍ بريطانية، كانت تراعي رغبة الصهيونية العالمية التي نقلت تطلعاتها من حدود التمنيات والإقناع السياسي، إلى طور التنفيذ العملي، الذي كان له الأثر الفعَّال فيما بلغته الإتفاقات النهائية بين الدولتين المحتلتين (بريطانية وفرنسا)، وهي المرسومة على الورق، والذي أُعلن بوعد بلفور في تشرين الثاني 1917، ونُفِّذ جزئياً سنة 1948، ولا يزال منه الشيء الكثير ليعمله.
وما هو ثابتٌ قولاً، وعُمل له فعلاً مَبنيٌّ على ثلاثةٍ:
1ـ يركِّز هرتزل في مذكراته على جنوب لبنان وجبل الشيخ، نظراً لأهميتهما الإقتصادية والعسكرية، وعلى احتوائهما على مصادر المياه الضرورية لتطوير الحياة الإقتصادية والإجتماعية في فلسطين.
2ـ اعتبر جاكوبس في كتابه (أرض فلسطين) المطبوع باللغة الألمانية 1909 أنَّ جبل لبنان هو الحدود الشمالية.
3ـ في عام 1917 أصدر (بن غوريون) و(بن زفي) كتابهما «أرض إسرائيل»، فاعتبرا متصرفية جبل لبنان هي الحدود الشمالية للدولة اليهودية، وهي نفس حدود جاكوبس.
مذكرات ومقررات
في أي حالٍ فنحن نأخذ بما هو بين أيدينا ونعتمدها منطلقات بحث، ولا نختلق ما ليس كائناً لنبحث في افتراضٍ لا أصل له. وما يعنينا لمناسبة اليوم، ذكرى مؤتمر وادي الحجير 1920، ابتداءً ببنودٍ من المذكرة المسلَّمة إلى لجنة الإستفتاء الأميركية المعروفة بلجنة كينغ ـ كرين في 5 شوال 1337هـ 4-تموز 1919م.
أـ لا نرضى بغير استقلال سوريا التام الناجز بحدودها الطبيعية التي تضم قسميها الجنوبي (فلسطين)، والغربي (لبنان)، وكل ما يعرف ببر الشام دون حمايةٍ أو وصايةٍ (البند الأول).
ب ـ لا حق إطلاقاً لما تدَّعيه فرنسا في أي بقعةٍ من سوريا، ولا نقبل أيَّ مساعدةٍ منها (البند الرابع).[بغية الراغبين/453]
من مقررات مؤتمر الحجير 5 شعبان 1338 هـ 24 نيسان 1920م
1ـ تأييد مقررات المؤتمر السوري في رفض تقسيم سوريا والإنتداب الفرنسي، وإعلان الدولة العربية في سوريا، وتتويج فيصل ملكاً عليها.
2ـ انضمام جبل عامل للدولة العربية (الوحدة السورية) ومبايعة الملك فيصل على تطهير البلاد من الإحتلال الفرنسي. [بغية الراغبين/441]
المؤتمر السوري
وحدة الكلمة كانت الأساس في وحدة الموقف والهدف، وهذا يبدو من البند الأول من مقررات مؤتمر وادي الحجير، إذ بُنيَ على مقررات المؤتمر السوري، مع العلم أن هذا المؤتمر الذي انعقد في دمشق قد لاحظ ضرورة التواصل مع الجميع مباشرةً (وفي 2 تموز 1919 كانت جلسته الثانية (المؤتمر السوري) مخصصةً للبحث في توحيد المطالب العربية أمام لجنة الإستفتاء، وقد عُممت على المناطق السورية، بما فيه جبل عامل، فكانت في أساس لوائحه أمام اللجنة الأميركية في صيدا وصور، في 10 تموز 1919)(6).
أما أهم المقررات، كما وردت في نفس المرجع والصفحة، فننقلها حرفياً لأنها تتصل بموضوعنا في أكثر من مكانٍ، وهي:
1ـ الإستقلال التام الناجز للبلاد السورية بدون حمايةٍ أو وصايةٍ.
2ـ حكومةٌ ملكيةٌ نيابيةٌ لا مركزية، برئاسة الملك فيصل، تحفظ حقوق الأقليات.
3ـ الإحتجاج على كل معاهدةٍ تقضي بتجزئة البلاد السورية.
4ـ رفض المادة 22 من عهد جمعية الأمم التي تُدخل العرب تحت الإنتداب.
5ـ قبول المساعدات الفنية والإقتصادية من أميركا أولاً، أو من بريطانيا ثانياً، وعدم الإعتراف بأي حقٍّ تدَّعيه فرنسا في البلاد السورية.
6ـ رفض مطالب الصهيونيين بجعل فلسطين وطناً لليهود، ورفض الهجرة اليهودية إليها.
7ـ الإستقلال التام للقطر العراقي.
ملاحظة:
نلاحظ وحدة الروح للنقاط الرئيسة بين المذكرة ومقررات وادي الحجير من جهة، وبين مقررات المؤتمر السوري مع تعديلٍ واضحٍ عند النقاط الحساسة التي تستدعي تحديداً يخرجها من العمومية، مثلاً:
1ـ البند السادس في المؤتمر السوري الرافض لمطالب الصهيونية، فصيغتها في مذكرة اللجنة تهمل وجود مطالب للصهيونية، وكأنها ليست موضوع بحثٍ، والموضوع هو الإصرار على رفض ما يدور سراً أو علناً حول فلسطين ولبنان، وأنهما جزءان سوريان، ولا شيء آخر.
2ـ إلزام الدولة الملكية النيابية بالعدالة والمساواة للجميع كافةً حقوقاً وواجباتٍ.
3ـ موضوع الأقليات ليست مجرد حفظ حقوقٍ، فحفظ الحقوق للجميع مفروغٌ منه، وباعتبار أن الأقليات في جبل عامل، والذين تدَّعي فرنسا أنها آتيةٌ لحمايتهم، فتحمل إلينا خطبة المؤتمر نصاً هو من صميم التربية القرآنية: (ألا وإن النصارى إخوانكم في الله)[البغية/440] وكأني به (طاب ثراه) اعتبر الثالوث (الأب والإبن وروح القدس) من شؤون الكلام وأبحاث اللاهوت، وأخذ بالنص على (إله واحد)، ولذلك اعتبرهم إخواناً في الله، وليسوا أشباهاً في الخلق، وعليه استشهد بالآية الكريمة }وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً..{(س. المائدة آية 82) وعليه ركَّز على مساواتهم بالروح والمال.
4ـ البند الخامس في المذكرة للجنة الإستفتاء، فيه إهمالٌ كليٌّ لبريطانيا، وكيف لا يكون، وهي إحدى الدولتين المنتدبتين، ولا تختلف مصالحها ومطامعها عن فرنسا، كما أنهما لا يمكن أن تختلفا لصالح أي طرفٍ ثالثٍ، ثم هي اقتطعت لنفسها فلسطين من سوريا، يعني أنها ستحقق وعد بلفور، وزير خارجيتها، بالوطن اليهودي في فلسطين، كما أن الشيعة في العراق، وبقيادة مراجع الشيعة الكبار، في حربٍ مع بريطانيا وبنفس الفترة الزمنية التي احتلت فيها لبنان أو قبل، ولا يستطيع أن يهمل هذا في حسابه. فلذا جاء البند الخامس مهملاً ذكر بريطانيا، وفيه شيءٌ من الإلتفاف على صيغة المؤتمر السوري بالنسبة لأميركا، أو شيءٌ من التمييع: (إذا كان لا بدَّ لسوريا من مساعدةٍ، فإن الرئيس (ولسون) قد فتح باباً لطلب المساعدة من أميركا، وذلك بإعلانه أن دخول الحرب إنما كان للقضاء على فكرة الفتح والإستعمار) [بغية/454].
التفويض
ولنا أن نقف على حقِّ الإمام شرف الدين بتقديم المذكَّرة، ثم بإدارة المؤتمر والتكلم باسم الحاضرين علماء وزعماء ومقاومين وجماهير، ففي هذا يقول (طاب ثراه) (أوكل إلينا أن نمثِّل الأمة العاملية في جماعةٍ ممن يلابسون السياسة، ويعملون في حقولها، واجتمعت إلينا أختام العلماء والوجوه والمختارين من مختلف البلاد العاملية، ثقةً منهم بكل ما نقوله باسمهم، واعترافاً بصحة ما نعمله في سبيل مصلحتهم) ويتابع (وطيَّرنا يومئذٍ برقياتٍ، وأرسلنا عرائض عبَّرت عن آمال البلاد وأمانيّها في جلاء فرنسا عنا، واعتزالها الحكم فينا)... [بغية/147].
الحضور العاملي الدائم
نعود إلى الفترة التي كان فيها هذا التفويض والقيام بمقتضياته، والظروف الحرجة والعصيبة كان فيها التكليف، وكانت القيادة الملبية للنداء، وفي هذا فوجيء فيصل مجدداً بعقباتٍ فرنسيةٍ تحول دون حضوره مؤتمر الصلح باسم كل العرب، وإنما باسم ملك الحجاز، أو الوفد الحجازي فحسب، لذلك اضطر الأمير إلى تعزيز تمثيله العربي السوري، فطلب برقياتٍ وعرائضَ شعبيةً سوريةً عاجلةً تنتدبه لتمثيل السوريين في مؤتمر الصلح.
(وكان العامليون من أوائل الملبِّين بعشرات العرائض الشعبية، على الرغم من الملاحقات العسكرية الفرنسية، هذا فيما تعذَّر تفويضٌ مماثلٌ من شعب جبل لبنان وفلسطين لممانعة السلطات الفرنسية والإنكليزية) [جبل عامل /143].
وما كانت هذه الممانعة لتنال من المنعة العاملية (وكان من ذلك أن عزم الفرنسيون، وعزمت ذيولهم أن يتخلصوا مني عن طريق الإغتيال لتنهار هذه الجبهة إذا خلوت من الميدان)(7) [بغية/149].
يروي سيدنا كيف اقتحم ضابطان فرنسيان يتقدمهم مسؤول أمنٍ من صور منزل الإمام (والدار خاليةٌ من الرجال)، وهجم عليهم فركل اللبنانيَ ركلةً ألقته أرضاً فرَّ على إثرها الضابطان، ولاقى اللبناني الواجب اللازم الذي أخرجه من فعلته إلى الاستقالة فإفريقيا، حيث امتهن في أدغالها تربية الخنازير.
وما كان من حاكم صور الفرنسي «دلبستر» إلا أن جاء متنصلاً مما حدث، ويعلق سيدنا (والمؤسف أِشد الأسف أن داءنا القديم، داء الإنقسام والحسد والنفاق، بدت أعراضه من تلك الفترة، وظهر في الميدان نفرٌ من هؤلاء المتزعِّمين الذين أشهدناهم مجالسنا، وأطلعناهم على خطَّتنا الصريحة، وأشركناهم في عملنا، ظهر هذا النفر في الميدان مذَبذَباً ينقلب إلينا علناً وينقلب عنا سراً) [نفسه].
هنا نقف على التفويض والقيام به وتحمُّل مفاعيله، وقد تأكَّد في أكثر من مناسبةٍ، ومن أهمها أن يكون سيِّدنا هو المكلَّف بحمل كلمة جبل عامل (المقررات) إلى الأمير فيصل بن الحسين، والمتكلِّم والمفاوض والمبايع باسم مؤتمر وادي الحجير.
وهكذا نجد الإمام شرف الدين متصدِّراً كلَّ مهمةٍ، مما يشير إلى أنه كان قائد المرحلة، ولم تكن هذه القيادة عشوائياً، إذ إنه الوحيد الذي تصدَّى، منذ بدء عمله، إلى الشأن العام، إذ كان العلماء وظروف الإضطهاد التاريخي للشيعة على مختلف العهود، يتفرَّغون للحفاظ على ثقافتهم الأصيلة، فانكفأوا إلى داخلهم يستنبتون أصولهم إذ يستنبطون، مكتفين بالصلاة والفتيا والتدريس، ولكن سيِّدنا قام بالمهام العامة، يحرِّض على ظلم العثمانيين، يحرِّك الناس لقضاياهم، يخصِّص وجهات الصرف للحقوق الشرعية في الإطعام أثناء المجاعة التي عمَّت في الحرب العالمية الأولى.
هذا التصدِّي رسَّخ عند الأمَّة الشخصية القائدة في سيِّدنا، أصبح في الذهن العام أنه المحرك الأساس في كلِّ شيءٍ، ولهذا كان التركيز عليه متَّهماً، وأكثر استهدافاً، في التقارير التي تُرفع للمحتل، محرِّضاً ومحرِّكاً للأعمال السرِّية، ولتوزيع المنشورات وغير هذا، وبالخصوص أن منزله في «شحور» هو الجامع للمعارضين المتخاصمين، والمقرِّب لوجهات النظر، والواضع الأسسَ للعمل المشترك.
وما كان ليضنيه هذا، فهو فيها يبلغ غاية السعادة مطمئِّناً لحسن المنقلب. وما أضناه سوى أن يكون ما أسماه الداء القديم؛ داء الحسد والإنقسام والنفاق هو المضني، وقد استهداف بقسوة حيَّاً، ومازال مستهدَفاً لها، وهو في حضرة رب ٍكريمٍ.
في نظام الدولة والمرشح:
انسجاماً مع المؤتمر السوري، وللمحافظة على وحدة الكلمة والهدف، كانت بنود وما قُدِّم للجنة الإستفتاء الأميركية ومنها:
(بند/2 ـ اللجنة الأميركية)
(بند/3ـ اللجنة)
المؤتمر السوري، قام لمواجهة الأحداث والطوارئ، إن كان في عملية تشكيله، وقد سبقه الإحتلال البريطاني ـ الفرنسي لسوريا المجزَّأة إحتلالياً، والذي فرض سيطرته بالسماح أو المنع لمندوبين محتملين أو مقترحين من فلسطين ولبنان كممثلين منهما، أو لمن يختار عضو مؤتمر الصلح إلى جانب الأمير فيصل، أو بالنسبة إلى وضع أنظمةٍ وقوانينَ لهيكلية دولةٍ في طور الإيجاد. ولم يكن هنالك ما يُعتمد عليه إلا ما يمكن الإستفادة منه فيما هو قائمٌ من تنظيماتٍ إداريةٍ وقوانين َعامةٍ في الأنظمة والقوانين العثمانية.
وقد ساعد التحول المفاجيء من نظامٍ شريفيٍّ لدولةٍ محتمَلةٍ تُنظَّم فيما بعد، اعتماداً على اتفاق مكماهون ـ حسين، إلى دولةٍ سوريةٍ مقتطَعةٍ استولدتها رياحٌ غير واضحة المصدر، هذا بالإضافة إلى أن مؤتمر الصلح، وتمثيل العرب، والترتيبات المفترضة، وكأنها جاءت ارتجالية الإعداد، بينما كانت هنالك جمعياتٌ في مصر وفي فرنسا، وكذلك في أروقة الأديرة، تعدُّ نفسها وكأنها تدرك ما سيكون عليه يومٌ آتٍ. وبالمقابل، كانت هنالك جمعياتٌ أيضاً، ولكنها تعمل على مواجهة المستجدات من الليالي، بين جمعية الإتحاد والترقِّي العثماني، وبين الخروج منها أو الدعوة إلى سلطنةٍ يُدخل عليها إصلاحاتٌ.
مقررات المؤتمر السوري كانت مرجعيةً لمذكرة لجنة الإستفتاء ومقررات مؤتمر وادي الحجير، والذي جاء أيضاً بإعدادٍ محدودٍ وسريعٍ، وبغرض دعم الأمير فيصل ليكون ممثلاً لكل العرب، وليس لأبيه أو للحجاز فحسب.
لهذا كله كانت المقررات لتحضر بإقامة فيصل ملكاً ومرشحاً وحيداً، وبنظامٍ ملكيٍّ نيابيٍّ عادلٍ ومتوازنٍ، وليس من بحثٍ في شيءٍ آخر، كما لم يكن من بحثٍ في مؤسسات هذه المملكة أكثر من أن تكون برلمانيةً، ثم إضفاء هالةٍ أخلاقيةٍ وقدرةٍ سياسيةٍ لدى الشخص المرشح الوحيد عند العرب (فيصل).
مجموع هذه التفويضات والمرجعية الموحدة (مقررات المؤتمر السوري)، حملها الإمام شرف الدين والوفد إلى الشام، فيرفع عن كاهله ما يرهقه من تكليفٍ.
المبايعة
عند كل لقاءٍ مع الأمير فيصل، نجد سيِّدنا يقدِّم الولاء لآل البيت، سلاماً وابتهالاً ورجاءً، إقراراً منه وشهادةً على شيعة جبل عامل، ثم يلتفت إلى فيصل يذكره أو ليستنهض منه ما فيه (ثُمالة السلف، وبقية الخلف، وذُؤابة الشرف من عمرو العلى هاشمٍ، إلى محمدٍ وعليٍّ والزهراء فاطم) رافعاً تحية شيعة عاملة (العاقدين نية القربة على مبايعتك بيعةً قائمةً حتى بلوغ الهدف، فذمَّتي بما أقول رهينةٌ، وأنا به زعيمٌ).
والهدف يقوم على دعامتين اثنتين:
ولن تقوم سورية دولةً، ولن تكون أرضها واحدةً ما دام الفرنجة يكبِّلون جناحي الشام بساحله وفلسطينه.
وقد أجمع الرأي العام عندنا على المناداة بذلك في سبيل تحقيقه، وواجه لجنة الإستفتاء الأميركية.
17شعبان 1338 ـ 18 أيار 1920.
وهكذا كانت المبايعة محددةً أغراضها الثابتة، وبدونها وكأنها لا تعتبر المبايعة قائمةً، كما أني أفهم من تأكيدات سيِّدنا على تمسِّك المفوِّضين له بعقد البيعة، الملحَقة بالدعوة إلى الجهاد، المبنيَّة على القواعد التاريخية لمعنى الجهاد الذي يتمظهر فوزاً بواحدٍ من اثنين ولا ثالث: الشهادة أو النصر.
المبايعة حُدِّدَت بنقطتين توجبان الطاعة، وسيترتب على تنفيذهما استمرار فيصل ملكاً، أما إذا ارتفع الشرطان، فماذا سيكون عليه الأمر، فهل تجدَّد البيعة على شروطٍ جديدةٍ؟.
منذ تنازل الإمام الحسنQ عن إمامته الزمنية حتى تاريخه، والشيعة مستكينون للحكم الجائر، ولو بمسمَّى الحاكم مسلماً ـ وخليفةً، فما هو الموقف الآن، والحكم على أسس الأنظمة الغربية أو ما نسميه: دولةً مدنيةً؟.
هل يكون التعامل على قولة أمير المؤمنين الإمام عليQ: لا بُدَّ للناس من أميرٍ برٍ أو فاجرٍ يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع بها الفاجر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع الفيء (مالية)، ويقاتل العدو (حماية الحدود والإستقلال)، وتأمن به السبل (الأمن الداخلي)، ويُؤخَذ به للضعيف من القوي (عدالة)؟.
ربما، على هذا كان مبدأ التنصيب لفيصلٍ ملكاً (عدالةً ومساواةً)، والمبادئ الثلاثة لمباني الكيان بجمع الشتات (الوحدة ـ الحرية ـ الإستقلال)، تكون هذه صيغةً جديدةً لقواعد الإمام عليQ، وإلا فمبدأ مقارعة الظلم والظالم هو المسار.
وعليَّ أن أرجع هنا إلى كتابهM «أجوبة مسائل جار الله» /53 بالنسبة للجهاد وقد ذكر أربعةً موجبة:
هذا, مع العلم أن في نصِّ القسم الرابع من أقسام الجهاد المذكورة: الجهاد لدفعهم عن ثغور المسلمين وقراهم وأرضهم، أو لإخراجهم منها بعد تسلُّطهم عليها بالجور، أو لجبر بيضة المسلمين بعد كسرها، وإصلاحها بعد فسادها وهذا المعنى ما نعبر عنه الآن بإزالة آثار العدوان. ويعني أن التحرر لا يتمُّ إلا بهذه الإزالة مادياً ومعنوياً، ومنها النصوص والنفوس.
وفي أي حالٍ، فإنَّ في تاريخنا العلمائي الديني، أنَّ أول مبايعةٍ تكون لحاكمٍ مدنيٍّ، وعلى المستوى الدقيق لمبايعة ولي الأمر، كانت مبايعة الأمير فيصل ملكاً، ولم يكن ليحصل في العراق يوم نُصِّب ملكاً، حتى أنه لم يحصل على الإعتراف الرسمي ـ إن صح التعبير ـ من المؤسسة الدينية الكبرى في النجف، بل بلغ الأمر أن حُرِّم الإلتحاق بالمدارس الرسمية، هذا مع عدم الخروج على القوانين العامة للمملكة.
ولذا جاز لي أن أقول إن المبايعة من الإمام شرف الدين للإمير فيصل ملكاً، مع برلمان في دولة العدالة والمساواة، أول حركةٍ شيعيةٍ باتجاه النظام العصري للملكية الدستورية.
إحتمال
أفهم الدوافع لمآخذ على حصر مؤتمر وادي الحجير بالفئات الشيعية، من علماء وزعماء ومقاومةٍ وجماهير، دون سواهم من أقلِّيةٍ في الأقلِّية المسيحية التي تؤيِّد وحدة الأرض السورية وشعبها. وأرى في هذه المآخذ إسقاطاً لما نعيشه خلال العقود الأخيرة، من غزائزية تحركٍ في إقامة علاقاتنا البشرية، وانعكاسها على حياتنا الإجتماعية والسياسية، وتعاملاتنا الإقتصادية، استدعى دعاوى ـ لا تخلو من غرائزيةٍ أيضاً ـ للحوار، دون أن نعتمد إلى مباني التراكم الثقافي الذي أوجد انقساماً مجتمعياً حاداً يحمل تاريخاً لعمق قرونٍ، ومكّنت ركائزه بنىً إداريةٌ أُقيمت على مآسي وفجائع ما كان بين 1840و1861.
ولذلك، ربما أجد نفسي متسائلاً، على سبيل الإحتمال أوالإفتراض، ألا نستطيع أن نرى وجود رؤيةٍ لدولةٍ جديدةٍ، يكون الوجود الشيعي عنصراً أساسياً في قيامه، بالخصوص أن التحرك العاملي يتساوق مع تحركٍ شيعيٍّ في العراق، وبقيادة المراجع العلماء الكبار؟.
إذا كان هذا الرابط موضع نظرٍ وقَبولٍ، ألا يُحتمَل أن في رؤيةٍ للدولة الجديدة يكمن الشعور بالنهوض من تراكم القرون، والتمرد على الإفناء لكل ما يمت إلى دم كربلاء، ودم محراب الكوفة؟ والتي استمرت تنتهج قولة: «وهذا (إبن أبي كبشة) يُنادَى به خمس مراتٍ في اليوم... إلا دفناً، دفنا؟».
وإن لم يكن
ماذا نفهم من قولة أفرادٍ من جيلٍ بعد ثلاثة أو أربعة عقودٍ من مؤتمر وادي الحجير، من أن قيام الإمام شرف الدين سنة العشرين، استلمها الإمام السيد موسى الصدر ومشى بها، ولا تزال؟.
كيف نرى المعركة الطاحنة في وادي الحجير في حرب 2006، هل هي نصرٌ على آلةٍ حربيةٍ، أم نصرٌ على أهدافٍ عسكريةٍ إحتلاليةٍ، أو على الأقل، إمساكٌ بأوراق تفاوضٍ لها قوةٌ لفرض القرار؟.
بنظري، كان يوم الحجير نصراً على أهدافٍ عسكريةٍ، ولنتبيَّن إن كانت هذه أو تلك، فنحن لا نزال في حربٍ طاحنةٍ مستمرةٍ الآن في سوريا، وستنجلي يوماً. وفي الدقيقة التسعين يصفِّر الحكم لانتهاء الشوط، والدقيقة التسعون لم تحِن بعد.
الشوط المكتمل
شوط الأمة طويلٌ طويلٌ، فماذا عن شوط الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين؟.
قِسمٌ من شوطه اكتمل عندما علت صافرة القضاء المحتَّم، وقد وضع إجاباتٍ على اللاءات التي كانت عند وروده صور، (ولم يكن فيها جامعٌ ولا مجمعٌ ولا جمعيةٌ ولا جماعةٌ ولا جمعةٌ ولا عيدٌ ولا أذانٌ، ولا مدرسةٌ ولا.. ولا...) وكانت صور حينها (عنوان الإمامية في البلاد العاملية، فلا يحس بهم أحدٌ، ولا يسمع لهم ركزاً). وحين أتى أجلهM استبدلت كل السلبيات بايجابٍ، إن كان في صور أو المنطقة العاملية، فيُعفى العلماء من التجنيد، وينهض الغفاة لحقوقهم، ويُستخرَج من أعماق الناس معانيهم الإنسانية (وبرزت الأخماس تقفوها الزكوات وتتلوها أثلاث الموتى إلى رصيدٍ معلومٍ يوزع على الجوعى بنسبٍ متكافئةٍ) [البغية/144]. وما كان ليتخلى عن الناس طوال حياته في عسرة أو يسرة، كما أنه لم يتخلَّ عن أمنيته العربية والإسلامية، إن كان الجميع قد اتخذ موقعه من الأوضاع التي آلت إليها الأمور من خضوعٍ للإحتلال، ولكن سيدنا ليس له مما كان من مطمعٍ، وحسبه أن يحفظ نفسه بحفظ ما يعتقده، وخير دليلٍ ما نعرضه فيما بعد.
الوحدة العربية إلى الدول المتحالفة /1941
ماذا تعني فلسطين
وليس ذهاب فلسطين فاجعاً، لولا أنه ذهابٌ لريح العرب وعز الإسلام وكرامة الإنسان المسترَقِّ في غد هذا الشرق القريب.
نيسان 1948
إقتداء
ألا وإنَّ قَتلة الحسين Q بِكرٌ في القتلات، فلتكن قدوتنا به بِكراً في القدوات، ولنكن نحن من فلسطين مكان الحسينQ من قضيته، ليكون لنا ولفلسطين ما كان له ولقضيته من حياةٍ ومجدٍ وخلودٍ.
15/12/1947
مقاومة الأحلاف الغربية برقية لشاه إيران 25/4/1954
ألا وإنَّ الإستعمار الغربي يغزونا في عقر دارنا معتدياً غاشماً.
ألا ومن مات دون حفنة تراب وطنه مات شهيداً.
إحتجاج
ثانياً: الإستقلال الذي أُعلن في لبنان في هذا اليوم 26/11/41، مهزلة المهازل التي كانت تمثلها حكومة فرنسا الغابرة، في ليلٍ طويلٍ مقداره عشرون سنةٍ، ومثل هذا الإستقلال يتناقض مع مفهوم العهد الجديد، الذي أعلنت فيه بريطانيا بزوغه، وأبرز قواعده حرية كل بلدٍ في تقرير مصيره، على ضوء الحق والعدالة والحرية، وربط الاستقلال بدولةٍ أجنبيةٍ، هو تسلُّطٌ صارخٌ يجتاح الإستقلال نصاً وجوهراً.
ثالثاً: أمنيتنا الكبرى توحيد العراق وسوريا بحدودهما الطبيعية المعروفة في حقب التاريخ المختلفة، لأن هذين القطرين الشقيقين تجمعهما وحدةٌ طبيعيةٌ وعوامل تاريخيةٌ وجغرافيةٌ وإقتصاديةٌ ولغويةٌ وقوميةٌ.
رابعاً: إذا مُني العرب باستحالة وحدة القطرين لتناقضاتٍ عربيةٍ أو عاطفيةٍ، فإنَّ سوريا وإنَّ أشلاءها التي اقتطعت منها، كانت تعرف ببر الشام، نجمع مع العرب على إعادتها، إنه مطلبٌ مصيريٌّ غير قابلٍ للمساومة.
خامساً: إن فلسطين ليست جزء سورية الجنوبي، بقدر ما هي قلبها النابض المتصل بقلوب العرب جميعاً، والعرب يستميتون دون وعد بلفور.
سادساً: إن الدولة السورية المرتجاة بحكم عوامل الزمان والمكان واللغة ووحدة الهدف والمصير ترى نفسها صاحبة الحق في الدعوة إلى اتحاد عربي مع الشقيقات المتجاورات, يقوم على إلغاء الحواجز الجمركية وتوحيد برامج التعليم والسياسة الخارجية والدفاع.
أما وقد قرب أجله، أواخر سنة 1957، وكان الشاه محمد رضا بهلوي وزوجته الثانية ثريا، في لبنان بزيارة دعمٍ للرئيس شمعون في تأييده لحلف بغداد (التركي ـ العراقي). واتفق أن دخل الإمام شرف الدين مستشفى أوتيل ديو للمعالجة من نزفٍ في المعدة، وعُلم شفاؤه وموعد تركه المستشفى، فجاءه وزير بلاط الشاه أسد الله علم يهنِّئ باسم الشاه بالسلامة، وأنَّه أمر بإقامة حفل استقبالٍ فرحاً بهذا، فاعتذر سيدنا بعجزه عن صعود الدرج.
عاد الوزير ثانيةً ليبلِّغ بأمر إجراء الإستقبال في حديقة قصر الضيافة، فكان لهذا اعتذارٌ يناسب، ولما عاد ثالثةً يقترح مرور السيارة أمام باب القصر فيخرج الشاه إليها للتهنئة شخصياً، كان الحسم؛ (من مأثورنا أنه إذا رأيت العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيت الملوك على أبواب العلماء فنعم الملوك ونعم العلماء، ولا أرضى لمليكنا الوحيد في العالم إلا أن يكون نعم الملك).
سُئِل إمامنا يومها عن هذا التشدد، مقابل ما سينشر في العالم من أهمية علماء شيعة لبنان فأجاب: وسيعمم إعلام الشاه الخبر مصوَّراً في إيران والخارج، وإن خرجت اليوم من المستشفى فسأعود بعد أيامٍ وأموت، فماذا سأقول لربي حينما يعرض لي الصور والخبر مع أصوات العلماء والمجاهدين المعذَّبين في سجون الشاه؟.
وفعلاً، بعد بضعة أيامٍ عاد إمامنا للمستشفى وفي 30/12/1957 أسلم الروح إلى بارئها، ليحتفي به جده أمير المؤمنين Qفي ثرى النجف الأشرف في 1/1/1958، في حجرةٍ على يمين الداخل من باب الطوسي، وكان هو الشهر الذي حل فيه بصور قبل خمسين عاماً.
وبعد أربعة عقودٍ وشهرٍ، يعلن المعذَّبون في سجون الشاه عن مآذن إيران هزيمة أهدافٍ إيذاناً بفجرٍ بهدفٍ أوحد (الله أكبر) ومساره (حي على خير العمل).
وإلى يومٍ آخر.
نحن اليوم نلتقي بعد اثنتين وتسعين سنةٍ، نستعيد عِبَر مؤتمر وادي الحجير ودروسه، ونحن لا نزال إلى الآن، نعيش مفاعيل ما بعده، تستثير العزائم فيما كان فيه رجالاتُه، ولا أقول أنا أنتظر يومه الآتي انتظار حالمٍ، فنحن شعب الإنتظار، والمواعيد في (الإنتظار)، حقٌ وعدلٌ. وليس فيها فشلٌ، وإنما غرسٌ واستنباتٌ وحصادٌ، والريُّ عرقٌ ودمعٌ ودمٌ، والمسار طويلٌ، ولا بد من وصول وإن طال السفر. وادي الحجير 1920 استعادته الأمة في حربٍ طاحنةٍ بعد ست وثمانين سنةٍ، وإن لم يستطع وادي الحجير الثاني أن يكون رادعاً ومحققاً أغراضه، في ما أُعلن يوماً من إكمال مساحة لبنان، لبلوغ العشرة آلاف وأربع مائة واثنين وخمسين كيلو متراً مربعاً، فكم سنحتاج إلى معارك فمواقع وادي الحجير لا تغيب. وكم سيبقى الحجير ثنائي المكان وشيئاً آخر، فهو سنة 1920 ارتبط اسم المكان باسم القائد، وفي 2006 ارتبط المكان بالنصر، ولكل تاريخٍ اسمٌ، وكذا الأم الولود.
ولا أعني النصر المادي فيما كان من الحجير الثاني، أي بمعنى انهزام جيش العدو مخلِّفاً عدةً وعتاداً، وإنما النصر بهزيمة الهدف، فهو بعد ثلاثةٍ وثلاثين يوماً فشل في تحقيق هدفٍ عسكريٍّ يحول انكساره العسكري إلى ربحٍ سياسيٍّ يجعله متسلطاً على إدارة الشأن التفاوضي، بفرض أرضٍ منزوعة السلاح جنوبي الليطاني، وإلا فهو مقيمٌ على كامل الأرض بقوة الشرعية الدولية، ولهذا أجرى إنزالاً أوليَّاً في الوادي أسفل الطيبة، ففشل بالمحافظة على وجوده، فحشد كل قوته عند هذا الوادي، فلفظه جيفاً بشريةً وانصهاراً آليَّاً، وسقوطاً هدفياً، فتحققت أهداف مؤتمر الحجير 1920 بنهوض جماعته البشرية التي لم يهزمها تداول العقود، وما كان مما اعتبر فشلاً وهزيمةً في حركة النهوض سنة 1920، سوى بذرةٍ كمنت زمناً، آمنة الإحتضان، دافئة الجهاد، فسّويَت نهضة بهية الإصباح، ثابتة العزم، والطريق يسار.
نبع وادي الحجير ـ 24/4/2012
المصادر
1. كانت تتكون بلاد البلقان حينذاك من 6 مقاطعات: البانيا ـ رومانيا ـ يوغوسلافيا ـ اليونان والقسم الأوروبي من تركيا
2. د. عصام خليفة ـ الحدود الجنوبية للبنان, بين مواقف نخب الطوائف والصراع الدولي, تلاحظ الصفحات 17 ـ 27.
3. أية أمارة؟ وأين كانت ؟ وكيف كانت حدوداً ثابتة؟ فكل أمير وما أوتي من قدرة تقديم هدايا, وما يوفر من أكياس الذهب, فتتوسع إقطاعيته؟
4. بلاد البلقان أساساً بلدان يجمع شعبها تاريخ ولغة, وآمال مشتركة ويقيم على أرض تنسب إليه فجاءتها سلطة خارجية وحكمتها, أما لبنان, فوجوده التاريخي والجغرافي واللغوي والأحاسيس كلها لكونه من سوريا, فما الرابط مع البلقان ؟
5. الطوارئ الإجتماعية تحلها العدالة والانماء المتوازن في نطاق جغرافي يوفر مقومات دولة, وهو هنا سوريا بحدودها الطبيعية, والتي يعمل على فصل لبنان عنها.
6. د. محمد بسام, جبل عامل بين سوريا الكبرى ولبنان الكبير 1918 ـ 1920ـ دار الكوكب ـ بيروت/2011ـ ص/207.
7. وذلك ضحى يوم الثلاثاء 12 ربيع الثاني 1337 هـ الموافق 14 كانون الثاني 1919م.
الدكتور علي فياض[1]
وادي الحجير
الإجتماع والسياسة... دلالات التأريخ والحاضر
من 24 نيسان 1920 إلى 24 نيسان 2012، مسارٌ عامليٌّ لم تتغير ثوابته، وان تغيَّرت وقائعه وسياقاته، على الرغم من انطوائها على عناصر مشتركةٍ لا تزال ماثلةً رغم مضي هذه العقود الطويلة التي تكاد تقارب قرناً من الزمن.
والحال، فإنَّ الدلالات السياسية التي شكَّلها مؤتمر وادي الحجير، في مرحلةٍ تاريخيةٍ كانت المنطقة فيها في خضمِّ تحوُّلٍ كبيرٍ أعقب انهيار الدولة العثمانية، ودخول الإستعمارين الفرنسي والانكليزي إليها، هي ذاتها الدلالات السياسية التي تمثِّل الهوية العاملية في ثوابتها وخياراتها الإستراتيجية، وبالتالي التي يمكن عبرها فهم الوجهة التي أخذتها المراحل اللاحقة، وعلى الأخص مرحلة العقود الثلاثة الماضية، التي مرَّ فيها لبنان بتحدياتٍ خطيرةٍ وتحولاتٍ كبرى وصولاً إلى اللحظة الراهنة.
وفي الواقع، يمكن من خلال خطبة العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين في المؤتمر، وهو رمزه ونجمه وقيادته الشرعية، أن نلتقط نمط الفكر السياسي الشيعي في تلك المرحلة، وأن نتبيَّن مدى الثبات والتحول في ذلك النمط بالمقارنة مع ما هو سائدٌ من خيارات استراتيجياتٍ شيعيةٍ راهنةٍ.
أولاً: رفض الإستعمار الأجنبي رفضاً مطلقاً بأشكاله كافةً، سواءٌ أكان وصايةً أو حمايةً، والتأكيد على الإستقلال التامِّ الناجز، وهو قد عبَّر عن ذلك في مستهل خطابه «إما حياةٌ حرةٌ، أو هوانٌ تُهدَر في حمايته إنسانية الإنسان.. إما استقلالٌ دون وصايةٍ، أو استعمارٌ نكون معه كالأيتام على مأدبة اللئام».
وعلى الرغم من أن موازين القوى السياسية والعسكرية كانت لصالح الفرنسيين، وأن الفرصة كانت مؤاتيةً للإستفادة من التحالف مع الفرنسيين، إنطلاقاً من استعداد الفرنسيين لحماية الأقليات، إلا أن الموقف كان حاسماً اتجاه الإستعمار، وبالتالي استنفار السبل كافةً لمواجهته بما فيها خيار المقاومة، والإستعداد لتقديم أغلى ما يمكن ودون ترددٍ في سبيل ذلك.
ثانياً: كان خيار جبل عامل في تلك المرحلة، وفق مقررات المؤتمر وبالإستناد إلى خطبة السيد عبد الحسين شرف الدين، هو رفض التقسيم والتمسك باستقلال سوريا التام الناجز، التي تضم قسميها الجنوبي فلسطين والغربي لبنان، وكل ما يُعرف ببلاد الشام دون حمايةٍ أو وصايةٍ، على أن تكون الدولة ملكيةً ذات عدالةٍ ومساواةٍ، يستوي فيها جميع الناس كافةً في الحقوق والواجبات، على أن الأمير فيصل هو حاكم العرب الطبيعي لملك سوريا، بما له من جهادٍ في سبيل القضية، على أنَّ تلك المبايعة اقترنت بلازمةٍ انطوت على شرطٍ مُضمَرٍ وهو جهاده ضد الفرنسيين، مما يعني شرعاً زوال تلك البيعة في حال زوال شروطها.
إنَّ ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، هو أن هذه المواقف إنما كانت تعبِّر عن الخيار العروبي في تلك المرحلة التاريخية، في قبال الخيار الإستعماري من ناحيةٍ وخيار التجزئة والتقسيم من ناحيةٍ أخرى، وبالتالي إنَّ نضوج الصيغة اللبنانية لم يكن قد اتضح في تلك المرحلة، علماً أنَّ الدور الفرنسي كان يرعى عملية التمييز بين الطوائف، كما أن الإسهام الشيعي في إنضاج الصيغة اللبنانية لم يكن أساسياً بالمقارنة مع الدورين الماروني والسني.
إلا أنَّ التطور السياسي والإجتماعي الذي شهده لبنان لاحقاً خاصةً مع حضور الإمام السيد موس الصدر، أسهم في بلورة رؤيةٍ شيعيةٍ حاسمةٍ جعلت من الصيغة اللبنانية خياراً ثابتاً وتمسكت بمرتكزها التعددي والتعايشي، إلا أنها أصرَّت على ضرورة تطوير النظام السياسي عبر إلغاء الطائفية السياسية، وعلى ضرورة صياغة مفهومٍ للوطنية اللبنانية عربي الهوية والإنتماء، وعلى علاقاتٍ مميَّزةٍ ومتكاملةٍ مع سوريا.
ويمكن القول إنَّ رؤية الإمام الصدر هذه، تحولت إلى ركيزةٍ ثابتةٍ للرؤية الشيعية بمكوناتها كافةً، عبَّرت عن نفسها بالتمسك بالصيغة اللبنانية بما فيها من خصوصيةٍ وتمايزٍ، وبالعلاقات مع سوريا ودعم الشعب الفلسطيني تعبيراً عن الإنتماء العربي. كما أنَّ ولادة المقاومة لاحقاً ضد «إسرائيل»، التي أدى الشيعة فيها دوراً طليعياً، إنما شكَّل في وجهٍ من وجوهه الإسهام الشيعي المتأخِّر في بلورة الهوية الوطنية وتطوير مضمونها السياسي وتزويدها بإضافةٍ تأسيسيةٍ لاحقةٍ.
ثالثاً: إن إحدى أكثر الدلالات نضجاً وتعبيراً، هو ما يتصل بالموقف من المسيحيين (النصارى) بحسب ما ورد في خطاب العلامة شرف الدين، إذ إنه على الرغم من كثرة الإلتباسات التي تحيط بالعلاقة مع المسيحيين من جرَّاء تحالفهم مع الفرنسيين، فقد ورد في خطبته التالي:
«فوِّتوا على الدخيل الغاصب برباطةٍ من الجأش فرصته، وأخمِدوا بالصبر الجميل فتنته، فإنَّه واللهِ ما استعدى فريقاً على فريقٍ إلا ليثير الفتنة الطائفية، ويشعل الحرب الأهلية، وحتى إذا صدق زعمه وتحقق حلمه، استقر في البلاد بعلَّة حماية الأقليات، ألا وإنَّ النصارى إخوانكم في الله والوطن، وفي المصير فأحبُّوا لهم ما تحبون لأنفسكم، وحافظوا على أموالهم وأرواحهم، كما تحافظون على أموالكم وأرواحكم، وبذلك تحبطون المؤامرة، وتخمدون الفتنة، وتطبِّقون تعاليم دينكم وسنة نبيكم }وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ{(المائدة الآية 82)، بهذا السلوك يا أبنائي الأعزاء دون غيره تردُّون كيد الفرنسيين إلى نحورهم، وتعيدون جحافلهم إلى جحورهم وتنعمون بالحرية لا يتطاول بعدها إليكم متطاولٌ».
وينطوي هذا الموقف على وعيٍ سياسيٍّ راقٍ، يرفض رفضاً باتاً الصراع الطائفي، مهما تكن ذريعته، وهو يستند في ذلك إلى موقفٍ دينيٍّ عقائديٍّ من ناحيةٍ، وأهمية الوحدة الوطنية كضرورةٍ ثابتةٍ لا يمكن تجاوزها من ناحيةٍ أخرى، فضلاً عن أنها شرطٌ من شروط الإنتصار على المحتل، كما أنَّه يتضمن إدراكاً لأهمية وقيمة الوجود المسيحي في لبنان والمنطقة.
ولا يُخفى أن هذا الموقف ظل أحد ثوابت الموقف الشيعي، على مدى التاريخ السياسي اللبناني، رغم التعقيدات التي مرَّ بها أثناء الحرب الأهلية، واليوم، ثمة تمسُّكٍ أكثر من أي وقتٍ مضى بالوجود والدور المسيحيَين في لبنان والمنطقة سما في ضوء التحديات والتهديدات المتفاقمة.
ونحن نرى في رؤية العماد عون ومقارباته لفهم الدور المسيحي المشرقي، إعادة تأصيلٍ لهذا الوجود وتصحيحٍ للسياق التاريخي من الشوائب التي تعتريه...ويشكل ضماناً ذاتياً لحماية المسيحيين من خلال إعادة تموضعهم في موقعهم الطبيعي الريادي في الدفاع عن القضايا الوطنية والقومية.
رابعاً: إن خطاب العلامة المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين ينحكم برمته لرفض فكرة الأقليات بموجباتها السياسية، ويتعاطى على قاعدة الإنتماء إلى أمَّةٍ واحدةٍ، متجاوزاً على نحوٍ أخصَّ أية حساسياتٍ سنيةٍ - شيعيةٍ، هذا ما يظهره موقفه من مبايعة الأمير فيصل، وفي روايةٍ ذات دلالةٍ يورد الشيخ أحمد قبيسي في كتابه «حياة الإمام شرف الدين» حادثةً فيقول «وفي دمشق بعث الملك فيصل مع مبعوثه الخاص إحسان الجابري إلى سماحة السيد بدرةً فيها خمسة آلاف دينارٍ من الذهب، فأبى السيد أخذها قائلاً: لم تكن ثورتنا من أجل المال، ولكنها عقيدةٌ دينيةٌ نستجيب لها كلما خشينا على تراث محمدٍ بأن يُصاب».
كما أن القضية الفلسطينية، حضرت في الإهتمامات اللاحقة للإمام شرف الدين بوصفها قضية العرب والمسلمين الأساسية، حيث أبرزت رسائله ومواقفه وخطبه خطورة ما تتعرض له.
[1] نائب في البرلمان اللبناني.
الدكتور حسن يعقوب[1]
الوحدة الإسلامية والوطنية أساس الإنتصار
'الوحدة الإسلامية والوطنية ودورها في الإنتصار
إحترت في هذا اللقاء الفكري حول البعد القيمي لهذه البقعة الجغرافية «وادي الحجير» الذي ساهم في صناعة تاريخ انتصارنا على الحركة الصهيونية.
الموضوع في حد ذاته مهمٌ وعميقٌ جداً، ثم إن اعتبار هذا الموضوع حلقةً من مصادر الثقافة وترسيخ الموقف الوطني في لبنان، ويضيف جانباً جديداً ثقافياً وتاريخياً يشمل حقلاً مترامي الأطراف ومتنوع الجوانب.
إنَّ البحث في الوحدة الإسلامية والوطنية ودورها الأساس في الإنتصار التاريخي والإستراتيجي، والذي أسس لزمن الإنتصارات وصولاً إلى تحرير أرضنا المغتصبة وقدسنا الشريف، يمتد هذا البحث إلى عمق تاريخنا، وما جولات روح الله السيد المسيح Q المباركة، والأثر الطيب للصحابي الجليل «أبي ذرٍ الغفاري»، إلى مساهمة علماء جبل عامل في توسيع الثقافة والحضارة والعلوم ونقلها إلى سائر أقطار العالم.
كلُّ هذا وغيره يتجاوز إمكانية البحث عنه في محاضرةٍ واحدةٍ، فإنَّ مستوى المحاضرين والحاضرين، ومستوى الجهة الداعية الجليلة يجعل حقل المحاضرة حقلاً جامعياً عالمياً.
ورغم هذه الظروف السياسية الصعبة، والإسفاف والتضليل وتأثيره السلبي على مفهوم الوحدة الوطنية،وهو ما جعلني أحتار في اختيار الجانب الذي يناسب التحدث به، وارتأيت أن أضيء على بعض المحطات الأساسية في الموقع والموقف، وأفسر العنوان العام للمحاضرة وأوسع مدلوله...
أولاً:الوحدة في العقيدة
إنَّ رأي الإسلام في الأديان ثابتٌ وواضحٌ في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف،
حيث إنَّ القرآن يعلن أنَّ رسالة محمدٍP هي العقد الأخير من سلسلة الأديان الإلهية، وإنَّ محمداًP هو خاتم الأنبياء مؤمنٌ بهم ومصدقٌ بأنهم رسل ربِّه }قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ {(الأحقاف الآية 9).
}آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ{(البقرة الآية 285).
والقرآن يؤكد أيضاً أنَّ دين الله واحدٌ ويسميه (الإسلام)، ويعتبر أنَّ جميع الأنبياء كانوا يبشِّرون به، وقد جعل الله لكلٍّ منهم شِرعةً ومِنهاجاً }شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه{(الشورى الآية ١٣).
وفي كثيرٍ من الآيات القرآنية نجد القرآن ينقل عقائد وأحكاماً وقصصاً عن الرسالات السماوية ويعتمد عليها.
والمجتمع كالجسد الواحد في رأي الإسلام «إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى» حديثٌ شريفٌ، والإنسان أيضاً في رأي الإسلام موجودٌ واحدٌ بجسمه وروحه وحدةً متكاملةً متفاعلةً.
إنَّ المؤمن لا يشعر بالوحدة والوحشة، بل يشعر بمواكبة الكون فيطمئنُّ بأنَّه منتصرٌ
}فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ {(التحريم الآية ٤)وهذا الشعور ضروريٌّ بالنسبة لحملة الرسالات وأصحاب المبادئ والمجاهدين الذين يحاولون إعادة بناء الإنسان ومجتمعه.
إذا لاحظنا هذا المنطق فلا نجد أيَّة غرابةٍ أو أيَّ مانعٍ من بعض التشابه في العقائد والأحكام والأخلاق الإسلامية مع الأديان السماوية الأخرى.
لذلك إنَّنا نؤمن أن التفاعل الديني والحضاري يحقق الغاية من الخلق }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا{ (الحجرات الآية ١٣).
ولبنان بصورةٍ خاصةٍ حيث يلتقي أبناء الديانات ويعيشون أخوةً مواطنين، وتجتمع ألوانٌ من الثقافة والحضارة والتيارات الفكرية، من الماضي والحاضر ومن الشرق والغرب، هذا البلد الذي يُعَدُّ ضرورةً دينيةً يرفع عن الأديان تهمة التعصب وتقسيم البشرية وتجزئتها، وضرورةً ثقافيةً يسهل عليه أن يكون لساناً وسمعاً للإستماع والمخاطبة بين الشرق والغرب وبين القارات.
هذا البلد لبنان له تجارب إنسانيةٌ غنيةٌ يمكن الإستفادة منها، ولا يعرف في تاريخه إضطهاداً لا ليهود ولا لغيرهم.
إنَّ التفاعل بين اللبنانيين يعالج كثيراً من مشاكلنا، ويدفع أخطاراً تعرضنا لها مرات، ويخدم الإنسان والسلام معاً.
ثانيا:الوحدة في السياسة وعلم الاجتماع
إنَّ الوحدة الوطنية وتماسك النسيج الوطني اللبناني هو الرد المباشر على الفتن والنزاعات التي دأبت «إسرائيل» على صناعتها منذ أن زُرعت في قلب الأمة والمنطقة، وأفضل موقفٍ وتعبير ٍكان للإمام موسى الصدر قائلاً «إنَّ السلم الأهلي في لبنان هو أفضل وجوه الحرب مع إسرائيل».
إنَّ الفئة القائدة للصراع مع «إسرائيل» تضع هذا الهدف في أعلى سُلَّم أولوياتها، وتقدِّم في سبيله كل التنازلات، حتى ولو كانت حقوقاً مكتسبةً وتتعامل مع أيِّ إشكاليةٍ بمنطق أمِّ الصبي، لدرجة أنَّ العدو يعتمد إستراتيجية الإستغلال والإبتزاز، ويضغط دائماً على هذا الجرح.
إنَّ مشروع الشرق أوسط الجديد الذي بشر به محافظو الولايات المتحدة الامريكية، يرتكز على تقسيم المنطقة إلى دويلاتٍ ذات لونٍ واحدٍ طائفيٍّ أو مذهبيٍّ أو عرقيٍّ أو إثنيٍّ، الهدف من كل ذلك المخطط هو تقسيم المقسم وتفتيت المفتت، وتشريع اللون الواحد اليهودي على الأراضي العربية المغتصبة، وتفكيك مَن حولها وإضعافها، وخلق النزاعات فيما بينها وتشتيتها.
وعلى هذا الأساس فإنَّ التنوع والتعدد الطائفي في لبنان نقيضٌ واضحٌ لأحادية اللون اليهودي «الإسرائيلي». وإنَّ إنجاح النموذج اللبناني والدفاع عنه هو إفشالٌ للمشروع الآخر، لاعتبار أنَّه في منطق علم الإجتماع والسياسة لا يمكن لكيانين متجاورين متناقضين بالتكوين أن ينجحا ويستمرا في الوقت عينه، فلا بد لأحدهما أن ينجح وأن يفشل الآخر.
أهمية الموقع:
أمام التحوُّل التاريخي والإستراتيجي لانتصار تموز٢٠٠٦، وصدمة العالم الداعم للصهيونية وخيبته من سقوط الأسطورة التي لا تقهر، المدججة بالسلاح من رأسها حتى أخمص قدميها، وانتقال «إسرائيل» من واقع الذراع العسكري المتقدم لأميركا والغرب إلى عبءٍ ومشكلةٍ، وإلى كيانٍ يحتاج إلى الحماية والدفاع عنه، فإنَّ وادي الحجير كان أحد المفاصل المهمة، والبصمة الواضحة في ذاكرة الإنتصار وفي هواجس العدو الاسرائيلي، حيث أُريد لهذه البقعة الجغرافية أن تكون مسرحاً لغدرٍ خبيثٍ ولمحاولةٍ يائسةٍ ربما تقلب صورة الهزيمة «الإسرائيلية» إلى انتصارٍ محدودٍ يرمم بشاعة السقوط العسكري المدوي، ولكن الله سبحانه وتعالى والمؤمنون به مكروا وكانوا خير الماكرين، وعمَّقوا الهزيمة وأناروا الإنتصار بالمحطة الأبرز في الحرب، والتي عرفت بمجزرة الميركافا فخر الصناعة «الإسرائيلية».
وإليكم الخديعة والغدر، ففي يوم الجمعة في ١١ آب في مجلس الأمن، تم التصويت على القرار ١٧٠١، ولسنا هنا في معرض الحديث عن المفاوضات وقُطَب ١٧٠١ المخفيَّة التي لا تتناسب مع حجم انتصارنا، ولكن ما يعنينا في هذا السياق هو أنَّه في متن القرار أنَّ يوم الإثنين موعد سريان وقف الأعمال العسكرية بين الطرفين، ولكن القرار يمكن إفشاله والإنقلاب عليه فيما لو حققت «إسرائيل» أيَّ خرقٍ في مشهد الهزيمة التي مُنيت بها، ولعلَّ ما يُسمَّى بالمجتمع الدولي كان متواطئاً مع «إسرائيل» حيث إنَّه في يومي السبت والأحد حشدت «إسرائيل» آلاتها العسكرية وهاجمت، ولسوء حظها وخيبة مكرها، تحوَّل الغدر والخديعة إلى مصيدةٍ أو مجزرةٍ اشتهرت بمجزرة الميركافا في وادي الحجير حيث مُنيَ الجيش «الإسرائيلي» بأكبر قدرٍ من الخسائر البشرية والمادية مقارنةً مع وتيرة الثلاثين يوماً للحرب الظالمة.
وبذلك صنع وادي الحجير أكبر انتكاسةٍ معنويةٍ وعسكريةٍ، وحفر عميقاً في تكريس الهزيمة والإحباط واليأس الذي يحطم معنويات العدو، ويشطب خديعة أرض الميعاد وشعب الله المختار، وأنهم قومٌ لا يُقهَرون ومحميون ويعيشون باستقرارٍ دائمٍ والعالم من حولهم مضطربٌ وخائفٌ.
لكل ما سبق ولأسبابٍ كثيرةٍ لم يُتَح الوقت للتحدث فيها، فإنَّ الإنتصار والوحدة ووادي الحجير أمورٌ متلازمةٌ لا تفترق، وإنَّنا على يقينٍ بأنَّ كلَّ بقعةٍ من أرضنا الطاهرة ستكون وادي الحجير، أرضاً ملتهبةً تدمِّر الغزاة، وتوطِّئ للقادمين، وترسِّخ منطق الوحدة الإسلامية والوطنية، التي تسهر عليها عيونٌ لا تنام وتؤازرها أيادٍ لا تتعب، وترعاها عقولٌ حسينيةٌ لا تتخاذل، وإنَّ وعد الله حقٌ وإنَّ أهل الثغور منصورون بإذن الله تعالى
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1] نائبٌ سابقٌ في البرلمان اللبناني.
الدكتور محمّد كوراني[1]
دور علماء جبل عامل في مواجهة الإحتلال الفرنسي
لقد تعوّد العامليون منذ زمن بعيد،إطاعة علمائهم واحترامهم وتبجيلهم،لان سلطتهم كانت تفوق كل سلطة وتتطأطأ لها الرؤوس وتحنى لها الرقاب، لا لشيء إلا لأنهم مجتهدون. إليهم يرجع القضاء وفصل الخلاف بين الناس. وكانت فتاويهم حكما مبرما لايقبل النقض. يوجب على الحاكم الزمني العمل بنصه ولو كان ضد الحاكم نفسه. وكانت سيرة أولئك العلماء الأبرارفي ذاك العهد خير سيرة اتّصف بها عالم أحاط نفسه بأسرار الشريعة الإسلامية المطهّرة وانصرف إلى التدريس والإرشاد وعاش عيش الزهد والقناعة لا يستهويه مال ولا تغريه زخارف الدنيا(1) وإذا ما قلبنا بطن التاريخ إلى ظهره فإنّه يتراءى لنا بوضوح تام، دور الشهيد الأول في زمن المماليك، حفظه للشـــريعة الإسلامية وإرساء خط الولاية من خلال محاربته لخارج مارق، هو اليالوشي. ولم يتوانى المحقق الكركي عن شدّ الرحال إلى إيران ليثبّت في هذا البلد خط الولاية المستقيم، وتبعه الشيخ البهائي، ومن قبله الشـــهيد الثاني الجبعي الذي دفع حياته ثمنا في سبيل العقيدة، أمام سلطة جائرة، هي الدولة العثمانية.وكذلك فعل الشيخ علي الزين في مقارعة الطاغية الجـــــزاروأدار الثورة والثوار إلى جانب عدد من نخبة العلماء دفعوا حياتهم ثمنا في سبيل تثبيت خط الولاية والتشيع لآل البيت عليهم السلام...والدولة العثمانية هذه،كانت قد وصلت إلى حالة مزرية في نهايات القرن التاسع عشـــر، وكانت تلقب بالرجل المريض..ولما دخلت هذه الدولة الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا، كانت بمثابة الشريك الخاسر.. ولم تنجل الحرب الاّ بـهزيمــة تركيا وحلفائها على يد الحلفاء الفرنسيين والإنكليز وانسحب الولاة والحكام من المدن الرئيســـية..وأخلى الجنود الأتراك مدينة دمشق وكل بلاد الشام وفي أول تشرين الأول عام 1918أِعلن تشكيل الحكومة العربية فيها(2) وأرســـلت البرقيات إلى زعماء جبل عامل وبيروت أن يرفعوا الراية العربية في كل من بيروت وبعبدا وصيدا والنبطية وصور ومرجعيون. ووصلت الحملة العسكرية التابعة للحلفاء بقياد ة المارشال هنري اللنبي إلى صور وصيدا في طريقها إلى بيروت فحلب.
ثم راحت قوات الحلفاء تنشــــر الإعـلان تلوى الإعـلان يمنع الناس من التجمع والتظاهرات والتعبير عن الفرح بزوال كابوس الأتراك. تسارعت الأحداث وبدأالسـّباق بين جناحي الإســتعمار: الإنكليز والفرنسيين، فآلت فلســـطين للإنكليز والساحل اللبناني السوري للفرنسيين وتقدّمت قوات الثورة العربية بقيادة الأمير فيصل بن الشريف حسين نحو دمشـــق. وهكذا..كا نت هذه القوات تطبق واقع معاهدة سايكس بيكو.. وبدأالعـرب يشعرون أن وعود الحلفاء لم تكن ســـوى سـراب يحسبه الظمآن ماء.وقد أشار السيد عبد الحسين شرف الدين إلى ذلك: «وفي أعقاب تلك الحرب...انتهت فلســــطين إلى الإحتلال الإنكليزي، وانتهت دمشق إلى الإمارة الهاشمية.وكان نصيبنا من التقسيم يومئذ نصيبا لم تجر فيه الرياح كماكنا نشتهي وكما كنا نقدّر، ولكن ابتدأ نشاطنا على كل حال وفق آمالنا...فأنشأنا في صور يومئذ حكومة تحفظ الأمن باسم الشريف حسين»(3)!!.
..لكن الإنكلز أبطلت هذا التدبيرالذي رجوناه لمستقبل عربي مستقل، وإذاجتاحت في مرورها مابنيناه... ولم تعترف بشيء من هذا الجهدالمؤمل وبذلك شُطب على الخطوة الأولى ومُهّد لفرنسا أن تحتل وتسـيطر باتفاق مع عصبة الأمم...ولكن ماكان لنا ولسائر المخلصين أن نستكين للقوة مستسلمين(4).
استقبل العامليون الإحتلال الفرنسي استقبالا صاخبا محتجا يواجهها بالرفض والمصارحة والميل عنها ميلا لاهوادة فيه ولالين(5).
وقد أورد السيد شرف الدين في مذكّراته المخطوطة مجابهته مع قادة فرنســا في لبنان: ..ثم كانت لنا مواجــــــــهات مع المسيطرين من الفرنسيين كبيكو وغورو وشربنتييه ودلبستر ونيجر (6).
بدأسعي الفرنسيين لإقامة دولة مارونية موسّعة تضمّ الأقضـية الأربعة، فكان رفض العامليين شـديداً..فاندلعت الحروب والمعارك بين المحتلين والعامليين المســلمين.وحين وصول لجنة تقصّي الحقائق (لجنة كينغ-كراين).
إلى صــيدا قابلها العالمان الكبيران: الشيخ حسن مغنية والسيد عبد الحســين شـرف الدين وقدّما لها وثيقة باســـم جبل عامل كله يطلبان الإستقلال ورفض الإحتلال رفضا قاطعاً. وكان جبل عامل من أكثر المناطق العربية في بلاد الشام حماسـة للتحــررمن نير الإحتلال الفرنســي، وكثيرا ماكان ابناؤه يســارعون إلى المبادرة بالرفض والعصيان والثورة، مســترشــــدين بتوجيهات علمائهم،مطالبين باستقلال منطقتهم، ضمن استقلال البلاد الشامية كافة(7)..وعندما تكشفت نوايا الحلفاء، راحت فرنسا تكيد للسوريين واللبنانيين بمن فيهم العامليين.اندلعت الحروب والمعارك في جبل عامل, وبدأت الفرق الفرنسية بالتقهقر في بعض مواقعها، وحصرت عساكرها في المدن الهامة. وكان من أبرز الوجوه العلمائية التي تصدّت لهذه الغزوة الإستعمارية الجديدة العالم الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين..الذي كان راسخ اليقين، دائب الحركة، يدور مع المحتلين مدافعاً أو مطارِداً، حيثما داروا، وعندما أفتى بالجهاد ضـــدّهم حكموا عليه بالإعدام وطاردوه، ولم يتزحزح عن مواقفه المبدئيّة قيد شعرة حي يرد دائماً: إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم فلا مشت بي في طًرْق العلى قدم وقبل أن يتحفز السوريون للثورة ضد الفرنسيين كان السيد شرف الدين قطب رحى هذه الثورة في جبل عامل فعزم الفرنسيون وعزمت ذيولهم على التخلّص من السيد شرف الدين عن طريق الإغتيال لتنهارهذه الجبهة إذا أزيح من الميدان فدفعت فرنسا أحد عملائها(جورج الحلاج)أن يقتحم دار السيد شرف الدين في صور لينتزع منه التّفويض الذي أخذه السيد من وجوه جبل عامل وعلمائه،والذي يخوّل الملك فيصل أن يتكلم باسم جبل عامل في عصبة الأمم.يقول السيد شرف الدين في مذكراته: فألح في إنفاذ ماأراد بقلّة حياء فأغلظت له القول فصوّب مسدّسه اتجاه وجهي ففاجأته بدفعة منكرة... ألقته على قفاه وسقط المسدس من يده فبادرته بحذائي ضربا على وجهه وفرّ أصحابه(8) زحفت الجموع العاملية بالالوف من علماء وأ دباء ورجال سياسة وعامة الناس، يستنكرون هذه الحادثة وأرسل رجالات الثورة العربية برقيات الإستنكار ومنهم فيصل، فأجاب السيد شرف الدين الجميع بكلماته: إن ابن الحلاج..أداة غدر ووسيلة فتنة..ولا غرو إن كان لنا معه ومع من وراءه ماكان، وما يكون فالهاشمي لا تُعصب سلماته ولاتُقرع جنباته...فكيف يلين الهاشمي لحادث أو يلبس ملابس الخوف، «حاشى حفاظ بني الحسين»(9)
لجأ الإحتلال إلى تأليف فرق عسكرية موالية له لقمع الإنتفاضات والثورات ونظم فرقا عسكرية مسلّحة لمحاربة الثوار(10) فدبّت الفوضى في طول البلاد وعرضها، فما كان من السيد شرف الدين إلاأن اتفق مع زعيم البلاد العاملية كامل الأسعد على عقد مؤتمرعام، يضم علماء البلاد وزعماءها وأهل الرأي بها والثوار(11) خصوصا أن سوريا طلبت من قادة جبل عامل السياسيين موقفا واضحا من الإنضمام إليها، وأرسلت اثنين من رجالها للتأكيد على ذلك....وكان مؤتمر وادي الحجير، الذي يتوسط البلاد العاملية ويوجد فيه الماء والكلوقد نبّه السيد شرف الدين إلى حراجة الموقف فقال: .....وكان هذا الطلب من الأمور المهمّة ذوات البال التي دعت إلى عقد المؤتمر التاريخي في الحجير، فإن المفكرين في عاملة أخذوا هذا الطلب على أنه شاق طرفيه فهم إن أجابوه ففرنسا دولة قوية غنية ومجهزة لاقبل لهم بها، وإن امتنعوا عنه فهذه جبهة وطنية تدعوهم إلى الجهاد الوطني وذلك مالا قبل لهم بالإمتناع عنه أيضا(12) كان الوجه العلمائي في المؤتمر هو الابرزوالأهم حيث حفظت لنا بعض الوثائق العاملية أسماء لفيف من العلماءالكبارممن حضروا المؤتمر وكانوا يمثلون وجه الأمة العاملية وآمالها وأمانيها وتطلعاتها. فإضافة إلى الداعي الأول للمؤتمرالسيد عبد الحسين شرف الدين حضر الثالوث العاملي (الشيخ أحمد رضا ـ الشيخ سليمان ظاهرـ محمد جابر آل صفا) والسيد عبد الحسين نور الدين والشيخ حسين مغنية والسيد عبد الحسين محمود الأمين والسيد جواد مرتضى والشيخ موسى قبلان والشيخ يوسف الفقيه والشيخ عزالدين علي عزالدين والشيخ حسين سليمان والشيخ حبيب مغنيّة والشيخ عبد الله عزالدين وغيرهـم،إضافة إلى الوجهاء والزعماء ورؤساء العصابات (الثورة).. وكان شيعة جبل عامل قد توافد واصبيحة 24نيسان إلى الوادي المذكور من كل حدب وصوب، وقدّر الشيخ سليمان ظاهر الحضور بستماية رجل فيهم جُل علماء البلاد وأعيانها ومفكريها(13).
وبعد جلسات متعدّدة قرروا الأمور التالية:
1- تنظيم لائحة بالمصادقة على مقرات المؤتمر السوري.
2- انتداب وفد من العلماء يحمل أماني العامليين إلى العاصمة السورية.
3- عواطف الإخلاص والتبريك لفيصل ملك سوريا.
4- اعتبار جبل عامل مقاطعة مستقلة استقلالا إداريا مرتبطا بالإتحاد السوري.
5- تفويض العامليين للعلماء تفويضا مطلقا بتقرير كل مايعود على جبلهم بالنفع(14).
وحينما وصل السيد عبد الحسين شرف الدين «ضاق الوادي بالرايات وضج بالهتافات ودوّى بالمفرقعات والصهيل وكأن عاملة ثشرت فيه ببعث جديد(15)» ملمّحا - أي السيد شرف الدين - إلى الماضي البعيد وإلى أمجادعاملة..واستقبل السيد بالتصفيق والطلقات النارية مما يوجب الإستنتاج بأن العامليين كانوا يثقون كل الثقة بعلمائهم في حل الأزمة والحكم في الخلاف القائم آنذاك(16). وبعد لقاء السيد شرف الدين مع الجماهير المحتشدة في الوادي انتقل إلى صفوف العلماء والزعماء للتشاورحيث تم توقيع الوثيقة الصادرة عن المؤتمر من قبل الوجهاء وممثلي القرى والزعماء وتمخض الإجتماع عن تفويض العلامتين السيدعبد الحسين شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين وملاقاة السيد محسن الامين نزيل دشق لرفع وثيقة المؤتمر إلى الملك فيصل. وقد ألقى السيد شرف الدين خطابا تاريخيا في المؤتمر ذكّر فيه ونبّه إلى خطورة ماتحيكه فرنسا من مؤامرات للإنقضاض على جبل عامل، وكان يخاطب الجمع، بالفرسان المناجيد، وفتيان الحمية المغاوير، وإخواني أعلام الأمة وأبنائي، ليزيدهم ثقة وشجاعة وقوّة ومنعة، وما قوله:«إن لهذا المؤتمر ما بعده.وسيُطبِق نبؤه الآفاق الســـورية ويتجاوب صـداه في الأقطارالعربية ويتجاوزها إلى عصبة الأمم» إن هذا إلا خير دليل على إلفاته للمؤتمرين إلى أهمية ومصيرية المؤتمر الذي قررانضمام جبل عامل إلى سوريا وليس إلى لبنان.
الكبير الذي كانت فرنسا تهيّء لإقامته. ومن قرأخطبة السيد شرف الدين في المؤتمر لخرج بنتيجة مفادها أن السيد كان لديه من الوعي السياسي وفهم مخططات المحتلين مايسبق مرحلته بأربعين سنة على الأقل. وما تأكيده على حماية أرواح النصارى وعدم المس بهم وبقراهم إلاخير دليل على وعي السيدولفيف العلماء الذين شاركوه في المؤتمر وهذا مادفعهم لأخذ الأيْمان المغلّظة والحلف على القرآن الكريم من قبل الثوارأن لايمسوا النصارى بسوء أثناء غياب الوفد في دمشق.
لقد ذكرنا في بداية البحث أنّ سلطة العلماء في جبل عامل لم تكن تعلو فوقها سلطة.وكانت كلماتهم قول فصل. وقدخاطب الأديب محمد علي الحوماني السيد شرف الدين عند قدومه إلى وادي الحجير بقوله: لقد شهدته بنفسي، ورأيت كل عالم وزعيم ورده دون أن يحس الحضور بوروده...حتى إذاأوشكت ركابك أن تحل به، حسبنا ان الأرض قد تزلزلت والسماء أُطبقت علينا، ولما تكشف هذا الرهج المعقود فوق الوادي برزت من تحته كالبدر ينشق عنه الغمام ليلة تمّه...ولم يبق في الوادي فرد لم يهرع إلى استقبالك ويتشوّق إلى ركبك.ولما جلست في خيمة العلماء حفّوا بك وتهافت الحفل المحسود عليك،كلهم يحدّق بك ويستمع إليك وأنت مندفع تخطب كالسيل تبعث في نفوسهم الحمية وتحرضهم على الجهاد في سبيل الحق(17). إن هذه الحرارة في الإنفعال والحماس والتقدير للزعامة الدينية المتمثّلة بشخص السيد عبد الحسين شرف الدين تعطينا صورة واضحة عن دور العلماء الفعال في إدارة شؤون الثورة والمقاومة ضد المحتل الفرنسي. ولا ننسى دور الثوار العامليين في المؤتمر حيث كان لهم تأثير كبير، فهم المعنيون بحراسة هذا المؤتمر. وهم قطب الرًّحى في العمل العسكري ضد الفرنسيين، وكانت مشاركة الثوار في المؤتمر تلبية لدعوة السيد شرف الدين،وهذا ماأحدث ردّة فعل عنيفة لدى كامل الأسعد، حيث شعر أن مشاركة الثوار وأعمالهم هي بداية لسحب البساط من تحت أقدام الإقطاع السياسي الوحيد في البلاد، وقد تدخل العلماء بينهما فأهدى كامل بك الأسعد سيفا ثمينا لصادق الحمزة الفاعور في نهاية التسوية. لقد ثارت ثائرة الفرنسيين لنجاح المؤتمر وراحوا ينفخون بوق الفتنة. وأشاعوا في طول البلاد وعرضها أن السيد شرف الدين أفتى بمحاربة النصارى، وهذا ماردده (الأديب) اللبناني المعروف أمين الريحاني مدّعياَ أن السيد «ضرب» خيرة بالسبحة على ذبح النّصارى، ويبدو أن المخطط الخبيث هذا كان هدفه القضاء على السيد شرف الدين، لكنهم لم يفلحوا. وتطورت الأحداث أثناء غياب الوفد في دمشـــــق. وبعد عودة الســـيد ســارع الفرنسيون إلى إحراق داريْ السيد في شحور وصور وأصدروا حكما بإعدامه أو القبض عليه حيا أو ميتا للحيلولة دون ذهابه إلى دمشق.
وفي الخامس من شهر أيار سنة 1920أقرّ مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو في إيطاليا الإنتداب الفرنسي على لبنان وسوريا والإنتداب الإنكليزي على فلسطين والعراق والأردن، فصُعق ا لمسلمون لهذا النّبأ وكانت قرارات هذا المؤتمر قد أعطت الضوء الأخضر للجنرال غورو أن يتابع تصفيته للثورة على الإحتلال تحت ستار دولي ومباركة إنكليزية. وفي ذات الوقت أرسلت الحكومة الفرنسية إلى غورو فرقا عسكرية سنغالية لاستعجال حسم مسألة الثورة(18) كانت الوقفة العلمائية المشرّفة، دليلا ساطعا على حضور الجهاد العاملي بطابعه الإسلامي العميق الجذور، وكان للسيد شرف الدين دور بارز في التصدي مع ثلّة من العلماء والشبان المؤمنين، حيث وقفوا في وجه المد الإستعماري المتمث بفرنسا وأعوانها..استجابت الطلائع المؤمنة في جبل عامل، وحملت السلاح بماتيسر للدّفاع عن حياض الجبل الأشم حماية للدّين، وصونا للكرامات والأعراض والحرمات،مستلهمين ماضي الأجداد المشرّف في مواقع البحرة وكفر رمان وسهـل الغازية ويارون وأنصار والكفور وعيناثا وغيرها من ساحات الشرف والعز،سائرين على خطاهم.
تزامن انفجار الثورة في جبل عامل سنة1920ضد الفرنسيين مع انفجار الثورة في العراق في نفس العام ضد الإنكليز. وما أن اندلعت المعارك في جبل عامل بين الثوار والفرنسيين حتى أصدر المراجع الكبار في النجف الأشرف بضرورة التصدي للإستعمار الإنكليزي في العراق
استعرت الثورة في جبل عامل ضد الفرنسيين وذلك بعد أن أجمع رأي المراجع بوجوب الدّفاع والجهاد ضد الكافرين..فراح المجاهدون يقاتلون بما تيسر لهم، ولم يثنهم عن واجب الجهادتفوق الخصم تكنولوجيّاوتنظيما وتدريبا.هاجموا المعتدي وأدّبوا أنصاره وأعوانه.لم يطلبوا جزاء ولا شكورا، فما على الواجب أجر إلا من صاحب الأجر(19) لقد وقعت الحوادث المروعة في ظل الإحتلال الفرنسي وكان أهمها حادثة عين إبل، وأسباب الحادثة كانت مقتل نصر الله أحمد نصرالله من بلدة ياطر على يد مسلحين من عين ابل تبعها الإعتداء على فتاة من قرية حانين في خراج بلدة عين ابل أيضا. وما ان انتشر خبر الحادثتين حتى احتشد عدد من المتحمسين من شباب الشيعة في المنطقة على بركة كونين وقررواالهجوم على عين ابل والإنتقام من المجرمين، وكانت تلك ردّة الفعل الطبيعيّة ضد أنصار الإستقلال وأنصار المحتل.. وكانت فرنسا تنتظر وقوع هذه الحادثة أوما يشابهها لتثبت وجودها في طول البلاد وعرضها، فتحركت فورا وبدأت عملية الإنتقام المنظمة من أبناء بلاد بشارة وكُلّف القائد الفرنسي نيجر بقمع جبل عامل وضربه بعنف، فنزلت القوات الفرنسية على شاطى صور بدباباتهاومدافعها تساندهم جماعات المتطوعين مع الفرنسيين. وكانت الحملة كلما مرت بقرية استدعىى ضابطها أهالي القرية ليسأل عن بعض الأشخاص بالأسماء حسب دفتر كان يحمله معه..فأصبحت القرى تحت رحمة المتطوعين..وكانت المعركة شرسة، والمجاهدون يتصد ون لها ببسالة خصوصا صاد ق الحمزة ورجاله في منطقة صور، وأدهم خنجر ورجاله في منطقة النبطية(20).
قصدت الحملة معاقبة القرى التي اعتبرتها مسؤولة عن حادثة عين ابل، فبلغت بنت جبيل وعيناثا ومارون وما حولهم من قرى وقد هجرها أهلها وكانت الحملة تغتال في الطريق من تعثر عليه(21) وتمركزت الحملة في تبنين.. وراح نيجر يجمع وجوه وأعيان وبعض العلماء العامليين وطلب منهم تسليم السلاح والتعهد بحفظ الأمن ودفع الغرامة للعسكر والتعويض على الذين نهبت بيوتهم في حادثة عين ابل وإعادة جميع ماسلب فقالوا لسنا ممثلين للطائفة كلها فأمرهم أن يكتبوا له أسماء أعيانها ليجمعهم في صيدا(22) أمام قسوة الحملة وعنفها كان طبيعيا أن لايسلم السيد عبد الحسين شرف الدين وداره وعياله فهو رأس الثورة وقطب رحاها فلا بد أن يكون الهدف الأول للحملة..فقد هوجم داره في صور وأًعمل فيه سلبا ونهبا وما فيه من الأثاث. ولم تسلم مكتبته النفيسة بنفائسها ومؤلفات صاحبها القيّمة من الحرق والتدمير(23). يقول السيد شرف الدين في مذكراته: ...ومهما يكن فقد كان نصيبنا من هذه الجيوش حملة جرّارة قّدرت بألف فارس مجهزين بالمدافع الثقيلة والدّبابات والمدرعات زحفت بقيادة الكولونيل نيجر إلى شحور... وانسلّلت أتخطى الوادي وطفق الجند يسأل عني. ولما استيأ سوا من العثور عليّ في القرية...ولم يغادروها قبل ان يحرقوا الدّار..
وعاملة ويحي لها، تنوء تحت ضربة بكر، وتلفظ أبناءها. وهناك من الخشية والذّعر. وأعلنت الأحكام العرفية فحكم عليّ بالنّفي المؤبّد مع مصادرة ما أملك وبهذا حكم على السيد عبد الحسين نور الدين وعلى الأحرار وزعماء البلاد. أما فتيان الثورة فقد حُكموا بالإعدام وأنفذ هذا الحكم الغاشم في كل من ظفرت به منهم(24)
انتقل السيد شرف الدين إلى الجولان ثم إلى دمشق ثم إلى مصر حيث استُقبل بكل حفاوة وترحيب وعقدت له مجالس الأدب والعلم والتكريم فوقف خطيبا في الجامع الأزهر في القاهرة حيث قال: بسم الله وله الحمد، الذي خصّنا بالبلاء وأقامنا مثالا للصبر والعزاء وسلامه على خاتم أنبيائه ورحمته وبركاته على آله وأوصيائه، ماكان أصبرهم على الخطوب وأقواهم على المحن، لم ترعهم النوائب القارعة. ولم تنل منهم الملمات الفاقرة. فكيف أراع وأنا منهم،جبلت ُمن فاضل طينتهم صخرة في واد وطود من الأطواد... رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين.نعم هذا شان من يرسم لأمته خطط الحرية، ويتوغل في قومه في معارج الشرف سنّة الله في الذين يقدمون أنفسهم قربانا لعقائدهم وفداء لأوطانهم... أمل الغزاة الطغاة من كل محتل أثيم وغاصب زنيم فسيعلمون ايّ منقلب سينقلبون(25) تابع الفرنسيون ضغطهم على جبل عامل بقصد الإلتفاف على المسلمين الشيعة من أدنى الجبل إلى أقصاه فراح نيجر يوجه دعوات شديدة اللهجة إلى علماء الشيعة ووجوهم للقائه في صيدا. يقول الشيخ أحمد رضا: ذهبنا في تلبية هذا الأمربصحبة العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين صادق والعلامة الشيخ سليمان ظاهر والشيخ أحمد رضا والسيد محمد جابروغيرهم من الفضلاء والأعيان. وكان الكولونيل نيجر قدعقد الإجتماع في مطرانية الكاثوليك وحوى هذا الإجتماع من كان في صيدا من وجوه الشيعة وأعيانها... وخطب فينا الكولونيل خطابا شديد اللهجة على الشيعة وتلك لهجة الغالب على المغلوب والمنتصرعلى المخذول. ثم قال: فإذا لم يوقع وجوه الشيعة وأعيانها الحاضرون على الشروط التي فرضها الجنرال غورو، فإن الحملة ستظل سائرة في عملها، تًحمّل الأهالي كل ماتحتاجه من ميرة وعلف ومأكل ومشرب.ثم ترك لنا مهلة للتفكير في الأمر إلى مابعد الظهروحظرعلينا الخروج حتى تنفيذ الأمر..
ثم تلا عليهم نفس الشروط التي مرّذكرها سابقا عندما تلاها على بعض الأعيان في الطيبة،فأبى الحاضرون توقيعها وطلبوا تحويرها بأخف منهاوأقلّه المناقشة في إمكانية تحقيق الوصول إليها(26)
رفض شربنتييه التحوير والمناقشة وقال:أنتم مكلفون حتما بتوقيعها دون أدنى اعتراض وأن الحملة لاتزال تعمل في قطركم على التخريب والتعذيب حتى تُوقع الشروط بعينها وأنتم محجور عليكم حتى توقع منكم جميعا. لايرخص لكم بالخروج من مدينة صيدا مالم توزع الغرامة المفروضة على القرى الشيعيّة في كل الجبل شماليه وجنوبيه(27).
كان الجنود الفرنسيون يحتلون القرية تلوى القرية لجباية مافُرض عليها من الغرامة، فلا يستطيع أهل القرية ذلك فيستاقون مواشيها إلى لجنة من هاتيك اللجان فتُحدد أثمانها على نسبة المئة بعشرة أوعشرين ثم تسلمها اللجنة بهذه الأثمان البخسة وتبيعها في أسواق فلسطين بأثمانها الصحيحة وهكذا بلغ ماجبوه أضعاف مافرض(28).
ومن الأعمال التعسفيّة التي قام بها المستعمر، فرض الضراب الجائرة على القرى المجاهدة، فقد فرض على قرية دبعال الصغيرة مسقط رأس صادق حمزة الفاعور ضريبة سُمّيت ضريبة صادق مقدارها عدد من البنادق الحربية التي لاطاقة للقرية على تحمّل أثمانها. وفرض على شحور ضريبة قدرها تسعماية ليرة عثمانية ذهبا عدا سلب الغنم والبقر والمتاع. أما النبطية فقد فرضوا عليها ما يناهز الثلاثة آلاف ليرة عثمانية ذهبا وقرض على ياطر مايتي ليرة ذهبية وثلاثة عشر بندقية.
صُبّت المصائب على جبل عامل وغمر الأسى أهاليه ونهبت ديارهم وقتلت شبانهم وفُرّق شملهم وبيعت أرزاقهم، وبعد أن ضُربت عليهم الضرائب الباهضة، فالماية ألف ليرة سورية أصبحت خمسماية ألف ليرة ذهبية(29). وسيقت المواشي بالقوّة من مرابطها وبيعت في أسواق فلسطين كانت هزيمة الثائرين في جبل عامل وخسارتهم هي التجربة التي جرّأت المستعمرين، فكانت معركة ميسلون وما تمخّضت عنه، وأباحت هجرة اليهود إلى فلسطين.. وهكذا أنشب المستعمرون أظفارهم لتمزيق الأمة.
وفغروا أشداقهم لابتلاع أشلائها وذهبت وعودهم أدراج الرياح. لقد أحكم الفرنسيون قبضتهم على جبل عامل وأدخلوه في متاهات النسيان والإهمال والإفقار، لكن علماء جبل عامل لم يستكينوا ولم يستسلموا للمحتل، فهذا السيد عبد الحسين شرف الدين يقف عام 1943في وجه الحاكم الفرنسي لمدينة صور المسيو دافيد، عندما تضرع بزيارته في دارته في صور حيث رفض السيد استقباله وواجهه بأنه غير مرغوب فيه ولا في دولته إذ صفعه بالآية الكريمة(ولتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا). ليشعره أنه يخاطب يهوديا ممقوتا كريها.ثم قال له: أخرج يادافيد،إن القلب الذي حاربكم عام 1920مازال بين جنباتي.
وهاهو الشاعر الكبير بولس سلامة يمدح السيد على مواقفه الجهادية قائلاً:
أيهــا الســـيد ُهـلّا ذكــــــَرَتْ |
أمســـــك المئناف أقزامٌ تـباهى |
يوم لم تركعْ على الضّيم وقد |
راح سوطٌ الذّل يستاق الشــّياها |
شــرفاً عبد الحســين المرتقي |
من صروح العلم والدّين ذراها |
تملأٌ المنبر عزّاًوســــــــــنىَ |
وكذاك الشمس تهدي من يراها |
كادت الأعواد من نشـــــوتها |
تلبس الخضرة ذكرا بصـبــاها |
أو تعيد الغضّ من أوراقـهــا |
كلّما (العلامة) الســـــبط أتاها |
هذا هو السيد شرف الدين علم من أعلام العلم والجهاد، وهذه مسيرة العلماء العامليين الذين رسموا المعالم الجهادية، لأن هذه المعالم لايرسمها ولا يثبتها إلا المراجع العظام والعلماء المخلصون في كل من جبل عامل والنجف وكربلاء والكاظمية وقم وأصفهان وخرسان والأزهر والزيتونة. بل إنّ كل ثورة قامت في عالم الإسلام، إنما قادها العلماءالذين عناهم رسول الله P بالحديث الشريف: العلماء ورثة الأنبيــــاء.
د: محمـد كــورانــي
[1] باحث ومؤرخ.
المصادر
الجلسة الثانية
برئاسة الشيخ أحمد الزين(1)
الدكتور الحاج خليل حمدان(2)[1]
الإمام السيد موسى الصدر الوارث واستكمال الدور
والصلاة والسلام على أشـرف الخلـق وأعـز المرسلين سيدنـا ونبينـا محمـدٍ وعلى آلـه الطيبين الطاهرين.
بين الذكرى والأثر مساحـةٌ لإنعاش الذاكرة على وقع التحديات التي تواجـه أمتنا والتي بلغت ذروتها في هذا الزمن الصعب، حيث تبرز تقاسيمه وتظهر ملامحه بإقصاء العدو الصهيوني عن المواجهة بمحاولة خلق أعداء جددٍ بغية إلهائنا عن المعركة الحقيقية اتجاه المقدسات، تحت وطأة خططٍ تُنفَّذ بدعم ٍدوليٍّ وتعزيزٍ ماليٍّ، وتُسخّر فضائياتٌ وصحفٌ صفراء كأنَّ المشكلة لم تعد في احتلال فلسطين بل الممانعة والمقاومة من إيران إلى سوريـا ولبنان وغزة وكل المواقع التي تلتزم الصراع، على أن فلسطين هي المكـوِّن الجمعي للعرب والمسلمين والمسيحيين وكل الأحرار في العالم.
وعلى سبيل إنعاش الذاكرة، وإسهاماً بتحرير الوعي في مواجهة محو الذاكرة، يكتسب لقاؤنـا هذا أهميةً خاصةً وإستثنائيةً، وبدعوةٍ كريمـةٍ من جمعية الإمام الصادق لاحياء التراث العلمائي لتقديم بحثٍ من الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين إلى الإمام السيد موسى الصدر، وحدة المنطلقات والأهداف، والمكان وادي الحجير، وهنا انتابني شعورٌ بأن تنكَّبت مهمـة البحث لاعتباراتٍ عديدةٍ:
- أولاً: دلالة المكان والزمان وحسبك مؤتمر وادي الحجير.
- ثانياً: الحديث عن علمين كبيرين ذاع صيتهمـا وعلا صوتهما، ملء السمع حكايتهما، جابا البلاد طولاً وعرضاً، وشدت إليهما رحال الباحثين والإعلاميين والمحققين من كل حدبٍ وصوبٍ، حتى باتا على كل شفةٍ ولسانٍ في المدائن والعواصم، في المؤتمرات والمنتديات، وفي محضر الرؤساء والعلماء.
- ثالثاً: إستحضار اللحظات التاريخيـة لحركـة الجهاد والعطاء، وهذا مـا قـد يستفزُّ بعض المؤسِّسين لتاريخٍ افتراضيٍّ لهذا الوطن العزيز لبنان.
- رابعاً: الحديث عن المنطلقات بوحدتها، والأهداف بسموها، عصيٌّ على الإختزال والإختصار، فهل أصيب لعله مع الخواطىء بسهمٍ صائبٍ؟.
ولكن أليس تعداد مزايا المرء منقصة له
إن فاقت مزايـاه على التعـداد؟(1)
أو كما قال الشاعر:
ولأنت أروع أن تكـون مجـرداً
فلقـد يضـرُّ برائـع تثميـنُ(2)
سأدعهما في سنبلهما وأحاول كلاماً، وما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه. بعض اللحظات أكبر من زمانها، وبعض الكلمات أوسع من قاموسها، وبعض الرجال يتعدُّون العدد، فيقال أمـةٌ في رجلٍ، ألا تظنون أني تنكَّبت البحث في هذين الكبيرين، اللذين شرَّعا أقلامهما وجهادهمـا على درب النبيين وشهرا مواقفهما أسوةً بالحسين Q.
ووادي الحجير علامةٌ فارقةٌ في تاريخ الوطن والأمة، جغرافياً يتوسط البلاد العاملية(3)، وهو حصينٌ بجباله وهضابه(4)، وكل ما فيه يدل على أنـه ممانعٌ ومنيعٌ يستعصي على الأعداء، وهو المكان الذي عُقد فيه المؤتمر، الزمان صباح يوم السبت الخامس من شعبان 1338، الموافق الرابع والعشرين من شهر نيسان 1920، بعد أن اتفق السيد عبد الحسين شرف الدين مع الزعيم كامل الأسعد، على عقد مؤتمرٍ عامٍّ يضم علماء البلاد وزعماءها وأدباءها وأهل الرأي فيها وثوارها(5)، وجاء ذلك في إطار عملية التواصل بين قادة جبل عامل والقيادة في سوريا في تلك الفترة الحرجة من تاريخ البلاد، حيث أمَّنت فرنسا توليفـة الفتنة، واستجمعت عناصرها بتسليح فئةٍ وتحريض فئـةٍ على أخرى(6)، وانقسم سكان جبل عامل والأقضيـة، بين مؤِّيدٍ ومعارضٍ لسياسات فرنسا الرامية لسلخ لبنان عن سوريا، وكان لا بـدَّ من الموقف التاريخي، اجتمع العامليون علماء، سياسيون، مفكرون، ثـوار ومهتمـون، وعلى رأسهم الإمام شرف الدين، وقد حدَّد في خطابه الظروف المحيطة والمهمات المقبلة «أخوتي أعلام الأمة، إننا اليوم في هذا المفترق الخطير أشد حاجةً من أي وقتٍ إلى الإعتصام بحبلهم «أهل البيت R»، والسير على نهجهم، فإما ثمرةٌ لا تُقضَم، أو ذِلةٌ لا ترحم، أو هوانٌ تُهدر في حمأته إنسانية الإنسان... إمـا استقلالٌ دون وصايةٍ أو استعبادٍ نكون معه كالأيتام على مأدبة اللئام....
أيها الفرسان إنَّ لهذا المؤتمر مـا بعـده، وسيطبق نبوءة الآفاق السورية ويتجاوب صداه في الأقطار العربية ويتجاوزها إلى عصبة الأمم، وقـد امتدت به إليكم الأعناق، وشخصت الأبصار فانظروا اليوم مـا أنتم فاعلـون، ألا وإنَّ جبل عامل بعد هذا المؤتمر بين أمرين: عـزٌ لا تنفصم عروته ولا تُقرع مرته، أو ذلٌ تهاوت معه كواكب السعد وتقوَّض به سرادق المجد(7).
وكان من أبرز مقررات المؤتمر:
وانتخب المؤتمر السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين لنقل مطالب المؤتمر إلى الملك فيصل، على أن ينضمَّ إليهما في دمشق العلامة الكبير السيد محسن الأمين(9)، وبالفعل توجَّه السيدان إلى دمشق، ولكن الفرنسيين استكملوا فتنتهم بإشاعة أنَّ السيد أفتى بمحاربة النصارى، ورددَّ هذا الأمـر الأديب أمين الريحاني، مُدَّعياً أن السيد استخار بالسبحة على ذبح النصارى(10)، مما أدَّى إلى تطور الأمر بسرعةٍ، وأحرق الفرنسيون منزل السيد في صور، ودارته في شحور، وأصدروا أمراً بإعدامـه وإلقاء القبض عليه حياً أو ميتاً، لمنعه من الوصول إلى دمشق ولكنهم فشلوا، ونجحوا في إذكاء الفتن الطائفية(11).
في ذلك الزمن أعلن العامليون تمسكهم بالوحدة، والتأكيد على العيش المشترك، وأظهر المستعمر الفرنسي إصراره على سياسة التفرقة والتبديد على حساب أعدائـه وأصدقائه في آنٍ، ولكـن حفـر المؤتمـرون على ذاكـرة الزمـن تغليب العام على الخاص، وأنهم وحدويُّون يعترفون بالآخر، ويقدرون حرية المعتقد والفكر، نقول هذا هو التاريخ الحقيقي الذي ينبغي أن يشق دربه عبر الزمن لصياغة غدٍ واعدٍ، لأن التاريخ الذي كُتب منـذ مطلع القرن العشرين،كُتب على أساس بناء تاريخٍ افتراضيٍّ للدولة اللبنانية الناشئة، إذ تم فيه تغييب تاريخ جبل عامل المكلَّل بالجهاد والعطاء والفداء، واستُحضِر تاريخ جزءٍ من لبنان، وهو تاريخٌ لمنطقةٍ ولطائفةٍ وقد سُمِّي (تاريخاً وطنياً)، واخترق هذا التاريخ وعي الأجيال واحتل جزءاً من الذاكرة ولو بشكلٍ مزوَّرٍ وقسريٍّ، هذا التاريخ هو تاريخ جبلٍ أو تاريخ طائفةٍ سمُّوه بتاريخ الوطن، ونشأ جيلٌ من الكُتَّاب المقلِّدين والمكررين لمقولاتٍ حفظوها أو تأثروا بها رضوخاً لحالة الإستقواء الفكري والإقتصادي والسياسي.
إذاً ينتقل هذا التاريخ عندهم ليتوسع من حيث الحدث والشخصية والدور في الفترة العثمانية، وذلك من خلال إبراز ما سُمِّي في هذا التاريخ بالإمارة اللبنانيـة، التي تقتصر على الإمارتين المعنية والشهابية، إذ تُلغى الإمارات الأخرى في المناطق، وتشطب تواريخها وتختزل لمصلحة هاتين الأسرتين، وحال المتصرفية لم يكن أفضل على الإطلاق، هذه النواة تحمل أيضاً مضموناً سوسيولوجياً سياسياً، الأمر الذي أعطى التركيب الجغرافي السياسي للبنان الكبير طابع العلاقة بين المركز والأطراف، بين النواة والملحقات، ومن المهم توضيح أنَّ إدراج جبل عامل في نطاق التخصيص هنا لا يستطيع إدراجه بالضرورة في منطق التواريخ الطائفية اللبنانية، بل على العكس، إنَّ إدراجه كحالةٍ مخصَّصةٍ ينبع من عدة اعتباراتٍ، تاريخيةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ وحدويةٍ(12)، بعيداً عن الصياغة التي تعود في بلورتها وإخراجها لنظريةٍ تاريخيةٍ إلى الأب «لامنس» اقتبسها منه العديد من المؤَّرِخين الموارنة اللاحقين وعلى رأسهم جواد بولس.
يقـول جواد بولس سنة 1600 كان فخر الدين قـد حقق القسم الأول من مخططه الطموح القاضي بإعادة بناء الوحدة الجغرافية والسياسية لفينيقيا القديمة، والمجزَّأة منذ أجيالٍ عديدةٍ، وكانت إمارته تمثِّل العالم الأول للبنان الكبير عام 1920 ولبنان الحاضر(13).
أمام هذا المشهد يكتسب البحث في تاريخ الأطراف أهميةً بالغةً، فكيف إذا كان تاريخ جبل عامل أحد مرتكزات الموقف الوحدوي الذي تجلَّى بمؤتمر وادي الحجير، الذي كان فيه الإمام شرف الدين قطب الرحى(14).
ويمكن أن نتبين ذلك من خلال وقفاته الثوريـة داخل المؤتمر نفسه، حيث قال في كتابه صفحات من حياتي: «في اليوم الموعود كان وادي الحجير يستقبل ضيوفـه من صفوة علماء جبل عامل وأسوده ووجهائه وأعيانه، وكان يضيق بالرايات ويدوي بالهتافات، وكأنما عاملة بعثت من جديدٍ»(15).
وقد أعطى هذا المؤتمر التغطية الأهليـة والسياسية والدينيـة للثورة المسلحة في وجه المستعمر الفرنسي بقيادة أدهم خنجر وصادق حمزة ومحمود الأحمد وسواهم، وكأنَّ التاريخ ضنينٌ بالخلف الذين أدوا الأمانة وأعطوا حتى الدم، من شهداء أفواج المقاومة اللبنانية أمل إلى شهداء المقاومة الإسلامية الذين جعلوا من هذا الوادي؛ وادي الحجير، مقبرةً للغزاة المحتلين الصهاينة، مما أربك العدو ووضع حداً لغروره الذي دفعه للإعلان في لحظة التخلي العربي والرسمي عن الجنوب وعن فلسطين، ليعلن أحد القادة الصهاينة أنه بفرقةٍ موسيقيةٍ بإمكانه احتلال لبنان، ولكن آلياته التي أدهشت العالم بإمكاناتها الحربية وسرعة اندفاعها ومع دعمٍ جويٍّ، أخفق هذا العدو بالتقدم لأمتارٍ قليلةٍ، بل اندحر يجرجر أذيال الهزيمـة من قبل ومن بعد 2006، وبطولات المقاومـة الإسلامية وأفواج المقاومة اللبنانية أمل على درب الإمام موسى الصدر في هذا الوادي تضحياتٌ جِسامُ وشهداء، أعرف منهم الشهيد الحي فادي عليَّان، والشهداء عباس حمود ومحمد زعرور ومحمد عبد النبي وأحمد وهبي وعلي نعمة ومحمد قبيسي ووسام موسى ومحمـد زويتـا، طارق المقداد وأحمـد قيس، محمد حطيط وأحمـد قاسم، وعلى طريق وادي الحجير عبرت قوافل شهداء ومجاهدين، لتكون طريق مصطفى شمران إلى الطيبة ورب ثلاثين والقنطرة، والشهيد يوسف حجازي عام 1977، وهي مناسبةٌ لتقديم آيات الشكر والعرفان لكل المجاهدين، ومن جميع الأحزاب والمنظمات والهيئات والقوافـل التي غيَّرت ورسمت ملامح تاريخ وادي الحجير المشرق العاملي بامتيازٍ، وهي مرحلةٌ بالغة الدقـة والصعوبة وزاخرةٌ بالعلم والشهادة، من الإمام السيد عبد الحسين شرف الدينMإلى الإمام السيد موسى الصدر.
الإمام شرف الدين والإمام الصدر علاقة النسب والسبب:
تعود جذور العائلتين الكريمتين إلى شرف الدين والصدر، إلى الشجرة المباركة نفسها، ويقدم الإمام الصدر نفسه كما جاء على لسانه في مجلـة العرفان: «أنا أنتمي إلى عائلةٍ جذورها موجودةٌ في لبنان، أنا متحدِّرٌ من سلالة الإمام موسى بن جعفر الإمام السابع من أئمة أهل البيت الإثني عشر R، أجدادي تركوا لبنان عندما وصل الإضطهاد التركي إلى ذروته، وتمَّ إحراق كتبنا وقتل علمائنا، لقد غادر أجدادي إلى العراق وإيران حيث أسسوا عائلةً كبيرةً)(16).
فالإمام السيد موسى الصدر هو ابن السيد صدر الدين ابن السيد إسماعيـل ابن السيد صدر الدين ابن السيد صالح شرف الدين.
ولد الإمام الصدر في 4 حزيران عام 1928 في مدينة قُم المقدسة، حيث ترعرع في ظل بيئةٍ علميةٍ مميَّزةٍ، ويقول الإمام الصدر: أنا ولدت في إيران، حيث والدي صدر الدين الصدر عاش وأسَّس جامعةً دينيةً(17) في قُم، درست في البداية في تلك الجامعة(18)، بعدها نلت شهادةً جامعيةً(19) في الإقتصاد من جامعة طهران.
ويضيف الإمام: أكملت دراستي الدينية في النجف الأشرف في العراق، حيث سافر الإمام إلى النجف الأشرف لمتابعة تحصيل العلوم الفقهية العليا على كبار المراجع في الحوزة العلمية، وشارك في جمعية منتدى البشر، التي كان من اهتماماتها عقد الندوات الثقافية ونشرهـا، كما كان الإمام عضواً في هيئتها الإدارية(20) وذلك ابتداءً من عام 1954.
عام 1958 عاد إلى حوزة قُم العلمية وشارك مع آخرين منهم آيات الله: بهشتي وآذري قُمِّـي ومكارم شيرازي في تدويـن مشروع إصلاح المناهج(21) العلميـة في الحـوزة 1958- 1959.
بعد وفاة الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين قدم الإمام الصدر إلى لبنان بعد زيارتين 1955- 1957، وذلك بتشجيعٍ ومباركةٍ من المرجع الأكبر السيد البروجردي(22)وعددٍ من المراجع العظام.
الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين:
هو السيد عبد الحسين بن يوسف بن جواد بن إسماعيل بن محمد بن إبراهيم شرف الدين، وُلد في الكاظمية في العراق سنة 1873 ميلادية 1290 هجرية، تتلمذ على يد والده السيد يوسف وجده السيد هادي الصدر في المقدمات.
قال الإمام شرف الدينM: «لم أزل في النجف الأشرف ضارباً بتوفيق الله تعالى على الإشتغال، ملقياً أجراني على أخذ العلم من أفواه العلماء الرجال، طاويـاً الفؤاد على الإفادة والإستفادة، قائماً فيها على ساقٍ، محاضراً ومناظراً ومدرِّساً ومؤلِّفـاً لا ألوي على شيءٍ، حتى قفلت راجعاً بنجح حاجاتي إلى عاملة، منقلباً إليها أجمل منقلبٍ، أغنيت مدة إقامتي في العراق بما هاجرت إليه، حتى أني لم أتصل بغير أهل العلم، ولم أتعرَّف بأحدٍ سواهم من سائر أهل العراق، بل لم أرَ من حواضرها وبواديها غير المشاهد الأربعة والكوفة وبغداد»(23).
من النجف الأشرف إلى جبل عامل:
عام 1905 عـاد الإمام شرف الدين متجلببـاً ببردة الإجتهـاد المطلق، يقتحم عباب الأزمات السياسية المتلاحقة التي عصفت بالأمة والمنطقة، والتي تتردد سلبياتها حتى اليوم، خاصةً نشأة الكيان الصهيوني، أو الغدة السرطانية بتعبير الإمام الخميني، أو الشر المطلق بتعبير الإمام المغيَّب السيد موسى الصدر.
محطة العودة الأولى كانت في دمشق، حيث استقبله المقدَّس السيد محسن الأمين وثلةٌ من العلماء، أما في جبل عامل وعند وصوله إلى بلدة عديسة، وجد في استقباله أعلام البلاد(24)، ويقول الإمام: تابعنا السير فكنا نلتقي بالناس أفواجاً أفواجاً، مشاةً وركباناً حتى أتينا قريتنا شحور(25).
وما ينتظر الإمام ليس بالأمر اليسير، ولكنه وطَّد نفسه على دخول المعترك وحمل هموم الناس، حيث لا يكتفي علَّامتنا برسم تلك اللوحة، بل أوضح الأمر على المستوى الخاص قائلاً: «أرادني وليُّ النعمة أن أتصدَّى للأمور الحسبية وأنا في خدمته، مشيراً إلى والده، وسائر الشؤون العامة … وعلى هذا جرى الأمر بيننا والحمد لله»(26).
كانت تجربة الإمام شرف الدين قاسيةً وصعبةً ومضنيةً، لأنه عبرها في أصعب مراحل التآمر على الأمة، حياةً حافلةً بالمواقف عاشها سماحته، وتحديات كبيرة ضاق بها صدره لشدة ما تحمَّل من عدوان الأعداء وتجني مَن عمل لأجلهم وتآمر المرتزقة، حتى أنَّه فكَّر في العام 1944 في الهجرة إلى العراق والإقامـة في النجف الأشرف(27) … اجتمع علماء جبل عامل ليثنوه عن ذلك، وكانت مداولاتٌ ونقاشاتٌ أدَّت إلى العزوف عن الهجرة، وآثر البقاء في عاملة التي أحبها طيلة عمره الشريف إلى أن وافته المنية.
توفي الإمام عن مواقفَ مشرفةٍ وسيرةٍ حافلـةٍ بالعطاء، يلفها القلق على المصير وسط نكباتٍ متتاليةٍ واهتزازاتٍ مرعبةٍ ومميتةٍ آخرها نكبة فلسطين، خاطب الملوك والأمراء والرؤساء وهو يقول: «وليس ذهاب فلسطين فاجعاً لولا أنه ذهابٌ لريح العرب وعز المسلمين وكرامة الإنسان المستشرق في غد هذا الشرق القريب».
ويوجه نداءً للمسلمين والعرب في أوَّل محرم 1367، يؤكـد فيه على أهميـة وقدسية النضال دفاعاً عن فلسطين ليقول: «هذا شهر محرمٍ الدامي الذي انتصرت فيـه عقيدةٌ وبُعث منه مبدأٌ … ألا وإن قَتلَة الحسين بِكرٌ في القتلات، فلتكن قدوتنـا به بِكراً في القدوات، ليكون لنا ولفلسطين ما كان له ولقضيته من حياةٍ ومجدٍ وخلودٍ»(28).
وكان الإمام شرف الدين يعتقد أن تحصين المجتمع بتأمين مقومات النهوض جزءٌ من عملية مواجهة التخلف والعدوان، إضافـةً إلى مواقفه الحاسمـة تجاه الأعداء، قام بإنشاء ورعاية العديد من المؤسسات وحسبنا أن نعرض ما قام به(29):
أما الأمور المطلبية وإزالة الحرمان فتفوق على حشدها في بحثٍ مُعَدٍ لندوةٍ، فإن تسليط الضوء على بعضها يعطي المتابع إصرار الدولة على الإهمال وممارسة سياسة القهر المتعمَّد على المواطنين المصنَّفين من درجةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ.
الرسالة الأولى: إلى رئيس الجمهورية حبيب باشا السعد عام 1347 هـ.
الرسالة الثانيـة: من رسالـةٍ إلى الرئيس بشارة الخوري إثر اعتداء الصهاينـة على الجنوب عام 1948.
والثالثة: من كتاب إلى الرئيس بشارة الخوري إثر تجريد حملةٍ عسكريـةٍ على عشائر الهرمل(30).
وهذا هو النص لأهميته:
1. من كتابٍ إلى رئيس الجمهورية حبيب باشا السعد بتاريخ 3 جمادى الأولى 1347هـ:
... ولبنان تربـةٌ خصبـةٌ يزدهر فيها الزرع، ويدرُّ في ربوعها الضرع، فتعهد هذه الأرض الطيبة تؤتِ أُكُلَها بإذن ربها.
أما الجنوب، و(عاملة) قسمه الأوفى، فإنَّ مرابعه يبابٌ، وماءه محض سرابٍ، لم تمتد إليه يدٌ ببناءٍ، ولم تَلُح له قَطُّ بارقـة رجاءٍ، ولعلَّ يدك الكريمة تسرع إليه بما أُبطِأ عنه، وتعود عليه بما حُرِم منه.
2. من كتابٍ إلى الرئيس بشارة الخوري إثر اعتداء الصهاينة على الجنوب عام 1948م:
... وحسبنا الآن نكبة جبل عامل في حدوده المتاحة، ودمائـه المباحة، وقراه وقد صيح فيها نهباً، وأطفاله وقد تأوَّدت رعباً، وقد استحرَّ به الفتك، إلى مـا هنالك من هلاك الحرث والزرع.
هذا الجبل المرابط، يدفع جزية الدم لشُذَّاذ الآفاق، مِن كل مَن لفظتـه الأرجاء ونبذته الأرض والسماء.
هذا الجبل العريق، تُضرب عليه الذلة والمسكنة، ممن ضُربت عليهم الذلة والمسكنة في التاريخ.
هذا الجبل الذي يقوم بما عليه من واجباتٍ، ولا يُعطى ما له من حقوقٍ، كأنَّه الشريك الخاسر، يدفع الغُرم، ومن الغُنم يُحرَم.
فإذا لم يكن من قدرةٍ على الحمايـة، أفليس من طاقةٍ على الرعايـة؟ وإذا لم تؤدَّ الحقوق، فلماذا يستمر العقوق؟.
وإذا قرأتم السلام على جبل عامل، فقل السلام عليك وعلى لبنان.
3. من كتابٍ إلى الرئيس بشارة الخوري أيضاً إثر تجريـد حملـةٍ عسكريةٍ على عشائر الهرمل في أيلول 1949:
... فإنَّ عشائر الهرمل، لم يخرجوا على طاعةٍ ولا فارقوا الجماعة، فلمن تُسرَج الخيل العراب، وتُشرَع الأسنة الحراب.
أَلهؤلاء.. وهم أبـاة ضيمٍ لا يبيتون على خسفٍ ولا يقيمون على هوانٍ، في عصرٍ تفتَّحت على نوره العقول والأبصار، واغترف منه لبنان حتى غدا قبلة الأنظار، دون أن يصيبهم صيِّبٌ من ديمتـه، أو فاضلٌ من نعمته، بـل تُرِكوا للتخلِّف يحبس عليهم في مكانهم، يتآكلهم الثأر، ويغتالهم الجهل والمرض والفقر، حتى أصبحوا بين نارين، نار الحكومة الموقَدة، ونار أوضاعهم الموصَدة.
وإنَّ أخشى ما أخشاه، أن تدخل النائحة إلى كل بيتٍ في لبنان، إذا التقى الجمعان والتحم الصفَّان، فالحملة العسكرية لا يُستهان بها عدةً وعدداً، والمعتصمون في الجرود لهم من المواقع ما يسلِّطهم على الوقائع، والدم ينادي الدم.
إلا أعدتم النظر يا صاحب الفخامة، في أسلوب تأديب الجامحين وغزو المتمردين، ألا ترَون أن تغزوهم بجيشٍ من التسامح، تريشون بـه جناح الوطن المهيض وتشفون جنبه المريض؟.
ألا تروَن أنَّ إعمار المدارس والمستشفيات يغني عن إعمار السجون والقبور؟ وشقَّ الشوارع والطرقات يغني عن شقِّ الجيوب والصدور؟.
الإمام السيد موسى الصدر يخلُف الإمام شرف الدين:
حدث ذات يومٍ أنَّه عندما كنا في بهـو منزل السيد عبد الحسين شرف الدين عام 1957، دخل شابٌّ سيدٌ طويل القامـة، بطلَّته البهية سلَّم على الحاضرين، وقبَّل الإمام شرف الدين وسلَّمه أوراقاً كان يحملها، وعرَّف به الإمام شرف الدين بأنَّه السيد موسى الصدر قريبنا من قُم، ثم دعـاه للدخول إلى الداخل وبعد حوالي نصف ساعةٍ خرجا، ونادى الإمام: أين ابني جعفر؟ فأرسلوا أحدهم ليحضره إلى الإمام، وعندما وصل قال: إن مِتُّ فهذا السيد هـو من سيحلُّ مكاني. هذا ما قاله الشيخ حسن بيضون في أحد اللقاءات، وهو مقرىء القرآن المعروف في نادي الإمام الصادق، ورفيق درب الإمام ومَن لازم السيد عبد الحسين شرف الدين. شاع الخبر في صور واعترض مَن اعترض، واجتمع على السيد مَن احتجَّ، حتى وصل أصداء ذلك إلى الإمام شرف الدين بأنَّ المعترضين يقولون: إنَّ المنطقة فيها الكثير من أهل العلم والفضل، وماذا يعرف السيد موسى الصدر الآتي من قم عن صور، عن جبل عامل، عن لبنان، عن مشاكلنا وعن أزماتنا؟. فأجاب الإمام شرف الدين: أرأيتم الأوراق التي سلَّمني إيـاها؟ فيها دراساتٌ عن أوضاعنا، واقتراحاتٌ لحلول المشاكل عندنا، وهو يعرف أكثر بكثيرٍ مما يعرفه البعض (31).
وتوفي الرجل الإمام وترجَّل الفارس، ترجَّل الفارس بعد سبعة وثمانين عاماً حملته على صهوة العلم والعمل والتقـوى، منبراً يوقظ النائمين ويهتف بالمستضعفين، ويتردد صدى صوته في موطن العرب والمسلمين، ترجَّل وكانت أذني قد وعت الجملة الأخيرة، حسب ابنه السيد جعفر شرف الدين(32)، الكلمة الأخيرة التي رددها: «لقد بلغت الغاية، ولا يبلغ الغاية إلا الحي». قالها ثلاثاً وصمت واستراح من همِّ الدنيا وغمها.
هناك الكثير من العلماء والعامة والسياسيين والتجار لم يعرفوا سِرَّ الوصية، وبات الناس في حَيرة مَن الذي سيخلف الإمام شرف الدين، ويجسِّد هذا ما كتبه سماحـة الشيخ محمد جواد مغنية في مجلـة العرفـان منتصف عام 1958 تحت عنـوان مَـن هو خليفة شرف الدين؟(33).
مَن هو خليفة شرف الدين؟.
أتى على المقدَّس شرف الدين حيناً من الدهر وهو من رؤساء العلماء في جبل عامل، ثم أصبح بعد وفاة زملائه الكبار، عليه وعليهم الرحمة والرضوان، الرئيس الأول وحده لا شريك له، أما اليوم وبعد أن لبَّى هذا الجليل نداء ربه، فيرى البعض أنَّه «الخليفة» دون غيره، وآخر أنَّه أحد أطراف الشبهة المحصورة، وثالث أنَّه الفرد المردَّد بين تعيينه بالذات والتخيير بينه وبين غيره.
وطريقة الإمامية في اختيار الشخص لهذا المنصب الخطير تخالف ما عليه سائر الطوائف، فهو لا يُعيَّن بمرسومٍ من مصدرٍ رسميٍّ، ولا بالإنتخـاب من فئةٍ معيَّنةٍ، أما المراسيم فهي عندهم من اختصاص المعصوم الذي لا يجترح السيئات، ولا يتأثَّـر بالشفاعات، لذا يتركـون الإنتخاب إلى الطبيعـة، إلى مؤهلات الشخص وصفاتـه، وإحساس الناس وشعورهم، ودائماً يأتي هذا الإحساس العام، وكأنه وحيٌ من السماء، إذ لم يُعرَف في عهدٍ من العهود كما أعلم، أن كلمة الطائفة بجميع أفرادها وهيئاتها اتفقت على ضلالةٍ، وبدون سببٍ مشروعٍ.
إنَّ الفرد مهما ملك من الأساليب، فلا يستطيع أن يخدع شعباً بأكمله أو طائفةً بأسرها باسم الدين أو الوطنية.
ومرةً ثانيةً أقول: إنَّ الشيعة يتركون التصفية والغربلة للأيام، فهي وحدها الكفيلة باختيار الأصلح والأصدق والأنفع.
أجل إننا نفكر ونقدر ونرشح هذا دون ذاك، ولكن على سبيل التنبؤ، لا الإختيار والتخمين ولا التعيين، لقد قـاوم شرف الدين مَن قاومـه، وأبى أن يعترف بمكانته ومنزلته، بادىء ذي بدءٍ، ولكنه استسلم في النهاية لقوة الحق، وخضع لمنطق الواقع الذي لا مَعدى عنه «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ». هذا ما كتبه سماحة العلامة الشيخ محمد جواد مغنية رحمة الله عليه.
وبالفعل إنَّ الشيعة يتركون التصفيـة والغربلة للأيام، فهي الكفيلة وحدها باختيار الأصلح والأصدق والأنفع، وكان الخيار الأصلح والأصدق الإمام السيد موسى الصدر، حضر إلى لبنان أواخر عام 1959 تنفيداً لوصية الإمام شرف الدين وتأييداً من كبار مراجع الطائفة وعلمائها.
صورة الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في ذهن الإمام موسى الصدر وبقلمه(34):
سيدي، عرفك بيتك أباً عطوفاً وارف الظلال، مِضيافاً يخدم الضيف الذي يحجُّ إليه رجالاً وركباناً وعلى كل ضامرٍ يأتيه من كل فجٍ عميقٍ.
وعرفك صحبك: مرشداً مربِّياً لا ينقطع عن النصيحة والتوجيه لحظةً واحدةً.
وعرفك بلدك: مصلحاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يقيم الشعائر وينصر المظلوم ويحكم بين الناس بالقسط.
وعرفك وطنك: قائداً ثائراً يبذل أقصى مـا يمكن بذله، ولا يثنيه جبروت المستعمر، ولا حيلة العدو الماكر، ولا إيلام الحرب الباردة التي يشنها الخصم الداخلي.
وعرفك العالم: شمساً تنير الأفق المدلهمَّ الواسع، فتبعث من خلال رسائلك وكتبك إلى مختلف الأقطار، حديث الحق وقصة الحياة المثالية.
وعرفك التاريخ: صفحـةً بيضاءَ لا زيغ فيها ولا خريف، بـل مطلع فصلٍ يأبى المغالطة، ومدخل كتابٍ فيه تبيانٌ وفرقانٌ، بين الحقيقة والوهم.
سيدي، حوَّلت فكرك إلى كتبك الخالدة فأهديتها إلينا.
وحوَّلت طاقتك إلى مؤسساتك العظيمة، فوهبتنا إياها.
وحوَّلت عواطفك الرقيقـة، فأصلحت ما فسد من أمرنا، وجبرت مـا انكسر في مجتمعنا.
وحوَّلت خُلقك الكريم إلى تنشيط الحق وتعميم الجمال، وتهدئـة القلوب وتسلية المحزون، وراحة اللاجىء والإصلاح بين الناس.
حوَّلت وجودك كلـه إلى كمال مجتمعنـا، وأهديت كل ما تملك إلينا، ثم حملت جسدك المرهق المتهدِّم، حملته إلى منبت علمك، إلى باب مدينة العلم، إلى بلد النور والولاء، إلى النجف، لكي تجذب قلوبنا وتحافظ على رباط إيماننـا وتمسُّكنا بسفينـة النجاة وأحد الثقلين.
ذهبت بعدما أعطيتنا كل شيءٍ سمواً في الحياة وفي الممات، لكي تضرب مثلاً آخر بموتك بعدما ضربت الأمثال للناس بحياتك.
أجل، وفي تشرين الأول سنة 1959 لبَّى الإمام موسى الصدر الدعوة وقدم الى لبنان، وأقام في مدينة صور، وبدأ مهامه إماماً في المسجد الذي بناه السيد عبد الحسين شرف الدين، وهو المسجـد المعروف بمسجـد الإمام الصادق Q، ولكنَّ الإمام لم يبقَ أسير جدرانه بل تخطى الحدود، بل كان كما توقع الشيخ مرتضى آل ياسين(35)الذي قال في الصدر في رسالةٍ بعث بها إلى نجل الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين السيد جعفر، يتحدث فيها عن مزايا الإمام الصدر وتوقعاتـه لمستقبل العمل على يديه في العالم أجمع، وهذا نصها:
«فقد علمت منذ أمدٍ قريبٍ بأن فضيلة السيد السند، والثقة المعتمد، العلامة الجليل حجة الإسلام السيد موسى الصدر آية الله قد استجاب أخيراً لدعوتكم الملحـة بالهجرة إلى صور، فهاجـر إليها فعلاً وحل، بها أهلاً ووطـأ منها سهلاً، ذلك ليملأ فيها هذا الفراغ الشاغر الذي ظلَّ طوال هذه الفترة الكئيبة يتطلع إلى ذلك الرجل المثالي الجدير بتمثيل رجل الدين في علمه وعمله، وفي هديه ووعيـه إلى أن منَّ الله عليه بهذه الشخصية المثالية المزدانة بكل عناصر الخير، والمجهَّزة بكل طاقات العمل في سبيل النفع العام.
فبورك لصور ومن فيها بهذه التحفة الثمينة التي تفضَّل الله بها عليها، وإني لواثقٌ بأنَّ هذا النور الذي سطع في سماء صور سوف لا يقف عند حدودها، كما يقف نور المصباح عند حدٍّ من الحدود، بل إنَّـه ولا شك سيتجاوزهـا ويتعداها حتى يعمَّ العالم الإسلامي بأسره، وما ذلك عن لطفه تعالى ببعيدٍ».
رؤيـة الإمام للوضع الداخلي:
وبوصول الإمام الصدر إلى لبنان اكتشف وضعية الإنسان بعد تعرفه عن قربٍ على مشاكل الأفراد والجماعات، والتفت إلى عمق الهوة واتساع الفجوة بين أبناء الوطن الواحد، الذين تتعاطى معهم الدولة على أُسسٍ متعددةٍ ورعايةٍ متنوعةٍ، وكانت الأصالة في المواطنية تظهر في منطقة، وتغيب في منطقةٍ أخرى، حسب رؤية الحكام في تلك الحقبة القائمة على أُسسٍ طائفيةٍ ومناطقيةٍ ضيقـةٍ منطلقـةٍ من عصبيةٍ عمياءَ، تعود إلى نظرية المناطق الأصيلة والأطراف التابعة، فيما كان يرى الإمام الصدر بأنَّ أكثر الناس أصالةً وأشدَّهم حرصاً على لبنان هم الذين يدفعون الغُرم ولغيرهم الغنم، فاكتشف وضعيـة الإنسان في البقاع والهرمل وعكار إمتداداً إلى أحزمة البؤس في ضواحي بيروت، التي ضاقت بالفقراء الذين هاجروا من الأطراف كسباً للعيش، وفي ظروفٍ قاسيةٍ وضيقةٍ، إذ إن الإنسان المسلوب حقه من العيش الكريم تُصادَر حريته حتى بالإحتجاج على هذا الواقع المتردي، فالجنوب أرضه يبابٌ، وهلك في البقاع وعكار الحرث والنسل، فيما رافق المرض سكان أزقة البؤس الذين يعيشون في ظروفٍ غير صحيـةٍ، فيما غابت الدولة عن حماية المواطن من تعسف العدو الصهيوني وعدوانه المستمر على مناطق الحدود.
ولمس الإمام أنَّ المواطن أمام مطرقة العدوان الصهيوني وسندان الإهمال والإجحاف في الحقوق وعقوق الدولة في آنٍ. وبدأ تحرُّك الإمام معالجاً ومطالباً ومحتجاً على جبهاتٍ عدةٍ، من مواجهة حال التردي الإجتماعي، إلى مواجهـة العدوان الصهيوني، وسبق ذلك حضوراً مكثفاً للإمام في صور على صعيد نشاطه الديني والخدمـة العامة، معتبراً عمله في نطاق الدعوة أو الخدمة الإجتماعية أو العمل السياسي جزءاً من واجبه الديني، موسعاً نطاق الوعي والعمل الديني.
وقد نجح في معالجة عددٍ من المشكلات الإجتماعية، وأخذ يتفحَّص كل حالةٍ وتصور العلاج لها، فالعاجز إلى مؤسسةٍ خاصةٍ تُعنَى بالعجزة، وكثير العيال تيسير سبل الرزق له، والعاطل عن العمل بتأمين بعض المقومات التي تخوِّله العمل على قاعدةٍ كان يقولها الإمام الصدر: أعطِ الصياد صنارةً ولا تعطه سمكةً. أما الكسالى فأصبح يشار إليهم بالبنان، لذلك توصَّل السيد إلى قناعـةٍ بضرورة إيجـاد مؤسسةٍ كي تستوعب الأيتام وأبناء المحرومين، لتكون لهم مهنةٌ عصريةٌ في مدرسةٍ مهنيةٍ، وللفتاة بيتٌ للفتاة تتدرب فيه وتتعلم، وكذلك مؤسساتٌ رعائيةٌ أخرى، وهكذا انطلق العمل وبدأ الدور وظهرت التوجهات.
البدء بالتحرك:
وكان التحرك الواسع ابتـداءً من الندوات والمحاضرات في نادي الإمام الصادقQفي صور، إلى تنشيط عمل جمعيـة البر والإحسان التي أسسها الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في صور سنة 1948، حيث قيَّم عملها بعد مرور سنةٍ على إعادة انطلاقتها بقوةٍ، فقال عن نشاطات الجمعية في كلمةٍ له بتاريخ 31/12/1961: «نجد أملاً كبيراً هو الأمل بالمستقبل، ونجد انعكاس ذلك على نفوس كافة المواطنين، واقتنعنا جميعاً بأنَّ تركـُّز الطاقات وجمع الدراهم القليلة التي كنا نرميها في التراب بشكل الصدقات الفردية للسائلين بالكف... اقتنعنا أنَّ تركيز هذا يعمل المعجزات ويرفـع الصروح في وقتٍ قليلٍ».
وأضاف: إنَّ الجمعية لا يقتصر انعكاسها على طائفةٍ معينةٍ، بل هي جمعيةٌ خيريةٌ لكافة الطوائف، وهذا صندوقها يدخل فيه الخير من الجميع، وهذه يـد الجمعية تمتد لمساعدة الجميع».
أداء الإمام الصدر واندفاعه للقاء الطوائف يشكِّل إسهاماً في عملية النهوض الوطني:
- المشاركة في قداسٍ عن روح البابا يوحنا الثالث والعشرين(36):
لم يتسنَّ للإمام الصدر سريعاً التعبير عن كل ما يختلج في داخله من مشاريعَ وآراءٍ ومواقفَ، لذلك كان يغتنم الفرص المناسبة للتعبير عن مشروعـه السياسي الإجتماعي، ويأتي في مقدمة الرؤية الوطنية والدينية للإمام الصدر مشاركته لإخوته المسيحيين في مناسباتهم المتنوعة، فضلاً عن توسيع علاقاته باتجاه ممثلي الطوائف اللبنانية عموماً، والمسيحية خصوصاً، مع التطلع إلى بناء علاقةٍ وطيدةٍ مع المراكز الدينية العالمية لهذه الطوائف.
وفي 6 / 6 /1963،شارك الإمام الصدر في قُدَّاس أُقيم في صور عن روح قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرين، رأسه المطران يوسف الخوري، وألقى الإمام الصدر كلمةً بالمناسبة قال فيها: «فقدنا وفقد العالم قداسة البابا يوحنا، فبكت عليه عيون العدل والمحبـة والحرية والتواضع»، ورفع الإمام بيده (وثيقة السلام على الأرض) التي صدرت عن قداسة البابا قبل وفاته بفترةٍ قصيرةٍ، شارحاً أهمية ما ورد فيها، خاصةً عن علاقـة الإنسان بالدين، وعلاقة الدين بالإستقرار والسلام العالمي، وختم الإمام الصدر قائلاً: «نحن في لبنان ما أجدر بنـا أن نستفيد من المحبة والتسامح، ونرفعها بمثابة صلاةٍ وتكريمٍ لروح قداسة البابا».
- الإمام الصدر يزور الفاتيكان(37):
زار الإمام الصدر روما، وأمضى فيها خمسة أيامٍ بضيافة الفاتيكان، حيث لقي حفاوةً بالغةً، وتلقَّى دعوةً رسميةً لحضور حفل تتويج البابا بولس السادس، وبذلك يُعتبَر الإمام الصدر أول عالم دينٍ مسلمٍ يدخل الفاتيكان، وهي سابقةٌ تاريخيةٌ قدَّرها المسيحيون والمسلمون على السواء، ونشرت معالم الإنفتاح عنـد الإمام الصدر، مع الإشارة إلى آراءٍ ومواقفَ منتقدةٍ لبعض المنزعجين من هذه الزيارة.
وفي محاضرة الوحدة الوطنية والتعايش المسيحي الإسلامي في نادي جرجوع(38)، حمَل سماحة الإمام على المتاجرين بالوطنية باسم الدين، وقال: إنهم مساكين أولئك الذين يعتقدون أنَّ هناك تعارضاً بين الدين والوطنية، بل على العكس إنَّ كلاً منها يكمل الآخر، وإنَّ تجار السياسة هم الذين يُغذُّون النعرات الطائفية والمذهبية للمحافظة على وجودهم.
إنَّ العيش المشترك كفيلٌ بإنتاج الوحدة الوطنيـة، هذه الوحدة لا تعني كما يعتقد البعض ذوبان الجناح المسلم في الجناح المسيحي، أو ذوبان الجناح المسيحي في الجناح المسلم، بل يعني أن يظل المسيحـي على مسيحيَّته مئةً بالمئة، ويمد يداً مخلصةً إلى أخيه المسلم، وأن يظلَّ المسلم مسلماً مئةً بالمئة ويمد يداً مخلصةً إلى أخيه المسيحي، فإنَّ بذلك نعيش الوحدة الوطنية فعلاً وقولاً.
وقـد شارك الإمام الصدر في العديد من المحاضرات في العديد من المناطق اللبنانية، من بيروت وكنائسها ومساجدها إلى جبيل وطرابلس وعكار والبقاع والجنوب وكل لبنان.
من محاضرات الندوة اللبنانية في إطار سلسلة محاضراتٍ عن المسيحية والإسلام في لبنان، حيث قدَّم الإمام الصدر الإسلام وثقافة القرن العشرين(39)، وكان مؤسِّس الندوة ميشال أسمر ضمَّن موسم محاضراتها ثلاث محاضراتٍ عن المسيحية وثلاثاً عن الإسلام، وحاضر فيها كلٌّ من المطران جورج خضر، الأستاذ نصري سلهب، الأب فرنسوا دوبرة لاتور أبـو حلقـة، السيد موسى الصدر، الدكتور حسن صعب، الأستاذ يوسف أبو حلقة، وقد أدَّت هذه المحاضرات إلى خلق أجواء الإنفتاح، ولقاء معاني القيم الفكرية، وبدَّدت المزيد من هواجس الخوف والهلع من الآخر، تأسيساً لمعالجاتٍ وطنيةٍ تهمُّ الوطن والمواطن.
إنَّ الجميع مسؤولٌ وإنَّ التحديات تستهدف الجميع، وهذه الندوات واللقاءات والعلاقات ما كانت إلا باكورة نشاطٍ انفتاحـيٍّ، كانت ولادةً لعشرات المحاضرات والندوات التي أُلقيت في الكنائس والأديرة ومنها محاضراتٌ في: كنيسة الآباء الكبوشيين - كنيسة مار جرجس المارونية - كنيسة راهبات القلبين الأقدسين في معهد السيوفي/الأشرفيـة - معهد الآباء الأنطونيين حيث شاركه ندوته الرئيس العام للرهبنة المارونية الأب روفايل لطيف - معهد هايكازيان الأرمني -معهد جبل لبنان بحضور المطران جورج خضر، عدا عن جميع الندوات واللقاءات الوطنية في كنائس صور - صيدا - النبطية - مغدوشة - الفاكهة - الجديدة - زحلة ومناطق لبنانية أخرى(40)، ونظراً لحجم نشاط الإمام وحضوره في دور العبادة المسيحية فإننا نسلط الضوء على محاضرة كنيسة الآباء الكبوشيين التي وُصفت على الشكل التالي:
«هذا حدثٌ يحصل للمرة الأولى في تاريخ الكثلكة، يجتمع في الكنيسة مؤمنون لسماع كلمة الله من مرجعٍ دينيٍّ غير كاثوليكي...ويُقابَل ذلك لا بالإعجاب فحسب، بل بالتأمل الطويل، ومن الطبيعي أن يكون موطن الحدث هو لبنان بلد اللقاء والأخوة والتوحيد».
هذا ما قاله الرئيس شارل حلو بعـد سماعـه محاضرة الإمام السيد موسى الصدر بعنوان: «القوى التي تسحق والقوى التي تفرق «مساء أمس في كاتدرائيـة مار لويس اللاتينية للآباء الكبوشيين، وهي أولى سلسلةٍ من المحاضرات تُلقَى لمناسبة الصوم الكبير...
وجاء لسماع الآتي من هناك...
من الجنـوب، من الأرض التي مشى عليها السيد المسيح... يحكـي عن الحريـة والظلم والطغيان والعنصريـة، وعن الجنوب وإنسانـه الذي يظل شاهداً على لبنان يتحدى «إسرائيل» وكيانها العنصري، جاء لسماع الصدر عـددٌ كبيرٌ من الراهبات والرهبان والمواطنين، وكان في مُقدَّم الحضور: المونسنيور بولس باسيم مطـران اللاتين، ورئيس المحكمة الروحية اللاتينية الأب إبراهيم عيـَّاد، والأمير عبد العزيـز شهاب، والنقيب رياض طـه، والبروفسور فيليب الخازن، والصحافي جبران الحايك.
وبعـد لقـاءٍ بين الصدر والرئيس حلو والمطران باسيم وعددٍ من الشخصيات في صالـة الإستقبال في الكنيسة، انتقلوا إلى قاعة الصلاة، وعند دخول الإمام الصدر وإلى جانبه الرئيس حلو، كانت علامات الفرح ممزوجةً بعلامات الدهشة ترتسم على وجوه الحاضرين... وساد صمتٌ خاشعٌ عندما إلتفت الصدر إلى الذين وقفوا عند دخولهم وحياهم وجلس فجلسوا.
المشاركة الوطنية مع الطوائف في خدمة لبنان والدفاع عن جنوبه في وجه اعتداءات العدو الصهيوني:
إنشاء هيئة نصرة الجنوب(41):
أمام التلكؤ الرسمي والبرودة الحكوميـة في مواجهة الأحداث، وبعد النـزيف الحاد والهجرة القسرية لأبناء الجنوب، دعـا الإمام الصدر الرؤساء الروحيين في الجنوب لتدارس الأخطار ومعالجـة الوضع، وتشكَّلت «هيئـة نصرة الجنوب «برئاسته وعضويـة أصحاب السيادة: المطران أنطونيوس خريش، المطران باسيليوس خوري، المطران يوسف الخوري، المطران جرجيوس حداد، المطران إثناسيوس الشاعـر، المطران بولس الخوري، القِس إبراهيم داغر، وأصحاب السماحة: الشيخ محمـد سليم حمود مفتي صيدا للطائفة الإسلامية السنية، الشيخ أحمد الزين قاضي شرع صيدا، الشيخ رؤوف القادري مفتي راشيا للطائفة السنية، الشيخ نجيب قيس قاضي المذهب الدرزي في حاصبيا، الشيخ سليم جلال الدين، الشيخ علي الفقيه، المفتي الجعفري الممتاز الشيخ عبد الأمير قبلان، وتهدف الهيئـة إلى تدارس الأخطار المحدقة بالجنوب ومعالجة أوضاعه.
وبتاريخ 20/5/1970 أقرَّت هذه الهيئة بياناً أعده الإمام الصدر وأذاعه بنفسه قائلاً: «إنَّ الجنوب لفي خطرٍ... لا يخالنَّ خائلٌ، إذا سقط الجنوب، أنَّ سياجاً من السحر يسوِّر لبنان، أو خيمةً من الغيب تغطي عليه، وشواهد التاريخ شواهدُ على أممٍ بادت، وأوطانٍ زالت، وقومياتٍ غدت كأساطير الأولين! إنهضوا لنصرة الجنوب ونصرة لبنان، ولا تنتظروا وقوع الكارثة، فإما أن نكون شعباً مؤهَّلاً للبقاء، جديراً بالإستمرار، أو شعباً سقط في مستنقعات الوجود، ثم انسحق بين دواليب الزمن».
وأضاف البيان: «إنَّ عضواً من وطنكـم اليوم يمشي إليه البتر، إنَّ جزءاً من تاريخكم وهو الأعظم يركض إلى القبر، إنَّ ساعة النفير تدقُّ لتجميع وتجنيد سائر الطاقات والإمكانات المالية والمادية والمعنوية والخدمات لمجابهة هذا الخطر الذي يهبُّ من الجنوب ويهدد كل لبنان».
إرهاصات تأسيس حركة المحرومين:
أنكر العهد الجمهوري في لبنان الذي بدأ في أيلول 1970، على المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ورئيسه حقهما القانوني في تعاطي الشؤون العامة(42)، فتجاهلت الدولة هذه الحملـة، ولكنَّ الإمام الصدر صعَّد من تحركه متمسكاً بمطالب المحرومين، حيث أعلن معارضته للحكام والمسؤولين في لبنان لأنهم يتجاهلون حقوق المحرومين وواجب تعمير المناطق المحرومـة، مؤكداً أنَّ الحكام بسلوكهم هذا يهددون الوطن وكيانه، وكان خطاب الإمام الشهير بمناسبة ذكرى عاشوراء في بلدة ياطر الحدودية بتاريخ 24 شباط 1974، ومما جاء في كلمة الإمام(43):
«المطلوب عدم الإكتفاء بهذه الإحتفالات، لئلا تتحول إلى طقوسٍ ومراسمَ شكليـةٍ متحجِّرةٍ يختفي وراءها المذنبون، ويطهِّر الطغاة ذمتهم أمام الشعب بحجة حضورهم المأتـم، ولئلا يصبح البكاء والمشاركة في المأتم بديلاً عن العمل، وتنفيساً للغضب الثائر والإحتجاج البنَّاء. ولكي لا تصبح الحركة الحسينية مؤسسةً وطقوساً علينا أن نحاول إدراك أبعادها والتحرك على ضوء تعاليمها، إنَّ الحسين يحدد سبب حركته بكلمتين: إنَّ الحق لا يُعمَل به، والباطل لا يُتنَاهى عنه وها أنا أسأل: لو كان الحسين بيننا وكان يرى إنَّ الحق لا يُعمَل به، بل إنَّهم يتمادون في عدم العمل بالحق والإستهتار به، فماذا كان يعمل»؟.
ثم قال: «أيها الاخوة، إنَّ الأساس لبقـاء الأوطان العدالة وكرامة المواطن، أما في لبنان فمفهوم كرامة الإنسان وحريته باقٍ كواحةٍ، فالإستئثار والطغيان وتجاهـل حقوق الآخرين تزعزع كيان البلد، وتعرِّض مستقبله للخطر، أما نحن عندما نطالب بالحقوق والعدالـة فإننا نصون وطننا البلد، ونحمي مستقبله وحريـة مواطنيه وكرامتهم، فلتعلموا إنَّ المسؤولين هم الذين يهددون بسلوكهم أمن هذا الوطن وكيانـه واستقراره وتعايش أبنائه وليعلموا أننا لا نسمح لهم بذلك لكي يبقى لبنان.
نحن حَفَظَة لبنان كما نحن مستعدون للدفاع وحمل السلاح، أنا الشيخ المريض مستعـدٌ أن أحمل البندقية وأقف معكم على الحدود، أنا على استعدادٍ لكل ما يُطلَب منا، لماذا لا يعطون السلاح للجنوبي للدفاع عن بلده، ويعطون لغيره ليقيم العصابات والإعتداء على الناس؟ لماذا تُصرَف الملايين على غير الجنوب؟ لقد صرف في 4 سنوات 984 مليون ليرة لبنانية ولم يُصرَف شيءٌ للجنوب وبعلبك والهرمل، أكذوبة الليطاني تدغدغ سمعنا، لا فلس واحداً لليطاني، كله كذبٌ بكذبٍ على رغم إعطائهم جدولاً زمنياً للتنفيذ.
فلنصرخ في وجه حكامنا إذا سمعوا: فليعطوا السلاح للجنوبي، وليعلموا أنَّ في هذا البلد إبناً مدللاً وابن جاريةٍ ومنطقةً مدللةً ومنطقةً محرومةً. نريد العدل للجميع والدفاع عن الجميع، لأننا على ما يبدو من منطقةٍ صُنِّفت من الفئة الثالثة كما صُنِّف مواطنوها».
وفي ظل السكوت عن الإعتداءات «الإسرائيلية» على الجنوب، الذي هو رضا بالذل وخيانةٌ للبنان، استمرت اعتداءات العدو الصهيوني، وفي ظلِّ اتساعها في الجنوب اللبناني ضد السكان الآمنين العُزَّل المحرومين من وسائل الحماية والدفاع عن النفس، تنامى عمل الإمام إلى مستوىً أعمق في اتجاه إيجاد مستوىً آخر من التنظيم، يحفظ جهد وجهاد حالة الإعتراض على سياسة الدولة ويؤطـِّر عناصر المواجهة للمشروع الصهيوني.
المهرجانات وولادة حركة المحرومين:
1. احتفال القسم:
أمام الجماهير التي احتشدت على مرجة رأس العين، تلا الإمام الصدر قَسَماً لربط الناس بعهدٍ في مسيرةٍ تنظَّم فيها الأمور، لذلك اعتُبِر احتفـال القسم في 17 / آذار / 1974
«يوم انطلاقة حركة المحرومين «، ففي هذا المهرجان الذي ضم أكثر من خمسةٍ وسبعين ألف شخصٍ، انتقد فيه الإمام الصدر موقف الدولة اللامبالي من الجنوب، مطالباً بإنصاف المحرومين في البقاع والجنوب والشمال وكل لبنان، مهاجماً الحكومـة لعـدم صرف الإعتمادات المخصَّصة للتنمية، ومندِّداً بالجيش لعدم دفاعه عن الجنوب، قاسماً اليمين على السعي للمطالبـة بحقوق المحرومين وتحقيقها أو الاستشهاد دون ذلك، ثم طالب الجماهير بإنشاء مخيمـاتٍ للتدريب العسكري في البقاع والجنوب بقوله: «نحن مضطرون إلى تدريب أولادنا وتسليحهم، كي نحفظ كرامة بيتنا ونحفظ أعراضنا ونؤدي دورنا لصيانة الوطن»(44).
2. مهرجان صيدا(45):
بتاريخ 4/ نيسان / 1974 أعلن الإمام الصدر عبر مهرجـانٍ شعبيٍّ كبيرٍ أُقيم في صيدا «نريد الجنوب متمسكاً بلبنان، الجنوب يدفع ضريبـة الدم والدمار والخوف، ارفضوا عبادة آلهة الأرض والحكم والطغاة والمستبدين... خذوا زينتكـم عند كل مسجدٍ... زينة الرجال السلاح... الجنوب رأس حربـةٍ ضد «إسرائيل» وقاعدةٌ لتحرير الأرض المقدسة»، في هذا المهرجان تقاطرت الوفود منذ الصباح لتلبيـة دعوة نائب صيدا السابق السيد معروف سعـد، حيث استقبل الصيداويُّون الإمام الصدر على مدخـل صيدا الشمالي رغـم هطول الأمطار، واقتصر الوجود الرسمي على دراجتين من فصيلة صيدا سارتا أمام الموكب، وتولى شباب التنظيم الناصري تأمين السير على الطرق والمحافظة على النظام.
3. مهرجان صور(46):
وبتاريخ 5/ أيار / 1974 فتحت مدينة صور أبوابها للزحف البشري الذي قلَّما شهـد لبنان مثله، حيث وصلت الوفود من مختلف مناطق الجنوب والبقـاع وبيروت وضواحيهـا، وفي هذا المهرجان حـذَّر الإمام الصدر من الأخطـار التي تهـدد المنطقـة والجنوب بقوله: «العدو يتربص بنا والمنطقـة على أبواب الإنفجار، ونحن لا ندري ماذا يجري وراء الكواليس الدولية في شأن الجنوب، وهناك أخطارٌ على الجنوب في المستويات الدولية، أنا لا أقبل أن أكون عزيزاً ويكون وطني ذليلاً، وأنا لا أقبل أن تهتك الطائرات «الإسرائيلية» أجواء بيروت وكل المناطق اللبنانية...»
إعلان الإمام الصدر ولادة أفواج المقاومة اللبنانية - أمل:
بتاريخ 5 / 7 / 1975 انفجر لغمٌ مضادٌ بمجموعـةٍ من الشباب في حقل تدريبٍ في منطقة عين البنيِّة - بعلبك، حيث كانوا يتدربـون على الألغام المضادة للدبابـات بإشراف مدربٍ من المقاومة الفلسطينية، وفي اليوم التالي عقد الإمام السيد موسى الصدر مؤتمراً صحافياً ليعلن عن ولادة أفواج المقاومة اللبنانية - أمـل، وأبرز ما جاء في مؤتمره(47):
«في غمرة الآلام المبرِّحة، وبكل اعتزازٍ أنعي إلى المواطنين عموماً، وإلى أبنـاء الجنوب الصامد خصوصاً، نخبةً من الشبان اللبنانيين استشهدوا... هذه الباقة الحمراء من أزهار الفتوة والفداء هم الطلائع من أفواج المقاومة اللبنانية «أمل »، الذين لبُّوا نـداء الوطن الجريح، الذي تستمر «إسرائيل» في الإعتداء عليه من كل جانبٍ وبكل وسيلةٍ.
إنَّهم استجابوا لله وللرسول عندما دعاهم لما يحييهم ولما يحمي الوطن ويصون كرامة الأمة، تلك الدعوة التي وجهتها إلى اللبنانيين جميعاً في احتفالات ذكرى سيـد الشهداء في عاشوراء السنة الماضية وفي الكلية العاملية، في الأيام التي بلغت الإعتداءات «الإسرائيليـة» على الجنوب ذروتها ومنتهى قسوتها، ولم تقم السلطات المسؤولة آنذاك بواجبهـا الدفاعي عن الوطن وعن المواطنين.
إنَّ هؤلاء الشباب أرادوا أن يثبتوا أنَّ الوطنيـة ليست شعاراتٍ ولا أرباحـاً ومكاسبَ ولا متاعاً للمساومة وللعرض والطلب، بل إنَّ الوطن هو أبعاد وجود الإنسان وأساس كرامته ومجال رسالته، تجب حمايته بالأرواح والدماء حتى مع عدم التكافـؤ في القوى، ويجب التهيؤ لذلك بسرعةٍ. إنَّهم اتخذوا من موقف الحسين سلوكاً، والتحقوا بقافلته ووضعوا أنفسهم قرباناً للحق والعدل، إنَّهم أرادوا أن يثبتوا أنَّ مكان السلاح في الجنوب وليس في بيروت وضواحيها. فشقُّوا بجهادهم الصامت من دون إعلامٍ طريق التضحيات الوطنيـة ووضعوا الأمور في نصابها الصحيح.
إنَّهم أكدوا ضرورة توجيه الأسلحة، كل الأسلحة، إلى صدور العدو، وأن لا خلاص من الفتنة الداخلية والحرب الأهلية إلا إذا توجـه المسلحـون إلى الجنوب، وإلا إذا نُقلَت المتاريس والحواجز والأسلحة الخفيفة والثقيلة إلى الحدود.
لذلك فقد انتقمت منهم «إسرائيل» ولهم الشرف بذلك، فأصبحت إذاعتها بعد ساعةٍ فقط من الحادثـة تقهقه وتشمت، وتحرِّض وتبالغ وتشجِّع عملاءها في كل مكانٍ... وخرقت طائراتها جدار الصوت فوق مكان الحادثة.
لكن هذه المحاولات لم تكن ولن تكون يومـاً سبباً لتراجع المجاهدين الشرفاء، ولا لترددهم في الإستمرار على الطريق، وقد كتبوا بدمهم ساعة الإستشهاد على ورقة «كونوا مؤمنين حسينيين»، وأصرَّ الجرحى في المستشفيات على العودة فوراً إلى المخيم لمتابعة التدريب، وأعلن ذوو الشهداء رضاهم عما كتب الله لهم، صابرين محتسبين لتقديم مزيدٍ من التضحيات.
دوافع إنشاء المقاومة اللبنانية - أمل:
إنَّ حادثـة عين البنيِّة في 5 / 7 / 1975، وخروج مشروع الإمام الصدر بإنشاء حركةٍ عسكريةٍ إلى العلن، أماط اللثام عن عدة أمورٍ كان الإمام الصدر يشعر بوجودها داخل لبنان، ويشعر بالخطر الذي قـد تتعرض له وحدة الوطن، والطائفة الشيعية، فالإمام الصدر الذي لم يكن مؤمناً أصلاً ببناء قوىً عسكريةٍ جديدةٍ، كان يعتقد أنَّ أيَّ قوةٍ عسكريـةٍ قد ساهمت في هـدم لبنان، ولن يسمح للمحرومين بأن يكـون لهم دورٌ في ذلك، إلا أنَّ متغيراتٍ عديدةً ساهمت في إيمان الإمام، بضرورة قيام هذه الحركة العسكرية لأخذ المبادرة في الجنوب، حيث الخطر «الإسرائيلي» اليومي، وابتعاد السلطة اللبنانيـة عن القيام بواجباتها في الدفاع عن المواطنين اللبنانيين الجنوبيين.
أما المسألـة الثانيـة التي كانت ظاهـرةً إلى العلن في ذلك العام، أي السنة 1975 فهي «انتشار السلاح والتعبئة النفسية «في مختلف المناطق اللبنانيـة، وبالمقابل فإنَّ الدولة اللبنانية، ظهرت عاجزةً تماماً أمام أي فلتانٍ أمنيٍّ داخليٍّ، وبالتالي عاجزةً عن الدفاع عن المواطن اللبناني، ومؤسساتها بدأت تتحول إلى مشاعٍ سيتقاسمه الجميع».
وقـد أظهر الإمام الصدر هذا الأمر بوضوحٍ، من خلال مؤتمـرٍ صحفيٍّ نُشِر في الصحف اللبنانية، بتاريخ 11/ 9 / 1975، مبيِّناً أن الجميع كان على علمٍ بحركة أمل، «وأنَّ المقاومة اللبنانية ناديت بها منذ عشر سنواتٍ، وأعلنت عنها منذ سنةٍ وسبعة أشهرٍ، في يوم عاشوراء يوم العزاء العظيم، وطلبت من سكان الجنوب أن يتسلحوا ويتدربوا، وبعدها بأربعين يوماً ناشدت أهالي بعلبك أن يفعلوا ذلك أيضاً، وأن يقفوا إلى جانب أهل الجنوب، يساعدونهم في هذا وذاك، ولما امتنع المسؤولون عن سماع الشكوى، رغم كل النداءات والتوجيهات والضغوط، وتركوا الجنوب سائباً وابن الجنوب مرتعشاً أمام الاعتداءات «الإسرائيلية» المتكررة والمتزايـدة، ورأيت فعلاً أنَّ المواطن الجنوبي مهددٌ بالموت أو النزوح أو المهانة، التي لا تقلُّ ذلاً عن الحياة، شجَّعت شباناً مؤمنين بالله وبالوطن على التدريب، وقـد علم بذلك رجال السلطة الكبار، وكبار رجال القوى المسلحة في لبنان بوسائلهم الخاصة، ولم يكن غرض الإعلان عن هذه المقاومة اللبنانية سوى المواقف العملية، وعلى غرار ما حصل في الطيبة وكفركلا. إلا أنَّ الفاجعة قد كشفت نفسها وفرضت عليَّ الإعلان.(48)
حركة أمل وأفواج المقاومة اللبنانية (أمل):
هل نبلغ شاطىء الأمان الإجتماعي مع التخلي عن الدفـاع عن الأرض في وجه الأعداء، والأمثلة ساطعـةٌ عندما كان الأمن الإجتماعي يُقايَض بالتخلي عن الدفاع عن الأرض (قوة لبنان في ضعفه).
إنَّ الإمام السيد موسى الصدر واجـه المشكلات في لبنان بشكلٍ موضوعيٍّ ومتكاملٍ في مواجهـة العدوان والتصدي للحرمان، ثنائيـةٌ كانت تحكم خطاب الإمام الصدر كنموذجٍ في عملية التغيير الإجتماعي ومحاربة العدوان وإزالة الحرمان.
وكانت اللقاءات والخطب والمهرجانـات، وتأسيس أفواج المقاومة اللبنانية-أمل لمواجهة الإعتداءات «الإسرائيلية» كضمانـةٍ لتشكيل شبكـة أمـانٍ للذين أستبيحت أرضهم وممتلكاتهم وأهرقت دماء أبنائهم، وكانت حركة المحرومين كحركةٍ إيمانيةٍ غير طائفيةٍ أو مذهبيةٍ، بل مطلبية من أجـل المحرومين في لبنان لأي طائفـة انتموا، لذلك وضع الدراسات وجنـد الطاقات، وأضف أنَّ هذا السياق في صلب موضوع التغيير الإجتماعي للإنتقال من «قوة لبنان في ضعفـه» إلى «قوة لبنان في مقاومته»، وهذا السياق في صلب موضوع التغيير الإجتماعي إذا لاحظنا النشاط الذي اضطلع بـه الإمام الصدر ومن معـه في مسيرة حركة أمـل، من الدراسات إلى أوراق العمل إلى المطالب بإزالـة الحرمان، ومطالبـة الدولة الغائبـة لتكون حاضرةً في إطار عملية التنمية مستنِداً إلى تقاريـر ودراساتٍ من بعثة أرفد(49) إلى سواهـا من الدراسات، أليست مطالبـة الدولـة بالقيام بواجبهـا هي إطـارٌ مناسبٌ لعمليـة التغيير الإجتماعي؟ أليست المهرجانات الحاشدة في بعلبك وصيدا وصور وسواهـا بمثابـة صفعـةٍ للذين تجاهلوا مطالب الفقراء والمحرومين من جميع الطوائف وفي جميع المناطق ليستفيقـوا من غفلتهم، ليكونوا أمناء على مصالح كافة شرائح المجتمع «أيها الحكام اعدلوا قبل أن تبحثوا عن وطنكـم في مجاهل التاريخ».
إنَّ الحراك الذي نشهده في العالم عبر تحرك شرائح المجتمع والذي أودى بحكامٍ أليس هو في صلب موضوع التغيير الإجتماعي، حيث حاول الحكـام سـد الباب أمـام التطور الإجتماعي معتمدين على قاعـدةٍ مارسها الطغاة في التاريخ، أنَّ تجهيل المجتمع واستدامـة الفقـر ضمانةٌ لإستمرار حكمهم، فكان تكديس الثروات بدل التنميـة، والإهتمـام بخواص الدائرة الصغرى من الحكام بدل الوصول إلى معاناة المعذبين والفقراء والمقهورين.
وأيضاً وأيضاً الإمام السيد موسى الصدر أنموذجـاً في عمليـة استنهاض المجتمع والتغيير الإجتماعي عبر الشروع بتأمين مؤسساتٍ إجتماعيـةٍ هادفـةٍ تنفيـذاً لقناعاتـه الراسخة أنَّ خدمـة الإنسان هي المعبِّر الحقيقي عن الإيمـان بالله، وهي التي تصلنـا بالله، فكان الإهتمام بالمؤسسات الإجتماعية التي تُعنَى بالمرأة والرجل والطفـل والشاب والكهـل والشيخ الكبير وعلى مستويـاتٍ مختلفـةٍ، من بيت الفتاة إلى معهـد الدراسات الإسلاميـة في صور، إلى مؤسسة جبل عامل المهنيـة في البرج الشمالي، إلى مؤسسة الزهراء في بيروت، إلى مبرة الإمام الخوئي من قبلها في صفير، إلى مشاريع أمَّن لها الأراضي الشاسعة من البقاع إلى بيروت والساحل إلى الجنوب، هذه المؤسسات كان لها الدور والأثـر الكبير في عمليـة التحول المجتمعـي عبر بلسمة العديد من الجراح، وإن كان للمؤسسات التي ذكرنا من دورٍ واضحٍ على مستوى معالجة بعض الحالات الإجتماعية والتربويـة والثقافيـة، فلا ننسى مستشفى الزهـراء والعديد من المستوصفات، هذه المؤسسات الإجتماعية كانت بمثابـة الأساس والمثال الذي دفع بالعديـد من المهتمين أن يقتفوا الأثـر بـل منهم من تابـع، وهذه المؤسسات أدت دوراً كبيراً على المستويات الصحيـة والتربويـة والإجتماعية،كمؤسسات أمـل التربويـة التي استمرت على درب الإمام السيد موسى الصدر قدوةً واقتـداءً، وكان لي شرف الإشراف على بنائهـا وإدارتهـا بتوجيـهٍ من دولـة الرئيس الأخ الأستـاذ نبيــه بـري، وهـي الآن عشر مؤسسـاتٍ تضم ثلاثة عشر ألف طالبٍ على مساحة وطننـا لبنان، إضافـةً إلى مؤسساتٍ صحيـةٍ وإجتماعيـةٍ أخرى في إطار حركة أمـل وكشافة الرسالة الإسلامية، كل ذلك تيمناً برؤية الإمام الصدر، ومؤسسة جبل عامل المهنية التابعة لجمعية البر والإحسان التي رأسها الإمام الصدر المثال في إطلاق هذه المشاريع، وكذلك هناك جمعياتٌ أخرى لها طول باعٍ في العمل الإجتماعي، وساهمت في عمليـة التغيير الإجتماعي.كل هذه الإنجازات، وأمـام عطاء الإمام الصدر ورؤيتـه الصائبـة، يشجع المهتمين على مراجعـة هذا الرصيد الرافـد لقضايـا الإنسان في عملية التبادل الإجتماعي والتغيير كدورٍ فاعلٍ للمؤسسات في هذا الاطار.
وليس غريبـاً إن كان الإنسان هو الهدف، وذلك لأنَّ الإنسان في نظـر الإمام الصدر يشكِّل موضوعاً أساسياً للدين والعلم والتشريع والطب والأدب والفن.
موقف الإمام السيد موسى الصدر من الأحداث والفتنة التي عصفت بلبنان(50):
حرص الإمام السيد موسى الصدر على توحيد الصف الوطني الداخلـي لمواجهـة العصر «الإسرائيلي»، كما حرص على أن يكون الدور الفاعل لجميع الطوائف في لبنان لمواجهـة الخطر «الإسرائيلي» الذي يستهدف الإسلام والمسيحية على حدٍ سواءٍ، فلقد نبـَّه إلى مـدى الضرر الفادح الذي ستلحقه الحرب اللبنانية الداخلية بمستقبل لبنان، إضافةً إلى تداعياتٍ أقلها سقوط شعار لبنان للتعايش بطوائفه، ولذلك أعلن أنَّ إطفـاء الفتنة الداخلية في لبنان هو أفضل وجـوه الحرب مع العدو «الإسرائيلي»، لذلك دعـى إلى الحوار وإيقـاف الحملات المسعورة لتأجيج الفتنـة، رافضاً عزل الكتائب ومتصدياً لكل محاولات التهجير الهادفـة لخلق مناطق نقيةٍ حسب رغبـة البعض، وكان يعتبر أن تسعير نار الفتنة الداخلية في لبنان هو وجهٌ «إسرائيلي» بشعٌ، مقدمـةً لسيادة العصر «الإسرائيلي»، لذلك رفض الحرب الداخليـة واعتصم في مسجد الصفا في الكلية العاملية بتاريخ 27/6/1975، وعلى مقربـةٍ من خطوط إطلاق النار كسابقةٍ سياسيةٍ جديدةٍ في الحياة السياسية اللبنانية، والسبب كمـا قال: «طوال يـوم أمس وليله كنت أتلقى شكاوى الرجال وأسمع بكاء الأرامـل واليتامـى، وعلى الرغم من أني سعيت جهدي ولم أذق طعم النوم، وبما أنَّ القصف لم يهدأ، والأوضاع تزداد سوءاً قررت أن أعتصم..(51) وجئت أُصلِّي إلى الله أن ينقذ هذا الوطن»، ولكنَّ الإمام وكي يتمكن من التفرغ لمعالجـة الآلام والمحن المتزايـدة وبخاصةٍ مـا يحصل في البقاع، قـال الإمام:«سأنتقل إليها عندمـا أخرج من المسجد، أترك الإعتصام وأودع المسجد كـي أنتقـل مع رفاقي إلى مسجد الوطن، حيث يُؤدَّى واجبنا في حفظ الوطن وأبنائه».
دور الإمام في إطفاء نار الفتنة:
وفي اليوم الثاني لفكِّ اعتصامه في 3/7/1975 توجَّـه الإمام الصدر إلى البقاع، على إثر الحوادث التي وقعت في بلدات القاع ودير الأحمر وشليفا المسيحية(52)، والتي أدت إلى مقتل سبعةٍ من أهاليها وأربعـةٍ من المهاجمين، ولحثِّ مطران بعلبك ونواحيهـا للروم الكاثوليك إلياس الزغبي على عدم الإستقالة ومغادرة المدينة نتيجةً للأحداث.
وترأَّس الإمام لقاءً بهذا الخصوص في بعلبك، ثم انتقل إلى ديـر الأحمر، حيث كان له إستقبالٌ شعبيٌّ لافتٌ من أهاليها، بعد أن وعدهم بزيارتهم عندما كان معتصماً في مسجد الصفا، حيث أطلق نداءه الشهير: «إنني أقول لكم إنَّ كل طلقةٍ تطلق على دير الأحمر أو القاع أو شليفا.. إنمـا تطلق على بيتي وعلى قلبي وعلى أولادي»، ثـم خاطب أهالي تلك البلـدات قائلاً: «وسأتوجه إليكم في وقتٍ قريبٍ».
وانتقل بعدهـا الإمام الصدر إلى الكرك أحـد أحيـاء زحلة، حيث أكَّد على معاني المحبة والتعايش بين الجميع، ثم إلى مقر الطائفة الكاثوليكية في زحلة. ثم أكمل الإمام الصدر جولته في البقاع فزار «سعدنايل» وبعلبك، وعرسال والعين والهرمل، والقاع واللبوة والنبي شيت وبريتال.
وحول الحوادث التي وقعت، قال الإمام الصدر: «إنَّ معلوماتي واسعةٌ عن هذه المنطقة، وتجاربي المتكررة قبل الأحداث، وما شاهدته خلال اليومين الأخيرين، تؤكد أنَّ ما حدث فيها كان موجةً عابـرةً فُرضَت عليها نتيجةً لبعض الممارسات السياسية في بيروت، وهو بعيدٌ كل البعد عن قناعات أبنائها وتقاليدهم، وحتى عن مشاعرهم وعواطفهم... لقد استدرجوا بعض شباب هذه المنطقة الذين يتمتعون بشجاعـةٍ وقوةٍ، ولكنهم بعيدون كل البعـد عن النزاعات الحاقدة، لقد استدرجوهم واستثمروا شكيمتهم وبأسهم لغايات سياسةٍ خبيثةٍ، فانعكس ذلك على المنطقة سلباً.. إنَّ البقاع كان قلعة الوحدة الوطنية والبطولات، وسيبقى قلعةً بطلةً لخدمة لبنان والقضايا العربية المصيرية».
وفي 6/7/1975، وبعد جولةٍ طويلةٍ للإمام الصدر في البقاع اللبناني، نقلت جريدة النهار أنَّ الوضع في مناطق بعلبك والهرمل قد عاد إلى طبيعته بفضل الجهود التي بذلها الإمام الصدر.
إنَّ أمهات الكتب تزخـر بمواقف الإمام الصدر الوطنية ومساعيـه الجبارة لترسيخ العيش الإسلامي المسيحـي، والشهـادات من رؤساء مدنيين وروحيين ومسؤولين حزبيين وإجتماعيين كثيرةٌ لا يمكن استيعابها في هذه العجالة، ولكنَّ السؤال الذي يبقى، ماذا لو لم يقم الإمام الصدر بهذا الدور الريادي؟ ماذا لو لم يطفىء نار الفتنة الداخلية؟ ماذا لـو لم يطفىء نار شليفا ودير الأحمر والقاع والرويسات؟ ماذا لو لم يشجِّع الإمام على العودة إلى النبعـة في ظروف الحرب الفتنة عام 1976؟.
الإمام الصدر في مواجهة الصهيونية ودعمه للقضية الفلسطينية:
إنَّ احتلال فلسطين من وجهة نظر الإمام هو اعتداءٌ على كل عربيٍّ، بل كل حرٍّ في العالم، وهو اعتداءٌ على المسيحية والإسلام باحتلال المقدسات وتدنيسها، بل حذَّر من المخاطر التي تجاوز احتلال الأرض إلى احتلال العقول مُطلَقاً بذلك التهويد الفكري والثقافي، وصولاً إلى سيطرة العصر «الإسرائيلي» الذي تسود فيه المصالح الذاتيـة والخاصة على المصلحـة العامة، والذي تُهزَم فيه المجتمعات مقدمةً لهزيمة الأوطان، وكان الإمام يردد أنَّ «إسرائيل» لم تنتصر لأنها تمتلك مقوِّمات النصر، بل لأنَّ الأنظمة والمجتمعات انتكبت بمقوِّمات الهزيمة، إذ يقول الإمام: إنَّ تفرُّق العرب قادهم للهزيمة في الخامس من حزيران عام 67، ذلك بأنهم كانوا يحاربون متفرقين بينما «إسرائيل» تحارب كأمةٍ،(53) لذلك اعتبر الإمام أن لا خلاص للأمة مما تعانيه من حال الترنح إلا باعتماد قاعـدة أنَّ فلسطين هي المكوِّن الجمعي للعرب والمسلمين والأحرار فيها، فيقول أعاده الله: «إنَّ معركتنا مع العدو ذات وجوهٍ كثيرةٍ، فهي معركـةٌ حضاريـةٌ طويلـة الأمد متعددة الجهات، وطنيةٌ قوميةٌ دينيةٌ، إنَّها معركة الماضي والمستقبل».
ويخلص الإمام، إلى أنَّ مهمة خدمة القدس البعيدة المحتلة واجبـةٌ علينا كمهمة خدمة الجنوب الذي ما زال أمامنا وعلى أرضه نعيش.
إنَّ الإمام يعتقد أنَّ تخلي المسلم عن القدس هو بمثابة التخلي عن الدين، وأنَّ اقتناء السلاح لقتال «إسرائيل» بمثابة حمل الإنجيل والقرآن في بيوتنا وقلوبنا.
وأخيراً في هذا الإطار فإنَّ اهتمام الإمام بهذه القضية دفعه لتحمُّلهـا إلى الأجيـال المعاصرة والواعدة، بإدراج بندٍ خاصٍ في ميثاق حركة أمـل ليشكِّل إطاراً حاكماً على المستوى الثقافي والسياسي والعسكري بانطلاقةٍ إيمانيـةٍ رساليةٍ وقـد جاء في الميثاق: «وفلسطين، الأرض المقدسة، التي تعرضت ولم تـزل لجميع أنواع الظلم، هي في قلب حركتنا وعقلها وإنَّ السعي لتحريرها أولى واجباتها، وإنَّ الوقوف إلى جانب شعبها وصيانة مقاومته والتلاحم معها شرف الحركة وإيمانها. سيما وأنَّ الصهيونية تشكل الخطر الفعلي والمستقبلي على لبنان وعلى القيم التي نؤمن بها وعلى الإنسانية جمعاء، وإنَّها ترى في لبنان بتعايش الطوائف فيه تحدياً دائماً لها ومنافساً قوياً لكيانها»(54).
إنَّ تحرك الإمام لم يكن نظريـاً بل جاء على شكل اداءٍ علميٍّ بدأ في ساحات المواجهة كما ذكرنا، من بنت جبيل إلى الطيبة إلى مواقع المقاومة في الجنوب والبقاع وبيروت، وعام 1982 لم تكن معركة خلدة التي خاضها أبطال أفواج المقاومة اللبنانية - أمل إلا خير تعبيرٍ عن الإلتزام بالفكر الذي بثَّه مؤسس المقاومة ومفجر ثورتها الإمام المغيب السيد موسى الصدر، والقافلة تطول... ويستمرُّ الإمام في المطالبة بتحصين الجنوب والدفاع عن المقاومة وعن فلسطين، وهذا ما يكمله رئيس حركة أمـل دولة الرئيس الأخ الأستاذ نبيـه بـري في إطار التنمية والتحرير على رأس حركة أمل.
إخفاء الإمام الصدر وأخويه الشيخ محمد يعقوب والصحافي السيد عباس بدر الدين:
- الإجتياح «الإسرائيلي»:
وتبلغ ذروة تحرك الإمام الصدر، مع بدء العدوان «الإسرائيلي» في آذار 1978 على جنوب لبنان، فيوجِّه النداء تلو النداء إلى مختلف القوى يحثُّهم على التحرك، للوقوف في وجه المؤامرة التي تُحـاك على الشعب اللبناني، وبدأت الزيارات الشخصية التي قـام بها إلى بعض عواصم القرار العربي وبالأخص دمشق والرياض(55).
وقد أثمرت هذه التحركات، إذ دفعت بالعالم العربي إلى الضغط على مجلس الأمـن لإصدار القرار الدولي رقم 425، والذي فتح الطريق أمام وصول قوات الطوارىء الدولية إلى جنوب لبنان، لمراقبة تطبيق الإتفاق الدولي، الذي يلزم العـدو «الإسرائيلي» بالخروج من المناطق التي سيطر عليها.
لقد حمَّل الإمام الصدر العالم العربي مسؤولية الرد على هذا العدوان، ودعاهم إلى أن يقوموا بدورهم لا «أن يتركوا أبناء الجنوب بعد كل التضحيـات وحدهم يحملون مسؤوليات أكبر قضيةٍ في عصرنا أمام أخطر عدوٍّ في التاريخ».
- 1978:
قام بجولةٍ عربيـةٍ على عددٍ من الرؤساء العرب إثر الإجتياح «الإسرائيلي» للبنان، حيث وصل وأخواه فضيلة الشيخ محمد يعقوب والأستاذ السيد عباس بدر الدين إلى طرابلس - ليبيا في 25 آب تلبيةً لدعوةٍ رسميـةٍ من سلطاتها العليا، وانقطـع الإتصال بهم هناك اعتبـاراً من ظهر 31 آب وحتى اليوم.
إدَّعت ليبيا أنَّ ضيوفها تركوا الأراضي الليبية متجهين إلى إيطاليا، كذَّب كلا القضاءين الإيطالي واللبناني هذا الإدِّعـاء بعد تحقيقاتٍ مطوَّلةٍ، ونفيا دخول أيٍّ من الثلاثة موانىء إيطاليا البحرية والبرية والجوية(56).
خلاصة:
إنَّ الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين والإمام المغيَّب السيد موسى الصدر لإن جمعهما وحدة المعتقد والرؤيا والإلتزام بالقضايا المقدسة، فإنهما واجها ظروفاً قاسيةً وصعبةً، عانيا من ظلم العدو وتواني الصديق عن نصرتهما، بل كانا عرضةً لإعتداءٍ نال من شخصهما وعائلاتهما، فالسيد عبد الحسين شرف الدين أُحرِقت داره في صور ومنزلـه في شحور، ولاقى من المستعمِر الفرنسي ما لاقى من حملاتٍ ماديةٍ ومعنويةٍ مستعينين بعملاء الداخل.
أسَّس المسجـد فعارضوه، استقطع أرضاً من أراضي الدولة بموافقـة السلطان محمد رشاد فعارضوه، أسَّس نادي الإمام الصادق فعارضوه، أسَّس المدرسة الجعفريـة فعارضوه، أسَّس مدرسة الزهراء فعارضوه، وأسَّس جمعية البر والإحسان فعارضوه.
والإمام السيد موسى الصدر، لاقى صنوف المواجهـة والحملات المضلِّلة من قبل القاصي والداني، كِيلَت له الإتهامات بهتاناً وزوراً، تصدَّى بصدره متحمِّلاً عمـق الجراح التي تحفر في القلب، حتى صور حُرِّمت عليه، وقال قائلٌ: سأخلق في كل بلـدٌ إمـاماً وهو على منبر الإمام شرف الدين، أُوذي، نُكِّل بأصحابه وإخوانه لأنـَّه تصدَّى للحرب الفتنـة، داعياً للتفرِّغ للأعداء وإطفاء النار الداخليـة في لبنان أفضل وجوه الحرب مع «إسرائيل»، حوصر في منزلٍ في فردان، إعتُديَ على أولاده، أُطلِقت النار على طائرةٍ كان يستقلُّها لرأب الصدع الداخلي، سُخِّرت صحفٌ لبثَّ الشائعات حوله، وبالتالي كان يصفعهم بكلمة الحق: «سأبقى القلم الذي لا يغرف إلا من حبر الحقيقة مهما كانت مرة»، و«لا أحد يحدِّد لي دوري، دوري محدَّدٌ من الله والوطن».
«إنَّ شرف القدس يأبى أن يتحرَّر إلا على أيدي المؤمنين الشرفاء».
وبالتالي، لم نشهد قضيةً في التاريخ تمَّ التستر عليها كقضية إخفاء الإمام السيد موسى الصدر وأخويه، الذين أخفاهم المجرم المقبـور مُعمَّر القذافي، وهم أحياءٌ ينتظرون الأخذ بيدهم لتحريرهم من سجنهم في ليبيا ليعودوا إلى ساحة جهادهم. يحضرني الحديث الشريف:
«العَالمونَ كلهم هالكون إلا العالِمون، والعالِمون كلهم هالكون إلا العاملِون، والعامِلون كلهم هالكون إلا المخلصون، والمخلصون لهم في خطرٍ شديدٍ»
سيدي الإمام:
شوقنـا لمضارعة فعلك وإنَّا لفاعلون.
[1](1) رئيس مجلس الأمناء في تجمع العلماء المسلمين.
(2) عضو هيئة الرئاسة في حركة أمل
المصادر
Institut de Recherches et de Formation En vue du Développement
الدكتور السيد إبراهيم الموسوي[1]
الدور الإعلامي من خلال المؤرِّخ
(الشيخان سليمان ضاهر وأحمد رضا) نموذجاً
على الرغم من أنَّ علم الصحافة، بما هو أحد الفروع المعرفية البالغة الأهمية في علم الإعلام، لم يكن في عشرينات القرن الماضي قد تطوَّر وتبلور على النحو الذي نعرفه اليوم، فإنَّ ما عهده الذين عاشوا في ذلك الزمن وخبروه إلى درجة المهنية والتمرس الهائل والمعرفة العميقة بشؤون اللغة وتطويعها، جعلهم في موقع القدرة بل الريادة على إيصال صورة الحدث راقيةً وافيةً لكل من أراد إلى المعرفة سبيلاً، وإلى الإحاطة بحقائق الأمور ووقائعها نهجاً..
هذا ما يتبدَّى في غاية الوضوح من خلال متابعة ما كتبه الشيخان سليمان ضاهر وأحمد رضا حول مؤتمر وادي الحجير قبل 92 عاماً. إنَّ من يتوفر على قراءةٍ متأنِّيةٍ لنص الشيخين يجد فيها كل المرتكزات والعناصر لتغطيةٍ إعلاميةٍ دقيقةٍ وموضوعيةٍ لمجريات الحدث الكبير.
صحيحٌ أنَّ كتابة كلٍّ منهما حول الحدث قد حفلت بالوصف التفصيلي والعبارات الإنشائية، غير أنَّ ذلك لا يمكن اعتباره نقصاً أو مبالغةً، لأنه كان يتفق مع ما درج عليه أهل التعبير والكتابة في ذلك الزمان.
إنَّ مراجعةً سريعةً لمجموعةٍ من الأخبار التي وثَّقها الشيخ أحمد رضا تكشف عن مهارةٍ عاليةٍ في الصياغة، واستحضارٍ لأركان الخبر لناحية الإجابة عن الأسئلة الأساسية التي تشكِّل أركان الخبر، وهي: ماذا، لماذا، أين، كيف، متى..). بالإضافة إلى استخدام العبارات والمصطلحات التي تتفق مع طبيعة الخبر وتوجُّهه. وإذا كان الصحافي هو مؤرخ اللحظة بحسب «ألبير كامو»، فإنَّ شيخينا يعتبران مِنَ الطليعيين في إنشاء الخبر وكتابته، والفيض على ناصيته، والإمساك بلحظته والإحتفاظ بها في صِيَغٍ قشيبةٍ جذَّابةٍ، فيها من الجدة والإبداع ما يجعلك تعيش الأحداث بعد مضي سنواتٍ طويلةٍ على حدوثها، وكأنها تترى أمام ناظريك فصولاً ومشاهدَ، أحداثاً ومواقفَ.
على أنَّ الأهم في ما تقدم ليس في اشتمال كتابة الشيخين على العناصر الفنية والتقنية التي تؤدي غرض إيصال الخبر كاملاً لمن لم يكن حاضراً، بل إنَّ الأكثر أهميةً هو في القدرة على مَوضَعة الحدث في قالبَيه الزمني والمكاني وتَبيأَته جيوبوليتيكياً، من خلال استنطاق الأحداث المحيطة وقراءة سياقها، والتطورات المحيطة في الإقليم ككلٍّ، بل وفي محاولة قراءة واستشراف تداعياته على القضية العربية الإسلامية برمتها.
سؤال الهوية
ومن المهم أيضاً الإشارة بوضوحٍ كاملٍ إلى أنَّ سؤال الهوية كان من أكثر الأسئلة إلحاحاً وتمثلاً في ذهنَي الشيخين، وهذا أكثر من طبيعيٍّ في زمن الإستعمار والإنتداب، واستعار حمَّى الإحتلال والإستعمار والإضطهاد. ذلك أن الإنتداب البريطاني في فلسطين، والإنتداب الفرنسي في لبنان عملا جاهدين من أجل طمس الهوية العربية الإسلامية، وحاولا اجتثاث جذور هذه الهوية من خلال محاولات الفرنجة والتغريب. ففلسفة الإحتلال الغربي للمنطقة العربية الإسلامية، لم تقم على الركن المادي الفعلي فقط، بل تعدته إلى محاولة اختراق نسيج مجتمعاتنا وبنيتها الفكرية وموروثها الحضاري في محاولةٍ يائسةٍ من أجل التأثير على المنطقة ومصيرها من خلال حملاتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ مبرمجةٍ.
لذلك فإن حاضرة جبل عامل وبلاد الشام زخرت في تلك المرحلة بالعديد من النشاطات الفكرية والثقافية التي قادها علماء الدين، وكان من روادها الشيخان سليمان ضاهر وأحمد رضا. وكان لافتاً جداً الجهد البارز لهما في التركيز على التأليف المتنوِّع بما يغذِّي الثقافة العربية الإسلامية في منابعها، وعلى رأسها موضوع اللغة الذي نال قسطه الوافر من الإهتمام في اللغة، نحواً وبلاغةً وأدباً، شعراً ونثراً ومعاجم.
التعددية، والحفاظ على الوحدة الوطنية:
على أنَّ الأهم في كل ما تقدم، وهو ما يمكن ملاحظته حتى وقتنا الحاضر، أنَّ المؤامرات الغربية واستهدافاتها تكاد تكون هي هي منذ ذلك الزمن، وسبل مكافحتها والتحذير منها كانت حاضرةً بقوةٍ في خطاب العلماء وقادة تلك المرحلة، إذ إن الغرب حاول أن يزرع بذور الشقاق والفتنة بين المسلمين والمسيحيين، ونجح في استغلال البعض من ضعاف النفوس، فعمل هؤلاء على ممارسة التعديات والتحريض على الفتنة الطائفية، فكان أن تصدى لهم علماء الدين، وعلى رأسهم السيد عبد الحسين شرف الدين، وصدرت المواقف الشرعية والسياسية التي أكَّدت على التعايش الإسلامي المسيحي وضمانة ذلك وحمايته، وعدم تحميل المسيحيين تبعة ما يقوم به البعض ممن يتعاونون مع سلطات الإنتداب. ومن يلاحظ الشعارات والمواقف التي أُطلِقت خلال الخطب علم مدى الوعي الذي تجلَّى به علماء تلك المرحلة. ففي جزءٍ من خطبة السيد عبد الحسين شرف الدين في وادي الحجير جاء:«يا فتيان المغاوير: الدين النصيحة، ألا أدلُّكم على أمرٍ إن فعلتموه انتصرتم؟. فوِّتوا على الدخيل الغاصب برباطة الجأش فرصته، وأخمدوا فتنته، فإنه واللهِ ما سـلَّح فريقاً على آخر إلا ليثير الفتنة الطائفية ويشعل الحرب الأهلية، حتى إذا صدق زعمه، وتحقق حلمه، استقرَّ في البلاد بحجة حماية الأقلِّيات.
وفي مكانٍ آخر من الخطبة: «ألا وإن النصارى إخوانكم في الله وفي الدين وفي المصير، فأحبوا لهم ما تحبونه لأنفسكم، حافظوا على أرواحهم وأموالهم كما تحافظون على أرواحكم وأموالكم، وبذلك تحبطون المؤامرة، وتخمدون الفتنة، وتطبِّقون تعاليم دينكم، وسـنّة نبيكم».
وهكذا نرى أن الوعي السياسي العميق بحجم التآمر الفرنسي الغربي، جعل القادة المسلمين الشيعة في تلك المرحلة متنبِّهين إلى خطورة ما يُحاك ضدهم، فقاموا بالإجراءات الكفيلة بفضح تلك المؤامرات وإحباطها.
لقد كان الشيخان الكبيران من الأوائل الذين تمتعوا بمزايا ومناقبَ كبيرةٍ. فالشيخ أحمد رضا لم يكن مؤرِّخاً فحسب، بل كان أيضاً أديباً ولغوياً وشاعراً ومفكراً وناشطاً، وهذه جردةٌ سريعةٌ بأبرز محطات حياته ونشاطاته وإنجازاته:
الشيخ أحمد رضا:
ولد في النبطية 4/6/1872 م.
1878 درس القرآن وفي سنة 1880 رحل إلى أنصار وتعلَّم على يد العلامة الشيخ حسن إبراهيم.
مثّل بلاده في عدة مؤتمراتٍ سياسيةٍ وأدبيةٍ منها: مؤتمر الوحدة السورية، مؤتمر الساحل، مؤتمر بلودان، المؤتمر الإسلامي العام في القدس، انتخب عضواً فخرياً بلجنة دار الكتب في المسجد الأقصى، وشارك في أعمال مؤتمر بيت مري الثقافي الذي عقدته جامعة الدول العربية.
مؤلفاته:
توفي ليلة السابع من تموز 1953 م.
أما المؤرِّخ الشيخ سليمان ضاهر
من مناضلي الإنتداب الفرنسي بعد الحرب العامة، وخلال قيام الحكم العربي الفيصلي في دمشق والصراع مع الفرنسيين ارتبط وهو في النبطية بدار الإعتماد العربي في بيروت، وله تقارير سياسيةٌ مهمةٌ، منها تقريرٌ واقعٌ في 60 صفحةً يتعلق بجبل عامل، نظّمه باقتراح صديقه الشاب يوسف العظمة، ويعتبر مجدِّد طريقة الشعر في جبل عامل.
مؤلفاته:
[1] مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله.
الدكتور مصطفى بزي[1]
الظروف التي ساهمت في انعقاد مؤتمر الحجير
إنَّ الأحداث المتلاحقة التي شهدتها منطقة جبل عامل، خلال الأشهر الأولى من العام 1920، وخاصةً الأحداث التي حصلت خلال شهري آذار ونيسان، شكَّلت الأرضية الأساسية، والقاعدة العملية للأحداث الخطيرة التي حصلت في فترةٍ لاحقةٍ، بعد منتصف نيسان وأوائل أيار، وإنَّ المتتبِّع لمجريات الأمور التي كانت تجري على الساحة العاملية وقتها، يلاحظ أمراً مهماً، كان يجري وراء الكواليس بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية، حيث كان هناك صراعٌ خفيٌّ وجوهريٌّ بين القوتين الإستعماريتين الدوليتين على تقاسم النفوذ في المنطقة، ولأن نطاق عمل المجموعات المسلحة الوطنية (التي كانت تسمى في تلك الفترة عصابات، وهي جماعاتٌ وطنيةٌ مسلحةٌ كانت تقف في وجه الفرنسيين، ولا خير في إطلاق هذه التسمية عليها أبداً)، كان في المنطقة التي تسيطر عليها فرنسا، والتي ستدخل لاحقاً ضمن مناطق نفوذها، فإنَّ بريطانيا كانت تسهِّل ضمناً عمل الفرق المسلحة العربية وتدعمها، هذه الفرق التي كانت تستهدف المصالح الفرنسية، وأعوان الفرنسيين والموالين لهم، وقد بلغت مساعدات بريطانيا لهذه الفرق حدَ السماح بإيصال الأسلحة والذخائر والمدرِّبين إليها، كما أنها سهَّلت لهم عمليات الفرار من وجه الحملات الفرنسية، ودخول أرض الحولة، وفي كل وقتٍ، كما أمَّنت لهم في مناطقها كلَّ عونٍ ماديٍّ ومعنويٍّ، والمتتبِّع لأخبار زعماء هذه المجموعات وأفرادها، يجد أن صادق الحمزة كان يتوجَّه باستمرارٍ إلى فلسطين، وتحديداً إلى الحولة، حين كانت تطارده السلطات الفرنسية، وهكذا أيضاً بالنسبة لمحمود أحمد بَزِّي وأفراد مجموعته، الذين كانوا يتخذون من بعض القرى الفلسطينية الشمالية أماكن تجمُّعٍ لهم وانطلاقٍ، وكانت أرض الحولة باستمرارٍ مكاناً للجوء الفرق المسلَّحة، ولم يحدث مرةً أن حصل أيُّ اصطدامٍ مسلَّحٍ بين رجال هذه الفرق من جهةٍ، والدوريات الإنكليزية على الحدود، أو داخل فلسطين من جهةٍ أخرى.
«طبعاً إنَّ كل هذه الممارسات التي كان يقوم بها الإنكليز، لم تكن تعبيراً عن قبول الإنكليز لهذه الفرق وقناعتها بها، وأنما كانت الغاية ضد فرنسا ومصالحها في المنطقة ليس إلا، ولا شك أنَّ بريطانيا أرادت بعد الحرب توسيع رقعة حصتها المقرَّرة في الإتفاقيات على حساب الحصَّة الفرنسية، يحدوها إلى ذلك طمعٌ وجشعٌ، تمثَّل كلُّه في قولها لفرنسا:«أطلقي يدي في الموصل أطلق يدك في سوريا»(1)
إذن المسألة كانت في غاية الوضوح، المصالح الخاصة للدول هي التي تحدِّد بالنتيجة سياستها، فلا صداقاتٍ دائمةٌ، ولا عداواتٍ دائمةٌ، وإنما مصالح دائمةٌ، هذه هي القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات بين الدول منذ القديم وحتى اليوم، والدلائل على ذلك ماثلةٌ أمام الأعين، أما في منطقة جبل عامل، حيث نجد الحدود اللبنانية متداخلةً مع فلسطين تداخلاً واضحاً، وخاصةً بين منطقتي الجليل الأعلى والحولة، ومع سوريا أيضاً في منطقتي الجولان وجبل الشيخ، فقد شاءت بريطانيا أن يكون لها جزءٌ من أراضي جبل عامل، فتضمُّه إلى فلسطين، منطقة نفوذها، وذلك قبل صدور قرار الإنتداب، من أجل ذلك عملت بريطانيا على تنشيط الحركات العسكرية العربية المعادية لفرنسا في هذه المنطقة، فسهَّلت بذلك العمل العسكري ضد الفرنسين ومن يؤيدهم.
بالمقابل فإنَّ فرنسا، كانت تخشى هي الأخرى على مصالحها، وكانت تقف لبريطانيا بالمرصاد، خاصةً فيما يتعلَّق بمحاولتها تعديل الإتفاقيات الحاصلة بينهما، ولذلك فإنها كانت تعمل وبعجلةٍ من أمرها، لإصدار قرارٍ في عصبة الأمم لتكريس الإنتداب، ولذلك فمن الواضح أنَّ فرنسا ساعدت بشكلٍ مباشرٍ أوغير مباشرٍ في انتشار الفوضى والرعب في المنطقة وداخل القرى، وهي التي زرعت بذور الفتنة بين العامليين من مختلف الطوائف، وحرَّضتهم على أعمال القتل والإعتداء، لتُظهِر للعالم أجمع، أنَّ هذه المنطقة تعمُّها الفوضى والحرب الطائفية، وأنَّ دماءً تُسفَك، وأبرياء يُقتَلون، ليكون ذلك مبرِّراً لها لدخول المنطقة، بحجة حماية المواطنين، وحسم الأمر قبل أن يُفلِت الوضع من يدها، ولا شكَّ أنَّ استمرار هجمات المجموعات الوطنية المسلحة على حدود المنطقة الغربية قد «أثارت نقمة السلطة الفرنسية على الحكومة السورية وعلى مليكها، رغم توقيعه مع كليمنصو رئيس الوزارة الفرنسية الإتفاق على مصير سورية»(2).
إنَّ هذه الممارسات الفرنسية لم تكن خافيةً على أحدٍ، وفي هذا السياق يذكر بعض أبناء منطقة مرجعيون أنَّ فرنسا أحضرت إلى تلك المنطقة أكثر من مئتي شابٍ، وسلَّحتهم بالقوة وقالت لهم:«عليكم الدفاع عن أنفسكم في وجه الشيعة، الذين يريدون مقاتلتكم»، كما أنها لم تستجب للوفود التي ذهبت من المنطقة الغربية (جبل عامل)، إلى صور لمقابلة المسؤولين العسكريين الفرنسيين، طلباً للحماية، وكان الجواب أن لا قدرة للفرنسين في تأمين هذه الحماية، لأنَّ الفرنسيين يذهبون إلى عرض البحر، تفادياً لهجمات الثوار، في محاولةٍ لإقناع المسيحيين بضرورة حماية أنفسهم، والدفاع عن مناطقهم، ليكون ذلك مدخلاً إلى صراعٍ مذهبيٍّ وطائفيٍّ في المنطقة تستفيد منه فرنسا، وعلى هذا الأساس، فإنَّ فرنسا كانت مسؤولةً مسؤوليةً كاملةً عما جرى في المنطقة من حوادث طائفيةٍ، لأنَّ ما حصل، لم يكن ليحدث لو لم تُحمِّس فرنسا بعض مؤيديها، وتُسلِّحهم بحجة الدفاع عن أنفسهم، فقط لتوجد المبرِّر العملي لها، لتنفيذ مخططها الذي تريده في المنطقة.
هذا الواقع كان يؤكِّده بعض المسؤولين الفرنسيين أنفسهم، الذين كانوا يؤكِّدون أنَّ الغرض الأهم من كل ما حدث كان المصلحة الفرنسية، قبل كلِّ شيءٍ.
بالمقابل فإنَّ الحكومة الفرنسية الرسمية، كانت تُحمِّل الحكومة العربية المسؤولية الأولى عن أعمال المجموعات المسلحة، ويظهر ذلك من كلام الجنرال غورو، الذي يقول إنَّ» حكومة دمشق هي التي وضعت مبدأ تنظيم العصابات، واستخدامها ضد الجنود الفرنسيين». ثم أورد الجنرال ما كان يعلنه قائد الفرقة الثالثة في حلب، يوم 13 نيسان 1920 فقال: «لما كنا لا نستطيع أن نعلن الحرب رسمياً على الفرنسيين، يجب أن نملأ البلاد بالعصابات، التي تُجهِز عليهم تدريجياً، وسيقود ضباطنا هذه العصابات... وإذا استشهد أحدهم فستعيل الحكومة عائلته»(3).
وحاول الجنرال غورو التأثير على زعماء جبل عامل، بهدف الضغط عليهم للعمل «لدفع شرِّ هذه العصابات حتى لا يستغلَّها الثائرون»(4)، فكان جواب كامل الأسعد له: «أنَّ حفظ الأمن ودفع الغارات من أهم واجبات أبناء هذا الجبل، وهذا الخلق متمكِّنٌ منهم، وإنَّ وجود بضعة أشخاصٍ من العصابات ليس معناه أنَّ البلاد مشتركةٌ معهم».
أسباب إنعقاد مؤتمر الحجير:
مما تقدم نلاحظ أنَّ المنطقة كانت تعيش فترة غليانٍ واضحٍ، وأنَّ قوىً مؤثِّرةً كثيرةً كان لها تأثيرها على ما يجري، ولأنَّ الوضع كان حرجاً للغاية، فلا بدَّ أن يكون هناك موقفٌ صريحٌ وواضحٌ تجاه جملةٍ من القضايا الأساسية، مثل الموقف من الحركة العربية في دمشق، ومن مقررات المؤتمر السوري، وتجاه الوضع الأمني في المنطقة، وتردي الحالة العامة وخاصةً الإقتصادية، وبشكلٍ خاصٍّ الزراعية، لأنها المصدر المعيشي الأساسي للمواطنين، وكذلك الموقف من الإحتلال الفرنسي الذي تم بقالب الإنتداب.
هذه الأمور جميعها، شكَّلت الأرضية اللازمة لحدوث تحركٍ لهم في المنطقة، يتناغم ويتماشى مع ما كان يُخطَّط له في سوريا أيضاً، بفعل تلازم الوضع السياسي بين المنطقتين وهذه مسألةٌ تاريخيةٌ، لا يمكن القفز فوقها أو تغييبها.
من هذه الأمور المهمة والجوهرية:
نوايا الحكومة العربية في دمشق
إنَّ الحكومة العربية في دمشق كان يهمُّها أن «تُبقي لها منفذاً على البحر، لذلك كان يهمُّها أن يكون جبل عامل ضمنها، ومن هنا كان اهتمام حكومة دمشق بهذه المنطقة والتركيز عليها، ومن هنا احتمال قيام غزوٍ سوريٍّ بقيادة علي خلقي للمنطقة»،(5)ويذكر الشيخ أحمد رضا في مذكراته أنه «وفد على كامل الأسعد كلٌّ من أحمد مريود وأسعد العاصي، لمعرفة رأي جبل عامل في الثورة»،(5)وكانت الحكومة العربية تأمل في ترسيخ موقف جبل عامل المؤيِّد لها، وأن يكون هذا التأييد عملياً وفعلياً، ومتوافقاً مع المواقف السابقة لجبل عامل، أثناء مشاركته بالمؤتمر السوري، وموقفه المعلَن أمام لجنة كنغ- كراين الأمريكية، وأثناء ذهاب الوفد العاملي إلى سوريا لإعلان البيعة للأمير فيصل بالُملك، ولذلك كان التركيز على معرفة موقف جبل عامل النهائي من مسألة العلاقة مع الحكومة العربية في دمشق.
والظاهر كما هو واضحٌ، أنَّ الحكومة العربية شعرت بأنه هناك بعض التذبذب في مواقف بعض الزعماء العامليين، وأنَّ بعضهم لم يكن قد حسم موقفه نهائياً من مسألة العلاقة مع الحكومة العربية، خاصةً وأنَّ الفرنسيين، كانوا قد بنوا جسوراً عديدةً مع بعض الزعماء، آملين عن طريق الإغراءات، استمالة أكبر عددٍ من هؤلاء إلى جانبهم، وكانت العلاقات بين زعماء المنطقة وقادة العصابات الوطنية، قد وصلت إلى درجةٍ حساسةٍ، خاصةً بعد أن قويت عزيمة العصابات، واشتد ساعدها ضد السلطة الفرنسية ومؤيديها في المنطقة، مما جعل الزعامات العاملية تخاف على مصيرها ومستقبلها، وتصبح في موقفٍ حرجٍ، فإن هي أيَّدت العصابات - رغماً عنها بالطبع - فإنَّ ذلك يفقدها سيطرتها على الوضع في المنطقة ويغضب الفرنسيين، خاصةً وأنَّ بعض الزعماء العامليين كان يدرك نتيجة ما ستؤول إليه الأمور، وأنَّ الفرنسيين سيدخلون المنطقة حتماً، وهكذا بقيت العلاقات بين زعماء المنطقة من جهةٍ، وقادة العصابات من جهةٍ أخرى، غير محسومةٍ تماماً، وهي عرضةٌ للتغيير والتبدل باستمرارٍ، بل وأنَّ تناقضاً واضحاً برز أحياناً في هذه العلاقات، مما كان له أثرٌ كبيرٌ في مجريات الأحداث، خاصةً بعد مؤتمر الحجير، وفي ما وصلت إليه الأمور من أحداثٍ مأساويةٍ في المنطقة(6).
موقف السلطة الفرنسية:
مقابل تركيز الحكومة العربية في دمشق على معرفة موقف جبل عامل منها، بشكلٍ صريحٍ وواضحٍ، لا لُبسَ فيه، كانت السلطة الفرنسية المنتدبة هي الأخرى، تحاول انتزاع موقفٍ عامليٍّ يتناقض مع المواقف المعروفة لجبل عامل - بتأييده العلاقة مع سوريا وحكومتها العربية - موقفٍ آخر يؤيِّد وجهة نظر فرنسا بضم جبل عامل إلى لبنان الكبير، ليشكِّل هذا الموقف ورقةً ضاغطةً على المؤتمرين في سان ريمو، حيث سيعقد المؤتمر هناك في العاشر من نيسان 1920، وتشير جريدة البشير إلى أنه» قدم الثغر وفدٌ مؤَّلفٌ من ثلاثٍ وخمسين ذاتٍ، من وجوه وعلماء جبل عامل، تحت رئاسة كامل بك الأسعد، واستأذنوا لمقابلة القائد العام الجنرال غورو، فأذِن لهم واستقبلهم، وقد تكلَّم عبد الحسين شرف الدين، فذكر للقائد العام ميله إلى الدولة الفرنسية، وأطرى على ما امتازت به هذه الدولة من العدالة والحرية، وما لها من الفضل على الإنسانية إلى غير ذلك(7)، ويقول الشيخ أحمد رضا، في هذا العدد معلِّقاً على زيارة هذا الوفد: «الغريب أنَّ الذين وقَّعوا العريضتين (معروضاً لمؤتمر الصلح في باريس، ومعروضاً للجنرال غورو، يتضمن إلحاق جبل عامل بلبنان)، كان بعضهم بالأمس القريب، يوقِّع على عكسها ويرسلها بواسطة الأمير فيصل إلى مؤتمر السلام»(8).
محاولة دخول المنطقة بالقوة
في الفترة التي ازدادت فيها أعمال الفرق المسلَّحة والمناهضة للفرنسيين في المنطقة، وكثرت فيها محاولات الفرنسيين لاستمالة بعض الزعماء لجانبهم، وزيادة ممارساتهم ضد المناوئين وتصاعد هجمات الثوار على الحاميات الفرنسية، وعلى القرى المسيحية خاصةً، فإنَّ استعداداتٍ كانت تجري خارج المنطقة لدخولها بشكلٍ فعليٍّ، وهذا سببٌ مهِمٌّ وجوهريٌّ لانعقاد المؤتمر، حيث تذكر جريدة البشير أنه «حضر إلى كامل بك الأسعد وفدٌ من عرب البادية وحكومة الشام، يطلبون منه أن لا يتعارضهم أحدٌ في احتلال منطقة الساحل، فجمع كامل بك الأسعد وجوه البلاد والعلماء ورؤساء العشائر في وادي الحجير»(9).
ويؤكِّد الشيخ أحمد رضا في هذا المجال أنَّ «حكومة دمشق أرسلت موفدَين إلى جبل عامل هما أحمد مريود وأسعد العاصي، بهدف مقابلة كامل بك الأسعد، وأنذراه بإتخاذ موقفٍ صريحٍ من الموضوع، فإما أن يكون معنا، فليستعد للثورة، وإما أن لا يفعل ذلك، فيكون علينا، ويكون لنا وله شأنٌ»(10)، وهذا الكلام يوضح بشكلٍ لا غبار عليه، أن شكوكاً كانت تراود الحكومة العربية في موقف الزعماء العامليين، أو بعضهم على الأقل، ومن المحتمل أن يكون قد وردتها أخبارٌ أو معلوماتٌ، تشير إلى تذبذبٍ في مواقف بعض الزعامات، التي تنتظر وجهة الرياح فتسير معها، وهذا ما حصل بالفعل، فصحيحٌ أنَّ «جبل عامل لم يندمج في الكيان اللبناني الجديد وهذا من الناحية الشعبية الإقتصادية - الإجتماعية، لكن لم تمضِ فترةٌ قصيرةٌ، إلا وكان الوجهاء أوَّل الداخلين في الدولة الجديدة، حتى أنهم أظهروا في ذلك بعض الحماسة مدفوعين بالطبع بدافع المنافسة لا بدافع العقائد السياسية، وهكذا تقدَّم فضل الفضل ويوسف الزين إلى منصب مدير النبطية، منذ شهر آب 1920، وبعد ذلك بشهرٍ سعى يوسف الزين لنيل منصب المتصرِّف في صيدا، وحاول رشيد عسيران أن يُعيَّن عضواً في المجلس الإداري»(11).
وقد شرع معظم الوجهاء والعامليين، بإظهار المشاعر المؤيِّدة للفرنسيين والإنتداب. وتأكيداً على الإنذار الذي يتحدث عنه البعض، يقول السيد عبد الحسين شرف الدين إنَّ» الدعوة أتت لكامل بك الأسعد من قبل رؤساء عشائر الفضل، عبر رسلهم إليه، وكانت هذه العشائر تسكن في المنطقة الشرقية، وقد حمل هؤلاء له رسائل الثورة، ويدعونه إلى خوض المعركة، ويخيرونه بين اثنتين: «إما أن ينضم إليهم جبل عامل فيكون حرباً على فرنسا، وإما أن يعتزل، فيكون غَرَضَاً لحربهم قبل فرنسا، ولم يجد هذا البلوغ استعداداً من كامل بك الأسعد، لأنه لم يكن مهيأً له، فاستمهل الرسل، وحمَّلهم إلى أصحابهم رسالته، بأنه ليس المنفرد بالرأي في «عاملة»، دون العلماء من أولي الشأن، ودون الزعماء الذين لهم كلمتهم ولهم أتباعهم، فلا بُدَّ من أَجَلٍ يضربه لميعادٍ يجتمع فيه العلماء والوجهاء ويبحثون هذه القضية، على ضوء التفكير والتأمل، وهكذا كان»(12).
هناك من يُلطِّف في لهجة الطلب من جبل عامل، ولا يسوق الأمر بسياق الإنذارات، وإنما عبر رسائل أُرسِلت إلى كلٍّ من المناطق لتعلن موقفها، وتُطالَب بتحديدٍ واضحٍ من القضية، حيث ذكر أنه وصلت رسالةٌ من قائمقام حاصبيا «محمد عز الدين الحلبي» إلى كامل بك الأسعد جاء فيها «أنه قد تقرَّر الإحتفال بملكنا المعظَّم فيصل ملكاً على سورية، يوم الإثنين 8 آذار، فأعلِنوا ذلك في جبل عامل ليقيموا المهرجانات ويشتركوا في هذا الإحتفال، برفع الأعلام العربية ذات الألوان الأربعة، في وسط اللون الأحمر نجمةٌ ذات سبعة أشعة»(13).
وحول نفس الموضوع، يشير الشيخ سليمان ضاهر، إلى أنَّ «المناداة بملكية فيصل لم تَرُق للفرنسيين، فكان من ذلك رواج سوق الدعايات من هنا وهناك، وكانت المفاوضات من قبل بعض أعيان وادي التيم والعرقوب، والجولان في سوريا، وغيرهم، مع كامل بك في تقرير مصير جبل عامل، وفي ما يجب عمله بالإتفاق مع السوريين، فتقرَّر بالإتفاق مع كامل بك الأسعد والوفود التي كانت تراجعه المرة بعد المرة، أن يعقد كامل بك الأسعد مؤتمراً عاملياً، يضم علماء جبل عامل وأعيانه ووجهاءه وذوي الرأي فيه»(14).
الأمن وحماية المسيحيين
هنا يشير الشيخ سليمان ضاهر إلى أهدافٍ أخرى، جعلت كامل الأسعد يدعو إلى عقد المؤتمر، فلأنه لا يريد أن يتخذ موقفاً منفرداً، وهو يحرص على مشاركة أعيان البلاد، من علماء ووجهاء في ذلك، فإنه دعا إلى عقد المؤتمر، إنما «لتقريرالمصير أولاً، ولوضع حدٍّ لتعدي العصابات الشامل، الذي تألَّم منه المسلم الشيعي قبل المسيحي ثانياً، ولوقاية إخوانهم المسيحيين من شر الإعتداء ثالثاً»(15). وهكذا فإنَّ الشيخ سليمان ضاهر، يوسِّع لائحة الأهداف التي من أجلها عقد المؤتمر، وهي بالتالي-وبرأيه-الأسباب الأساسية لعقده، وهذا ما برز من خلال مساره ونتائجه.
بدوره السيد عبد الحسين شرف الدين، لا يُغفِل الناحية الأمنية، التي يعتبرها أحد الأسباب لانعقاد المؤتمر، ويقول:«أضف إلى هذه الحيرة أنَّ سياسة البلاد المضطربة كانت تدعوهم للإجتماع وللنظر في تقرير مصيرهم، على نحوٍ تطمئِّن إليه الجماعة القلقة»(16).
إنَّ ما يلفت النظر، وقريباً من السياق الذي قدَّمه الشيخ سليمان ضاهر، في استهداف المناطق الشيعية مثل المناطق المسيحية، ما أورده محمد جابر آل صفا من اعتباره أنَّ أسباب إنعقاد المؤتمر هي «استفحال الثوار، واستياء العقلاء في البلاد من هذه الأحوال، فعمل كامل بك الأسعد على دعوة العلماء والأعيان لعقد مؤتمرٍ عامليٍّ من أبناء الشيعة»(17). دون أن يذكر أيَّ سببٍ جوهريٍّ آخر لعقده خاصةً فيما يتعلَّق بالإتصالات التي أجرتها القيادات الوطنية في سوريا، وقيادات المنطقة الشرقية بزعماء جبل عامل، لمعرفة الموقف النهائي في تلك الفترة.
في المجال الأمني أيضاً أشاع الفرنسيون بواسطة مؤيديهم في المنطقة، أنَّ المقصود من عقد هذا المؤتمر التنكيل بالمسيحيين، ومن الواضح أنَّ هذا الأمر يشكِّل تحريضاً للمسيحيين للمجابهة والمواجهة، وحمل السلاح للدفاع عن النفس، ويذكر الشيخ أحمد رضا في هذا الخصوص أنَّ «الجنرال غورو قدَّم السلاح عن طريق الكولونيل «نيجر» إلى الأهالي المتعاونين معه في عين إبل ورميش والقليعة، وشجَّعهم على استفزاز جيرانهم، وأغراهم بالتحرِّش بمواطنيهم، فأخذوا بالإعتداء على أبناء السبيل والفقراء من الشيعة، وهم أكثرية السكان»(18)، مما أدَّى إلى ردة فعلٍ قويةٍ في المنطقة وحصول الحوادث الطائفية المؤسفة.
إنَّ ما أُشيع في تلك الفترة، وقبل انعقاد المؤتمر من أنَّ أحد السادة استخار خيرةً بالسُبَّحة لذبح المسيحيين وقتلهم، كما ورد في كتاب «ملوك العرب» لأمين الريحاني(19)، هو منافٍ للحقيقة تماماً، لأنه لا يوجد هناك عاقلٌ يقبل مِثل هذه الرواية، خاصةً أنها تتعلَّق بأحد السادة المعروفين، وهو الحريص كل الحرص على دماء المسيحيين في المنطقة قبل الشيعة، حتى بعض زعماء المنطقة، فإنهم كانوا حريصين على الإبقاء على أحسن العلاقات مع المسيحيين، وحمايتهم من أي أذىً، وهذا باعتراف مراسلة جريدة البشير في المنطقة، والتي تحدثت عن الغاية من عقد المؤتمر قائلةً: «في برهة 15 يوماً، عقد أكابر المتاولة اجتماعاً حضره رؤساء دينهم، وزعيمهم كامل بك الأسعد، فتشاءمنا من هذا الإجتماع، وحسبنا له ألف حسابٍ، وسألنا عن المقصود منه، فكان الجواب أنَّ غايته راحة البلاد واستتباب الأمن، وأكَّد ذلك الحاج محمد سعيد بك بَزِّي وإخوانه، وقالوا إنه إذا حدث شيءٌ افتديناكم بالأرواح»(20).
يظهر من خلال هذا الكلام، ومن المعلومات التي يسوقها كبار السن من الأشخاص الذين عاشوا في تلك الفترة، والتي تشير إلى علاقاتٍ ودِّيةٍ كانت تربط زعامات بنت جبيل خاصةً بمسيحيي المنطقة وبزعاماتها، وخاصةً في عين إبل ورميش صدَّق التطمينات التي كانت تُقدَّم، وعدم وجود أية نيةٍ مبيَّتةٍ للقيام بأي عملٍ عدوانيٍّ ضدهم.
هذا ويقول السيد عبد الحسين شرف الدين بهذا الشأن، وفي رده على التحريض المقصود، والذي من شأنه تشويه أهداف عقد المؤتمر، وحرفها عن الواقع الحقيقي، والكلام «بفتوى الجهاد «وغير ذلك:«شاء ذيول الفرنسيين من منافقي الأفندية والمتزعِّمين، أن يستغلوا هذا الحدث أسوأ استغلالٍ، فنسبوا إلينا فتوىً بجهاد النصارى، قالوا إنها كانت في مؤتمر الحجير، وكانت دعواهم هذه تحريفاً سيئاً لموقفنا المشهود في الحجير، وذهبوا بهذا التحريف المزوَّر يزجُّونه في آذان الحاكمين المستولين في غير ذمةٍ ولا دينٍ» وفي موقفه من الأحداث التي أعقبت المؤتمر، واعتبر أنها أساءت إلى أهدافه، قال:«وقد كان استياؤنا لهذه الكارثة (كارثة عين إبل) عظيماً، أزعجنا مظهرها الفوضوي البربري بقسوته التي لا تبيحها شريعتنا المقدَّسة، وأزعجنا أنها أساءت إلى خطتنا التي أعلناها في الحجير، من المحافظة على الأمن، والمبالغة في تأمين النصارى وسائر الأقلِّيات، وقد كانت هذه الكارثة من العراقيل التي أعاقتنا من الوصول إلى غايتنا من الإستقلال والتحرر، وهكذا كان للمستعمر ما أراده»(21).
النتيجة الأولية لعقد المؤتمر:
من خلال ما تقدَّم، نرى أنه كان في جبل عامل، عشية انعقاد مؤتمر وادي الحجير، زعاماتٌ سياسيةٌ متناقضةُ الأهداف والمصالح، ومتذبذِبةٌ في مواقفها، وهذا ما أشار إليه بوضوحٍ السيد عبد الحسين شرف الدين، حيث وصف بعض الزعماء بالمنافقين الذين يعملون لاستغلال الأوضاع لمصالحهم الخاصة الضيِّقة، وكان هناك أيضاً تيارٌ عروبيٌّ، تنضوي تحت لوائه بعض الشخصيات الوطنية، وبعض رجال الدين، وخاصةً السيد عبد الحسين شرف الدين ومشايخ النبطية، وتحديداً الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ضاهر وغيرهما، ولأنَّ معظم السياسين كانوا يحاولون أن تبقى الكلمة الفصل لهم، والسلطة بأيديهم، فإنهم كانوا يعملون جاهدين على جعل مواقفهم هي الحاسمة بالأمر، ويعتبر البعض «أنَّ صراعاً عنيفاً نشأ بين الزعماء والمفكِّرين، بسبب خوفهم على زعامتهم من الإنتقال إلى أولئك»(22).
لقد كان لدى بعض الزعماء والسياسين توجُّهٌ أن يقتصر دور رجال الدين على الحقل الديني والتوجيه الإجتماعي فقط، وعلى تغطية رجال السياسة، الذين لهم وحدهم الحق في التعاطي بالعمل السياسي وقيادة المجتمع. المهم أنَّ المؤتمر كان بمثابة تظاهرةٍ سياسةٍ كبيرةٍ، إذ حضره بالإضافة إلى كامل الأسعد، الذي دعا إلى المؤتمر وترأَّسه، عددٌ كبيرٌ من الزعماء والعلماء والأدباء والوجهاء في جبل عامل، وكذلك زعماء العصابات الوطنية، وقد عُقِد المؤتمر في ذلك المكان بالذات لعدة أسبابٍ منها:
أنَّ عقده في مركز ثقل أي زعيمٍ سياسيٍّ في جبل عامل، يعني تقوية الرصيد الشعبي لهذا الزعيم، في الوقت الذي كان فيه الصراع على الزعامة العاملية على أشدِّه.
الإبتعاد عن التأثير السياسي الذي يمكن أن يمارسه أي زعيمٍ، إذا عُقِد المؤتمر في منطقته.
«إنَّ زعماء العصابات هم الذين فرضوا عقد المؤتمر في ذلك المكان، الذي يخرج عن نطاق تواجد القوات الفرنسية، وقد حضر من زعماء العصابات صادق الحمزة فقط»(23) دون غيره من قادة العصابات، وهذا يتناقض مع ما يسوقه الآخرون.
من الواضح أنَّ دمشق كانت تنتظر نتائج المؤتمر وقراراته، ومن أجل ذلك، تم اختيار وفدٍ من السيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد عبد الحسين نور الدين، ليذهب إلى الشام، ويلتقي هناك بعلاَّمة الشيعة الأكبر السيد محسن الأمين، بهدف لقاء الملك فيصل، والتباحث معه باسم العامليين، وهكذا كان، مع العلم أنَّ مسألة اختيار الوفد وذهابه ومحادثاته أخذت الكثير من النقاشات.
[1] أستاذ في الجامعة اللبنانية وباحث.
المصادر
1. مسعود ضاهر:«تاريخ لبنان الإجتماعي 1914 - 1926» دار الفارابي، بيروت 1974 ص 30.
2. يوسف الحكيم: «سورية والعهد الفيصلي» ط2 دار النهار للنشر، بيروت 1980 ص 170.
3. زين نور الدين: الصراع الدولي في الشرق الأوسط، وولادة دولتي سوريا ولبنان، دار النهار للنشر بيروت 1971 ص 170.
4. أحمد رضا: «العرفان» م33 ج3 صفحات 473 - 472 .
5. أحمد رضا «مذكرات للتاريخ » العرفان م33 ج8 ص858.
6. منذر جابر:«مؤتمر الحجير وآثاره» رسالة كفاءة غير منشورة، كلية التربية، الجامعة اللبناية بيروت 1973.
7. (1)جريدة البشير 7 شباط 1920 ص2.
8. أحمد رضا «العرفان» م33 ج3 ص 257.
9. البشير 29 نيسان 1920 ص2.
10. أحمد رضا «العرفان» م33 ج9 ص989.
11. راجع وضاح شرارة:«الأمة القلقة، العامليون والعصبية العاملية على عتبة الدولة اللبنانية» دار النهار للنشر بيروت 1996
12.عبد الحسين شرف الدين: «صفحات من حياتي» مجلة العهد العدد الثالث، نيسان 1948، السنة الرابعة ص7 .
13. أحمد رضا «العرفان» م33 ج3 ص 733.
14.سليمان ضاهر:«جبل عامل في الحرب الكونية» ط1، دار المطبوعات الشرقية، بيروت 1968 ص71.
15. نفس المرجع .
16.عبد الحسين شرف الدين: «المرجع السابق» ص7 .
17. محمد جابر آل صفا: «تاريخ جبل عامل» دار متن اللغة، بيروت، لا تاريخ للنشر ص227.
18. نفس المرجع: ص227 نقلاً عن الشيخ أحمد صفا.
19. أمين الريحاني: «ملوك العرب» الجزء الثاني ط3، مطابع دار صادر ريحاني، بيروت 1951 ص 185.
20. مراسل جريدة البشير في عين إبل:«حوادث عين إبل» 18 أيار 1920 ص2 وكلمنتين خياط:«حوادث عين إبل» مجلة الشرق م 18 تشرين أول 1920 ص 722
21.عبد الحسين شرف الدين: «صفحات من حياتي» مجلة المعهد، العدد الرابع، آيار 1948 ص7.
22.منذر جابر: «المرجع السابق» ص84.
23.أحمد رضا: «مذكرات للتاريخ» العلافان م33 ج9 ص 988، راجع البشير أيضاً 29 نيسان 1920 ص3 لمحمد علي الحوماني في مجلة «العروبة» رسالة وجهها لسماحة السيد، عارضاً فيها لموقفه في الحجير، مراجع: المعهد، العدد الثالث، نيسان 1948.
الفهرس
صور المؤتمر
افتتاحية
الجلسة الأولى
الجلسة الثانية
على هامش المؤتمر
مقتطفات من الصحف
مقتطفات من الصحف