المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين

بيروت 2011م

الجزء الأول

المؤتمر الوحدوي الثالث

الكتاب:

المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين - بيروت 2011م

إصدار:

جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي

المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

تاريخ الإصدار:

بيروت 2011م - 1432 هـ

جميع حقوق الطبع محفوظة

المؤتمر الدولي
في فكر الشهيدين

بيروت 2011م

الجزء الأول

المؤتمر الوحدوي الثالث

ABES25.jpg

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين

لقد تسنى لنا، بتوفيق الله وعونه، إحياء ذكرى الشهيدين الكبيرين، الشيخ محمد بن مكي الجزيني المعروف بالشهيد الأول، والشيخ زين الدين الجباعي المعروف بالشهيد الثاني، من خلال عقد مؤتمر دولي، استضافته العاصمة اللبنانية، بيروت، على مدى أربعة أيام، كانت حافلة بالمداخلات العلمية النيّرة لعلماء وأكادميين وباحثين من مختلف دول العالمين العربي والإسلامي. وتركزت المساهمات على فكر الشهيدين التأسيسي في الفقه ونهجهما الوحدوي، ومنهجهما العلمي، والانجازات الفقهية والسلوكية والتربوية الأصيلة التي حققاها، ولا زالت درة العلوم الاسلامية في الحوزات العلمية حتى يومنا هذا، ابتداء من كتاب «اللمعة الدمشقية» (الشهيد الأول) وشرحها (الشهيد الثاني)، وليس انتهاء بكتاب «منية المريد». وتبقى سيرة حياة كل من العالمين الجليلين، على رغم قصرها نسبيًا، محطة مضيئة يستنير بها كل عالم عارف سالك، لأي مذهب انتمى، ومن أي نبع شرب.

ونحن إذ نضع بين أيديكم هذا السفر المتواضع، والذي أثرته سيرة الشهيدين وانتاجهما وحياتهما الحافلة، نسأل الله أن يوفقنا لكي نستزيد، نحن وجميع المؤمنين، ولا سيما طلبة العلم، من الغرف من بحور علمائنا، والارتواء بمعين عطائهم إلى يوم الدين، واعدين بمزيد من الانتاجات الفكرية والعلمية، التي تخلّد مسيرة علمائنا العاملين في لبنان، منذ مئات السنين حتى التاريخ المعاصر.

وإذ نشكر الجهات المشاركة في تنظيم هذا المؤتمر وهي:

نخص السادة المحققين الذين بذلوا جهودًا مضنية في جمع وتحقيق آثار الشهيدين العلمية، والتي بلغت خمسين مجلدًا: عشرون منها للشهيد الأول، وثلاثون للشهيد الثاني، الذي شرح معظم متون الأول. ويُقدر عاليًا للمركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية التابع لمركز التبليغات الإسلامي في قم، الدور الكبير والرعاية الكريمة، إذ أخذ على عاتقه إحياء تراث علماء الشيعة، بتوجيه ودعم سماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي(دام عزه).

ولا بد من التنويه بسماحة آية الله الشيخ محمد علي التسخيري، الأمين العام لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، الذي شارك شخصيًا في أعمال هذا المؤتمر، على الرغم من وضعه الصحي وانشغالاته الكثيرة، إذ شكّل وجوده معنا إطلالة مميزة على البعد الوحدوي للمؤتمر. كذلك لا بد من شكر خاص للسادة الباحثين الذين ساهموا من خلال ابحاثهم في الإطلالة الشاملة على الجوانب المتعددة من شخصية الشهيدين، سواء العلمية أم الفكرية ام التربوية أم السياسية، وبالأخص مشروع الوحدة الإسلامية التي نحن أحوج ما نكون إليها في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها منطقتنا العربية والإسلامية.

كذلك لا بد أن ألفت الى الجهود التي بذلت في إنجاز هذا المؤتمر من الإخوة الذين عملوا معنا طوال الوقت وأخص بالشكر سماحة السيد هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله، الذي واكب تفاصيل أعمال هذا المؤتمر، منذ لحظة التفكير به حتى النهاية.

مسؤول ملف إحياء تراث علماء الشيعة في حزب الله

المسؤول العلمي لمؤتمر الشهيدين

الشيخ حسن بغدادي

حفل الافتتاح

الإثنين 30 أيار 2011 – مجمع الإمام الصادق Q - طريق المطار - بيروت

برنامج الحفل

كلمة راعي المؤتمر

دولة الرئيس الأستاذ نبيه بري (*)

بداية اتوجه بالشكر الخالص للمركز العالي للعلوم والثقافة الاسلامية في قم، والمستشارية الثقافية للجمهورية الاسلامية الايرانية في لبنان، ولمجمع التقريب بين المذاهب الاسلامية، والمجمع العالمي لاهل البيتR، وجمعية الامام الصادق Q لاحياء التراث العلمائي، على انتباههم وتكريس جهودهم لاعداد هذا المؤتمر الدولي الفكري الثاني حول الشهيدين الاول والثاني، والشكر موصول بتكريمي لرعايتي هذا المؤتمر.[1]

ان انعقاد المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين الاول والثاني، رائدي الفقه والاصلاح والوحدة، يأتي في اللحظة الاسلامية الحاسمة تجاه ما يستهدف اقطارنا من توترات سياسية وعرقية وطائفية ومذهبية، يجري تصعيدها في محاولة لاخضاعنا الى فتنة تدخل كل بيت.

لذلك، فإنني من جهتي، سأكسب الوقت من اجل استلهام العبر من بعض الاضاءات على تاريخ ومواقف وحركة الشهيدين في اطار الوحدة الاسلامية، ومشروع التقريب عند الشهيد الاول ومشروع الوحدة الاسلامية عند الشهيدين.

لقد عاش كل من الشهيدين، في عصر مضطرب قلق على الصعد السياسية والاجتماعية، وكانت الفتن - تمامًا كما اليوم - تعصف من كل جانب. فقد كانت الدولة الاسلامية - على سعتها - ممزقة شر تمزق. ومن مفارقات الدهر آنذاك، صعود المماليك وتسرب الحملة الصليبية في اعقاب صد الاجتياح المغولي (كما في عصر الشهيد الاول)، وقد عكس هذا الواقع نفسه على الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي اضحت محكومة الى الاستبداد والظلم والقهر والتسلط، ووجود فتنة داخل مختلف الانماط المتعاقبة، من الايوبيين الى المماليك البرجية والشراكسة.

لقد كانت صورة المشهد على ما يقول الشهيد الثاني: «تقسم البال وتقلق الحال من تراكم امواج فتن واهوال».

لقد كان دأب الشهيدين- كل في عصره- نشر المعارف، والانتقال من مكان الى مكان من اجل الحوار الذي يقرب، واحتواء ردود الافعال والضغوطات، والتسامي على الالم الخاص لصالح الهموم العامة والكبرى.

لقد اسس الشهيدان لمدرسة عاملية علمية امتازت بخصائصها الفكرية والبيانية المميزة، إذ حوّلا معرفتهما وثقافتهما الى طريقة في الحياة، عبر ادراكهما تمامًا معاني فلسفة الانتشار التي اضحت جزءًا من المعتقد، والتي تزاوج بين حقول ثلاثة: الانسان والزمن والتراب. وهذه الحقول شكلت السلوك لمشروع مقاومة دائم للظلم او الانتداب او الاحتلال او الاستئثار، وكذلك عبر المام الشهيد الثاني العميق بالمباني الفقهية والاصولية عند المذاهب كافة.

لقد كرس الشهيدان مزايا انفرد بها جبل عامل، ابرزها انحيازه الى مبادىء الفكر. وأصبحت المعرفة عند العامليين تعبيرًا عن ارادة القول بقول معرفي آخر.

ان افكار ومباحث الشهيدين ادت الى ابتعاد العقل العاملي عن صيغة التجزئة والابتعاد عن المنطق الآحادي في التفكير، و إلى إدراك المصالح الموجهة للمعرفة كوسيلة لحفظ الذات. لذلك ارتبطنا - وهنا السر - بأرضنا ومجتمعنا اشد ارتباط.

لقد اسس الشهيدان للانتقال من فقه المقاصد، الى فقه القواعد والفوائد.

الحضور الكريم

في مجال حفظ الاسلام والوحدة، التزم الشهيدان المبدأ الاساسي القائم على التضحية بالذات من اجل الاسلام، انطلاقا من القاعدة الحسينية المشهورة: اذا كان دين محمد لا يستقم الا بقتلي فيا سيوف خذيني.

لقد قتل الشهيد الاول بالسيف ثم صلب ثم رجم ثم احرق.

اما الشهيد الثاني فإنه ترك جبل عامل، قاصدا حج بيت الله الحرام، وهناك استقر بمكة المكرمة فترة قضى اثناءها مناسك الحج، وحاور وشارك في مجالس اسلامية متعددة، وفي المذاكرة والمباحث العلمية، الى ان اخرج من المسجد الحرام في البلد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وآمنا، حيث أقام في بعض الدور. ثم في الطريق الى مركز السلطنة انقطعت اخباره، إذ قيل، لابعاد الشبهة عن السلطة السياسية، ان شخصا مجهولا او معروفا قتله. وذكرت مصادر أخرى، ان شيخنا قتل في اسطنبول بأمر من اعلى مراكز السلطنة العثمانية.

نقول: ان الاغتيال الرسمي للشهيدين، تم بتحريض من متطرفين لازالوا يتحكمون بالنظام الاسلامي الى اليـوم، وسلاحهم الفتنة.

اننا نقول ان القتل والاخفاء يقع على المؤمنين وعلى الوحدويين، والا لماذا استهدف الشهيدان؟ ولماذا احرق التسرب الغربي مكتبة العلامة الكبير السيد عبـد الحسين شرف الدين، بما تضم من مراجع تحفظ الوحدة الاسلامية؟ ولماذا تم تغييب الامام الصدر؟ اليس لأنهم دعاة تقريب ودعاة وحدة؟

لقد غامر الشهيدان بسلوك الطريق الى مروحة واسعة من الجولات في البلدان، وعقدا روابط وثيقة بالمراكز المذهبية السنية الكبرى في القاهرة واسطنبول، الى جانب المراكز المنتشرة في بلاد الشام، وكانا منفتحين لا بل كانا سنيين و شيعيين في آن معا.

لقد درسا الفقه على المذاهب الخمسة بطريقة مشوقة، حيث استعرضا الاراء الفقهية لدى ائمة المذاهب.

لقد اثبت الشهيد الثاني قدرة على التعايش مع المختلف بل التأثير فيه، وهو ينتقل بين العواصم والمدن من الشام الى القدس الى القاهرة الى مكة المكرمة الى العراق الى اسطنبول.

الحضور الكريم

بكلمة مختصرة، لقد كانت افراس المعرفة تركض في سهوب عقليهما، وكانت عيونهما ترى ابعد من زرقاء اليمامة، على الرغم من الحجب والظلام الشديد الذي كمم الحواس.

ومن منطلق معرفتهما ان فتنة الشرق القادمة، ستدخل كل بيت، وعن سابق اصرار وتصميم، افتديا الوحدة الاسلامية بحياتيهما. إذ إن كليهما كان يستطيع: الاول ان لا يذهب الى والي الشام وان يقتل بوسائل السلطة، وان يتمتع في جبال عاملة وبين اهله، والثاني كان يستطيع ان لا يسلك الطريق الى شهادته من جزين الى مكة المكرمة الى اسطنبول، ويمتنع عن الاستجابة الى دعوة الباب العالي.

ولكنهما - منفردين ومجتمعين - كانا الافقه والادق نظرا والابعد غورا والاكثر تحقيقا وتدقيقا، وهما بهذه الصفات سيجعلان الاسلام مهـددا والجيل الذي جاهد لتحريره بالمعرفة يقع تحت رحمة تعسف السلطة، وكل ما فعله احمد باشا الجزار من مجازر في ما بعد واغتيال للمعرفة واشعال لافران عكا بالكتب العاملية سيقع في عصريهما، وبذلك ستتغلب النار على الهشيم بدل ان تكون بردا وسلاما على ابراهيم وآل ابراهيم.

الاخوة الكرام

اليوم نعيش في عصر مماثل كما قلت يضغط دوليا على شعوبنا وتاريخنا وجغرافية اقطارنا، بمشروع الشرق الاوسط الكبير، وبأداته الفوضى البناءة وسياسته «فرق تسد».

اننا اليوم نعيش في عصر مماثل، عصر تحريض طائفي وتحريض مذهبي، ونشر الكراهية والتعصب.

لكأن التاريخ يعيد نفسه بصورة المهزلة، ولكأننا نعيش استتباعات العصر المملوكي والاجتياح المغولي، والاثار السلبية للغزوات الصليبية التي لاتزال تفتح باب الطامعين.

اننا نعيش في الزمن الاسرائيلي، الذي يجري فيه وعلى مساحة المكانين العربي والاسلامي، تبديد قوتنا وصرف ثرواتنا على الحماية ورهان أوطاننا.

ثم ها نحن نعيش ونرى كيف يجري التحكم بالنظام العربي عن بعد، بواسطة ريموت كونترول سياسي، وكيف تتم مخاطبة انماط السلطات العربية المختلفة وكأنهم طلاب اخطأوا الوقت في درس الحساب، فيطلب من بعضهم الاعتزال ومن بعضهم الاعتدال ومن بعضهم الاصلاح ومن بعضهم التغيير، ومن بعضهم الرحيل، والا فإن الفوضى ستستكمل حلقاتها وستأخذ شعوبنا وسلطاتها نحو مزيد من الانقسامات، بحيث يؤدي الامر الى النتيجة الوحيدة الممكنة وهي قسمة كل مواطن الى اثنين وجعله يواجه ذاته بذاته.

اننا ازاء ما يجري من تحركات دولية تستهدف منطقتنا، نبدي قلقنا على الفرصة الراهنة للتغيير نحو المستقبل. انها فرصة للتغيير، و لكن نبدي هذا القلق.

ان ما نلمسه حيث جرت وتجري التحركات الاحتجاجية، مساعي لاحباط امكانية تكوّن قوة المجتمع التي تستطيع فرض ارادتها في تكوين السلطة، وان ما يجري هو التلاعب بالوقت واضعاف قوى الثورة وتآكل الحماس لها في المجتمع، وتوقف عجلة الانتاج وتعطل المصالح وتوفير الوقت لعناصر ثورة مضادة، لترتيب صفوفها واطالة الفترة الانتقالية لتوفير فرصة كافية للتدخل الاجنبي.

وكرد للتصدي الإسرائيلي نقدم الثورة «الرسمية» في لبنان بعنوان ثورة الارز كأنموذج لما تقدم، فهي بالنتيجة اعادت لبنان قانونيا وعلى المستوى الديموقراطي ستين عاما الى الوراء، واستهلكت الاموال العامة وراكمت الديون على المستقبل، وامنت المناخات للمزيد من التدخل الاجنبي بحاضر ومستقبل لبنان. هذا هو سبب فشلها، لا مثلما عبر نتنياهو بعد لقائه في البيت الأبيض، و لا كما ورد في خطاب قيصر إسرائيل في كنيست الكونغرس، فهو ذهب لأميركا لتطيير حدود دولة فلسطين و لوضع حد لأوباما و نجح. على الأقل بعض مجالسنا النيابية و الشوروية تصفق لرؤساء أوطانها، و لكنها لا تقف 25 مرة في 39 دقيقة.

الكونغرس ايها السادة تجاوز الكنيست.

كما اننا ننبه الى ان التدخلات الاجنبية في حركة شعوب المنطقة، تموه نياتها ومقاصدها بعناوين حقوق الانسان والديموقراطية، بينما تسعى في الواقع الى تحقيق اهداف حرب السيطرة التي بدأتها بواسطة الاساطيل، والاحتلال للعراق وافغانستان.

الحضور الكريم

اننا ازاء ما يوصف بالربيع العربي، نؤكد حرصنا بصفة خاصة على ازدهار ربيع العودة الفلسطيني، ونجدد ترحيبنا في الوقت نفسه بالانتقال من مرحلة المصالحة الفلسطينية الى مرحلة اعادة بناء السلطة الوطنية الفلسطينية، واستعادة الشعب الفلسطيني لثقته بنفسه، وابتداع اساليب جديدة للتعبير و المقاومة بمواجهة الاحتلال.

اننا ونحن نقف في حضرة رائدي الاصلاح والتغيير، لا اريد ان اظهر كقليل الايمان بالتغيير، ولكني لا بد ان اؤكد ان التغيير لا يمكن ابدا ان يكون مهمة امبريالية بل مهمة وطنية خالصة.

إننا نضع ايدينا على قلوبنا ونحن نتطلع الى التصميم في ايقاع مصر في الفتنة الطائفية، والى الضغط على مستقبلها بالمياه لتفريغ ثورة شعبها واهداف هذه الثورة من مضمونها.

اننا نتمنى ان يتمكن شعب مصر من استكمال عبوره الى العصر العالمي الجديد للشعوب الحية والحرة، وان تتمكن القوات المسلحة المصرية، التي هي موطن القدرة في فكر الدولة واساسها، من حماية انجاز حركة الشباب التي استكملت حركة الوعي العربي واكملت ثورة الضباط الاحرار في يوليو 1952 بقيادة عبد الناصر.

اننا نتطلع كذلك الى الاتجاهات القلقة للمسألة اليمنية، التي نسأل الله ان تنتهي بإنتقال سلمي للسلطة، وان تكون الدماء اليمنية التي سالت في ساحات صنعاء والمدن اليمنية، كافية كثمن لوحدة وحرية اليمن والتطور الديموقراطي فيه.

اننا في نفس سياق الحمى السياسية نتطلع بقلق الى محاولة جعل البحرين نقطة انكسار في علاقات الجوار العربية - الايرانية، وبالتالي استدراج حرب خليج جديدة تأكل الاخضر واليابس.

اننا نعتقد ان ثمن الاصلاحات في اي بلد، وفي البحرين تحديدا على سبيل المثال، هو اقل من كلفة المواجهات، وتحريك القوات ووضع اي بلد تحت نظام حظر التجول او التجمع، آملين أن الاشقاء في البحرين سيتمكنون من تجاوز المحنة الحالية واعادة ترتيب بيتهم بشكل سلمي هادىء.

ومن البحرين الى ليبيا، فإننا نأمل ان ينتبه العرب الى ان الاستخدام الوحيد الباقي للنظام المجرم، هو استعمال رد فعله على الثورة لتدمير ليبيا وتدمير الجيش وسلاحه وغواصاته وسفنه، وهو الامر الذي سيحول هذا البلد العربي الى التزام لشركات اجنبية لاعادة بنائه وبناء الجيش وتسليحه، وطبعًا استمرار استغلال موارد ليبيا النفطية.

ثم ها نحن نتطلع الى محاولة وضع سورية تحت ضغط هجوم دبلوماسي غربي، مترافق مع حملة اعلامية مضللة ومظاهرات طيارة وحركة سلاح عابرة للحدود.

اننا مطمئنون الى ان جيش سورية يعرف واجباته الوطنية في حماية الحدود وحماية السلم الاجتماعي وتولي مسؤولية الامن، كما اننا مطمئنون ان لا تاريخ للصراع الطائفي او المذهبي في سورية، وأن ما شهدته سورية اعطى فرصة للسوريين لمناقشة مستقبل سورية، وفتح الباب لتحدٍ متمثل بحركة تصحيحية ثانية يقودها سيادة الرئيس د. بشار الاسد، تضع سورية في المستقبل، وتؤكد ان التغيير – فعلًا - لا يمكن ان يكون الا مهمة وطنية.

ثم ها نحن في لبنان يذهب العاشق منه ويأتي المشتاق، والهدف استخدام بلدنا كقاعدة ارتكاز لاسقاط سورية.

إن السلوك السياسي للبعض، ابرز ان هناك من يحاول قلب الجغرافيا، وخلق خط تماس مع سورية من جهة الشمال لاستكمال ارباك النظام العام فيه. علينا أن ننتبه وان نعي وان نذكر التاريخ، من حافظ على هذا البلد ومن احتله مرات و مرات ومن دمره مرات ومرات.

الحضور الكريم

يبقى اننا نلمس من خلال صورة المشهد السياسي الشرق اوسطي، استمرار السعي لاشعال توترات هنا وهناك، وصولاً الى محاولة ايقاع فتنة مذهبية.

نحن نؤكد ان الشيعة العرب، والشيعة اللبنانيين بصفة خاصة، لن يقعوا في هذا الفخ وهذا الكمين، على الرغم من أننا نرى ونلمس الوسائل المتبعة لجرهم الى مثل هذه الفتنة، بما في ذلك البحث عن شهيد ثالث يستدرج ردود افعال دموية هنا وهناك.

ان الشيعة لن يذهبوا الى حروب داخلية، ولن يقعوا في آتون حرب مذهبية اقليمية، وهذا امر ان شاء الله مؤكد، وهم سيكونون الاكثر مسؤولية في نزع عوامل التوتر، والالتزام بقاعدة: من كانت اسرائيل عدوه فهي عدو كاف.

إننا في لبنان سنكون الاكثر التزاما وتمسكا بالوحدة الوطنية وصيغة العيش التي اكدها الامام القائد السيد موسى الصدر، ونداء الوحدة الذي اطلقه صاحب الفضلين والمناقب والكمالات، وجامع علوم الدنيا والآخرة، وشمس الله، الامام الاعظم الشهيد الاول.

اننا اذ نرفع كتاب الله سبحانه وتعالى بيميننا، فإننا نرفع كتاب اللمعة الدمشقية للشهيد الاول بيسارنا، وهو الكتاب الذي يعد من ارقى مصادر فقه الوفاق بين المذاهب الاسلامية، ومعه كتاب الشهيد الثاني الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية.

ثم ها نحن نسلك طريق الشهيدين من حانين وطلوسة، الى جزين وجباع، والى دمشق والى مصر والى بيت المقدس ومكة المكرمة والعراق.

وها نحن نواصل المبادرة الفريدة في تاريخ العلاقات الشيعية -العثمانية، مستذكرين زيارة الشهيد الثاني الى اسطنبول، واجتماعه مع اهل الفضل والعلوم، ثم توليه الحوزة النورية في بعلبك.

وها نحن نقف على خط المذاكرة في كرك نوح، لنحمل منها حنين الشيخين الى الامام الغريبQ في مشهد المقدسة، ونحمل من مشهد الانتباه الشديد للقيمة الاسلامية الفكرية، التي يمثلها الشهيد الثاني بالنسبة الى اخوتنا في ايران، الذين كتبوا اسمه بأحرف من نور في التاريخ الايراني، باعتباره صاحب فضل في تشيعهم الفكري.

ثم ها نحن وما احوجنا في لحظة الشدة الى الوحدة، وما احوجنا الى اطلاق علوم الشيخين الشهيدين والاستفادة من دروسيهما في ذكر الصحابة بكل احترام، حتى ولو اتهمنا من اتهمهم بالميل الى التسنن في اعتماد برنامج اهل السنة في علم الدراية.

ها نحن من على منصة السيد شرف الدين ومجمع الامام الصادق Q، وفي مؤتمر الشيخين - أعلى الله مقاميهما - ها نحن ندعو الى تجاوز الخلافات الفرعية في العقيدة والتقييم التاريخي والفقه، الى التحام ووحدة الموقف.

ها نحن نسمع منهما عن الامام جعفر الصادقQ قوله: من خلع جماعة من المسلمين قدر شبر خلع رقبة الايمان من عنقه.

اخيرًا، عود على بدء، الى شكر انتباه المؤسسات التي تعقد هذا المؤتمر، سائلين الله مولانا ان يوفقكم في هذه المهمة.

[1](*) رئيس مجلس النواب اللبناني

الشيخ محمد علي التسخيري (*)

كلمات قصيرة أتحدث بها في هذه المناسبة. هكذا هو الإسلام، عندما تدلهم الخطوب، يطّلع علينا شمسًا باهرة تعيد لنا إنسانيتنا. لقد غرق العالم قبل ظهور الإسلام بفلسفات سخيفة وبعقليات مريضة، وبجدالات لا قيمة لها. ومذ طلع الإسلام ونزل القران العظيم، وضع أسسا رائعة للعودة إلى العقلانية والمنطقية، وللعودة إلى الحوار وإلى الاجتهاد والحرية. وفي هذا الاجتهاد للعودة إلى الأخوّة، للعودة إلى الوحدة.[1]

 في هذه الأطر، مشت البشرية مشيًا سجحًا نحو أهدافها الكبرى. هذه الروح، أراد الإسلام بها أن تلتقي القلوب وتتحد، وأن تلتقي الأفكار وتتقارب، بدلاً من التنافر والتناحر والسخف والضياع. أعتقد أن التقريب كان طبيعيًا أن ينشأ مع ولادة الإسلام، وكان طبيعيًا أن يعيش في أطر إنسانية سامية وضع أسسها الإسلام؛ ولقد شاهدنا الكثير من الاختلافات كانت في عهد الصحابة، في عهد التابعين، في عهد أئمة المذاهب، أئمة أهل البيت، لكنها بقيت في إطار من الأخوّة والوحدة. والتاريخ يحدثنا عن تعامل رائع بين هؤلاء، على رغم الاختلاف في الآراء والأذواق والاستنباطات. إن العلاقة بين أئمة المذاهب الإسلامية وأئمة أهل البيت كانت رائعة جدًا. الإمام أبو حنيفة والإمام مالك يدرسان على يد الإمام الصادقQ، على رغم اختلافهما مع الإمام. وكذلك علاقة الإمام الشافعي بأهل البيت؛ وأنتم تعرفون ما هي الأبيات الرائعة التي قالها في أهل البيت. كل هؤلاء الأئمة عاشوا مرحلة رائعة من الحوار المنطقي والسليم، وامتدت هذه الروح إلى العلماء الذين اتبعوا هؤلاء الأئمة.

يحدثنا التاريخ عن العلاقة بين الأئمة والعلماء. عالم من هذا المذهب يدرس على يد عالم من ذلك المذهب، وعالم من هذا المذهب يشرح كتاب من مذهب آخر. يؤلف الخواجة نصير الدين الطوسي تجريد الإعتقاد، فيشرحه ثلاثة من علماء أهل السنة،  وهم البيهقي والأصفهاني والقوشجي. ويؤلف عالم من أهل السنة «المختصر في الأصول»، فيدرّسه عالم كبير من علماء الشيعة، وهو المحقق الأردبيلي، لتلميذيه: صاحب المعالم وصاحب المدارك. وكذلك شرح العلامة الحلي هذا المختصر شرحًا، مدحه أفضل مدح العلامة ابن حجر. ويدْرس المرحوم الكليني على أيدي علماء كبار من أهل السنة، ويدرّس هو علماء كبار من أهل السنة. وهكذا الشيخ الصدوق يعيش في بلخ، وينقل عن مئتین وستين شيخًا هناك، فيهم الكثير من أهل السنة. وكذا يعج مجلس الشيخ المفيد بالعلماء من المذاهب شتى. وأصبح الطوسي يؤلف كتاب الخلاف ويشرح فيه الفقه الشافعي أروع الشرح، حتى رأيت إمامًا من أئمة الشافعية، الإمام السبكي، يقول: «الشيخ الطوسي هو عالم شيعي، لكنه من علماء الشافعية».

هكذا كانت اللُحمة بين المذاهب الفقهية، حتى رأيت مجموعة من العلماء توصف بمذهبين: الشيخ ابن الفوطي يُقال كان شيعيًا حنبليًا، والشيخ الطوفي يصفه الشيخ محمد أبو زهرة بأنه كان شيعيًا. ولم يكن شيعيًا، بل كان حنبليًا، ولكنه كان منفتحًا. فإذًا، نجد أن التعامل بين العلماء كان تعاملاً أخويًا، وكان الفقه ينمو. والإمام الشهيد الأول في القرن الثامن، كان مجلسه يعج بالعلماء من المذاهب شتى، ويفتي على جميع المذاهب. والإمام الشهيد الثاني يعيش في بعلبك، ويفتي وفق المذاهب الخمسة، فيحبه الناس ويعشقه العلماء. ولقد قرأت له كلمات رائعة، يصف فيها حياته في بعلبك بأنها من أروع أيام حياته. هكذا كان التعاون، إلا أننا، مع الأسف الشديد، ابتلينا نتيجة عوامل كثيرة، بحالة من الانفصام والابتعاد، فلم نعد نسمع أن شيعيًا يدرس كتابًا سنيًا على يد عالم شيعي، أو أن سنيًا يدرس كتابًا شيعيًا على يد عالم شيعي. والشهيد الثاني يقول:» أتشرف بأن أدرس الصحيحين علي يد الشيخ فلان في الأزهر الشريف». أنا أعتقد أن إحياء ذكر هذين العلمين اللذين ملآ التاريخ علمًا وفخارًا، هو إحياء لمسيرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وهو دفع للتمهيد نحو الوحدة الإسلامية، هذه الوحدة التي أكدها القرآن غاية التأكيد، وسلك كل الطرق التي تؤدي إليها. نحن إذًا إذ نحيي ذكرى هذين العلمين، نمهد لقيام وحدة إسلامية كبرى.

 إننا لا نستطيع أن نواجه هذه التحديات التي تقف أمامنا كمسلمين، ولا نستطيع بالأحرى أن نحقق الأهداف القرآنية التي جعلها القرآن لهذه الأمة، باعتبارها أمة شاهدة، ما لم نحقق وحدتنا، وإلا فنحن سنتعثر ونعرج في ذيل التاريخ، ويتحكم بنا الأعداء من كل جانب.

 أسأل الله تعالى أن يحيي فينا روح هذين العلمين، وأن يقوي فينا روح الاتجاه نحو الوحدة، وأن يجعلنا من الذين حملوا لواء الإسلام، وحققوا كل الأهداف السامية التي أرادها القرآن لهذه الأمة.

[1](*) الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

الشيخ نعيم قاسم (*)

غلب لقب الشهيد على اسمه، ونجد صعوبة في أكثر الأحيان للتمييز بين الشهيد الأول والشهيد الثاني أيهما الجزيني وأيهما الجبعي، وأنتم تعلمون أن الأول هو الجزيني والثاني هو الجبعي. لقد غلب لقب الشهيد، لقيادتهما العلمائية والفريدة والجامعة، وهذا تعبيرٌ عن استمرارية حياتهما بيننا «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ». كان سلاحهما كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. وقد عملا بكل جرأة ليثبتا منظومة الإسلام العظيم في هذه الساحة المتقلبة والصعبة في منطقتنا.[1]

كلاهما كان كثير السفر، من أجل طلب العلم والتعليم. وكلاهما حصل على إجازات من علماء المذاهب ودرَّس علومها.

الأول: ذهب أوائل العقد الثالث إلى الحلة في العراق، وأقام في بغداد زمناً، وفيها قرأ القراءات، كما استجاز شمس الأئمة الكرماني، محمد بن سعيد القرشي، الفقيه الشافعي الشهير. ثم انطلق من بغداد في رحلة طويلة، طاف خلالها بدمشق، والقاهرة، ومكة، والمدينة، ومقام الخليل إبراهيم، حيث قرأ فيها على أربعين شيخًا من علماء السنة. وقد وُصف بأنه «أفقه جميع فقهاء الآفاق».

الثاني: ختم القرآن عام 920هـ وهو ابن تسع سنوات، درس على والده، ثم توجه إلى ميس وكرك نوح، ثم عاد إلى جباع. ثم قضى سنة في دمشق، إذ يقول: «ورحلت إلى مصر، فأول اجتماع بالشيخ شمس الدين طولون الدمشقي الحنفي»، وقرأ عليه جملة من الصحيحين، كما قال:» وأجازني روايتهما. ثم ارتحلت من مصر إلى الحجاز، وسافرت لزيارة بيت المقدس منتصف ذي القعدة سنة 948. واجتمعت في تلك السفرة بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطيف المقدسي»، وأيضاً قرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم، وأجازه إجازة عامة، ثم عاد إلى مصر، وذكر أنه قرأ على خمسة عشر شيخًا، وأقام بمدينة القسطنطينية مدة ثلاثة أشهر ونصف. ثم درَّس في المدرسة النورية في بعلبك على المذاهب الخمسة، وكثيراً من الفنون الأخرى.

كلاهما من دعاة الوحدة الإسلامية ودفعا ثمناً باهظاً نتيجة هذه الدعوة، وكان سبب الاغتيال لكل منهما دعوته إلى الحق وإلى الوحدة الإسلامية. أغاظ الحكام أن يروا أن الشهيد الأول محبوبٌ ومؤثرٌ في منطقته، فقد ذكر والي الشام بأنه «بلغنا أن جماعة من أهل بيروت وضواحيها وصيدا ونواحيها، قد انتحلوا هذا المذهب الباطل وأظهروه، وعملوا به وقرروه، وبثوه في العامة ونشروه، واتخذوه ديناً يعتقدونه، وشرعاً يعتمدونه، وسلكوا منهاجه». فهالهم أن يقبل الناس ما يعرضه عليهم، فأودع الشهيد السجن في دمشق، وحبس سنة كاملة، ثم أُخرج إلى تحت القلعة وضُربت عنقه، سنة 786هـ/1384م.

كان الشهيد الثاني أيضاً مؤثراً، وعمل بجد وجهد من أجل الوحدة الإسلامية، فرفعت الشكاية عليه لحركيته وتأثيره. وكما ذكرت إحدى الروايات، فإن الصدر الأعظم رستم باشا هو الذي عرض قضيته على السلطان سليمان الأول فقتله شهيداً.

الفاصل الزمني بين الشهادتين: 179 عاماً.

عمر الأول: 52 عاماً، وعمر الثاني: 54 عاماً، هما في عمر الشباب، وكان عطاؤهما كبيراً جداً، وهما من أبرز - إن لم أقل أبرز- دعاة الوحدة الإسلامية.

فلنكن واضحين، استشهد كلاهما، ولكنهما بقيا بآثارهما، وبقي الإسلام عزيزاً، وبقيت السنة والشيعة، واستمر دعاة الوحدة أقوى من دعاة الفتنة المذهبية.

دعاة الفتنة المذهبية موجودون في كل زمان، تلك الفتنة التي ترخي بظلالها وتترك آثاراً لها عندما يجتمع اثنان: حاكم متهتك لا يعلم من الدين شيئاً ولا يهتم به، وواعظ عند السلطان مملوء بالحقد والجهالة، هؤلاء صموا آذانهم عن نداء الله تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً»{ و}إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ{.

الفتنة المذهبية انحراف عن الدين، ولا علاقة للخلافات السياسية بالدين، ودعاتها لا يعنيهم الدين إلاَّ غطاءً لتجميع الناس من حولهم بالعصبية، وتسخيرهم لزعامتهم واستبدادهم، و«الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».

في لبنان لم نختلف مذهبياً مع أحد، ولم تُعرض قضايا عقائدية أو فقهية خلافية، بل بالعكس أمامنا الآن القانون المدني للأحوال الشخصية، إذ نجد أن جميع المسلمين اجتمعوا على رفضه، مؤكدين التمسك بالأحوال الشخصية من الموقع الشرعي، من دون التأثر بالخلافات السياسية، وهذا دليل على عدم وجود خلاف ديني في هذا الأمر وفي غيره، وإنما الخلاف سياسي.

نعم، اختلفنا سياسياً مع فريق آخر في البلد يضم من جميع المذاهب والطوائف، كما يوجد في فريقنا من جميع المذاهب والطوائف:

اختلفنا بأننا مع المقاومة واستمراريتها بسبب استمرار الاحتلال والخطر الإسرائيلي، وهم لا يريدونها الآن بذرائع شتى، مع أنها الشرف والعز، ولولاها لما كان لبنان بهذه المكانة، ولولاها لما ارتفعت رؤوسنا عالياً. نحن نفخر بالمقاومة التي انتشرت تعبوياً وتربوياً في كل العالم العربي والإسلامي ببركة عطاءات المجاهدين والشهداء.

اختلفنا سياسياً على رفض الوصاية الأمريكية، حيث يستسهل البعض حضورها ويعمل وفق برنامجها. وهناك محكمة دولية مسيَّسة تأسيساً واتهاماً أرادها الغرب ضدنا. أقول للجميع: تعالوا نمد أيدينا إلى بعضنا، فما نجتمع عليه أكثر بكثير مما نختلف عليه، كي لا ندع السياسة تقوم مقام ديننا وإيماننا.

اختلفنا سياسياً على الالتزام بالقانون، وقد حاد البعض عنه مراراً وتكراراً، فتحمل البلد عبئاً كبيراً في اقتصاده ومديونيته وانتشار الفساد والرشاوى.

نحن من دعاة الوحدة، وسنضحي من أجلها، وستبقى أولوية في توجهاتنا وعملنا، سنقتدي بالشهيدين الأول والثاني، وسنفقأ الفتنة كلما أطلت برأسها، سنقول للناس بأننا أبناء بلد واحد، لن نقبل إلا أن تتشابك أيدينا مع بعضنا البعض حتى ولو اختلفنا، حتى ولو كان هناك مؤامرات كبيرة علينا، لأننا في نهاية المطاف نعيش على مركبٍ واحد، فإذا ما غرق المركب غرق بنا جميعاً.

لقد رأينا كيف تناغم بعض حكام العرب مع منظري السياسة الأمريكية في الحديث عن وجود هلال شيعي في الفضاء السني، لافتعال أعداء وهميين ومعارك جانبية تصرف عن الحقيقة، وللتحريض والفتنة!

هل كان الهلال الشيعي أزمة مصر والمخلوع مبارك؟ لقد كشفت الوقائع أن الأزمة في كونه دعامة المشروع الصهيوني لقهر الفلسطينيين وسلبهم أرضهم وحقهم، وهو المستبد الذي ظلم شعبه، واتكأ على الدعم الأمريكي مقابل سلطته. القضية الفلسطينية ليست شيعية بل هي للجميع، للسنة وللشيعة، للمسلمين وللمسيحيين، للإنسان الشريف الذي يؤمن بالله تعالى ويؤمن بالإنسانية.

نجتمع اليوم في ذكرى الشهيدين لنقول لهما: زرعتما في هذه الأرض الطيبة، وكل الشهداء اليوم من نسلكم وفكركم وعطاءاتكم، سنستمر كذلك، وسننتصر بإذن الله تعالى.

[1](*) نائب الأمين العام لحزب الله - لبنان.

د. غضنفر ركن آبادي (*)

حمداً لله تعالى على هذا التوفيق الذي أفاضه عليكم أنتم الجهات الداعية إلى عقد هذا المؤتمر العلمي والثقافي الكبير لتكريم شخصيتين ألمعيتين وكبيرتين من فقهائنا العظماء، اللذين كان لهما الدور الكبير في تطوير وتدوين الفقه الإسلامي، وتعزيز إمكانياته، وتفعيل الحركة الوحدوية الإسلامية.[1]

وهاتان الشخصيتان المرموقتان اللتان عرفتا بالإخلاص في العمل، والصدق في النية و البحث عن الحقيقة، أحدهما: كبير ونابغة فقهاء الشيعة الشيخ محمد بن مكي العاملي، المعروف بالشهيد الأول، ووالآخر: عظيم فقهاء زمانه و فريد دهره الشيخ زين الدين بن علي الجبعي العاملي المشهور بالشهيد الثاني.

إن تكريم هاتين الشخصيتين البارعتين يعني تعظيماً لعالمين كبيرين نالا حظهما من التوفيق الإلهي في خدمة الأمة والحضارة الإسلامية، بعدما تجاوزا نظرية التقوقع القومي والطائفي وبلغا عالم الإسلام الرحب، حيث الفكر السامي والثقافة الهادفة، فانطلقا ضمن مشروع مصالحة وطنية وطائفية بين طرفين: الشيعة والسنة اللذين يشكلان معاً مجموع المسلمين، يقدمان ثقافة إسلامية أصيلة لكل المسلمين، لا لطائفة دون طائفة ولا لشريحة دون أخرى. كانا يعتقدان بأن العلوم والثقافة الإسلامية كفيلة بتوحيد صفوف المسلمين و حفظ كرامتهم، وصيانة مجدهم و سؤددهم، إذ لا مانع من أن يستمع كل فريق إلى الآخر، وهذا ما فعلاه عندما درسا وتباحثا على علماء المذاهب الإسلامية.

وإذا كانت أهداف وآمال كل مسلم خيّر يحمل هموم أمته تتمثل في تمركز الطاقات باتجاه حماية الأمة من مخالب المستكبرين، فلا بد أن نعلم أنّ هذا الأصل لا يمكن بلوغه إلا في ظل التقارب في القلوب والوحدة في الموقف تجاه الأعداء.

وهذان الفقيهان العظيمان قد أدركا منذ قرون غير قليلة هذه الحقيقة المشرقة، وبذلا من أجلها أعز ما يملكانه، روحيهما الغاليتين.

أيها الحضور الكرام

لو كان رجال العلم والمعرفة وأرباب الثقافة والفن قد واصلوا تلك المساعي بجد وهمة، فلعل عالمنا الإسلامي والعربي اليوم لم يشهد هذه النتائج المؤلمة، ولما حصلت مأساة فلسطين وسائر أوضاع الشرق الأوسط المزرية بهذا الشكل المرعب الذي عليه اليوم، من أمواج المؤامرات وتخريب العلاقات بين الدول الإسلامية، وزرع بؤر الفتن بين الشعوب والقوميات والطوائف المسلمة، وإشعال فتيل الحروب بين الحكومات.

إن هذين الفقيهين العالمين قد أدركا أن جموع المسلمين المنبثة في بلاد الله شرقا وغربا، لم يأتوا من قلة العدد، ولا من فقر في عقولهم أو في بلادهم أو في استعداداتهم، أو في ثرواتهم الطبيعية، ولقد شهد التاريخ كيف كانوا أقل من ذلك عدداً، وأقل من ذلك مالاً وثروة وخصبا، ومع ذلك سادوا وشادوا، ولفتوا إلى علومهم وأفكارهم وحضارتهم العالم بأسره.

وإنما المسألة ترجع إلى أمرين: الفرقة والفقر الطارىء على الهمم والعزائم، وقد تنبه هذان الرجلان العملاقان إلى ذلك، فانطلقا يركزان العلم والتفقه بين أبناء الأمة، لشخذ النفوس بالهمم والعزائم وتكريس ثقافة الوحدة والتقريب بسلوكهما اليومي، كخطوات عملية مثمرة من أجل أن يدرك الآخرون علاج هذا الداء الوبيل: الفرقة والقطيعة.

لقد أدرك هذان العالمان العامليان أن الإسلام بعلمه ونوره وطاقاته الهائلة الذي أنقذ عرب الجزيرة وحواليها من الأمم والشعوب، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجمع بينهم، وألف قلوبهم بعدما كانوا على شفا حفرة من النار، فجعلهم سادة العالم وقادته، لهو جدير بأن ينقذهم مرة أخرى، وبأن يرفعهم من وهن خلافهم وتطاحنهم.

إن الشهيدين لم يمثلا العروبة بقدر ما كانا يمثلان الإسلام، إنهما كانا كمثل الشمس، للعالم الإسلامي كله، وليس لبلد دون آخر. وإذا كانا من حسن حظ لبنان أنهما ولدا وتربيا فيه ورزقا من بركات هذا البلد الكريم وخدما اللبنانيين، فإن قيمتهما بعلمهما لا بجسدهما، وقيمتهما العلمية كانتا للإسلام، ومن الإسلام وإلى العالم أجمع.

وشكراً لكل العاملين الذين بذلوا جهودهم في هذا المطاف وساهموا في إنجاز هذه المبادرة الكريمة، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتغمد برحمته هذين الفقيهين العظيمين، ويرزقهما الخلود في الدارين، وأن يرحم شهداء أمتنا المجيدة الذين ضحوا بأغلى ما لديهم غير مبالين بما يضج به المبطلون، وأن يحفظ علماءنا الأحياء العاملين في جبهات الحق ضد الباطل والمساندين لهم بأقلامهم وأموالهم.

[1](*) السفير الايراني في لبنان ممثلاً رئيس مجلس الشورى الإسلامي د. علي لاريجاني

الشيخ عبد الأمير قبلان (*)

في اللحظة التي تمَّ فيها التَّأسيس لتكريم هذين العلمين الكبيرين: الشَّهيد الأوَّل والشَّهيد الثَّاني، لم أجد أفضل مِن الإحتفاء بهما مِن مشهورة الصَّادق عليه السلام إذ قال:[1]

«لو عَلِمَ النَّاسُ ما في طلب العلم، لطلبوهُ، ولو بسفكِ المُهَج، وخوض الُلجَجْ»

ولتبيان هذا المعنى، فإنَّ «أصل الإحتفاء» بهما في القرن «الواحد والعشرين»، لا بُدَّ أن يَتُمَّ على أساس اختبار «فقاهَة المتون الشَّرعيَّة»، وضبط تَمَكُّنِها مِن «قانون المعارف» ذات البُعد العابر، وسط صراعات مذهبيَّة، واختلافات أُمَمِيَّة كانت آنذاك، وهي أشبه بيومنا الحاضر عالميَّاً وإقليميَّاً.!!

وعن هذا المعنى، فقد ترك الشَّهيد الأوَّل بصمةً لافتةً جدَّاً، على الرغم من أنَّ قلمَهُ كان يمهرُ فقهَ الإنسان في القرن الثَّامِن هجري، فأسَّس لمفهوم الحيثيَّة الحقوقيَّة كمركز لـ»نظام السُّلطات والإجراءات»، بمقولة:

انَّ «الغنيمة الكونيَّة» ضرورةٌ حتميَّةٌ لـ«كَونَنَة الإنسان»، وهذا يلزم منه: أنَّ «الغُنمَ التَّشريعي» يجب أن يكونَ «العلَّةَ المُوصِلَةَ لكمالات الإنسان». وكلُّ مخالفةٍ ما بين الأولى والثَّانية، تعني اخفاق السُّلطة، وتلاشي شرعيَّتها، ووجوبَ مُعَارَضَتِها. وهذا المعنى «مَدْرَكِيٌّ» في «فقهِ التَّوجيه والَّتصنيف»، وضرورةٌ في ضبط الشَّرعيَّة واستمرارها.

أمَّا الشَّهيد الثَّاني، فقد أسَّس لمقولة «الشَّرعنَة» على قاعدة: أنَّ مركز «المصالح الكونيَّة والتَّشريعيَّة» هو الإنسان، كعلَّة للتسخير الكوني والتَّنظيم التَّشريعي، مشيراً إلى أنَّ هذا النَّحو الرئيسي كوّن غاية البَعثَات النبويَّة.

وعلى الرغم من الظُّروف المذهبيَّة الشَّرسَة زمن فقاهتِه، فقد بيَّنَ أنَّ «فقه الدَّولة» يدور مدارَ «المصالح العِنْوَانيَّة» التي تجد شرعيَّتها بـ«العنوان المُستَقل» كـ«صفَة أوليَّة»، أي بـ«الإنسان» نفسِه، ثُمَّ بـ«الصّفَات المُرَجِّحَة» ضبطاً على مفهوم «الوظيفَة التَّشريعيَّة والإجرائيَّة» الضَّامنة «للكمالات الوجوديَّة»، وبذلك خَرَّجَ الدولةَ مِن مفهوم التَّاج إلى مفهوم المُدَبِّر، والمشترعَ مِن الإقطاعي، إلى النَّاظِر الذي يُجِيدُ ربطَ العلل واكتشاف الوجهات، كجزءٍ مِن محور مسؤوليَّة الإنسان الكونيَّة والإستخلافيَّة،

والمنقول عنه، بـ«مجموعِ المتونِ المُرَكَّبة»: أنَّ السُّلطةَ هي عينٌ قبل أن تكون مخرز، وزينٌ قبل أن تكون شيْنًا، وغفران قبل أن تكون قضبانًا، ورعاية قبل أن تكون دعاية، ونظارة قبل أن تكون كرسيًا، ورحمة قبل أن تكون نقمة، مُكَرِّراً أنَّ الإنسانَ هو علَّةُ شرعيَّةِ السُّلطان ومبرِّر النّظام، وإلاَّ تحوَّلَ الحُكمُ إلى حديدٍ واستبدادٍ. وهذا يعني أنَّ شرعيَّة الأنظمة، هي معرفيَّةٌ فكريَّة، كونيَّة وإنسانيَّة، قبل أن تكون إقطاعيَّة أو اقتراعيَّة، جمهوريَّة أو ملكيَّة.

وهو نفسه يدفعنا اليوم إلى التَّمييز القوي بين التَّحوُّلات العربيَّة:

ففي مصر وتونس: الثَّورةُ هي استعادةُ القرار لتأمين مصالح الشَّعب.وفي ليبيا، يكادُ الأبيض الأطلسي يلتهم الأسود الَّنفطي مع الشَّعب. وفي اليمن حسابات التَّعاوُن الخليجي ضيَّعت الدَّولةَ والشَّعبْ.

وفي البحرين: النِّظامُ لا يريدُ الشَّعب. وفي سوريا: الغربُ وبعضُ العربِ والجيرانِ، يُريدُونَ معاقبة النّظام والشَّعب. وفي لبنان «عرين المقاومة»: شعبٌ بلا حُكَّام، ومشروعات زعامة تجيدُ الانكليزيَّة لا العربيَّة، مَع أنَّ ويكيليكس لم تُبقِ لهم سَتْرَ الكتمان.

وقد قال النبيُّ P: «إثنانِ إنْ صَلُحَا صَلُحَت أمَّتي، وإنْ فَسَدَا فسدت أمَّتي». قيل: «مَن هُما يا رسولَ الله»؟ قال: «الفقهاءُ والأمراء».

ونقول: أمَّا الفقهاءُ فها هُم. وأمَّا الأمراءُ؟ فألفُ مطيَّةٍ بين بيضاء وسوداءْ.

[1](*) نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى في لبنان/ ألقاها المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان .

الشيخ محمد رشيد قباني (*)

إن الفقه من أجلّ العلوم الشرعية واقربها لحاجة المسلمين، عامتهم وخاصتهم على السواء؛ فهو العلم الذي يبين لهم الحلال الحرام والواجب والمندوب، ويفصل القول في كل امور العبادات والطاعات. فهو طريق الخير لمن أراد الله به الخير، لذلك حثنا المولى على طلبه بقوله عز وجل:}فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ{.[1]

ولقول النبي الأعظمP: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».

وقد من الله الكريم على هذه الامة المحمدية بكتيبة من العلماء والأئمة المجتهدين في فقه الدين، قد امعنوا النظر واشغلوا الفكر في فهم كتاب الله وحديث رسول اللهP وآثار أصحابه وآل بيته ومن تبعهم بإحسان، فكانت لهم في الفقه مذاهب واجتهادات، قد تختلف لاختلاف أصولها الاجتهادية أو غير ذلك من أسباب، لكنها جميعًا تخرج من قاعدة واحدة، ألا وهي طلب اتباع النبيP مرضاة لله عز وجل، وعملا بقوله تعالى: }قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله».

فالعلماء هم انصار الدين وحماته ومصابيح هذا العالم وهداته، فهم الدالون على الله بالاقوال والافعال والمفتون بالبرايا بين الحلال والحرام، فلولا العلماء لكان الكثير من الناس في تيه الغفلة نائم ولدام كل احد في بيداء الجهالة هائم، فهم أولياء الله حقا والنور الذي يستضاء به غربا وشرقا، فعلى ذهابهم والله فليبك الباكون، وعلى موتهم فليتأسف المتأسفون، وفي صحبتهم ومحبتهم فليتنافس المتنافسون. كيف لا؟ وهم ورثة الأنبياء، يستغفر لهم كل رطب ويابس. أخرج الترمذي وأبو داوود وابن حبان وابن ماجة والبيهقيّ عن ابي الدرداء(رض) أنه سمع رسول اللهP يقول: «وان العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء».

وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. وان العلماء ورثة الانبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر. فالعلم يرفع الله به أقوامًا، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تُقتص آثارهم، يقتدى بافعالهم، ينتهى إلى رايهم، فالعلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظُلم، وإن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا فقدت النجوم، أوشك أن تضل الهداة.

وها نحن اليوم وفي ذكرى الاحتفاء بعالمين كبيرين وفقيهين جليلين: الشيخ محمد بن مكي الجزيني M، والشيخ زين الدين الجبعي (غفر الله له) كان لا بد من ان نبين فضل العلم والعلماء وأن نؤكد دورهم الفاعل في النهوض بهذه الأمة وتوجيهها نحو طريق الخير والصواب والاعتدال، وخاصة في هذا الزمن، زمن المتاعب والمصاعب، زمن الفتن والنوائب، كل ذلك يكون بالعمل الدؤوب على بناء مجتمع سليم خال من الشوائب، من خلال الممارسة الدينية السليمة التي هي ضمان للاعتدال وضمان للقيم وترسيخ للحضارة والانفتاح ونبذ للغدر والخيانة، لأننا ندرك تمامًا أن التطرف والارهاب والغلو في الدين واستحضار الفتنة وايقاظها آفة مدمرة، ونعتقد جازمين أن خدمة الطائفة لا تكون على حساب تدمير الوطن.

رحم الله الشيخين الشهيدين وحفظ لنا من الشرور والفتن وطننا لبنان.

[1](*) مفتي الجهورية اللبنانية/ ألقاها الشيخ محمد مسلماني*

البطريرك بشارة الراعي (*)

شرفني صاحب الغبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك انطاكية وسائر المشرق ان امثله في هذا الاحتفال الذي ينظم في ذكرى الشهيدين. وكلفني أن انقل اليكم جميعا تحياته القلبية، متمنيًا ان تكون هذه الذكرى مباركة وان تبعث الى التأمل في ما للشهادة والاستشهاد من معنى يرتكز الى الحب العميق الذي يدفع الانسان الى ان يقدم ذاته فداء عن الآخرين.[1]

لا شان لي في الكلام عن الفقه والاصلاح واخترت ايها الاخوة ان اتامل معكم اليوم في معنى الشهادة، ونحن في ذكرى شيخين جليلين.

إن الشهادة تنطلق من الايمان بقضية معينة، او من انتفاضة ضد الظلم، او من الدفاع عن الحق والأرض والعرض. اما شهادة المؤمن فتنبع من ايمانه، والذي يلزمه بالدفاع عن القيم والتعاليم والمبادئ التي اوصى الله تعالى في الدفاع عنها، والسير بها في سبيل الوصول إلى الحق المطلق، فيصبح الشهيد حينئذ شهيد الله والوطن والمجتمع. وبالعودة الى ذكرى الشهيدين نرى ان مشروع الشهادة هو مشروع كل المؤمنين الذين يرفضون الباطل ويشهدون للحق بغض النظر عن طائفتهم ودينهم ومذهبهم. وتاريخ الشيعة متلازم مع مشروع الشهادة، منذ استشهاد الحسين حتى ايامنا هذه، ومع قافلة الشهداء الكبيرة على مدى التاريخ. تبقى صورة مجزرة قانا ابلغ الصور لأشرف الشهداء من جهة، ولأبشع المجرمين في مشهدية العصر الحديث.

أيها السادة يطيب لي أن اشارك في هذه الذكرى، خاصة وانا ابن منطقة جزين بلدة الشهيد الأول والمتعانقة مع منطقة جباع في جبل عامل بلدة الشهيد الثاني، فأرض الجنوب هي مقلع الأبطال ومنبت الشهادة، إلى جانب كل ابناء الوطن الحبيب لبنان، الذي يحضن في كل حبة تراب من ترابه دمًا من دماء الشهداء، فوطننا هو بلد الرسالة والشهادة والاستشهاد، ومشروعنا لنحميه يجب أن يكون مشروع شركة ومحبة، متمنيا لكم ذكرى مباركة مقرونة بالدعاء لكم جميعا بدوام الصحة والعافية.

[1](*) بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة/ القاها رئيس المركز الكاثوليكي للاعلام الاب د. عبدو ابو كسم.

الشيخ حسن بغدادي (*)

قد يُسأل عن سبب انعقاد هذا المؤتمر للشهيدين الشيخ محمد بن مكي الجزيني والشيخ زين الدين الجباعي –طاب ثراهما- وقد انعقد الكثير من المؤتمرات العلمية والفكرية لهذين العلمين في ايران ولبنان. اقول: هذا صحيح، لو كان المحتفى بهما لا يملكان ما يميزهما عن السلف الصالح من خصائص لا زالت حاضرة، وتتجدد كلما تجددت الذكرى. فالشهيدان هما عمدة المتقدمين وطليعة المتاخرين، والالطاف التي انيطت بهما واضحة لذي عينين.[1]

فهناك المئات من العلماء حصلوا على مقام الشهادة ولم يحز احد منهم على لقب الشهيد حصرًا، كما حاز عليه الشهيدان الأول والثاني. فالشيخ حسين عبد الصمد كان يصر على اطلاق لقب الشهيد الثاني على المحقق الكركي المتوفى سنة 940هـ، ومع ذلك لم يُكتب لهذه الألقاب الحياة والبقاء.

وكذلك لقب المحقق، فقد اطلق هذا اللقب على كثير من العلماء، ومع ذلك نرى ان هذا اللقب لم تكتب له الحياة بشكل واضح وصريح الا عن المحقق الحلي والمحقق الكركي.

فهناك انصراف ذهني الى المحقق الحلي عندما يقال المحقق الأول، وكذلك الى المحقق الكركي حين يقال المحقق الثاني.

فإذًا هذا المؤتمر انما ينعقد لما يحمل هذان العالمان الكبيران من هذه الاوصاف، مضافًا للاثار العلمية المتنوعة التي خلفاها، إذ لا زالت كتبهما حاضرة وبقوة في المناهج التعليمية والحوزوية وفي المكتبات العامة، والمعاهد الفكرية.

وبتقديري فان الذي يستطيع ان يتعرف على هاتين الشخصيتين عن قرب، سوف لن يتفاجأ بكثرة المؤتمرات والحديث عنهما، فكلما اقتربت منهما ازددت شوقًا للغوص في مكنون مخزونهم العلمي.

الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني، الذي رفض الراحة والأمان والجاه، الذي وفره له حاكم خراسان علي بن المؤيد، عندما ارسل اليه وزيره محمد الآوي يدعوه الى خراسان ليكون مرجعًا للمسلمين الشيعة في تلك المنطقة، ولم يستجب الشهيد لهذه الدعوة، واكتفى بكتابه اللمعة الدمشقية كرسالة عملية الفها له في سبعة أيام، وهذا كان قبل شهادته باربع سنوات، حيث لم يكن معه من المصادر سوى كتاب مختصر النافع للعلامة الحلي. وهذا دليل اضافي على مكانة الشهيد العلمية. إذ ان الفقه بكل تفاصيله حاضر في ذهنه. فاصر على البقاء في دمشق، رغم المخاطر المحدقة به. كان هدفه الرئيس تنمية جبل عامل على الصعيد العلمي والثقافي والجهادي، وجعله يندمج مع محيطه الاسلامي.

ايضًا عمل الشهيد الأول على تثبيت قواعد مشروع الوحدة الإسلامية، من خلال منهج الفقه المقارن الذي أقام قواعده بعد عودته من الحوزة العلمية من مدينة الحلة بالعراق، بعدما زار عواصم العالم العربي والتقى علماءها ودرس عليهم، وبقي على هذا المنوال حتى استهدفه حاسدوه وطلاب السلطة من مشايخ البلاط، فاستشهد مظلومًا في دمشق عام 786هـ.

وشاءت الارداة الالهية ان يكمل هذا الدرب بعد مرور مائة وخمس وعشرون عامًا،قائد آخر فكان الشيخ زين الدين الجباعي المعروف بالشهيد الثاني، الذي ولد عام 911هـ واستشهد في اسطنبول في 8/ شعبان 965هـ، وتكاد لا تشعر بهذا الفارق الزمني لولا ان المؤرخين أرخوا لتلك الأحداث، وهذا مرده إلى القواسم المشتركة في العقلية والسلوك، وتشابه الأحداث التي اجتمع عليها هذان العالمان.

فالشهيد الأول هو القائد المؤسس وصاحب المتون العلمية التي ليس لها نظير. والشهيد الثاني سار على نفس الدرب.

فعلى الصعيد العلمي شرح اكثر المتون التي كتبها الأول، وسلك طريق الفقه المقارن، وزار عواصم العالم العربي ودرس على علماء المذاهب الإسلامية، وشى عليه الحساد وطلاب الدنيا افتراء وكيدا وحسدا حتى شردوه وهجروه، ثم اعتقل وقتل.

وهنا كي نتعرف على ماهية الشهيد الثاني والوقوف على جلالة قدره، اكتفي بنقل شهادة تلميذه ابن العودي الذي رافقه 22 سنة، بعدما تركه بسبب ذهابه الى خراسان، حيث ادلى بشهادتته حوله، ونظم قصيدة مؤثرة بحق استاذه. ومما قاله:

«كان شيخ الأمة وفتاها وسيد الفضائل ومنتهاها ملك من العلوم زماما وجعل العكوف عليها الزاما لم يصرف لحظة من عمره الا في اكتساب فضيلة، وزّع اوقاته اما النهار ففي تدريس ومطالعة وتصنيف، واما الليل فله استعداد كامل لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل، كان يحرس الكرم بالليل ويحتطب للعيال، كان له باع طويل في كل فن وعلم بالفقه والاصول وعلم الحساب والهيئة والهندسة، إلى أن يقسم تلميذه ابن العودي في اخر كلامه انه لم يقل عن استاذه الشهيد الا دون الحقيقة.

وعمل الشهيد الثاني على ما اسسه القائد الشهيد الأول وهو استمرار جبل عامل كحاضرة علمية وثقافية وجهادية، وجعل من نفسه صلة الوصل بينه وبين محيطه، وحرص على الابتعاد عن الدولة الصفوية حتى انه لم يزر الامام الرضاQ كي لا يسجل عليه العثمانيون انه التقى باحد من الصفويين. كان كل همه بناء الثقة التي تمهد لقيام مشروع الوحدة الإسلامية، كي يقطع الطريق على المصطادين بالماء العكر، ولأجل مواجهة الافتراءات والمؤامرات التي تحاك ضد الأمة الاسلامية من خلال استهداف الشيعة من بعض الجهلة والمتآمرين.

ايها السادة

هذه العناية الالهية التي انيطت بهما ما كانت لتكون لولا تخليهما عن كل ما يبعد النفس عن مولاها، تاركين الحسابات الخاصة خلف ظهورهم، ومقدمين مصلحة الاسلام والمسلمين على كل شيء، حتى اصبحت العدالة في كل واحد منهما تلامس في حدها الاعلى الحد الادنى من عدالة المعصومينR. تلك العدالة التي لا ترى وجودا خاصا منفصلا عن الله تعالى، ليس لديها حبا خاصا او كرها خاصا، وليس لديها قريب منها وبعيد عنها، فهو القائد الذائب في الله تعالى ليس لديه مصدر مسؤول يُقرّبه احد اليه ويبعده عنه. بهذا المعنى اصبحت عدالته تلامس عدالة المعصومQ. وبهذا المعنى لم يعد يرى شيئًا الا ويرى الله معه.

ايها الحفل الكريم

من هذا الموجز حول هذين الشهيدين الكبيرين، انتقل للحديث بشكل مباشر عن المؤتمر الذي جاء تتويجا لسنوات من الجهد المتواصل الذي بذله السادة المحققون والمشرفون على جمع آثار وتحقيق ما ألفه وكتبه الشهيدان، وقد بلغت خمسين مجلدًا، عشرون منها للشهيد الأول وثلاثون للشهيد الثاني.

وهنا يسجل للمشرفين والمحققين كل التقدير والاحترام، واخص تلك الرعاية التي خصنا بها سماحة الامام القائد السيد الخامنئي «حفظه المولى»، إذ أتاح الفرصة للمركز العالي للعلوم والثقافة الاسلامية التابع لمركز التبليغات الاسلامية في قم المقدسة، ان يجمع آثار العلماء ويحققها، ثم الذهاب الى عقد مؤتمر تتويجًا لهذا الانجاز.

وهنا اوجه الشكر والتحية سواء للسادة الذين كانوا على رأس هذا المركز كالسيد الرباني والشيخ احمد مبلغي، او السادة الذين جاؤوا واستلموا حديثا كالشيخ احمد واعظي، وقبل انعقاد المؤتمر التقيت بالشيخ احمد واعظي فقال لي كل ما اتفقت عليه مع السيد رباني والشيخ مبلغي، فانا موافق عليه، حيث كلف الاخ سماحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ أحمد مبلغي الاشراف على متابعة هذا المؤتمر معنا في لبنان، لذا اشكره على جهده وسعة افقه.

كذلك اريد ان اشكر الجهات المساهمة معنا والداعية الى عقد هذا المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين، وهم على الشكل التالي:

كذلك اريد ان اشكر سعادة سفير الجمهورية الاسلامية الأخ الدكتور غضنفر ركن آبادي على مساهمته وحضوره.

وأشكر نائب الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم.

وأيضًا الشكر لممثلي الطوائف الكريمة.

والشكر الخاص لراعي هذا المؤتمر دولة رئيس المجلس النيابي الأستاذ نبيه بري على حضوره معنا وقبوله رعاية هذا المؤتمر، وهذا ليس غريبا عليه، فهو من جبل عامل ومن بيت مشايخ وشعراء وادباء ولهم حق عليه، وبتقديري هو حاضر لأداء الحق وفعل هذا الواجب.

كما اريد ان اشكر السادة العلماء وامين عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية اية الله الشيخ محمد علي التسخيري على حضوره ومشاركته رغم وضعه الصحي وظروفه الصحية. كما اشكر الوفد القيادي المرافق لسماحته.

كما اشكر امين عام المجمع العالمي لأهل البيتR سماحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محمد حسن أختري، من خلال الوفد الممثل لسماحته.

اشكر الوزراء والنواب والسلك الدبيلوماسي والعسكري والأمني، والفعاليات البلدية والاختيارية والاجتماعية والثقافية والتربوية.

اشكر الاخوة والاخوات الإعلاميبن والإعلاميات.

ولا اريد ان انسى الاخ الحاج حامد الخفاف ممثل اية الله السيد علي السيستاني على استضافته لمؤتمرنا هذا في مجمع الإمام الصادقQ.

شكرا لكم جميعًا.

[1](*) عضو المجلس المركزي في حزب الله والمسؤول العلمي للمؤتمر.

أعمال جلسات المؤتمر

اليوم الأول:

الثلاثاء 31 أيار 2011 - قرية الساحة التراثية - طريق المطار - بيروت

الجلسة الأولى

برئاسة سماحة الشيخ محمد علي التسخيري
نائب الرئيس الشيخ مصطفى ملص

الشيعة في لبنان: تاريخهم ودورهم

البدايات حتّى عصر الشهيد الأوّل

أ.د. مصطفى بزي (*)

إنّ معظم أنظمة الحكم التي تداولت السلطة في المنطقة الإسلاميّة والعربيّة، وخاصّة منذ العصر الأمويّ، امتداداً حتّى العصر العباسيّ، وما بعدهما، كانت أنظمةَ حكمٍ مطلق، والكتابات التاريخيّة عن هذه الأنظمة كانت تتمحور حول الخلفاء والسلاطين وحاشيتهم وبلاطهم، كما أنَّ الكتابات التي تحدَّثت عن أنظمة حكم الفاطميين والسلاجقة والأيوبيين وغيرهم، ركّزت على السلاطين والوزراء والأمراء والقادة الكبار والولاة، حيث أنَّ التواريخ ارتبطت بهؤلاء ارتباطاً مباشراً، بينما لم تلق فئات الشعب الأخرى الاهتمام المماثل، مع العلم أنّ الناس، كلّ الناس، هم الذين يصنعون التاريخ بأنفسهم، فهؤلاء هم وقود كلِّ الحروب العسكريّة، وهم الذين يُساقون إلى العمليّات الحربيّة، يخسرون أنفسهم وأرزاقهم وبيوتهم، ويهجّرون من مكانٍ إلى آخر، وتفرض عليهم الضرائب وأعمال السخرة والظلم وغير ذلك.[1]

إنّ مراكز الحكم في المناطق الإسلاميّة كان لها مؤرِّخوها، شعراؤها، أدباؤها، وكتّابها، لكن يُلاحظ أنَّ التركيز في تلك العصور التي شهدت الأحداث التاريخيّة، لم يكن على كلِّ المناطق بنفس المستوى، بل كان التركيز يطال مدناً معينةً، دون أن يكون أدنى اهتمام بمدنٍ أُخرى.

معظم المناطق اللبنانيّة، ومنها جبل عامل، كان لها دور مهم في سير عمليّة التاريخ، هذا الدور كان يؤدِّي إلى نتائج إيجابيَّة أحياناً، وأحياناً أخرى إلى نتائج سلبيّة، وهذا أمر طبيعيّ؛ لأنَّ أهالي هذه المناطق لم يكونوا اللاعبين الوحيدين على الساحة، فقد كانت هنالك قوى عديدة تتصارع فيما بينها، على أرض هذه المنطقة، وكانت تحاك مؤامرات، وتعقد اتفاقات ومعاهدات، وكلها كانت لها انعكاسات على العمليّات السياسيّة والعسكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

إنَّ هذه المنطقة، كجزءٍ من بلاد الشام، كانت تتأثَّر مباشرةً بما يحدث في الشام والعراق من جهة، وفي فلسطين امتداداً حتّى مصر من جهةٍ أخرى، خاصة وأنَّ المناطق الجنوبيّة من لبنان، مثَّلت منذ القديم، أحد المعابر للجيوش الآتية من مصر مروراً بفلسطين، باتِّجاه المقاطعات اللبنانية، وخاصّةً منذ أواخر القرن التاسع الميلاديّ، وكذلك باتِّجاه الدول الأخرى.

حين نؤرِّخ للفترة الواقعة بين ما قبيل الحروب الصليبية، امتداداً إلى الحديث عن هذه الحروب، والأدوار التي لعبتها ممالك ودول وإمارات وشخصيّات، واستعراض المعارك والحروب والانتفاضات والثورات التي حصلت، فإنَّنا نحاول رسم صورةٍ واقعيّةٍ للمرحلة التي نؤرِّخ لها، لنؤكِّدَ على حقيقةٍ أساسيّةٍ، سوف تبرز من خلال السياق التاريخيّ، وهي أنَّ المنطقة كانت تقع فريسةً سهلةً بيد الطامعين والمحتلّين، عندما تكون هناك مشاكل وخلافات تعصف داخل الصفِّ الواحد، أو المجموعة الواحدة، بينما تكون المنطقة بمنأى عن الخطر والاجتياح والاحتلال إذا كانت الصفوف متراصّة، والجميع يشاركون في صدّ الغارات والاعتداءات، وقد حفل التاريخ بأحداث كثيرة أبرزت التطاحن على السلطة بين الأمراء والحكام والسلاطين، وحتّى بين الأخوة أنفسهم، والأبناء والزوجات، ولا شك أنّ شهوة السلطة كانت تؤدِّي إلى مزيد من التقاتل والاختلاف الحاد.

إنّ منطقة جبل عامل، وبشكل خاص، عانت من الاحتلال المتعدّد، والاعتداءات الخارجيّة، والصدامات المحليّة، وبالمقابل شهدت المقاومات الباسلة، وخاض سكّانها حركات رفض وعدم رضوخ للمحتلِّين، وشهدت محطّات هامّة في المقاومة والتصدّي، ولعب أهلها وزعماؤها السياسيّون والدينيون أدواراً هامة في هذا المجال.

وجبل عامل هي التسمية التاريخية القديمة، لما قد أصبح يسمى اصطلاحاً بـ(جنوب لبنان)» أو (الجنوب اللبناني) أو (لبنان الجنوبي)، وهذه التسمية تحمل في طياتها معانٍ دينيّة وثقافيّة وإنسانيّة، لا يمكن أن ينساها أبناء هذه المنطقة، على امتداد تاريخها.

ويرتبط باسم جبل عامل رجال كبار، شخصيّات دينيّة متميِّزة، شخصيّات سياسيّة، ثقافية، شعراء، أدباء، مؤرِّخون، وكثير من هؤلاء سمّوا أنفسهم بـ(العاملي)؛ لأنّ هذه العبارة تعطيهم خصوصيّة معيّنة، لا يمكن إلا أن نتوقَّف عندها، حتّى أنّ هنالك أشخاصاً غير عاملين، سكنوا المنطقة، فانتسبوا إليها، أو نُسبوا إليها، لرمزيّة المكان الذي ارتبط دينيّاً بأبي ذر الغفاري، امتداداً إلى علماء كبار، كالشهيد الأوّل والشهيد الثاني وبهاء الدِّين العاملي، إلى آخر هذه السلسلة.

إنّ الأحداث التي نتكلَّم عنها تشمل الشام، صيدا، طرابلس، صور، عكا، صفد، طبرية، الداخل العامليّ كله، إضافةً إلى الجوار العربيّ الذي كان له تأثيره المباشر أو غير المباشر على هذه الأماكن. إنّ منطقة جبل عامل بالذّات اعتبرها المؤرِّخون ملحقةً حيناً بالشام، وحيناً آخر بعكا، وفي أحسن الأحوال بصيدا ثمّ ببيروت لاحقاً.

والحديث عن الناحية السياسيّة والفكريّة بين الفترة الصليبيّة والمملوكيّة، تفرض علينا حكماً التعامل مع واقعٍ تشابكت خلاله قوى سياسيّة عديدة، كان لها تأثير على الواقع، بأشكال مختلفة، وبنسبٍ متباينة، فعندما وصل الصليبيّون إلى المناطق اللبنانيّة من ناحية الشمال، وتوجّهوا مباشرةً من الساحل اللبناني، الذي لم يفتح أبوابه لهم بكلِّ مدنه، باتِّجاه القدس، هدفهم الرئيس، فإنَّ قوى سياسيَّة وعسكريَّة أخرى كانت لا تزال تؤثِّر في الواقع السياسيّ والعسكريّ للمنطقة، فالسلاجقة موجودون في الجهة الشرقيّة في الشام، والفاطميّون كان لهم وجود بحري أساسي، ثمّ كان دور كبير للأتابكة والأيوبيين الذين كان صراعهم على جبهتين، واحدة فاطميّة، وأخرى صليبيّة، ثمّ كان دور المماليك الذين كان أثرهم فعّالاً، وحصل تداخل مملوكيّ صليبيّ فاطميّ خلال فترة طويلة، هؤلاء المماليك الذين كان لهم دور في هزيمة المغول في أهمِّ المعارك التي جرت بينهما، كما ساهموا فعليّاً في التصدّي للصليبيّين وهزيمتهم في أكثر من واقعة.

إنّنا ونحن نتحدّث عن هذه القوى، لا بدّ لنا من استعراض تأثيراتها الفكريّة والعلميّة؛ لأنّ المسألة العقائدية كانت مؤثِّرة في سير عمليّة تاريخ المنطقة، وفي علاقات القوى السياسية، التي كانت تربط سياستها بخلفيّاتها الدينية، وهناك تغييرات عديدة، وتحوّلات كثيرة حصلت، كانت أسبابها دينيّة وعقائديّة.

تبعاً لما ذكرنا، سنحاول دراسة المرحلة السياسيّة والفكريّة قبيل بدء الحروب الصليبيّة، ثمّ خلا الاحتلال الصليبيّ للمنطقة، امتداداً حتّى نهاية الصليبيّين والفترة المملوكيّة، التي كان الشهيد الأوّل محمد بن مكي الجزينيّ أحد أهمّ شهدائها، شهداء التعصّب والحقد وعدم قبول الرأي الآخر.

الخريطة السياسية قبيل بدء الحروب الصليبية

دور الفاطميّين سياسياً ودينياً

ينتسب الفاطميّون إلى جدّهم الملقّب بالمهديّ، أوّل خلفائهم ببلاد المغرب، وهو عبيد الله بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن الإمام جعفر الصادقQ. وهم من فرقة الإسماعيليّة، إحدى فرق الشيعة، ومن المعروف أنّ الإسماعيلية يتماهون مع الإمامية الإثني عشرية (الجعفريّة) في إرجاع الإمامة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب Q، امتداداً إلى الإمام جعفر الصادقQ، ثمّ يعدلون بها عن الإمام موسى الكاظم إلى أخيه اسماعيل، ثمّ إلى ابنه محمد، ثمّ إلى ابنه جعفر، ثمّ إلى ابنه محمد، الملقب بالحبيب، ثمّ إلى عبيد الله، الملقّب بالمهدي، أوّل خلفاء الفاطميين، ثمّ إلى ابنه العزيز، فالظاهر، ثمّ المستنصر بالله، وهو خامس خلفائهم بمصر، وهنا يفترق الإسماعيلية إلى فرقتين: إحداهما تقول أنّ الإمامة انتقلت من المستنصر إلى ابنه المستعلي، وأخرى تقول إنّها انتقلت إلى ابنه نزار[2].

في عهد العباسيّين، كان هناك شخص يُدعى أبو عبد الله الشيعيّ، وكان قد وليَ الحسبة في بعض أعمال بغداد، وكان بداية يعتنق الإمامية الاثني عشريّة، واتَّصل بمحمد، المعروف بالحبيب، والد عبيد الله المهدي، فأقنعه بالعدول عن مذهب الإمامية، واعتناق الإسماعيليّة، فاعتنقها، وأخلص لها، وأصبح من أعظم دعاتها.

وذهب أبو عبد الله إلى بلاد المغرب، وراح يبشِّر بالإسماعيليّة[3]، ويمهِّد لخلافة المهدي، فأتبعه بعض أهلها، ولمّا اطمأنّ إلى طاعتهم، وخاصّة عقائدياً ألّف منهم جيشاً، وثار به على الحاكم، وانتزع منه الحكم، وسلّمه إلى المهدي لقمة سائغة، وذلك في نهاية القرن الثالث، وتحديداً سنة 296هـ، وتلقّب المهدي بأمير المؤمنين، وتوفّي بعد ست وعشرين سنة من فعلته، وذلك سنة 322هـ، فآلت الخلافة إلى القائم بأمر الله، الذي حكم أحد عشر عاماً، وتوفي سنة 333هـ[4].

ثمّ تولى الحكم بعده إسماعيل، الملقب بـ(المنصور) الذي مات سنة 341هـ، فآلت الخلافة إلى ولده المعزّ لدين الله، وهو من الخلفاء المميّزين، وكان مثقَّفاً، مولعاً بالعلوم والآداب وحسن التدبير وأحكام الأمور، ويذكر المؤرِّخون أنّ «الأمن كان مستتبّاً في عهده واطمأنّ به الحال، وفكّر أن يعدّ العدّة لغزو مصر، لثروتها وموقعها الجغرافي، الذي يمهّد السبيل لامتداد النفوذ والسيطرة على كثير من الأقطار، بخاصة الشام والحجاز، وكان هذان القطران خاضعين للأخشيديين، حكّام مصر في ذلك الوقت»[5].

نلاحظ هنا أنّه في ظلّ الأخشيديين كان هناك حكم واحد في المنطقة يتبع سلطتهم، لذلك كانوا في موقع قوي، وهذا ما سنجده أيضاً في فترات أخرى.

وردت المعزّ أخبار من مصر، تفيد بوفاة كافور الأخشيديّ، وذلك سنة 357هـ، فعمد المعزّ فوراً لإعداد جيش، هيأ له المال، وعهد إلى قائده جوهر الصقلي بقيادة الحملة[6]، فسار جوهر بجيشه سنة 358هـ، وصل برقة، ثمّ مضى إلى الإسكندريّة، فدخلها من غير مقاومة، ولمّا وردت أخبار جوهر إلى الفسطاط، تآلف وفد من الأكابر، وفاوضه في تسليم المدينة، وانتهت المفاوضة بكتاب الأمان، لكن فئة من جنود المصريين، الذين كانوا في خدمة كافور، لم يرضوا عن عقد الصلح، فأعلنوا الحرب، ودار القتال، وانتهى إن زال حكم الأخشيديّين والعباسيّين عن مصر، وأصبحت هذه البلاد ولايةً تابعةً للدولة الفاطميّة، التي امتدّت من المحيط الأطلسيّ غرباً، إلى البحر الأحمر شرقاً، ونافست هذه الدولة الفاطميّة الشيعيّة بغداد، حاضرة الدولة العباسيّة السنّية المتداعية، وكان لتلك المنافسة أبعد الأثر في الحضارة الإسلاميّة[7].

وفي سنة 358هـ، وضِعَ جوهر أساس مدينة القاهرة، التي أصبحت عاصمةً للدولة، وكان كلُّ ما فيها شيعي، حتّى الأزهر ولبس السواد والأذان والتدريس والشعائر.

ولمّا أيقن المعزّ أنَّ دعائم الملك قد توطَّدت في مصر والشام، سار إلى مصر، وصل الإسكندريّة سنة 362هـ، وانتقلت العاصمة إلى القاهرة، التي أصبحت مقرّاً للخليفة والخلافة.

لقد حدث في الشام أمرٌ مهم، لكنّه لم يؤثِّر في عضد الدولة الفاطميّة، فقد برز القرامطة هناك، وزحفوا إلى الشام، وانتزعوها من يد نائب الخليفة الفاطميّ، وتوجّهوا إلى مصر، في محاولة للسيطرة عليها، لكن المعزّ بجيشه كان لهم بالمرصاد، «فأوقع بهم هزيمة منكرة في معركة بلبيس في أواخر سنة 362هـ»[8].

لقد أقام الفاطميّون في مصر، بعاصمتها القاهرة، خلافة مستقلة «واستناداً إلى مضمون الدعاية الشيعية، كانوا على يقين بأنّهم وحدهم زعماء الجماعة الإسلاميّة الشرعيّة (بانتمائهم إلى محمدP)، وكانوا يستهدفون آجلاً إسقاط خلفاء بغداد، إذ كانوا يعدّون ولايتهم زوراً، وعلى عهدهم الذي طال قرنين، عرفت مصر عصر ازدهار»[9].

إنّ ما طرحه هذا الخليفة الفاطميّ المهم، فيما يتعلّق بالصراع مع البيزنطيين، من قدسيّة عمله الجهاديّ ضد هؤلاء، يبرز وكأنّه المنطلق الأساسي لتحرِّكه حيث قال بوضوح تام أنّه «لم يأت إلى الشرق طمعاً في ملك أو جاه، وإنّما للجهاد ووقف خطر البيزنطيّين»[10].

إنّ هذا الطرح كان يبدو هدفاً استراتيجيّاً للفاطميّين، والتركيز على الجهاد كان أحد الأركان الرئيسة في العقيدة الفاطميّة، وهذا ما سيتمّ التعبير عنه عمليّاً في المواجهات الكبيرة مع الصليبيّين.

مات المعزّ سنة 365، وقيل بحقّه كلام كبير، حيث قال عنه ابن الأثير: «كان المعزّ عالماً فاضلاً، جواداً شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه من حسن السيرة، وإنصاف الرعيّة»[11].

بعد المعزّ تسلّم الخلافة ولده منصور نزار، الملقب بـ(العزيز بالله)، وفي عهده استولى القرامطة على الشام، وزحفوا مرّةً ثانيةً على مصر، فسار إليهم العزيز بنفسه، وقاتلهم وهزمهم، وعني بالشام عناية خاصة، لكن في تلك الفترة حدث ارتباك في الحكم الفاطميّ، ممَّا جعله ينجرّ إلى خضم الصراعات المحليّة، وبعض أسباب هذا الارتباك كان رفض دمشق للتوجّه العقائديّ الفاطميّ، وظهور استقلاليّة حمدانيّة في حلب (الدولة الحمدانيّة)، لا تتناسب أيضاً مع توجّهات الدولة الفاطميّة، وإزاء هذا الأمر الخطير الداخليّ، سار العزيز بالله إلى حلب، عاصمة هذه الدولة الحمدانيّة، التي ما إن شعر قادتها أنّ الفاطميِّين توغّلوا في الشام، فإنّهم تحالفوا مع باسيل الثاني امبراطور القسطنطينية، وهذا أمر مسيء، حيث تمّ الاستقواء بالبيزنطيّين ضدّ المسلمين، فحصلت معركة بين العزيز والإمبراطور، الذي أمدّ حلب بالعساكر، لكن كانت الهزيمة من نصيبهم. عقائدياً، «عني العزيز بالله مثل أبيه بنشر المذهب الشيعيّ، وحتّم على القضاة أن يصدروا أحكامهم وفق هذا المذهب، كما قصر المناصب الهامّة على الشيعة، وأصبح لزاماً على الموظّفين السنيّين الذين تقلّدوا بعض المناصب الصغيرة، أن يسيروا طبقاً لأحكام المذهب الاسماعيليّ»[12].

تولّى الخلافة بعد العزيز بالله الذي توفّي سنة 386هـ (الحاكم بأمر الله) «الذي ترك سياسة التعصّب للمذهب الفاطميّ، واتّبع سياسة التسامح مع الطوائف، وأخيراً ظهوره بمظهر القلق والتذبذب، لكن مع إقرار الأمن، والقضاء على الفوضى»[13].

وتَعتبر المراجع الكنسيّة أنّ الحاكم «كان متعصّباً في معاملة المسيحيين، (تدابير تمييزيّة، وتخريب بعض الكنائس، ومنها كنيسة القبر المقدّس في القدس)، ممّا كان له أثر في انطلاق الدعوة إلى الحملة الصليبيّة بعد قرنٍ من الزمن، لكن هذه الدعوة لم يكن لها أي مبّرر، بقدر ما أسرع خليفته إلى إلغاء التدابير التي اتّخذها سلفه الحاكم، والتي رأى فيها المؤرّخون المسلمون أنفسهم تعديات هي من عمل رجل مجنون»[14].

دخول الفاطميّين إلى جبل لبنان

عندما بدأت دولة الفاطميّين غزو المنطقة بقصد احتلالها، تعرّضت المدن الساحليّة لغزو بحريّ مرَّات عديدة من الفاطميّين فالعباسيّين، وبالعكس.

وبعد سقوط الشام بأيدي الفاطميين سنة 359هـ، سنة 969م[15]، بدأت هذه الدولة تعمل لبسط نفوذها على المناطق اللبنانيّة كافّة. وظهر أنّ هناك قوّتين أساسيّتين تتنافسان للسيطرة على المنطقة، وهما القوّة البيزنطيّة، التي كانت تأمل في الوصول إلى بيت المقدس للسيطرة عليها، والدولة الفاطميّة التي قوي نفوذها، وتعزّز موقعها، وزاد انتشارها، مستفيدةً من تراجع الخلافة العباسيّة، التي كانت تترنّح، بفعل المشاكل الداخليّة، والأخطار الخارجيّة الداهمة لها.

ولإضفاء الصفة الدينيّة الشرعيّة عليهم، عمد الفاطميّون إلى إعلان الخلافة منذ ظهور دولتهم، في محاولةٍ للحلول مكان العباسيّين، الذين فشلوا في إنجاح هذا الدور. واعتمدت الدولة الفاطميّة في تلك الفترة على ركيزتين أساسيّتين في مواجهة الأعداء البيزنطيّين، الركيزة الأولى كانت طرابلس، التي أضحت قاعدةً للبحريّة الفاطميّة، وصور التي تشكِّل القاعدة المقابلة من ناحية الجنوب، والتي كانت مهمّتها مزدوجة، بحيث تراقب تحرّكات الساحل من جهة، وتضبط إيقاع الداخل من جهةٍ أُخرى، حيث أنّها كانت تشكِّل حماية هذا الداخل من الضغط الخارجيّ. ولا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ الدور الذي كانت تنتظره صور، ثمّ راحت تلعبه، لم يكن جديداً عليها، فهي منذ العهد العباسيّ كانت مؤثِّرة في الوضع السياسيّ، ثمّ في فترةٍ لاحقةٍ لعبت دوراً مع ظهور الدولة الطولونيّة، ثمّ انتقل هذا الدور إلى الفترة الفاطميّة، ولعلّ السبب الرئيسيّ للتعاطف مع هذه الدولة الأخيرة هو التوجّه والانتماء العقائديّ الشيعيّ.

هكذا استطاعت الدولة الفاطميّة أن تُقيم توازناً عسكريّاً بحريّاً مع البيزنطيّين، وأسفر الأمر عن هدنة بين الفريقين[16]، وكانت الدولة قد فرضت الصلح على البيزنطيّين، وذلك في عهد الخليفة العزيز سنة 377هـ، سنة 987م.

ومن هذا التراجع البيزنطيّ أمام الفاطميّين يمكن أن نفهم ممارسات البيزنطيّين ضدّ الفاطميّين باستمرار، حيث كانوا يَخلقون لهم المؤامرات، كما حدث في دمشق والرملة ثمّ في صور.

لقد استقبل العامليّون حكم الدولة الفاطميّة برحابة صدرٍ، ممّا دفع بمدينة صور، التي سبق لها أن انفصلت عن النفوذ العباسيّ، إبَّان السيطرة الطولونيّة[17]، لأن تُصبح القاعدة الأساس للدولة الفاطميّة في منطقة الشام، وحافظت صور، في وجه الهجمات البيزنطية ضد الفاطميّين، على دورها المميَّز كقاعدةٍ جنوبيّة، كان من أبرز مهامّها، عدا حماية هذا الجزء من الساحل الشاميّ، مراقبة تحرّكات القوى السياسيّة المناهضة للفاطميّين في الداخل.

المهم أنَّ جبل عامل خضع للدولة الفاطميّة منذ 973م، وقد مرّ البشاريّ المقدسيّ في هذه المنطقة، ما بين سنتيّ 375هـ و380هـ، «وصرّح بأنّ مذهب أهل هذا الإقليم، وما يجاوره هو التشيع»، ثمَّ يتحدَّث عن المنطقة مرّةً أُخرى ويقول: «جبل عامل ذو قرى نفيسة وأعناب وأثمار وزيتون وعيون، المطر يسقي زروعهم، يطلّ على البحر ويتّصل بجبل لبنان…» ويُضيف قائلاً: «خير العسل ما رعى السعتر بإيليا وجبل عاملة»[18]، واستغلّ الامبراطور البيزنطي باسيل الثاني الاضطرابات التي تشهدها بلاد الشام ضدّ الفاطميين سنة 387هـ، ودعم رجلاً من صور يدعى بـ(علاّمة) ضدّ الحكم الفاطمي، وهو ملاّح مغامر كما يقول ابن الأثير[19]، وهذه أخطر مؤامرة حصلت ضدّ الفاطميّين بمساعدة البيزنطيّين، وتحرّكت القوات الفاطميّة من مصر باتّجاه صور، للقضاء على حركة علاّمة، وكان «والي الشام قد عهد إلى أحدهم لحصار المدينة بقواته»[20]. واستطاع الفاطميّون بواسطة هذه القوات القضاء على هذه الثورة، ومدِّ دعمها من البيزنطيّين، وبهذه المناسبة، امتدح الشاعر عبد المحسن الصوريّ الإمام الحاكم بأمر الله على النصر الذي تحقّق.

ما بعد الحاكم بأمر الله

قُتل الحاكم سنة 411هـ، وتولّى الحكم بعده ابنه أبو الهاشم، الملقّب بالظاهر، وهناك أخبار متعدّدة حول مقتل الحاكم، «حتّى يُقال أنَّ أخته ستّ الملك دبّرت اغتياله، أو أنّه خرج ولم يعد، ويعتقد الدروز أنّه اختفى، وهو سيعود إذا زالت المفاسد المنتشرة في العالم، فهو الإمام المنتظر عند هذه الطائفة»[21] وكان الظاهر صغير السن، فأصبحت عمّته وصيّةً عليه، ودانت له الشام والثغور وأفريقيا، وأظهرت هذه المرأة مقدرةً فائقةً في الحكم، أما هو فكان عاقلاً، سمحاً، ذا دين وعفة وحلم مع تواضع، وعدل في الرعية، ومات بمرض الاستقساء سنة 427هـ»[22].

بعد الظاهر تسلّم الحكم ابنه أبو تميم، الذي تلقب بالمستنصر، وذلك سنة 427هـ، وكان عمره سبع سنين وسبعة وعشرين يوماً، وبقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر، وهذه أطول فترة في حكم الخلافة الإسلاميّة، وفي عهده حدث أمران، أولهما: انتهاء سلطة الفاطمّيين في بلاد المغرب سنة 475هـ، وخلع أمير مكة والمدينة طاعة الفاطميّين سنة 462هـ[23].

ومات المستنصر سنة 487هـ، وتسلّم الحكم بعده ابنه أحمد، المستعلي بالله. ويُعتبر عهده حدّاً فاصلاً في تاريخ الخلافة الفاطمية، فقد وهَنَتْ الدولة، وقامت فيها الحروب الداخلية، وهددتها قوى خارجيّة، وحصلت خلافات بين الخليفة وأخيه نزار على الحكم، ودارت بينهما حروب وفتن.

بروز قوّة السلاجقة

اشتدّ التنوّع الاثني عشر في القرن الحادي عشر، وذلك بعد اجتياح الأتراك السلاجقة، الذين كانوا قد اندفعوا داخل الإمبراطوريّة الإسلاميّة، وانقضّوا عليها، واستولوا على الشرقين الأوسط والأدنى، باستثناء مصر.

وكان السلاجقة وهم من جدٍّ يدعى سلجوق، عناصر تركيّة، دخلت تسلّلاً إلى العالم الإسلامي، وأعلنت إسلامها، ودخلت كمجموعاتٍ كثيرة العدد، وتمركزت في منطقة خراسان، وشنّت هجمات على إيران والعراق، و«لم يكن أمام السكان خيار غير الخضوع لهؤلاء الأسياد الجُدد، وكان الخليفة في بغداد تابعاً لبعض الأمراء الشيعيّين، الذين نجحوا في فرض إرادتهم منذ مائة سنة في العاصمة، فاستنجد بالأتراك السلاجقة، وقد عرفوا برغبتهم في إحياء المذهب السنّي القويم، ففي العام سنة 1055م دخل السلاجقة إلى بغداد، من دون إراقة دم، وحصل زعيمهم على لقب سلطان، وهو تفويض سلطة بكلِّ معنى الكلمة من قِبَل الخليفة»[24].

وقد استطاع السلطان أن يثبّت سلطة السلاجقة، في النصف الثاني من القرن الحادي عشر على إيران، والعراق وسورية.

في هذا الوقت كان الانحلال يطال كلاًّ من الخلافتين الفاطميّة والعباسيّة، فالدولة الأولى تراجعت بسبب سياسة الحاكم بأمر الله، وازدياد نفوذ الوزراء العظام، والثانية بسبب تفاقم سلطان بني بويه، الذين سيطروا على العباسيّين سيطرةً تامّة»[25].

واستفادت من هذا الوضع قوّة فتيّة، ظهرت على مسرح الأحداث في الشرق الأدنى، هي قوّة الأتراك، ومن هؤلاء السلاجقة، الذين راحوا يتوسّعون على حساب شعوب أخرى، وفي مناطق عديدة، وعلى وجه الخصوص على حساب المسلمين والبيزنطيين، حتّى أنّ إيران والعراق أصبحتا تؤلِّفان وحدةً كبيرةً «دانت بالزعامة الروحيّة للخليفة العباسيّ، وبالزعامة الدنيويّة للسلطان السلجوقيّ»[26] حتّى أنّ الخليفة العباسي زوّج زعيم السلاجقة طغرل بك من ابنته، وهذا الأمر بثّ في الدولة الإسلاميّة روحاً جديدة، وقوّةً متناميةً يُحسب لها كل حساب، وبدلاً من أن تكون مهمتها الدّفاع عن نفسها، فإنّها راحت تفكر في التوسع على حساب القوى الأخرى، وخاصة على حساب البيزنطيّين في آسيا الصغرى تحديداً.

توفّي طغرل بك سنة 1063م، وبعده «تولَّى الحكم خليفته ألب أرسلان (1063 ـ 1072)، وراح يعمل للاستيلاء على أراضٍٍ جديدة من أراضي الامبراطورية البيزنطيّة، وضمّ أقاليم عديدة إلى حكمه»[27] في 19 أوغسطس سنة 1071م التقى ألب أرسلان بخصمه رومانوس الرابع جنوبي ملا زكرد (مانزكرت)، ودارت بين الطرفين معركة، حلّت إثرها الهزيمة بالبيزنطيّين، ووقع الامبراطور رومانوس الرابع نفسه أسيراً، و«قُتل من الروم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى»[28].

تعتبر هذه الموقعة أكبر كارثة حلّت بالامبراطورية البيزنطيّة حتّى نهاية القرن الحادي عشر، و«جاءت دليلاً على نهاية الامبراطورية في حماية المسيحيّة من ضغط الإسلام، وهذه الموقعة تبرّر ـ في نظر المؤرِّخين ـ ما حدث سنة 1095، من دعوة للحروب الصليبيّة في الغرب الأوروبي، على أساس أنَّ هذه الدعوة إنَّما جاءت ردّ فعل للكارثة التي حلّت بالدولة البيزنطيّة سنة 1071»[29].

وقد عامل ألب أرسلان أسيره الامبراطور معاملة طيبةً، فأحسن وفادته، ثمّ أطلق سراحه بعد ثمانية أيّام من أسره، وأعاده إلى بلاده معزّزاً، بعد أن جهّزه بعشرة آلاف دينار، يستعين بها على السفر[30].

كان ملكشاه قد عَهِد بشؤون الملك في دولته إلى أحد رجاله، المؤمنين بفكرته في إقامة دولة إسلاميّة واسعة تركيّة عربيّة، «وهو الوزير الشهير نظام الملك أبو علي الحسن بن إسحق الطوسي، الذي اعتمد على العنصر التركيّ في تنفيذ سياسته، وهؤلاء الأتراك كانوا سنيين متشدّدين، ممّا أغضب العنصر الفارسيّ الشيعيّ في الدولة، وهكذا لم يهدأ الشيعة إلا بعد مقتل الوزير نظام الملك في خريف سنة 1092، ممّا أحدث فراغاً ضخماً، بل هزّة عنيفة»[31].

ويَعتبر بعض المؤرِّخين أنّ الوزير المذكور اتّصف «بحسن الطريقة وبالعدل والنصفة والإحسان إلى أهل الدين والفقه والقرآن والعلم وحبّ الخير وكان حميد السياسة»[32].

تنظر المصادر المسيحيّة إلى ملكشاه نظرةً إيجابيّة، وقيل فيه: «أثبت ملكشاه أنّه رجل رؤوف رحيم، غمر بعطفه المؤمنين بالمسيح، وقد حظي عهده برضا الله، وأنّ امبراطوريّته امتدّت إلى بعيد، ووفّر الهدوء لأرمينيا، وكان قلبه مليئاً بالوداعة والمودّة تجاه المسيحيين، وبدا أباً حنوناً لسكّان البلدان التي كان يجتازها»[33].

هذا المديح، الذي كتبه في منتصف القرن الثـاني عشر، ناسـك يدعى متّى الرّهاوي، ليس هو صدى منفرداً، فهناك كتّاب مسيحيّون آخرون، معاصرون للأحداث، نوّهوا بالعودة إلى الأمان والنظام التي أجراها السلاطين، بعد الاضطرابات التي عرفتها حقبة الغزوات التركيّة.

إنّ وحدة الشرق الأوسط والأدنى (باستثناء مصر التي بقيت في يد الفاطميّين) تحت سلطة السلطان السلجوقيّ لم تدم، فمنذ موت السلطان ملكشاه سنة 1092 (أي قبل الاجتياح الصليبيّ بسبع سنوات) عادت الإمبراطوريّة السلجوقيّة فوقعت في الانقسامات، وكثر عدد السلاطين الذين توصّلوا إلى الحكم الذاتيّ، حتّى أنّ نزاعاً حصل بين أبناء ملكشاه الأربعة (ثلاثة من أمّ ورابع من أمٍّ أُخرى)، وبين بعض هؤلاء وعمّهم.

واستغلّ هذا الأمر الفاطميِّون، الذين كانوا متفوِّقين في البحر، وظلّوا يُسيطرون على ساحل الشام، حيث يذكر ابن الأثير «أنّ الجيش الفاطميّ الذي خرج من مصر في سنة 482هـ، استولى على صور وصيدا وعكا وجبيل، واستعمل أمير الجيوش على هذه البلاد الأمراء والعمال»[34].

وضع المناطق اللبنانيّة والفلسطينيّة في ظلِّ حكم السلاجقة

المناطق اللبنانيّة دخلت تحت حكم السلاجقة قبيل الحروب الصليبيّة، وكان بدر الجماليّ ـ الذي حضر على رأس جيشٍ فاطميّ من مصر لمحاصرة صور، والوقوف في وجه الخطر الذي راح يسبّبه الأتراك من جهة، وبنو عمار في طرابلس، وابن حمدان في الرملة وساحل فلسطين ـ قد رحل من المنطقة، وسبّب هذا الانسحاب انحساراً للنفوذ الفاطمي عن ساحل الشام عموماً، وساحل لبنان خصوصاً، لبضع سنين، واستطاع حاكم صور ـ ابن عقيل ـ أن يُحافظ على إمارته، واستقلالها عن السلطة الفاطميّة، إلى أن توفّي سنة 464هـ[35].

وخلَّف ابن عقيل ثلاثة أولاد، أحدهم نفيس، وفي عهده تعرّضت المدينة لحملة السلاجقة الأتراك، لكن بقي نفيس وأخواه يحكمان المدينة، وكانت السِمَة الأساس لهؤلاء، وحكمهم، التعصّب المذهبي، وخاصّة ضدّ الشيعة الإماميّة.

وفي سنة 464هـ، بدأت البلاد العامليّة تَسقط في قبضتهم، ويقول ابن الجوزيّ: «وسار قريب لقرلوق الرملة إلى عكا وحصرها وأخرب سوادها وسواد صور وغيرها»[36]، وفي هذه السنة أيضاً «توجّهوا إلى طبرية، فنزلوها، واقتسموا البلاد وأخذوا غلالها، وقام أتسز الخوارزميّ (قائد الحملة) في سنة 467هـ بنهب طبرية وقتل أهلها»[37]، وتهجّر الشيعة من طبريّة باتِّجاه جبل عامل.

بعد الذي حدث، ارتبط والي صور مع الأتراك السلاجقة بعلاقات ودّيّة، فعمد مع والي طرابلس إلى مصانعتهم بالهدايا والملاطفات[38].

هكذا نرى كيف أنّ صور، وكذلك طرابلس سقطتا بيد السلاجقة، لكن بقيت صور في يد نفيس وأخويه، يقدّمون الطاعة للسلاجقة، إلى سنة 482هـ، وأصرّوا على العصيان، ورفضوا الخضوع للدولة الفاطميّة، فخرج إليها العسكر المصريّ في هذه السنة، ويقول ابن القلانسي، في هذا الخصوص: «خرج عسكر مصر منها مع مقدّميه، وقصد الساحل، وفتح ثغريّ صور وصيدا، وكان في صور أولاد القاضي عن الدولة ابن أبي عقيل، بعد موته، ولم يكن قوّة لهم تدفع، ولا هيبة تمنع، فسلموها، وكذلك صيدا»[39].

هكذا أصبحت صور بيد الفاطميين، واستمرّ الوضع على هذا النحو حتّى السيطرة الصليبيّة.

نُلاحظ أنّ طبرية كان وضعها مميّزاً، وكأنّها جزء من جبل عامل، ويذكر ياقوت الحمويّ، في معجم البلدان، أنّه «شاهد في هذه المدينة تواجداً مبكراً للشيعة من أعقاب أهل البيت، فقصدها عبد الله بن أبي الفضل العباس بن أبي طالب، الشهيد بكربلاء مع أخيه الإمام الحسين، وسكينة بنت الحسين، ولهما مقام فيها»، يقول الهروي: «وبظاهر طبرية مشهد به قبر سكينة بنت الحسين، وقد زرناها فيما تقدّم، وبه قبر، يقال إنّه قبر عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب»[40].

ويذكر أنّه في نهايات القرن الرابع الهجري «كان جميع أهالي طبرية شيعة»[41] وفي سنة 467 هاجم السلاجقة طبريّة وقتلوا أهلها[42]، ومنذ ذلك الوقت ضعف التواجد الشيعيّ فيها.

الرملة أيضاً كانت شيعيّة، وشهدت التشيّع باكراً، مع هجرة السادة من عقب الحسن بن طاهر إليها، وهو من عقب الإمام علي بن الحسينQ وكان في زمن المتنبي[43]، قد قصدها عدد من الشيعة، وزاروها وتحدّثوا عنها، وتوفّي فيها علماء، ودفنوا في أرضها، مثل: العالم الشيعي تقي الدين بن النجم الحلبيّ أبو الصلاح، كما سكن فيها شعراء من الشيعة[44] ويبدو أنّ التشيّع في الرملة أصابه ما أصاب مثيله في طبرية، فقد تضاءل فيها بعد الهجوم السلجوقي عليها سنة 463هـ، بحيث لم يرَ فيها من أهلها أحد، وفي سنة 463هـ، جاء السلاجقة بالفلاحين الرملة وعمّروها»[45].

ويبدو أنّ الشيعة في تلك الفترة فرّوا من الرملة وطبرية ونابلس إلى جبل عامل، وتذكر المصادر والمراجع حوالي مئة من أعلام جبل عامل في القرن الخامس من 400هـ إلى 500هـ، 1009م – 1106م، كما تذكر أكثر من سبعين آخرين من نزلاء جبل عامل، من الأعلام العلماء والأدباء والشعراء والمحدّثين والمؤرّخين»[46].

ويبدو بشكل واضح، أنَّه مع الضغط السلجوقيّ على المنطقة، حدث ضغط على مسلمي جبل عامل الشيعيّة، لكي تكون خطبة الجمعة والدعاء للخليفة العباسيّ، فوافق علماء الشيعة، أمّا عامّة الناس فرفضت ذلك بشدّة، وأفشلت الأمر… وبقي الناس يتحمّلون مسؤوليّة خيارهم الحرّ. وهناك نصّ مثبَت يتحدّث عن وضع الشيعة في جبل عامل في نهاية القرن العاشر الميلاديّ، وهو ما جاء في كتاب (سفر نامة) الرحَّالة المشهور ناصر خسرو، فقد تحدّث عن استقرار اجتماعيّ ونسق ثقافيّ متميِّز في مدينة صور، التي أكثر سكانها من الشيعة، لكن قاضيها سنّي، كما يقول، وأنّ الدلائل تُشير إلى أنّ المذهب الإسلاميّ الذي كان سائداً في تلك الفترة، هو مذهب الإمام الأوزاعي، الذي تميّز بالاعتدال والانفتاح، ليس على المذاهب الأخرى فقط، بل على أهل الأديان الأخرى أيضاً.

والسفر نامه كتاب للحكيم والفيسلوف ناصر خسرو… العلويّ، المتّصل نسبه بالإمام الرضاQ، وكان قد زار جبل عامل سنة 438هـ، وذكر في كتابه ما رآه في صيدا وصور وطبرية ونابلس، ويقول عن طرابلس أنّ «سكانها كلهم شيعة، وقد شيّد الشيعة مساجد جميلة في كلّ البلاد» ويتحدّث أيضاً عن صيدا فيقول: «ثمّ بلغنا صيدا، يزرع بها قصب السكر بوفرة، ولها ثلاث بوابات، وفيها مسجد جمعة جميل…»، وأمّا عن صور فإنّه «قدّرها بألف ذراع مربع (أقل من ثلاثة أرباع الكلم الواحد)، وأربطتها (أبنيتها) من خمس أو ست طبقات… وتعرف مدينة صور بين مدن ساحل الشام بالثراء، ومعظم سكانها شيعة، والقاضي هناك، رجل سنّي، اسمه ابن أبي عقيل (هو عبدالله بن علي بن عياض بن أحمد بن أبي عقيل، المتوفي سنة 450هـ)، وهو رجل طيب ثري»[47].

ما لم يتحدّث عنه ناصر خسرو بالنسبة لصيدا، حول مسألة التشيّع فيها، ذكره آخرون، فيذكر أنَّ المدينة «كانت في القرن الحادي عشر شيعيّة، ففي سنة 463هـ/1070م (أي قبيل مجيء الصليبيين بحوالي 29 سنة)، كانت صيدا تسير في فقهها وعقيدتها على المذهب الشيعي الإمامي»[48] إلا أنّ هذا لا يعني أنّه لم يكن فيها عقائد أخرى ومذاهب، «فقد أرسل أبو حمزة الجعفريّ، المتوفي سنة 463 إلى أهلها جواب المسألة الواردة من صيدا، كما يقول النجاشي»[49].

المواجهات السلجوقيّة الفاطمية
قبيل بدء الحروب الصليبيّة

لم تأت سنة 1096، أي قبيل بدء التغلغل الصليبيّ في المناطق الإسلاميّة بوقت قصير، كانت دولة السلاجقة تعيش فترة عصيبة، وليس أدلّ على ذلك من تقسيمها إلى خمس ممالك متنافسة وهي:

وإذا كان السلاجقة قد أثبتوا خلال فترة معينة بأنّهم «سيوف الإسلام الذائدون عنه، فإنّ هذه القوّة لم تلبث أن انفلّت وتفتّتت عند فجر الحركة الصليبيّة، ممّا صار له أكبر الأثر في نجاح الحملة الصليبية الأولى»[50].

والأخطر من ذلك، أنّ بلاد فارس والعراق، أصبحت مسرحاً للحروب بين الأخوة أنفسهم، ولم تنتهِ هذه الحرب إلا بتوقيع صلح في أوائل سنة 1104هـ[51].

أمّا في بلاد الشام، فإنّ السيادة السلجوقيّة راحت تنحسر تدريجيّاً، خاصّةً بعد الخلافات التي حصلت بين القيادات، ووجود قادة ضعاف، وأكثر من ذلك، فلعلّ «أكبر مظهر لانحلال سلطان السلاجقة في بلاد الشام والعراق وغيرهما عندئذٍ، هو ظهور عددٍ كبير من البيوت الحاكمة، لا تجمعها رابطة الاتّصال بالبيت السلجوقيّ، ومن تلك البيوت ظهرت وحدات سياسيّة، أُطلق عليها اسم الأتابكيات، وعلى أصحابها اسم الأتابكة، وأتابك لفظ تركي معناه (مربّي الملك)، ومن أظهر الأتابكيات أتابكية دمشق، ومؤسسها ظهير الدين طغتكين، واستمرّت من سنة 1104م (أي بعد بدء الحروب الصليبية مباشرة) وسنة 1154م، أمّا أتابكية الموصل فمؤسّسها عماد الدين زنكي، واستمرّت من سنة 1127م، حتّى سنة 1262م»[52] أمّا فلسطين، فكانت تحت سيطرة القائد التركماني (أرتق)، الذي خلفه بعد وفاته ولداه سقمان (أوسكمان) وايلغازي، ولكن حدث سنة 1098، أن أفاد الفاطميّون من تعرّض السلاجقة لغزو الصليبيّين، فخرج من مصر جيش فاطمي، تحت قيادة الوزير الأفضل نفسه لمحاصرة بيت المقدس، و(نصب عليه المناجيق)، ولم تلبث بقيّة فلسطين أن سقطت بعد ذلك في أيدي الفاطميين[53].

بالرغم من ذلك، فإنّ هذه الانتصارات المحدودة، كانت تخفي وراءها حقيقة مأساويّة، تتمثّل بزيادة التفتّت السياسيّ، في بلاد الشام وغيرها، ولا شك في أنَّ عمليّة التجزئة هذه، التي كانت واضحةً تماماً، وهي تترافق مع شقّ الصليبيين طريقهم إلى المنطقة، كانت من العوامل الرئيسية التي ساعدت الصليبييّن في تحقيق أطماعهم، وقد أدرك هذه الحقيقة وذكرها المؤرّخ الصليبيّ وليم الصوريّ[54].

انطلاق الحروب الصليبيّة

الحروب الصليبية التي استهدفت المنطقة الإسلاميّة كلّها، طيلة ثلاثة قرون، على اعتبار أنّها بدأت في نهاية القرن الحادي عشر، ولم تتوقّف طوال القرن الرابع عشر، وبقيت حتّى شطرٍ مهم من القرن الخامس عشر، هذه الحروب مثّلت دوراً رئيساً من أدوار الصراع القديم بين شقيّ العالم، ذلك الصراع الذي حفل به تاريخ المنطقة طويلاً، ولا شك أنّ الهجوم المضادّ الذي قامت به أوروبا المسيحيّة في شبه جزيرة ريبرية (أسبانيا الحالية)، ضد المسلمين، وحقّقت خلاله انتصارات مهمّة، تحوّل في فترةٍ لاحقةٍ إلى حربٍ شاملةٍ، بل سلسلةٍ من الحروب والحملات، (توجّهت أربع منها باتِّجاه الشام وهي الأولى والثانية والثالثة والسادسة)، عُرفت بالحروب الصليبيّة، وهي حروب ظاهرها دينيّ (استعادة القدس من أيدي المسلمين)، وباطنها استعماريّ ـ استيطانيّ، (طموح الأمراء والنبلاء الأوروبيّين إلى احتلال مناطق شرقية، وإنشاء إمارات تابعة لهم). إنّ بعض المؤرّخين يعتبرون هذه الحرب حلقة من حلقات الصراع بين الشرق والغرب، وهو صراع تقليديّ، وهناك آخرون اعتبروا هذه الحرب، وما ارتبط بها من عمليّة غزو للمنطقة العربيّة والإسلاميّة، عمليّة هجرة، صحبت سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة في القرن الخامس.

وهناك فريق آخر اعتبر أنَّ الحركة هي نتيجة عمليّة الإحياء الديني، التي بدأتها الحركة الكلونية، والتي ترتّب عليها عودة البابويّة إلى سطوتها القديمة، وإثارة الحماس الدينيّ في الغرب الأوروبيّ، وهذا الفريق اعتبر أنّ الحركة الصليبيّة، التي بدأت سنة 1095م ليست إلا استمراراً لحركة الحجّ الجماعيّ إلى بيت المقدس. وهناك آخرون اعتبروا أنّ الحركة الصليبيّة، التي دعت إليها البابوية بتأييد من الكنيسة، تلاقت مع رغبة الأوروبيّين، الطامحين في الخروج من أوضاع القرون الوسطى المحدودة إلى أفق أوسع. نصل إلى نتيجة أولية هنا، أنّ الحروب الصليبيّة التي دامت حوالي قرنين هي «حركة كبرى، نبعت من الغرب الأوروبيّ المسيحيّ في العصور الوسطى، واتَّخذت شكل هجوم حربيّ استعماريّ على بلاد المسلمين، وبخاصة في الشرق الأدنى، بقصد امتلاكها. هذه الحركة اتَّخذت من استغاثة المسيحيّين في الشرق ضدَّ المسلمين، ستاراً دينيّاً للتعبير عن نفسها تعبيراً عمليّاً واسع النطاق»[55].

يرى البعض أنَّ النجدة السريعة التي طلبها الأباطرة البيزنطيِّون من الغرب الأوروبيّ، إبّان الغزو السلجوقيّ لأراضي الامبراطورية البيزنطية، كانت من الأسباب المباشرة للحركة الصليبيّة، لكن السؤال المطروح هو لماذا استجاب الغرب الأوروبيّ فوراً لهذه الدعوة؟

هناك من يعتبر أنَّ السبب الدينيّ هو السبب الوحيد للحركة، منهم ريان Riant، الذي عرّف الحركة بقوله أنّها: «حروب دينيّة استهدفت عن طريق مباشر، أو غير مباشر، الاستيلاء على الأراضي المقدّسة بالشام»[56]، وقد بالغ بعض المؤرِّخين القدامى في إظهار سوء أحوال المسيحيّين في البلاد الإسلاميّة في العصور الوسطى، وما تعرّضوا له من اضطهاد، وما لاقاه الحجّاج المسيحيّون من عقبات ومعاملة سيئة من حكّام البلاد الإسلاميّة.

إنّ الردّ على ذلك، إنّ العامل أو الدّافع الديني يذوب وسط الدوافع السياسيّة والمصالح الاقتصاديّة، يعني هو موجود، إلا أنّه متلازم مع الدّوافع الأخرى، وقد تمّ تضخيمه بشكل واضح.

الواقع يُثبت أنّ المسيحيين عاشوا في كنف الدولة الإسلاميّة حياةً طبيعيّةً هادئةً، ويُثبت ذلك كثير من الأدلّة منها: رسالة بطريرك بيت المقدس إلى بطريرك القسطنطينية، يقول له فيها سنة 869م: «إنّ المسلمين قوم عادلون، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنّت»[57].

إنّ القول بأنّ مسيحيي الشرق ساءت أحوالهم، وأنّ الحجّاج لاقوا العقبات، قول مبالغ به، وهو ادّعاء باطل، لا يتّفق مع روح الإسلام، ودعوته، وموقف القرآن الكريم من أهل الكتاب من رعاية وحماية واضح، والقرآن حافل بالأحاديث عن المسيحيّين خاصّةً عندما يتحدّث عن السيد المسيح وعن السيدة مريم وعن آل عمران وعن أهل نجران.

وإنّ من يقول إنّ: «الحروب الصليبيّة أتت كردّ فعل للاضطهاد الذي تعرّض له المسيحيّون ـ الشرقيّون والغربيّون ـ في البلدان الإسلاميّة، إنّما هو ادِّعاء باطل، وما أمر الله به محمداً عليه الصلاة والسلام، من دعوتهم إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة واضح، يقول الله تعالى، في كتابه العزيز: }فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{ وكذلك: }الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ{[58].

لا شك في أنَّ الذين لبّوا الدعوة إلى الحروب الصليبيّة، كما ترى بعض أوساط الكنيسة «لم تتّسم دوافعهم دائماً بالنزاهة، فما أكثر عدد صغار الأبناء في البيوتات، الذين لم يكن لهم أيُّ أملٍ في المحافظة على إقطاع الأجداد، ففكّروا في الحصول على أراضٍٍ جديدة في مكانٍ آخر، وما أكثر عدد التجّار الذين تبعوا أساطيل الحملة الصليبية لزيادة أعمالهم في ما وراء البحر المتوسّط، وما أكثر عدد رجال الدولة، الذين استفادوا من تلك الرحلات الكبرى، فخصّوا أنفسهم بالإمارات أو وطّدوا سيطرتهم الاقتصاديّة! كلُّ ذلك صحيح، وصحيح أيضاً أنّ واقع الحملة الصليبيّة، وهو مفهوم لم يدركه البيزنطيّون، قد فصَل فصلاً عميقاً بين جزئيّ العالم المسيحي، وخلّف لقرون طويلة حذر الإسلام من الغرب المسيحيّ، المتّهم بتعليل النفس بالمطامع التوسعيّة، وصحيح أيضاً أنّ بعض الملوك، وبعض البابوات، قد حوّلوا الحملة الصليبيّة عن أهدافها الأولى، واستخدموها لغايات سياسيّة محض على أرض العالم المسيحيّ»[59].

من جهةٍ ثانيةٍ هناك قيادات وأباطرة مسيحيون اعتبروا أنّه كان هنالك ظلم إسلاميّ لأقوامهم، وهذا يبرز من خلال ما يعرضه البطريرك غرموند (Gormond) حول وضع الصليبيّين غير المستقر في أورشليم، ويستغيث بالغرب فيقول: «… إنّ المسلمين يحيطون بنا من كلِّ جهة: في الشرق بابل، وفي الغرب عسقلان، وعلى البحر صور، وفي الشمال دمشق، كل يوم يغزوننا، كل يوم يقتلوننا، ويلقون القبض علينا، وأجسادنا المقطوعة الرأس تُترك للحيوانات الضارية، والجوارح، يبيعوننا في السوق كالغنم، وماذا نزيد على ذلك؟

في سبيل اسم يسوع، نحن مستعدون لأنّ نذوق عذاب الموت، قبل أن نترك مدينة أورشليم المقدسة، وصلب ربّنا وقبر المسيح المقدّس. ولكن، في هذا الوقع الرهيب الذي نحن فيه، أغيثونا!».

هذه رسالة البطريرك غرموند إلى دييغو جلميريز Diego Gelmirez حوالي سنة 1120م[60].

من الواضح، أنَّ هنالك مبالغة كبيرة في الحديث عن الظلم اللاحق بالمسيحيّين في الشرق؛ لأنَّ الاعترافات الأخرى تُناقض ذلك، وتدحض هذه الأقوال.

إذا سلّمنا بالتعامل السلبيّ للمسلمين ضدّ المسيحيين، فإنَّ التاريخ يذكر محطَّات عديدة، كان هناك اضطهاد مسيحيّ لبقيّة الطوائف، إذ يذكر التاريخ ما أقدم عليه خلفاء الإمبراطور قسطنطين الأوّل من اضطهاد لإرغام غير المسيحيين على اعتناق المسيحيّة، وما أقدم عليه شارلمان في القرن الثامن من فرض المسيحيّة على السكسون والبافار والآفار بحدّ السيف، حتّى أنّه قتل من السكسون وحدهم في مذبحة فردان الشهيرة أكثر من أربعة آلاف فرد..، وما ارتكبه الفرسان التيتون وفرسان منظمة السيف من وحشية وقسوة بالغة في محاولتهم نشر المسيحيّة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بين البروسيين وغيرهم من الشعوب السلافيّة[61]. من ناحيةٍ ثانية، من الخطأ اعتبار (الاضطهاد الدينيّ) الذي تعرّض له بعض المسيحيّين في الشرق، فريداً من نوعه، حتّى يكون سبباً لاستثارة الغرب الأوروبيّ، كما أنّه لا صحة للاعتقاد أنّ كلَّ المسيحيِّين الذين لبّوا دعوة مسيحيي الشرق لنجدتهم هم تقاة ورعون مؤمنون، هدفوا إلى حماية المسيحيّة، وأنّ فكرة شنّ حرب دينيّة ضد المسلمين، واستخلاص الأراضي المقدّسة منهم، لم تكن على رأس قائمة الأسباب والأولويّات التي دفعت البابوية لتزعُّم الدعوة للحرب، وكذلك لاستجابة الملوك لهذه الدعوة، مع العلم أنّه «في ظلِّ قوّة البابوية ونفوذها وعظم سلطانها، فإنّ ملوك الغرب، مهما علا شأنهم وازدادت قوتهم، فإنّهم لم يكونوا يرفضون لها أمراً، أو يردون طلباً، وإلا تعرّضوا للحرمان الكنسيّ، والطرد من الكنيسة ورحمتها» وأكبر مثال على ذلك هو الإمبراطور فريدريك الثاني، الذي «طلبت منه الكنيسة، والبابا على وجه الخصوص بالخروج على رأس حملةٍ صليبيّةٍ إلى الشرق ضدّ المسلمين، لكنّه لم يكن مقتنعاً بالأسباب التي سيقت لإنفاذ الحملة وقيادتها، وراح يماطل أكثر من مرّة، حتّى كان قرار الحرمان، الذي صدر من جانب البابويّة بحقّه، فاضطرّ حينئذٍ للخروج على رأس حملةٍ من رجاله قاصداً الشام، وعندما وصل بادر للاتّصال بالسلطان الكامل الأيوبيّ، ليشرح له موقفه، قائلاً له: «إنّه ما له غرض في القدس، ولا غيره، وإنّما قصد حفظ ناموسه عند الفرنج»[62].

قليل من الملوك شذّ عن هذه القاعدة، ولدينا مثال على ذلك، فلربما الوحيد الذي لم يكن هدفه غير الإيمان والجدّية في هذا المجال، كان الملك لويس التاسع، ملك فرنسا، الذي «اشتهر بورعه وتديّنه وارتباطه الكنسيّ، وتقواه الحقيقيّة، حتّى لقَّبه معاصروه بالقدّيس، والذي أراد أن يعبّر عن حماسته الدينيّة تعبيراً عمليّاً بالمشاركة في الحركة الصليبيّة»[63]، وأمّا بالنسبة للأمراء الذين شاركوا في الحروب الصليبيّة، فكانت لهم أهداف سياسيّة، تمثّلت برغبتهم في إنشاء ممالك وإمارات في الشرق، عجزوا عن تحقيقها في الغرب، والإقطاعيّون شاركوا في الحرب طمعاً في الحصول على إقطاعات جديدة واسعة في الشرق، تُضاف إلى إقطاعاتهم في الغرب، تساعدهم في الحصول على مراكز سياسيّة؛ «لأنّ النفوذ السياسيّ للإقطاعيّ كان يرتبط بما كان يسيطر عليه من أرض، وما يتبعه من أقنان ومزارعين»[64].

إنّ بعض الملوك والأمراء اتّبعوا أساليب معيَّنة، لا تمّت للنصرانيّة والتديّن والإيمان بصِلَة، فالبعض منهم كانوا يوزّعون الغنائم فيما بينهم، وهم في طريقهم إلى الشام، وقبل الوصول إلى هناك، والحصول على الغنائم، وبعضهم كانوا يرتشون بالمال، فعندما قصد الملك بلدوين مدينة صور وحاصرها، ولم يستطع دخولها، فإنّه «بنى حصناً على تلّ المعشوق، فصانعه واليها على مبلغ من المال، فرحل عنها وقصد مدينة صيدا»[65] أمّا بالنسبة لصيدا، التي تعرّضت للصليبيّين بداية في 20 أيار/ مايو سنة 1099، أثناء زحفهم إلى فلسطين، فإنَّها كانت «تنعم بشيءٍ من الهدوء والاستقرار، بحماية الأسطول الفاطميّ من البحر، وقوّات طغتكين من البرّ، حتّى سنة 1106، حين قرّر الملك بودوان احتلال المدينة، واستغلّ هذا الأخير وجود مجموعةٍ من الحجّاج الصليبيين المتوجِّهين نحو القدس، فتحرّك بهم نحو صيدا، لكنّ حاكم المدينة أسرع يسترضي بودوان، بمبلغ كبير من المال، فرضي وعدل عن مهاجمة المدينة»[66].

يتبيّن ممَّا تقدّم، أنّ الحماس الدينيّ، وحده، لا يكفي، في حربٍ طويلة المسافات، باهظة التكاليف، نائية الأهداف، فلا بدّ من اجتذاب أمراء أوروبا ونبلائها للمشاركة في هذه الحرب بأموالهم، وأتباعهم، في آن. وبما أنّ التجربة قد نجحت في استعادة معظم الأراضي الاسبانيّة من المسلمين، فوجد الأوربيون من شأن ذلك أيضاً، إن يضمن استعادة القدس، من جهة، واحتلال مناطق، في الشرق، غنيّة بخيراتها الطبيعيّة، وهذا ما حصل بمباركة البابا وتشجيعه، ومساهمته الماليّة، فتدفّق المقاتلون الصليبيّون من فرنسا، والنورماندي، وبريطانيا (والنورماندي وبريطانيا كانتا يومذاك، منفصلتين عن فرنسا)، ومن إنكلترا، والدويلات الإيطاليّة، أمّا الامبراطوريّة الرومانية ـ الجرمانية المقدَّسة، المنهمكة في صراع دينيّ عنيف مع البابويّة، فلم تشارك في الحملة الصليبيّة الأولى.

ولم يكن الصليبيّون، في حملتهم الأولى هذه، جيشاً منظماً موحّد القيادة، وإنَّما كانوا تجمعاً غريباً من المحاربين، على رأس كلِّ فريقٍ منهم أميرة، أو سيّدة، أو كاهنة، لا يجمع بينهم سوى هدف واحد، هو استعادة بيت المقدس من المسلمين، وبما أنّ هذا الهدف كان هدفاً بعيد المنال، فقد عاد العديد من المشاركين، خلال المراحل الأولى التي اجتازتها الحملة، وعندما بلغ الصليبيّون أراضي الإمبراطورية البيزنطيّة، رفضت القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية، فتح أبوابها لهم، لأسباب مذهبيّة، فحاصروها، واحتلّوها بالقوة، وفتكوا بسكّانها بوحشية، ونهبوا كلَّ ما وقعت أيديهم عليهم، ثمَّ عقدوا صلحاً مع الإمبراطور أليكسي، بأنّ يغادروا عاصمته، ويُعيدوا إليه ما يحرّرونه من مناطق تابعة له، شرط أن يقدّم إليهم المساعدة الضروريّة عسكريّاً وتموينيّاً[67].

التحرّك الصليبيّ باتِّجاه القدس

إنّ الدعوة الصليبيّة، التي لها بُعدٌ دينيّ لا يمكن الاستهانة به، أو القفز فوقه، خرجت من مجمع كليرمونت، وتحديداً من البابا أوربان الثاني، الذي أعلن دعوته قائلاً: «فلينطلق المسيحيّون بالغرب، لنجدة الشرق»[68]، وتحرَّكت الحملة الأولى من أوروبا إلى المنطقة، واتّجهت نحو أنطاكية شمالاً، لم يكن ذلك بالطبع سهلاً، فالزحف الصليبيّ في آسيا الصغرى، وبلاد الشام، كان زحفاً بالغ الصعوبة، ذا خسائر فادحة في الرجال والعتاد، سواء في المعارك، أم بسبب تفشّي الأمراض، وفقدان المؤونة.

تمّ الزحف باتّجاه أنطاكية كما قلنا، في شهر كانون الأول سنة 1097، وكانت أنطاكية من أجمل مدن العالم القديم، ثمّ قدَّمت تعزيزات إسلاميّة من دمشق وحلب وغيرها، لنجدة حامية المدينة، لكنّ الجنود المسلمين لم يبلغوا المدينة، و«عمد الصليبيّون إلى قطع مائتي رأس من رؤوس الأسرى المسلمين، وألقوا بها فوق الأسوار، لبثّ الرعب في نفوس المدافعين عن المدينة، ونفوس سكّانها، فلم يُجْدِ هذا الأسلوب الوحشيّ نفعاً… وزاد صمود أنطاكية، ورفضها الاستسلام، من شراسة الصليبيّين، فأقدموا على قتل المئات من الأسرى، وألقوا برؤوسهم، مرّةً أخرى، من فوق الأسوار، وشيئاً فشيئاً، أخذت موارد الحملة الصليبيّة، التي بدأت حملةً غنيّةً ومترَفةً، تنفذ، وعمّ الجوع مقاتليها ومرافقيها، وأشار بعض المؤرِّخين، الذين رافقوا الحملة، إلى أنَّ وطأة الجوع دفعت بالبعض إلى أكل لحوم البشر»[69].

وسقطت أنطاكية أخيراً، واتّجهت الحملة الصليبيّة نحو الساحل، باتِّجاه القدس، التي كانت الهدف الرئيس للصليبيّين، فأي انتصار يتحقّق لا يُعتبر تاماً وكاملاً، إذا لم تكن القدس ضمنه، وسقطت القدس سنة 1099م، وبعد احتلالها، اطمأنّ الصليبيّون إلى تأسيس مملكة فيها، للانطلاق منها باتّجاه المناطق الأخرى، الساحليّة والداخليّة، وذلك في 11 ربيع الثاني سنة 493، وفي طريقهم لم يتعرّضوا لمدينة صور بأيّ سوء. عاد ملك الصليبيين (جودفري بوايون) للاتِّجاه نحو الشمال، وقبل أن يترك المنطقة «عهد إلى الأمير تنكر النورماني بفتح إقليم الجليل، حيث احتلّ هذا الأخير مدينة طبرية - عاصمة التشيّع - الواقعة على أطراف جبل عامل الجنوبية الشرقيّة، وسقطت نابلس، وفرّ من سلم من أيدي السلاجقة والصليبيين، من أهالي هذه المناطق إلى جبل عامل، وسكنوا بين أهله، الذين تجمعهم بهم وحدة النسب والمذهب والانتماء»[70].

يبدو أنّ الصليبيين، الذين توجّهوا نحو الشمال، لم يواجهوا مقاومةً في الريف الجنوبيّ، بعكس ما حصل معهم على الساحل، حيث أنّهم تجاوزوا صور أولاً لصعوبة فتحها، وتوجهوا نحو صيدا، وعندما «وصلوا إلى ضواحي هذه المدينة، لأوّل مرّة في العشرين من شهر أيار/ مايو سنة 493هـ، سارع عسكرها إلى الخروج منها، والتصدّي لهم، وهم عند نهر الأوّلي، شمالي المدينة، غير أنّ الصليبيّين تمكّنوا من صدّ الهجوم، وتابعوا بعد ذلك طريقهم جنوباً إلى صور»[71].

إنّ صيدا، وبعد أن تراجع الصليبيون عنها سنة 495، عادت إلى الحكم السلجوقيّ.

يبدو أنَّ الصليبيّين لم يستطيعوا أخذ خطٍّ واحدٍ في عمليَّاتهم العسكريّة، فعندما يجدون استحالةً أوليّة في السيطرة على مدينةٍ، فإنَّهم كانوا يتركونها، ويتوجّهون نحو أيِّ هدفٍ آخر، يجدون سهولةً في تحقيق هدفهم من خلاله، هكذا نرى كيف أنّهم هاجموا عكا، واستولوا عليها سنة 497هـ، ثمّ انتقلوا إلى الشمال، وأسقطوا مدينة جبيل سنة 1104م، ثمَّ اتبعوها بإسقاط مدينة طرابلس، التي كانت فيها إمارة لبني عمار، وذلك سنة 1109م/502هـ، ثمّ عاودوا تحرّكهم جنوباً مرّة أُخرى، وهذه المرّة باتّجاه بيروت، التي قاومت، ودافع عنها الفاطميون، وحصلت معارك بحريّة بين الطرفين، ثم سقطت في نيسان سنة 1110م/ 503هـ.

لم يَترك الصليبيّون صيدا تنعم بالهدوء والاستقرار، فبعد ستِّ سنوات من تركهم لها بيد السلاجقة، ثمّ الفاطميّين، أي في سنة 501 عادوا وهاجموها بقيادة بلدوين، يساعده أسطول يقوده فلاحون مغامرون من مدن إيطاليّة مختلفة، ولم يستطع أولاً احتلالها، وحضرت النجدات إليها في آب سنة 1108، لكن الفاطميّين دافعوا عنها دفاعاً مستميتاً، وتمكّن الأسطول الفاطمي من إيقاع الهزيمة بالسفن الصليبيّة، فارتفع بذلك الحصار البحريّ عن المدينة[72].

يتحدَّث ابن الأثير بدوره عن صمود صيدا، رغم الحصار الذي دام سبعة وأربعين يوماً، لكنّها سقطت أخيراً بيد الملك بلدوين «الذي فرض على أهلها عشرين ألف دينار، فأفقرهم، واستغرق أموالهم»[73] وكان سقوطها سنة 504هـ/ 1111م.

لا بدّ من ذكر أنّه في تلك الفترة كان الفاطميّون تحت سلطة الآمر بأحكام الله إلا أنّ المستعلي، الذي تولّى الحكم سنة 495هـ، «كان له من العمر خمس سنوات، وكان الوصي ومدبّر شؤون البلاد الوزير الأفضل شاهنشاه، أمير الجيوش، ويُقال إنّه بعد أن كبر الآمر قتل الأفضل، وعيّن مكانه في الوزارة المأمون البطائحي، فظلم وأساء، فقتله الآمر، وصادر أمواله»[74].

في أيّام الآمر، كما نرى، سقطت معظم مدن الساحل بيد الصليبيين، لم يبق إلا صور على الساحل اللبناني، وعسقلان على الساحل الفلسطينيّ.

توجّه الصليبييّن نحو الداخل والموقف العامليّ

بعد أن احتلّ الصليبيّون معظم الساحل باستثناء صور، وجّهوا اهتمامهم نحو الدّاخل، حيث عملوا على احتلال منطقة جبل عامل بأكملها، وتحصينها، بعيداً عن الساحل، الذي كان لا يزال بعضه في قبضة الفاطميّين، ومن أجل ذلك أقدموا على الخطوات التالية:

أهمّ هذه الحصون كان حصن تبنين، وقد «شيّد فوق الجبال المشرفة على مثلث الطريق الذي يربط بين صور وبانياس ودمشق، والذي شيّد الحصن هو (هيو)»[75].

وكان لهذا الحصن أهميّة مميّزة لدى الصليبيّين، ودور مهم وفاعل ومؤثِّر في شمال الجليل، ولما يمثِّله هذا الحصن ـ (مع حصن آخر بني في الطرف الشرقي من الجليل، على التلال الواقعة إلى الجنوب الغربي من بحيرة طبرية، عرف عند المؤرّخين المسلمين بحصن (علعال) أو (عال)، واكتمل بناء الحصنين في خريف سنة 499هـ/ 1105م ـ من خطر مباشر على أطراف صور ودمشق، وطرق القوافل والإمدادات، فقد كانت الضرورة تقتضي من المسلمين مهاجمتهما، وإزالة خطرهما، ويبدو أنّ الإحساس بالخطر كان مشتركاً لدى والي صور وصاحب دمشق، فتقاسما المهمّة»[76]، وهاجما الحصنين، فحقَّق الأوّل نصف نجاح، وحقّق الثاني نجاحاً كاملاً، إذ قام والي صور بعسكره نحو حصن تبنين، فهاجم ربضه، وقتل من كان فيه، ونهب وغنم…

وأخيراً صور

سنة 1111 بنى الصليبيّون حصناً في منطقة المعشوق (البرج الشمالي)، ليكون منطلقاً لهم لحصار صور، وفي هذا العام ذاته، بدأت المحاولات الصليبيّة لاحتلال صور، وكان من أهلها مقاومة عنيفة، ويقال أنّ «الإفرنج لم يتركوا وسيلةً ولا حيلةً إلا مارسوها للاستيلاء على صور، ولكن دون جدوى»[77]، وكانت تأتي صور بعض النجدات من أتابك دمشق طغتكين، والتي سارت من هناك باتّجاه بانياس، وكذلك النجدات من الفاطميين، وكذلك أتت مساعدة من قبل العامليين، الذين ساعدوا السلاجقة لعدم سقوط المدينة.

وحول هذه المساعدة العامليّة، يقول حسن الأمين: «أتت أهل صور رجال كثيرة من صور وجبل عاملة، رغبوا في ذلك، مع رجال من دمشق، وصلوا إليهم، وحطّوا عندهم، وشرع أتابك في إنقاذ مدن عدّة أخرى»[78].

وإزاء المساعدات المتتالية الواردة إلى صور من طغتكين عن طريق الجبل، أعلنت المدينة المحاصرة الولاء للسلاجقة دون أن تنقطع الخطبة فيها للخليفة الفاطميّ. وقام طغتكين بهجوم كاسح على القوات الصليبيّة، واستطاع تجاوز قلعة تبنين، والتوغّل داخل الأراضي الفلسطينيّة، وهذا ما دفع الصليبيين إلى طلب التفاوض معه، فرفض ذلك، إلا أنّ النصر لم يكتب لهذه الحملة، التي لو نجحت، لقضت على التواجد الغربيّ في المنطقة.

وأمام تفسّخ الوحدة الإسلاميّة، عاود الصليبيّون هجماتهم على صور، وبنوا قلعة جديدة جنوبي المدينة، قرب اسكندرونه، وهي موقع استراتيجيّ على الساحل، وذلك سنة 1116م/510هـ، إلا أنّهم لم يستطيعوا التقدّم شمالاً باتّجاه المدينة.

لكن بعد فترة عاد الصليبيّون، وحاولوا تطويق صور، من الشمال بصيدا، ومن الشرق بحصن تبنين، ومن الجنوب بالقلعة التي عرفت بقلعة (سكاندليون) (الاسكندرونة) سنة 511هـ/ 1117م استرجع المسلمون حصن تبنين، ومات الملك بلدوين ملك القدس سنة 512هـ/ 1118م، من غير أن يحقّق حلمه في الاستيلاء على صور، وبعد صمود دام ربع قرن، مليء بالبطولات، سقطت صور بيد الصليبييّن سنة 1118م.

وبسقوط ثغر صور تمّ للصليبيين احتلال جميع مدن (لبنان) الساحليّة، ويحمّل المؤرّخ ابن تغري الفاطميّين مسؤوليّة التفريط بصور على زمان الآمر بأحكام الله العلوي، ونائبه عنها عز الملك الأعزّ الفاطمي، الذي كان الشيعة شديدي الامتعاض من تصرّفاته، ومن مساعديه، الذين كانوا السبب في إفساد أمرها[79].

سنة 1122م، أُعيد الحكم الفاطميّ مجدَّداً إلى صور، بعد وصول أسطول فاطميّ إليها، وكانت تأتي المساعدات من طغتكين في دمشق، ثمّ توالت الهجمات على صور، وجهّز جيشاً وأسطولا مؤلّفاً من 300 سفينة و15 ألف مقاتل، وتمّت محاصرتها من البحر بواسطة الأسطول، ومن البرّ بواسطة المقاتلين، وذلك في شباط 1124م، حتّى استسلمت[80]، وبسقوط صور، آخر معقل عربي إسلاميّ على الساحل، أصبح جبل عامل، بداخله وساحله تابعاً، حسب التقسيمات الإداريّة للمملكة اللاتينية في القدس.

تقييم ما حدث من مقاومة شيعيّة في صور

إنّ كلَّ المؤرِّخين الذين تحدّثوا عن فترة حصار صور، وبقائها صامدةً أمام الزحف الصليبيّ لأكثر من ربع قرن تقريباً، يُثبت كم أنّ أبناء هذه المدينة والجوار كانوا مستعدّين للدّفاع عن مدينتهم مهما كانت النتائج والتكاليف، فابن الأثير، ووليم الصوري، والمقريزي والعسقلاني وابن جبير، كلهم يؤكِّدون على الموقف المميّز لصور. وربما يكون التوافق الذي حصل بين السلطتين السياسيتين في الشام ومصر، له أثر في هذا المجال، فمن 490هـ إلى 506 كان حاكم صور هو عزّ الدين أنوشتكين، وكان تابعاً للسلطة الفاطميّة في مصر بقيادة الملك الأفضل، وفي سنة 506، عيّن طغتكين حاكم دمشق والياً جديداً على صور، هو مسعود السّلار، بعد مراسلات وصلته من أهل صور، وتمّ اطلاع الأفضل على الأمر، فأقرّ ذلك، لأنّ طغتكين أكّد له، إنّ صور ستبقى تابعةً للسلطنة الفاطميّة، وحصلت هدنة بين مسعود وبلدوين، وانعكس ذلك إيجاباً على الحركة التجاريّة في المدينة وعلى استتباب الأمن[81].

ويتحدّث وليم الصوري عن المقاومة الصوريّة ضدّ الصليبيين، فيقول: «انّ نفراً من شباب صور تعاهدوا على حرق آلات الصليبيين»[82]، أمّا المقريزي، فإنَّه يتحدّث عن المقاومة الشرسة التي أظهرها أهالي صور، في وجه الأعداء[83] أمّا ابن جبير فيقول على لسان شيخ من أهل صور: «ذكر لنا أنّهم انتهوا منها لحال نعوذ بالله منها، وأنّهم حملتهم الأنفة على أن همّوا بركوب خطة، عصمهم الله منها، وذلك أنّهم عزموا على أن يجمعوا أهاليهم وأبناءهم في المسجد الجامع، ثمّ يخرجوا إلى عدوّهم بعزمة نافذة، ويصدمونهم صدمة صادقة، حتّى يموتوا على دم واحد، ويقضي الله قضاءه، فمنعهم من ذلك فقهاؤهم والمتورِّعون منهم»[84]. يُلاحظ من هذا الكلام، كم أنّ أهالي صور كانت لديهم أنفه وغيرة وعزّة، وهم لا يمكن أن يركنوا لاحتلال الإفرنج لمدينتهم، وهم مستعدّون للتضحية بأنفسهم، والموت دفاعاً عن مدينتهم وحريّتهم، وهذا موقف مشهود ومعتبر.

هناك ملاحظة ثانية، ترتبط (بمنع الفقهاء والمتورّعين منهم)، وهذا دليل على كثرة هؤلاء في المجتمع الصوري في تلك الفترة.

أمّا لماذا سقطت صور، فالواقع يؤكِّد أنّ صور لم تكن قادرة وحدها على مجابهة الجيش الصليبيّ الجرار، ودخل طغتكين، صاحب دمشق، على خطّ معالجة الموقف، وهو خشي أن تسقط صور حرباً بأيدي الصليبييّن، فتحدث كارثة، ولذلك فإنّه أجرى مفاوضات، عن طريق رسل، مع الصليبييّن، أفضت إلى (عقد موادعة بينهما، تنصّ على أن تستسلم المدينة، على أن يسمح أن يغادرها من أهلها من شاء مغادرتها[85].

هذا ولم يترك طغتكين الصليبييّن يدخلون صور بشكل فوضويّ، ووقف برجاله بإزاء الجيش الصليبي «وفتحت المدينة أبوابها، وخرج أهلها يمرّون بين الصفّين»[86]. وهناك من يرى أنّ طغتكين بن بوري كان موقفه إيجابياً، فقد وصف بالشجاعة والقوّة والشهامة، وهذا يبدو من قوله لأهل صور: «أنا ما فعلت إلا لله تعالى، وان دهمكم عدوّ جئتكم بنفسي ورجالي»[87].

المهم، أنّ أهالي صور تفرّقوا، وقصد قاضيها الأعزّ دمشق، ولم يبق فيها إلا الضعيف العاجز عن الحركة، وملك الإفرنج البلد في الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 518هـ[88] ويبدو أنّ الشيعة في صور، كانوا شديدي الامتعاض من تصرّفات والي صور القاضي الأعزّ، ومن مساعديه، الذين كانوا السبب في إفساد أمرها، لذا نرى الشاعر ابن منير الطرابلسي يهجو القاضي الأعزّ هجاء مريراً، عندما رآه بدمشق بعد فراره من صور، فقال يصف عمامته:[89]

هو قاضٍ كما تقول ولكـن

ما عليـه من القضاء عــلامـه

عمــة تملأ الفضاء عليــه

فوق وجه كعشر عشر القلامة

وعليها من التصاوير مـا لم

يجمع القدس مثله وقمامَهْ(89)

هناك رحالة مرّوا بصور بعد احتلالها وتحدّثوا عنها، وهذا بنيامين التطيلي زارها سنة 561هـ/1165م، وهو يهودي، زار جبل عامل وتحدث عن صيدا، وصور، إنما لم يذكر شيئاً عن الأطياف الدينية في المدينة، وركّز فقط على اليهود، وكأن رحلته كانت بهذا القصد»[90].

كما بدوره أبو سعيد السمعاني زار المناطق العامليّة، وتحدّث عن بعض قراها وبلداتها، وقال عن صور: «هي بلدة كبيرة من بلاد ساحل الشام، استولت عليها الإفرنج، بعد سنة عشر وخمسمائة، وكان بها جماعة من العلماء والمحدّثين»[91].

هناك نصٌ لابن جبير، يتحدّث فيه عن جبل عامل، خلال رحلته التي تمّت سنة 579هـ، وكانت بين سنتيّ 578 وسنة 581، وذكر حصن هونين، وتحدّث عن ميس الجبل، ويسمّيها بـ(الميسيّة) ووادي الاسطبل، والحصن الكبير من حصون الافرنج، يُدعى تبنين، وهو موضع تمكيس القوافل.. ثمّ توجّـه من تبنين إلى اسكندرونة، ثمّ إلى صور، ويتحـدّث ابن جبير عن حياة الأهالي في القرى والجبال، والتي يبدو أنّها أضحت بعيدة عن سيطرة الصليبيين، الذين تمركزوا على الساحل، وقد تحـدّث عن الاعتدال والاتِّفـاق القائم بين السكّان، نصارى ومسلمين، وذلك في جميع الأحوال، ولعلّ في هذا، ما يؤيِّد الرأي الذي يذهب إلى أنّ المسيحيين قاوموا الصليبيين مقاومةً قويّة في هذه المنطقة، جنباً إلى جنب مع المسلمين[92].

استشهاد مرجع الشيعة في صيدا

أثناء حصار الصليبيين لمدينة صيدا، قتل فيها مرجع الشيعة في بلاد الشام، القاضي العالم أسعد بن أحمد بن أبي روح، أبو الفضل الطرابلسي، وكان ابن أبي روح تلميذاً للقاضي ابن البرّاج الطرابلسي، تتلمذ على يديه مع صديقه، ورفيق دربه العالم الشيعيّ الكبير أبي الفتح الصيداوي[93]، وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدل على حقيقتين اثنتين، الأولى أنّ موقع الشيعة في صيدا كان مهمّاً، ووجودهم كان مميّزاً وكبيراً، والثانية أنّ الشيعة في تلك الفترة كانوا عرضةً ومناطقهم لحقدٍ مزدوَج، فهناك الصليبيّون الغازون من جهة، وهناك قوى في المنطقة، لا تريد للشيعة أن يكونوا أقوياء، خاصّةً إذا لاحظنا أنّه بعد وفاة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، تسلّم السلطة خلفاء، لم يكن بعضهم في نفس الحماس لمذهب الإماميّة، كالذين كانوا قبلاً.

وفي سيرة ابن أبي روح، أنّه بعد وفاة أستاذه أبي الفتح، «جلس بعده لتدريس مذهب الإماميّة في طرابلس، وولاه ابن عمار قضاء طرابلس بعده» وقال ابن أبي طيء عنه: «فكان عظيم الصلاة والتهجّد، لا ينام إلا بعض الليل، وكان صمته أكثر من كلامه»[94]، كما وُصف بالتعبّد والزهد حتّى الرهبنة، وقيل إنّه «انفرد بالشام وطرابلس وفلسطين بعد ابن البرّاج»[95].

ولابن أبي روح مجموعة من الكتب، ويذكر أنّه انتقل بعد الاحتلال الصليبيّ إلى صيدا، وكان بها العالم أبو الفتح، وأصبح مرجع الإماميّة فيها، واتَّخذ بها داراً للكتب، جمع فيها أزيد من أربعة آلاف مجلدة[96].

وهناك خلاف بين المؤرِّخين حول مكان مقتله، «بين حيفا وصيدا، لكن الأغلب أنّ ذلك تمّ بصيدا، وقتل بها دفاعاً عن أرض المسلمين ومقامه لا يزال معروفاً إلى يومنا هذا، باسم مقام أبي روح، وهو بالقرب من منطقة نهر البرغوث، الذي كان يتردّد إليه الشاعر الصوري»[97].

تقييم ما حدث في بيت المقدس

كان سقوط بيت المقدس مؤلماً جداً على المسلمين، بشكل عام، وكان تأثير ذلك كبيراً على دمشق بشكل خاص، حيث انطلقت منها شرارة الاستغاثة الأولى، خاصّة وأنّ القدس تمثِّل بالنسبة للمسلمين ثالث الحرمين الشريفين، ولذلك توجّه بعض المسلمين إلى بغداد، «وعلى رأسهم القاضي أبو سعيد الهروي، فاستغاثوا وبكو وأبكوا وذكروا ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم»[98].

وفي مصر، أيضاً، يقول البعض، متَّهمين الفاطميّين بأنَّهم حاولوا بناء علاقات معيّنة مع الصليبيّين، في إشارة إلى أنّهم لم يكونوا يدركون هدف هذه الحركة الصليبيّة، و«أنَّ المسلمين ظلّوا حتّى ذلك الوقت لا يدركون طبيعة الحركة الصليبية وهدفها، بدليل أنّ الفاطميّين في مصر فكَّروا في مشروع للتحالف مع تلك القوة الجديدة، التي ظهرت في بلاد الشام، ضد خصومهم من أهل السنّة، أعني الخلافة العباسيّة في بغداد، والأتراك السلاجقة في الشام»[99] وأكثر من ذلك، فإنَّه يبدو عدم إدراك الوزير الفاطميّ الأفضل (حكم بين 1094م ـ 1121م) لحقيقة الحركة الصليبيّة، من أنّه عندما رأى الصليبييّن يهاجمون الأتراك السلاجقة ـ أعداء الدولة الفاطميّة الألدّاء ـ فكّر في أن يقيم تحالفاً بينه وبين الصليبييّن، بحيث تكون أنطاكية للصليبيين، وتكون بيت المقدس للفاطميين، وكان الإمبراطور البيزنطي كوفين، نصح الصليبيين منذ وجودهم في القسطنطينية، أن يحاولوا محالفة الفاطميين في مصر، والصليبيّون لم ينسوا نصيحة الإمبراطور البيزنطيّ، ممّا جعلهم يرحّبون بالسفارة التي أرسلها إليهم الأفضل في أوائل سنة 1098م أمام أنطاكية، ولعلّ هذه الأحداث تعطينا فكرةً واضحةً عن مدى انقسام العالم الإسلاميّ على نفسه في ذلك الحين، بين سنّة وشيعة، وترك وعرب، وما سبّبه هذا الانقسام من خسارة للمسلمين جميعاً[100].

من ناحيةٍ ثانيةٍ يرى ابن الأثير «أنّ السفارة التي أرسلها الفاطميون إلى الصليبيين عند أنطاكية، أكسبت أولئك الأخيرين وضعاً سياسياً معترفاً به في ركن هام من أركان العالم الإسلاميّ» ويُضيف قائلاً: «كيف أخذ الصليبيون ينهضون بدورهم في مهارة بالغة عندئذٍ، فلم يكتفوا ببثِّ شعور الطمأنينة في نفوس الفاطمييّن، وإعطائهم صورة غير حقيقيّة عن مشروعاتهم في بلاد الشام، وإنّما حاولوا أيضاً أن يسدلوا غشاوةً على أبصار سلاجقة دمشق، فأرسلوا يؤكِّدون أنَّهم لا يطمعون إلا في استرداد الأماكن والبلدان، التي كانت تابعة للبيزنطيين فيما مضى، أي الرها وأنطاكية واللاذقيّة»[101].

وهكذا كان كلُّ ذلك مكراً ورياء وخديعة، حتّى كان الصليبيون بذلك يحاولون استمالة طرف، حتّى إذا ما حقّقوا هدفهم، فإنّهم يعملون على تحقيق بقيّة الأهداف، فالتهموا كلّ الإمارات، التي لم تكن تشكِّل جبهةً واحدةً في وجههم، وإنَّما جبهات منفردة، كلَّما سقطت جبهة، ينتقلون إلى الأخرى، حتّى سقطت بيدهم كلُّ الجبهات.

هناك ملاحظة، وهي أنّ الجنود الفاطميين الذين احتموا مع افتخار الدولة، حكم المدينة الفاطمة في محراب داود، وكانوا قد قاتلوا فيه واعتصموا به ثلاثة أيّام، ولكنّهم لم يلبثوا أن ألقوا السلاح بعد أن بذل لهم الإفرنج الأمان، ثمّ أطلق الصليبيّون سراحهم وسمحوا لهم بالخروج إلى عسقلان، فكانوا الفئة الوحيدة من مسلمي بيت المقدس التي نجت من وحشيّة الصليبييّن[102]، إنّ هذا الأمر «لم يكفِ لمحو آثار الجريمة البشعة التي اقترفها الصليبيون في بيت المقدس، وقتلهم آلاف الأبرياء من المسلمين بغير ذنب، ذلك أنّ الصليبيين لم يتركوا مسلماً في الطرقات أو البيوت أو المساجد إلا قتلوه، واستباحوا دمه، دون أن يفرّقوا بين رجل وامرأة وطفل ولم يرع الصليبيون حرمة المسجد الأقصى، فأجهزوا على كلِّ من احتمى به المسلمون، وعددهم أكثر من سبعين ألفاً، منهم جماعة من أئمّة المسلمين وعلمائهم»[103].

المؤرّخون المسيحيّون يؤكِّدون هذه المعلومات، مثل ابن العبري، كذلك ذكر متّى الرهاوي أنّ عدد من قتلهم الصليبيون من المسلمين زاد على خمسة وستين ألفاً، كما أنّ وليم الصوري، وهو مؤرّخ صليبيّ يتحدّث عن مذبحةٍ شهدها بيت المقدس، ووصفها بأنّها رهيبة، حتّى «أنّه عندما زار الحرم الشريف غداة المذبحة الرهيبة، التي أحدثها الصليبيون، لم يستطع أن يشقّ طريقه وسط أشلاء المسلمين، إلا في صعوبة بالغة، وأنّ دماء القتلى بلغت ركبتيه»[104]، ولم يكن اليهود أحسن حالاً من المسلمين، إذ «جمعوا اليهود في الكنيسة، وأحرقوها عليهم»[105].

المناطق اللبنانية بين الفاطميّين والأيوبيين والصليبيّين

في فترة الخليفة الحافظ الفاطميّ الذي توفّي سنة 544هـ، كان وزيره (ابن الفضل) قد «أهمل الدعاء للفاطميين، وغيّر قواعد الشيعة، وحجر على الحافظ، ومنعه من الظهور، فما كان من الأمراء والدعاة، وكلّهم شيعة، إلا أن قرّروا قتله، وأخرجوا الحافظ، وبايعوه ثانيةً»[106].

بعد موته خلفه ابنه اسماعيل، الملقب بـ (الظاهر بالله) في سنة 544هـ، وكانت أيّامه مضطربة، ونهايته سريعة، إذ قتل سنة 549هـ، فتسلّم السلطة بعده ولده عيسى، الملقّب بـ(الفائز بنصر الله)، وكان صغيراً بالسن، فأصبح وزيره وصيّاً عليه، إلى أن توفّي سنة 555هـ، فولّي الخلافة ابنه، (العاضد لدين الله) وكان عمره أحد عشر عاماً.

خلافة العاضد تشكّل حدّاً فاصلاً بين مرحلتين، الأولى بدء نهاية الدولة الفاطميّة، فقد استمرّ العاضد في الحكم من سنة 555هـ حتّى سنة 567هـ، حيث تمّ خلعه من الخلافة من قِبَل صلاح الدّين الأيوبي، الذي خطب للخليفة العباسي ببغداد، والثانية بدء حكم الدولة الأيوبيّة، التي عملت جاهدةً لاستئصال الخلافة الفاطميّة نهائياً، وحقّقت ما كانت ترجوه، كما اصطدمت بالصليبييّن، فكانت حرباً لا هوادة فيها بين الطرفين.

إنَّ أوَّل إشارة إلى الخطر الصليبيّ، انبعث من الموصل، بعثها أتابك تركي، اسمه عماد الدين زنكي، وكان زنكي مولى لأحد السلاجقة، وتمّ تعيينه من جانب هؤلاء أتابكاً على الموصل، وكُلِّف بمواجهة الصليبيين، لكنّه راح يفكّر بكيفيّة الاستيلاء على دمشق، وإخضاعها لسيطرته.

من الموصل «تقدَّم عماد الدين زنكي لغزو سورية، وفي سنة 1128 استولى على مدينة حلب، وفي السنوات التالية استولى على حماه، حمص، بعلبك، وبدأ زنكي عمليّة توحيد شمالي سورية وشمالي العراق تحت قيادة واحدة، وذلك قبل البدء بمحاربة الصليبيين»[107]. من ثمّ، حاول الاستيلاء على دمشق، لكنّه فشل، فعمل على استرجاع منطقة الرها من أيدي الصليبيين، وتمّ له ذلك سنة 1144م، لكن الرها استعيدت من قبل الصليبيين، بعد وصول تعزيزات، وبعد اغتيال عماد الدين زنكي في مؤامرة مدبَّرة.

تسلّم السلطة بعد عماد ولده نور الدّين زنكي، الذي كان له دور مهم خلال حياته، حتّى طبعت فترته بطابع خاص، وسميت بـ(الفترة النوريّة)، وأوّل انتصار عسكريّ حقّقه كان استيلاؤه على دمشق، وبسقوطها تغيّرت أوضاع المنطقة، سياسيّاً وعسكريّاً ومذهبيّاً، وذكر المؤرِّخون أنّه حاصر دمشق فترة، وكان يريد أن يحقّق حلم والده عماد الدين، باحتلال دمشق، وسيطر عليها فعلاً سنة 1154م، وبسقوط دمشق، سقطت المملكة الأتابكية التي عاشت حوالي نصف قرن، أي من سنة 1104م حتّى سنة 1154م.

ثم أكمل نور الدّين مشروع توحيد المنطقة الإسلاميّة تحت سيطرته، فبعد انتصاره على الدولة الأتابكية في دمشق، تحرّك باتِّجاه المناطق الأخرى لاحتلالها، وذلك في جمادى الأولى سنة 559هـ/ 1164م»[108].

إنّ حركة الصليبييّن في تلك الفترة كانت بدون قيود أو عوائق، خاصّةً كلّما ثبّتوا أقدامهم في الأرض، ولم يجدوا قوى أساسية مهمّة تقف في وجه تحرّكاتهم، وهم بدون شك، استفادوا، وبشكلٍّ أساسيّ من عدم توحّد القوى المناوئة لهم في المنطقة وجوارها، والواقع كان يؤكِّد ويثبِّت أنَّ كلَّ حاكم كان يعمل من أجل تثبيت دعائم حكمه الخاص، بمعزل عن الآخرين، حتّى أنَّ البعض، لم يكن يتورَّع عن مدّ يد العون للصليبيين أحياناً من أجل مصالح خاصة، أو غضّ النظر عن تحرّكاتهم، أو التحالف معهم في أسوأ الأحوال، وكما أنّ الفاطميّين في البداية لم يكن لديهم النظرة الثاقبة للمشروع الصليبيّ، فإنَّ السلاجقة، بدورهم لم يظهروا أية فاعليّة في إعاقة حركة الصليبيين، واستمرّ الوضع على هذا النحو، حتّى بروز نور الدّين، الذي رفع لواء مقاومة الصليبيّين من دمشق، وعمل جاهداً في سبيل تحقيق هذا الهدف، منطلقاً من مسألة مهمّة، وهي أنّ هذا الأمر «كان يُعتبر من أهمّ المرتكزات الأساسيّة، لإضفاء الشرعية على أية سلطة، تستولي على الحكم في المناطق الإسلاميّة»[109].

إنّ حروب نور الدّين ضدّ الصليبيين، بالإضافة إلى ما كانت تحمله إماراتهم بين طيّاتها من عوامل التفسّخ والانهيار، فإنّها «أدّت إلى إنهاك قواهم العسكريّة، وإعاقة توغّلهم التجاريّ في المناطق الإسلاميّة، الأمر الذي جعل المدن التجارية تحجم عن تقديم المساعدات لهم»[110].

هنا تتضح أهميّة التنبّه للاستقواء بالأعداء، في وجه الذين يفترض أن يكونوا أصدقاء، كما تبرز مسألة التحالف بين القوى المعادية للصليبييّن، فكلَّما كان هذا التحالف موجوداً، فالانتصار على الصليبيين يكون سهل التحقّق، والعكس صحيح.

بعد أن حسم نور الدين الوضع في معظم مناطق الشام، إنّما ليس بشكل نهائي، فإنّ وجهته كانت مصر، للوقوف في وجه التهديدات الصليبيّة لها، وهنا يبرز لنا بعض التناقض في الموقف المصريّ، الفاطمي، فقد حانت الفرصة لنور الدّين، للذهاب إلى مصر، عندما طلب أحد وزراء الدولة الفاطميّة (شاور) من نور الدّين، التدخّل في مصر لإنقاذها، وتبعاً لذلك، فإنَّه جهّز جيشاً وأرسله إلى هناك، بقيادة أسد الله شيركوه، وابن أخيه صلاح الدين، لنجدة مصر، إذا تعرَّضت لهجوم صليبيّ.

بالمقابل، يبدو «أنَّ الفاطميّين استغاثوا بالصليبيين، وتحديداً بالملك الصليبيّ في بيت المقدس، عموري، حيث أتى بجيشه إلى مصر، لأنَّه رأى أنَّ قيام دولة قويّة سنيّة في المنطقة، بانتصار قوات نور الدين، سيكون بمثابة حجر عثرة في طريقه، إذ يحول دون تحقيق أغراضه في الاستيلاء على مصر»[111].

ويبدو أنَّ النجدة الصليبيّة قد وصلت متأخِّرة، لسرعة وصول شيركوه، وانتصاره على الفاطميّين، وكانت حصلت سجالات وضغوطات، بين الأطراف الثلاثة (الفاطمي، والصليبي والأيوبي)، أدّت بالنتيجة، أن يستنجد الخليفة الفاطميّ بنور الدّين، الذي أسرع لتلبية النداء، «لأنَّه كان يعتمد على هذه الحملة، في قدرتها على القضاء على المذهب الشيعي، وإعلان المذهب السنّي»[112].

وصلت القوات النوريّة إلى مصر سنة 564هـ/1169م، وكانت بقيادة شيركوه، ومعه صلاح الدين، ولم تصطدم هذه القوات بالصليبييّن، بسبب مغادرتهم البلاد، عندما شعروا باقتراب قوات المسلمين، واجتمع شيركوه بالخليفة العاضد، الذي خلع عليه لقب الوزارة، وتولاّها في ربيع الآخرة سنة 564هـ ـ 1169م، ولكنّه توفّي في نفس العام، وتوفّي العام ذاته الوزير الفاطميّ في مصر شاور.

هنا لم يبق في الميدان إلا صلاح الدّين الأيوبي، الذي خلف شيركوه بالقيادة، وبموافقة من الخليفة الفاطمي العاضد[113].

إذن بدأ يبرز نجم صلاح الدين الأيوبي، كأبرز حالات المنطقة الإسلاميّة، وكان أمامه مهمّات عديدة، وأهداف، كان عليه تنفيذها، وأهمّها قلب الخلافة الشيعيّة الفاطميّة واستبدالها بخلافة سنّيّة، وكذلك توحيد مصر وسورية تحت صولجان واحد، ومتابعة الحرب ضد الصليبييّن حتّى النهاية، وفي الواقع أنّ اسمه الذي أصبح يحمله: «الملك الناصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب»، ارتبط بأحداث هامة، خاصّة في القضاء على الدولة الفاطميّة، وبالتالي على المذهب الشيعيّ.

هل استطاع صلاح الدّين تحقيق أهدافه؟

بدايةً أصبح صلاح الدين وزيراً في البلاط الفاطميّ، وكان ينتظر الفرصة المناسبة لتحقيق ما يتوق إليه، كان الخليفة الفاطمي العاضد (عمره عشرون سنة) يعاني سكرة الموت سنة 1171م، فأمر صلاح الدين أن يذكر الخليفة العباسيّ في بغداد، المستضيء في صلاة الجمعة، عوضاً من ذكر الخليفة الفاطميّ، وكانت هذه الخطوة سهلة التحقيق، وهنا يبرز التناقض في موقف صلاح الدّين، فهو وزير الخليفة الفاطميّ الشيعيّ في مصر، وهو في الآن ذاته قائد جيش نور الدين السنّي في الشام.

يقول البعض أنَّ نور الدين هو الذي حاول مع صلاح الدّين قطع الخطبة للخليفة الفاطميّ، وإقامتها للخليفة العباسيّ، لكنّ صلاح الدين تريّث، بقصد تمهيد الطريق لنفسه، فإذا سارت الأمور كما يريد ويبتغي، فإنَّه يحسم الأمر، وينفّذ خطته المرسومة، وهكذا كان، فلمَّا ثبّت أقدامه، عزم على قطع الخطبة للخليفة العاضد، وتمّ ذلك بالفعل، وكان العاضد في أشدِّ مرضه، حيث مات في عاشوراء سنة 567هـ، 14 سبتمبر سنة 1171م[114].

كان الشيعة هم أوَّل من لحقه أذى النوريين والأيوبيين، «فالعلاقة بين نور الدّين والشيعة لم تكن جيدة، وذلك بسبب ما أصاب الشيعة على يده في حلب ودمشق، وبقية المناطق السوريّة، من اضطهاد، لذلك مالوا إلى الصليبييّن»[115].

ويؤكِّد على هذا الأمر القلانسي، في أخبار سنة 552هـ حيث يقول: «إنَّ جيش نور الدّين أوقع بالصليبييّن هزيمة كبرى أمام بانياس، ومحقت السيوف عامة رجالتهم من الإفرنج، ومسلمي جبل عاملة المضافين إليهم»[116].

ومعركة بانياس المذكورة كانت بين شخصيّتين كبيرتين، هما: نور الدين زنكي، وبودوان الثالث ملك الصليبيين، الذين هزموا أمام الزنكيين أو النوريين، وفي هذا الصدد يقول القلانسي: «إنَّ نور الدين هزم الصليبيين، ومعهم بعض المسلمين من جبل عامل قرب بانياس» مقابل ذلك «نرى العامليين يساندون صلاح الدين في حروبه، وتفسير ذلك، أنّه ليس من المستغرب أن يضمّ جيش الصليبييّن بعض المسلمين؛ لأنّ النظام الإقطاعيّ الذي كان سائداً، يعتمد على تأدية خدمة عسكريّة سنويّة، يؤدّيها التابع للمتبوع، بحسب التشريعات والأعراف الإقطاعيّة»[117].

هناك وجهة نظر مسيحيّة تعلّق على بروز كلٍّ من نور الدين وصلاح الدين، فتعتبر أنّ سبب الانتصارات التي حقّقها الصليبيون، «هو التجزؤ السياسي الذي عرفه العالم الإسلاميّ، وإلى عدم تدخل عاهلَيْ بغداد والقاهرة، ولم يقدّر أحد كما يجب، في ذلك الزمن، أهميّة الخطر الإفرنجي، كما أنّ عدداً من الملوك المحليّين قنع بوجود الأجانب، ولم تتم اليقظة الإسلاميّة. إلا في مرحلةٍ ثانية، كان المفهوم دفاعيّاً في أوّل أمره، ثم دخلت عليه، شيئاً فشيئاً، عناصر دينيّة، واتَّخذ عندئذٍ مظهراً هجوميّاً، فكان المطلوب من الملكين السوريين نور الدين (1146 ـ 1174) وصلاح الدّين (1174 ـ 1193)، أن يسعيا أولاً إلى استنهاض الهمم، ثمَّ إلى استرجاع الأراضي التي خسرها المسلمون، وفي تلك الأيام بلغت محاربة المسيحيين ذروتها[118].

المهم، بعد أن استتبّ الأمر لصلاح الدين في مصر، عسكريّاً، أراد أن يقضي على الحكم الفاطمي هناك، وكان ينتظر تفويضاً من نور الدين زنكي للقيام بالمهمة، وجاءه ذلك التفويض سنة 1071، حيث أنهى الحكم الفاطميّ هناك.

شعر نور الدين، إنّ صلاح الدين تجاوز حدوده، وأنّه يحاول الاستقلال بنفسه، فحاول وضع حدّ له، لكنه توفّي قبل أن يُتمّ ذلك، وكانت هذه النهاية لنور الدّين في مصلحة صلاح الدّين، الذي أصبح الحاكم الأوحد.

بعد مصر، وضع صلاح الدّين نصب عينيه احتلال دمشق، وكان له ذلك سنة 1173م، ثم احتلّ باقي المدن السورية، وجمع بذلك تحت حكمه كلاًّ من مصر ومعظم مناطق سوريا، وقد شعر الصليبيّون بالخطر المحدِق بهم، جرّاء ما ظهر من صلاح الدّين، الذي أصبح في مواجهةٍ حقيقيّةٍ كاملةٍ مع الصليبييّن.

هكذا نرى أنّ صلاح الدّين، بعد تحقيقه الهدفين الأوَّل والثاني، في إسقاط الخلافة الفاطمية، وتوحيد مصر وسوريا، كان عليه تحقيق الهدف الثالث، المتمثِّل بمواجهة الصليبيين، وبدأ بتحقيق ذلك أولاً، لدى المواجهة العنيفة التي حصلت بين الطرفين في طبريا، «حيث سقطت بيده سنة 1187م سنة 583هـ»[119].

ثمَّ وصل إلى القدس في 15 رجب سنة 583هـ/20 أيلول 1187م، لم يهاجمها أولاً، ثمّ حسم الأمر واحتلّها ودخلها في 2 ت1 سنة 1187م وقد اعتبرت أوساط مسيحيّة، أنَّه في الوقت الذي كانت فيه الحرب الكلاميّة الدينيّة المسيحيّة، تعود إلى تناول الأمور القديمة، من الخلاف المتعلِّق بألوهيّة يسوع وبالثالث (الخلاف الآريوسي الاثناسيوسي القديم)، فقد أضيف إلى هذا الأمر السلبي «موضوع استرجاع أورشليم، وبالفعل فإنّ انتصار حطّين سنة 1187م، والاستيلاء على أورشليم في تشرين الأول (أكتوبر)، من السنة نفسها، أدّيا إلى تطوّر في الاهتمام، الذي أولاه العالم الإسلامي للمدينة المقدّسة، ومن المعروف أنّ أورشليم قد احتلّت دائماً مكانة مرموقة في سلم المدن الإسلاميّة (بعد مكة والمدينة)، لكن هذه الفكرة كادت أن لا تكون حاضرة للرأي العام، وذلك لمجرّد ضعف أهميّة القدس الفكريّة والدينيّة، فالحملة الصليبيّة الإفرنجية، هي التي أحيت التقاليد التي طواها النسيان، مشجِّعةً إقامة الصلاة في أورشليم، والحجّ إليها، أو مشيرةً إلى الإسراء الذي قام به محمد»[120].

الوجهة الجديدة جبل عامل

يبدو أنَّ الصليبيين لم يكونوا منتشرين بشكل واسع في مدن وقرى وبلدات جبل عامل، بل كان وجودهم على شكل حاميات عسكريّة، كانت تقيم في القلاع والحصون المنتشرة في كلِّ أنحاء المنطقة، ويبدو أيضاً أنّ هذه القلاع كانت محميّةً بحصون مقابلها، فالقلاع كلها موجودة في أماكن مرتفعة، والحصون الدفاعيّة كانت موجودة في التلال المقابلة لهذه القلاع.

هناك رأي آخر يؤكّد على الاختلاط الذي حصل في المنطقة، بين أهاليها من جهة، والجنود الصليبييّن من جهةٍ أخرى، وللدلالة على ذلك، نُشير إلى ما ذكره (فوشيه شارتر) foucher de chartre، أحد مؤرِّخي الحروب الصليبيّة المعاصرين لها، فقال، ما معناه: إنّ الغربيّين قد تحوّلوا إلى سكّان شرقيّين... فالفرنسيّون والإيطاليّون، ليسوا الآن سوى مواطنين فلسطينيين، وأنَّ ابن مدينة الريمس، أو مدينة شارتر، قد تحوّل إلى صوري أو أنطاكي، لقد نسي الفرنجة أصلهم، بحيث أصبح الواحد منهم يمتلك بيتاً وعائلة ويتكلّم لغة البلاد، ومن كان هناك فقيراً أصبح هنا يتمتّع ببحبوحة العيش، ومن لم يكن يملك في أوروبا، حتّى ضيعة صغيرة، أصبح هنا سيداً لمدينة بأكملها، فلماذا نرجع إذن إلى الغرب، طالما الشرق يحقّق رغباتنا؟![121]

هكذا نلاحظ أنَّ الصليبيّين في المنطقة كانوا قد استكانوا، واعتبروا أنفسهم دائمي الحضور والوجود فيها، ولذلك يبدو أنّهم تحوّلوا من جيش مقاتل، إلى مواطنين عاديّين، باستثناء حاميات الأبراج والقلاع، ولذلك كان من السهل على صلاح الدّين حسم الأمر معهم لمصلحته.

هكذا توجّه صلاح الدّين إلى المنطقة، بعد الانتصارات التي حقَّقها، فسقطت بيده صيدا أولاً، بعد أن فشل بداية الأمر في استرجاع صور، ثمّ «أرسل ابن أخيه تقي الدّين إلى تبنين، فحاصرها، ثمّ حضر عمه صلاح الدين شخصياً لإتمام الأمر، نظراً لمناعتها وتحصينها، إلى أن سقطت، وبقيت في يده إلى حين وفاته سنة 589هـ، فأصبحت في يد ولده الأفضل سنة 594»[122].

ثمّ سقطت الصرفند، وغيرها من المناطق الساحليّة، وجلا الصليبيون عن جبل عامل، بعد احتلال دام تسعاً وسبعين سنة.

اضطهاد صلاح الدّين والأيوبيين للشيعة

عمدت الدولة الأيوبيّة إلى القضاء على المذهب الشيعي، ومحو آثاره، وتدعيم المذهب السنّي في أنحاء البلاد كافَّة، ولا غرابة في ذلك، بعد أن بلغ الصراع الديني في الإسلام ذروته في تلك الفترة، فالسياسة التعليميّة التي لجأ إليها الفاطميّون لنشر الدعوة لمذهبهم في مصر، وما رافقها من تعذيب وتفكيك، قابلها السلاجقة في الشام بتعصبهم للمذهب السنيّ، وأنشأوا المدارس لمكافحة المذهب الشيعيّ[123].

وكان نور الدّين قد سار على هذا المنهج في الشام، وليس أدل على ذلك، من أنَّ القائد العسكريّ لجيشه أسد الدين شيركوه، عمّ صلاح الدين، عندما حاول إقناع سيِّده نور الدين بمهاجمة مصر، قال له: «إنّ محاربة مصر هي جهاد دينيّ، وبفتحنا إيَّاها، إنَّما نحارب عدوّين للإسلام، أحدهما الخلافة الفاطميّة الشيعيّة، وثانيهما الصليبيّون، وبذلك يُنقذ الإسلام، وهذا البلد من الفوضى السياسيّة وغيرها، لذلك لم تكد تتمّ لنور الدّين السيطرة على مصر، حتى تعجّل صلاح الدّين بمحو الخلافة الفاطميّة، وما ترتبط به من عقيدة شيعيَّة، شكَّلت له مسألةً غير مقبولة أبداً.

وقد أخذ صلاح الدّين، منذ أن وليَ وزارة مصر، امتداداً إلى تسلّمه الحكم، يعمل على نشر المذهب السنيّ، بطريقة سلميّة أولاً، فأنشأ عدداً من المدارس، ويذهب المؤرِّخون إلى القول بأنَّ صلاح الدّين، إنَّما قصد بإنشاء المدارس محاربة المذهب الشيعيّ ونشر المذهب السنّي»[124].

من هذه المدارس: مدرسة الشافعيّة التي عرفت بالمدرسة الناصريّة في مصر، المدرسة المالكيّة بجوار جامع عمرو بن العاص لتدريس المذهب المالكيّ، المدرسة الصلاحيّة بجوار قبة الإمام الشافعي لتدريس المذهب الشافعي، ويقوم مكانها اليوم جامع الإمام الشافعي، المدرسة السيوفيّة، بناها صلاح الدين مكان دار الوزير الفاطميّ عباس، ليدرَّس فيها مذهب الإمام أبي حنيفة (سميت لذلك لوجود سوق السيوفيين على بابها)، والمدرسة الحسينيّة، بجوار مشهد الإمام الحسين، وكانت على نظام الصلاحيّة[125] وغيرها من المدارس. هناك إغفال في المصادر الإسلاميّة السنّية لكثيرٍ من وقائع الفترة التي عومل بها الشيعة في المنطقة معاملة سيئة جداً، وهذا يعود «إلى الصراع المذهبيّ بين السنّة والشيعة، الذي فتّت العالم الإسلاميّ وقتذاك، وأنهكه وأضعف قواه أمام العدو الصليبيّ الدخيل، وقد انعكس ذلك على كتابات كثيرٍ من المؤرِّخين، لتبعيّتهم لدولةٍ من الدول، أو طائفةٍ من الطوائف، فظهر عدم التناسق والتحيّز في كتاباتهم»[126].

وأكثر ما كان مؤلِماً هو تشريد صلاح الدّين للإسماعيليّة، وتعذيبهم، وحرق المكتبة الإسماعيلية الموجودة بدار الحكمة بعد تشتيت كتبها، وكان خبر زوال الخلافة الفاطميّة، بمثابة السيف الذي سلّط على رقبة الدولة الإسماعيليّة، لأنّها فقدت مركزاً هاماً من مراكز الدعوة الشيعيّة في منطقة الشرق الأدنى.

وإذا كان إسماعيليّة الشام، قد اعتمدوا في سياستهم على التأييد الروحي للخلافة الفاطميّة في مصر، باعتبارها مركزاً للدعوة الشيعيّة في العالم الإسلاميّ، إلا أنّهم «فقدوا هذا التأييد بعد سقوطها، وإحلال الدولة الأيوبيّة التي تدين بالمذهب السنّي محلّها، الأمر الذي جعلهم يعملون بشتّى السبل على إعادة الشيعيّة إلى ما كانت عليه…»[127].

لقد دخل صلاح الدّين إلى المنطقة محرِّراً إيّاها من سيطرة الصليبييّن، لكن مقابل هذه الصورة الإيجابيّة التي رسخت في الأذهان، والتي وصفت صلاح الدّين بالمحرّر والمنقذ والشجاع، فإنَّ هناك صورة أخرى سلبيّة، سببها التفريط بالانتصارات التي تحقّقت وعقد صلح مع الصليبيين، مع العلم أنّه كان بمقدوره أن يتابع حركته الإنقاذيّة التحريريّة، ويسترجع كافّة أراضي المسلمين التي وقعت بأيدي الصليبيين، إضافةً إلى تعصّبه المذهبي، وحقده على الشيعة بشكل غريب جداً، ممّا أدّى إلى حدوث كوارث ضد بعض مناطق الشيعة الخاضعة له، فماذا فعل؟

ويقول السيوطي في هذا المجال: «وأخذ السلطان صلاح الدّين في نصرة السنّة وإشاعة الحقّ، وإهانة المبتدعة، والانتقام من الروافض»[128].

هناك ملاحظة، وهي أنّ هذه الإجراءات أخذت شكلاً أقلّ وطأة في جبل عامل، وذلك للعلاقة القوية التي كانت تربط بين حسام الدّين بشارة العامليّ والملك الأفضل علي بن صلاح الدين أبي الحسن، الذي كان شيعيّ المذهب.

وبعد وفاة صلاح الدين، واندلاع الخلاف ضمن البيت الأيوبيّ، حاول حسام الدين بشارة إصلاح ذات البين بين الأخوة، خاصّة وأنَّ صلاح الدين كان قد أعدّ ابنه الأفضل علي ليكون خليفته. وكان «الأفضل علي أكبر إخوته، وكان حسن السيرة، متأدباً، متديناً، حليماً، خالف أباه وأرحامه في عقيدته ومذهبه، فقد تشيّع لأهل بيت النبي P، ودخلت المنطقة تحت حكمه، وامتدّت مناطق نفوذه من دمشق وبيت المقدس وبعلبك، إلى الساحل وصرفند وبصرى، وبانياس وهونين وتبنين»[129].

بالنسبة لحسام الدّين بشارة العامليّ (المتوفّي سنة 598هـ ـ 1201م)[130] يعني توفّي بعد مئة سنة تقريباً من الاحتلال الصليبيّ، فإنّ المصادر التاريخيّة التي أرّخت لفترة صلاح الدّين الأيوبي، ركّزت على كلِّ الأمراء والقادة معه، وخاصة من الأكراد والأتراك، ولكنها لم تأت على ذكر بشارة العاملي، ويبدو أنّ السبب هو التعصّب المذهبي، خاصّة وأنّ انتماءه إلى قبيلة عاملة، التي كانت بأغلبيّتها الساحقة تنتمي إلى آل البيت R، هو السبب في تجاهل الحديث عنه.

وبشارة العاملي وأولاده من بعده، وأحفاده أيضاً، حكموا المنطقة طيلة ثلاثة قرون، وكانت علاقاتهم بالعلماء الشيعة في جبل عامل متميّزة[131].

هناك مسألة مهمة وهي أنّه إذا كان صلاح الدِّين وقف موقفاً سلبيّاً تجاه الشيعة، فإنّ ابنيه: الملك الأفضل علي وأخيه المحسن، كانا على علاقة جيّدةٍ مع الشيعة، وقد أعجبا بقوّة حسام الدِّين بشارة، وشجاعته وحنكته، ودفاعه عن بلاد المسلمين، ونظراً لذلك أعلنا تشيّعهما لآل البيتR، وخالفا أباهما وأرحامهما في عقيدتهما.

لم يتحدّث عن تشيّع أولاد بشارة إلا الذهبيّ (المتوفي سنة 852هـ)، الذي ترحّم لمحمد بن سيف فقال: «وفيه (أي في جمادى الآخرة سنة 819هـ) قبض على ابن بشارة الرافضيّ، وهو محمد بن سيف بن عمر بن محمد بن بشارة، وكان قد زاد إفساده في طريق الشام، وقطع الطريق، فحمل إلى دمشق»[132].

ويحتمل بولياك أن يكون أحفاد بشارة، وبنو صبح أو صبيح من الشيعة[133].

ويبدو أنّ حسام الدّين بشارة «اشترك في معركة حطّين سنة 583هـ، والتي انتصر فيها المسلمون انتصاراً حاسماً، وهذا كان له أثر كبير في سطوع نجم حسام الدّين، ونظراً لهذا الأمر عيّنه صلاح الدّين الأيوبي حاكماً على عكا سنة 585هـ»[134].

في تلك الفترة كانت أعالي جبل عامل وجزين محرّرةً من الوجود الصليبيّ، ولم يبق بأيدي هؤلاء إلا شقيف أرنون وصور، ولذلك فإنّ تركيز صلاح الدّين كان على حسام الدّين بشارة للقيام بهذه المهمة، عبر تقوية جيشه في عكا، ويذكر المؤرِّخون أنَّ بلدة زبقين كانت مركز إمارته، وتدلّ الآثار الفخمة في البلدة على ذلك.

ويَعتبر البعض أنَّه عندما حاول الصليبيّون التقدّم باتِّجاه عكا، تصدّى لهم الجيش العاملي بقيادة حسام الدِّين، وعندما حان وقت المعركة، كان جيش حسام الدّين بشارة في أوّل الميمنة[135] وكان النصر بجانبهم[136] سنة 589هـ قبيل وفاة صلاح الدّين، كان حسام قد وصل إلى أوج مجده، وكان في مقدِّمة الأمراء، ووصفه ابن شداد «بأنّه المقدَّم على هؤلاء»[137].

وفي سنة 590هـ عند وفاة صلاح الدّين، كان لحسام دور مهمّ في التوفيق بين أبنائه، وفي سنة 594هـ «كانت تبنين بيده»[138]، وكان يحميها مع جماعته العامليّين؛ وفي سنة 598هـ كانت وفاته 26 ربيعه الآخر، امتداداً حتّى بدايات القرن السابع الهجريّ، كان العامليّون لا يزالون يواجهون الصليبييِّن في أكثر من مكان، ففي سنة 614هـ، ذهب الصليبيّون إلى جزين بخمسمائة من أبطال الإفرنج، فأخلاها أهلها، وجاء الإفرنج فنزلوا فيها، وترجّلوا عن خيولهم ليستريحوا، فتحدّرت عليهم المياذنة (شيعة جزين) ومن الجبال، فأخذوا خيولهم وقتلوا عامتهم»[139].

أخيراً تذكر المصادر عن موقف مشرّف للشيعة في الشقيف، ويقول ابن شداد: «بعد الاتِّفاق الذي تمّ بين الملك الصالح اسماعيل (صاحب دمشق) والصليبييّن على تسليمهم قلعة الشقيف، وطلب الملك من الحاج موسى الشقيفي تسليمها لهم، أبى هذا الأخير وامتنع قائلاً: والله لا جعلته في صحيفتي، فسار إليه فضربه حتّى قتله، واستأصل ماله»[140].

الحالة العلميّة والفكريّة خلال الفترة الصليبيّة

كانت هناك حركة فكريّة، قبل الاحتلال الصليبيّ وأثناءه، وشملت كلَّ المناطق في سوريا ومصر بشكل خاص، وما يعنينا بهذا الأمر، أساساً منطقة جبل عامل، هذه المنطقة التي كان يغلب عليها الطابع الشيعيّ، فقد كان لها ماضٍٍ زاهر بالعلم والأدب والتأليف في أكثر من مجال، قبل الصليبيّين، ثمّ كان لها الماضي نفسه بعد هؤلاء، وحسبها فخراً واعتزازاً أنّها أخرجت عدداً كبيراً من العلماء والشعراء والأدباء والمؤرِّخين، والمؤلِّفين والمحدّثين، ويكفي أن نذكر رجلاً نبغ قبل الاحتلال، وهو عبد الحسين الصوري، وكان شاعراً كبيراً، هذا وكان «البحث شاقاً في الوصول إلى الحقيقة، ولكن كان لا بدّ من الوصول إليها، وهكذا كان، فقد تبيّن بعد طول التنقيب، إنّه كان همّ هؤلاء العرب المسلمين الشيعة، الحفاظ على تتابع الدرس والتدريس، وإيصال العلوم الإسلاميّة والآداب العربيّة من جيلٍ إلى جيل، لئلا تضيع الشخصيّة الإسلاميّة، وتزول الروح العربيّة، وهو ما وُفّقوا فيه كل التوفيق، وكانت المقاومة العسكرية عبثاً، ميؤوساً من النصر فيها، إذن فلا بدّ من المقاومة الفكريّة وهذا ما اختطّه أولئك الناس»[141].

أمّا أهمّ العلماء والأعلام من جبل عامل، الذين برزوا في المنطقة منذ بدايات الحركة الصليبيّة، وكان لهم تأثير في الوضع العلميّ والثقافيّ والفقهيّ الدينيّ والتاريخيّ في فتراتهم، نذكر:

ـ يوسف بن حاتم بن فوز بن مهند الشامي، العاملي المشغراني، كان فاضلاً، فقيهاً، عابداً، ومن أجلّة تلامذة المحقّق الحلّي، المتوفي سنة 676هـ، والسيد علي بن طاووس المتوفي سنة 664هـ، وله كتب منها: (كتاب الأربعين في فضائل أمير المؤمنينQ) وسأل شيخه المحقق الحلّي اثنين وسبعين مسألة أجابه عنها، وعرفت بـ(جوابات المسائل البغداديّة)[142].

إضافةً إلى علماء وفقهاء وشعراء ومحقّقين وأدباء آخرين، لا يسع المجال لذكرهم جميعاً. هذا ونستطيع القول بأنَّ العامليين «تغلّبوا على محنة الاحتلال، وعلى ما حمّلتهم إياه تلك المحنة من ضيق وتضييق، واستطاعوا أن يؤسّسوا مدارس، وأن يحتفظوا بوجودهم كاملاً، وأن يظلّوا أمناء على رسالتهم الفكريّة الأصيلة، فحرسوا اللغة العربيّة وصانوا علومها في ذلك البحر الفرنجي الطامي، وحرسوا علوم الشريعة وحفظوها، وأورثوا ذلك للأجيال التالية»[143].

ويبدو أنّ الرحلات العلميّة إلى العراق وغيره لم تنقطع منذ القديم، وكان الطلاب يدرسون أولاً في المنطقة، حيث يعدّون أنفسهم للمرحلة التالية، المتمثّلة بمتابعة الدراسة العليا في العراق. يبقى أن نُشير أخيراً، وفي مجال تأثّر جبل عامل حضارياً وفكرياً بالصليبييّن وبالعكس، أنّ المجتمع الصليبيّ في منطقة جبل عامل كان يتكوّن بأسره من العساكر والتجار، فلم يكن في الواقع صالحاً لأن يَخلق أو يُقيم مستوى فكرياً رفيعاً، لهذا كان أثر الصليبيّ الحضاريّ في هذه المنطقة ضعيفاً جداً، اقتصر على العلاقات الاقتصاديّة، وعلى ما يترتّب بين السيد وفلاحيه، من علاقات محدودة في إطار ما تمليه المصلحة الحربيّة.

ويروي لنا أسامة بن منقذ، صاحب (كتاب الاعتبار)، الذي كان يعايش الإفرنج في تلك الحقبة، في باب طبائعهم وأخلاقهم قائلاً: «سبحان الخالق البارئ، إذا خبر الإنسان أمور الفرنج، سبّح الله تعالى وقدّسه، ورأى بهائم، فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوّة»! كما يذكر لنا أيضاً عن عجائب طبعهم ومحاكماتهم، وغرائب عاداتهم وتقاليدهم، ما يتنافى مع عادات وتقاليد العرب، وتحت عنوان (ليس للإفرنج غيرة جنسيّة)[144] يتحدّث أسامة عن هذا الموضوع، بشيء من الصراحة والوضوح.

ومع ذلك فإنّ الصليبيّين «الذين تبلّدوا، ومضى عليهم وقت طويل، قد تأثّروا بعادات وتقاليد وثقافة المناطق التي حلّوا بها، في اللباس والمأكل، ومجالس الشرب واللهو، وإطلاق اللحى وحجب النساء وتعلم اللغة، فكان (همغري الرابع) سيد تبنين على درايةٍ تامّةٍ باللغة العربية، كما كان (رينالد) سيد صيدا مهتمّ بالعلم الإسلاميّ، أمّا (وليم الصوريّ) الذي يُعتبر من أعظم مؤرّخي العصور الوسطى، وقد ولد في لبنان، فإنّه كان يُتقن اللغة العربيّة الفصحى.

أمّا العامليون، فإنّهم رفضوا ـ كغيرهم من العرب ـ الأخذ بعادات وتقاليد الإفرنج، لكونها تتنافى وروح الإسلام بمفهومهم»[145].

الوضع السياسيّ والفكريّ إبَّان الفترة المملوكيّة

بقي الاحتلال الصليبيّ للمنطقة حوالي القرنين سنة 1099 ـ سنة 1291م، ثمّ كانت فترة تحرير هذه المنطقة، هذه الفترة تعتبر جديدة في فترات الحكم الإسلاميّ، والذي أتى تحت راية المماليك هذه المرّة، وكانت معركة عين جالوت قبل ذلك (أيلول سنة 1260م) حدثاً هاماً في تاريخ المسلمين، حسمت تقدّم المغول السريع وأبعدتهم، ومع انتصار المماليك، واحتلالهم لبلاد الشام، عادت هذه المنطقة قوّةً ضاربةً في العالم الإسلاميّ، وساهمت بالفعل في الخلاص من الاحتلال الصليبيّ، ولا بدّ من التذكير هنا أنّ المغول بقيادة هولاكو، هاجموا مركز الخلافة العباسيّة في بغداد، حيث سقطت بأيديهم، وأصبحت في تلك الفترة «بين نارين وخطرين: مغوليّ وصليبيّ. وراح المغول يهدّدون مصر أيضاً، وهنا بدأ التحرّك المملوكيّ، حيث أوقفوا الزحف المغوليّ في معركةٍ فاصلةٍ، انتهت بنصرهم»[146].

وبعد أن تسلّم المماليك مقدّرات الشرق وسيطروا على مصر وفلسطين وسوريا الداخليّة، منذ سنة 648هـ، 1250م، عمدوا إلى الاستيلاء على كلِّ المدن الساحليّة من طرطوس وطرابلس إلى حيفا، مروراً ببيروت وصيدا وصور وغيرها..

فمن هم هؤلاء المماليك، الذي استطاعوا تحقيق هذه الانتصارات، ثمّ حكم المنطقة بأكملها؟ إنّ وجود المماليك في العالم الإسلاميّ، يعود إلى ما قبل قيام دولتهم بأمدٍ طويل، وكانت فترة ضعف الدولة العباسيّة، مناسبةً للاعتماد عليهم، فراحوا يشترونهم لتأليف جيوش منهم، يحقّقون بواسطتها مصالحهم.

وكان «أوَّل من استخدمهم الخليفة العباسي المأمون، ثمّ استعملهم الخليفة المعتصم لتدعيم سلطته، وفي نفس السياق، فإنّ الطولونيّين نحوْا هذا المنحى، فاشتروا المماليك وأكثروا، وبلغ عددهم حوالي أربعة وعشرين ألفاً»[147]، كذلك فإنّ الفاطميّين عندما جاؤوا إلى مصر سنة 358هـ/969م، كانوا بحاجة إلى جيش كبير ليوطِّدوا أركان دولتهم ومدّ سلطانهم، فأضافوا إليه في مصر الأتراك والأكراد والغزّ والديلم»[148].

بدورهم، فإنَّ الأيوبيّين، عندما حكموا أيضاً من سنة 567هـ/1171م نهجوا نفس السبيل، وأكثروا من شراء المماليك[149]، وقام السلطان الصالح نجم الدّين أيوب (ما قبل الأخير من سلسلة سلاطين الأيوبيّين في مصر) في سنة 639هـ/1240م، بشراء الكثير منهم، ويذكر المقريزي في هذا المجال أنّ «الملك الصالح هو الذي أنشأ المماليك البحريّة بديار مصر، فصاروا بطانته، المحيطين بدهاليزه، وسماهم البحريّة، لسكناهم معه في قلعة الروضة على بحر النيل»[150]. بعد ثماني سنوات من سلطنة الصالح نجم الدين أيوب، أي في سنة 646هـ/1248م، كانت حملة لويس التاسع على مصر، في وقت كان سلطانها مريضاً، فاستولى لويس التاسع على دمياط سنة 647هـ، سنة 1249م بغير قتال»[151].

لم يلبث أن توفي الملك الصالح في المنصورة في السنة نفسها، وهنا دبّت الفوضى في الخلافة، واضطربت الأمور، فلا خليفة مكانه بسرعة، والخطر الصليبيّ يهدّد الدولة، ولا أحد يقف في وجهه.

كان للملك الصالح ولد واحد اسمه (توران شاه)، شاب، عديم الخبرة، كان خارج مصر، «وتمّ إخفاء نبأ وفاة الملك، حتّى لا يستغل الصليبيون ذلك، ويهاجموا البلاد، وهنا برز دور (شجرة الدرّ)، زوجة الملك الصالح، فأدارت دفّة الحكم، وأرسلت بطلب توران شاه من الخارج. علم لويس التاسع بنبأ خبر وفاة الملك، فأسرع بحسم الأمر، بتوجيه ضربة عسكريّة، قبل أن ينظِّم المسلمون صفوفهم، وتقدَّم الصليبيّون إلى المنصورة ودخلوها، ووصلوا إلى باب قصر السلطان. فقُتل قائد الجيش المصري، وهنا برز دور المماليك البحريّة، حيث هاجموا الفرنج بقيادة ركن الدّين بيبرس، فرجحت كفّة المسلمين عليهم، وأبعدوهم عن باب القصر»[152]. عاد توران شاه إلى مصر سنة 647هـ/1250م، فأعلنت شجرة الدرّ وفاة زوجها، واستلم السلطة ابنه توران شاه، الذي قاد الجيش، وحاصر الصليبييّن، الذين انسحبوا من دمياط، وانتهى الموقف العسكريّ لمصلحة الجيش المصريّ، وأكثر من ذلك، وضع لويس التاسع ومعظم الجيش الصليبيّ في الأسر.

كانت هذه المعركة المهمَّة، مدخلاً أساسياً لدخول المماليك على خطِّ القوى السياسيّة الكبيرة المؤثِّرة في الوضع السياسيّ والعسكريّ، وشعروا أكثر بقوَّتهم، التي سيستغلونها في تثبيت سلطتهم، حتّى على الملك، ومن هنا فإنّ توران شاه «توجس خيفة منهم، قرّب إليه مماليكه، وأبعد المماليك البحريّة»[153].

لم يحفظ توران شاه لشجرة الدرّ عملها معه، رعايتها له، وتقديمها المُلكَ إليه، فتنكَّر لها، وطالبها بمال أبيه، فخافت منه، واتّصلت بالمماليك البحريّة لمساعدتها، وهنا وجد هؤلاء الفرصة سانحةً لهم للتخلّص من الملك، ففعلوا ذلك وقتلوه، ويقول المقريزي في هذا الصدد: «وبمقتل المعظَّم طوران شاه (توران)، انقرضت دولة بني أيوب (نسبه للصالح أيوب) في أرض مصر، وكانت مدّتهم إحدى وثمانين سنة، وعدّة ملوكهم ثمانية»[154].

وبعد مقتل توران شاه تسلَّمت السلطة شجرة الدرّ، «باتِّفاق بين الأمراء والمماليك البحريّة وأعيان الدولة»[155].

ردّة فعل الأيوبيّين

لم يكن الوضع في سوريا مريحاً، إزاء ما حصل في مصر، وشعرت شجرة الدرّ أيضاً أنَّ هناك عوائق تقف في وجه حكمها، وخاصّة بقاء الأسرة الأيوبيّة في الشام تحكم هناك، وترفض ما حصل في مصر، كما أنَّ الخليفة العباسيّ استغرب من بغداد، أمر تسليم الحكم لامرأة، وأرسل إلى أمراء مصر كتاباً عبّر فيه عن استيائه البالغ، قائلاً لهم: «إنْ كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتّى نسيّر إليكم رجلاً»[156].

أمام هذا الواقع الجديد، عرض أمراء المماليك على شجرة الدرّ الزواج من الأمير عزّ الدين أيبك مقدّم العسكر، فوافقت على ذلك، وتنازلت له عن الحكم، بعد أن حكمت ثمانين يوماً.

إذن المعزّ عزّ الدين أيبك هو أوّل ملوك المماليك في مصر، وابتدأ حكمه في سنة 648هـ/1250م، بعد أن استطاع المماليك ضرب المغول والخلافة العباسيّة والدولة الأيوبيّة، وسيطروا على معظم المدن في سوريا والساحل اللبناني[157].

ردّة فعل المغول بعد هزيمتهم، كانت تحالفهم مع الصليبيّين، لمواجهة المسلمين، فتصدّى لهم سلطان مصر المملوكي (قطز)، يرافقه قائده بيبرس، الذي برز دوره في مواجهة الصليبيّين والمغول، وبعد الانتصارات التي حقَّقها هؤلاء، عادوا إلى مصر، لكن حدث ما لم يكن بالحسبان، فقد قَتل بيبرس سلطان مصر، وتخلّص منه، وأصبح هو الحاكم الفعليّ للسلطنة المملوكية[158].

اعتبر بيبرس المؤسِّس الفعلي لدولة المماليك، وهو الذي بنى دعائم الدولة التي أقام عليها سلاطين المماليك بعده دولتهم، كما حكم دمشق، حيث ولّى عليها علاء الدين البندقداري، وكلَّفه بالقبض على بعض الأمراء، الذين تخوَّف منهم، كما أنّه قضى على كلِّ من حاول أن يُعيد الدولة الأيوبيّة في سوريا.

ثورة شيعيّة في مصر

استهلَّ الظاهر بيبرس حكمه في مصر بمواجهة تحرّكات قام بها الشيعة هناك، حيث حصلت ثورة بكلِّ معنى الكلمة، «قامت في القاهرة تستهدف إعادة الخلافة الفاطميّة، تزعَّمها رجل يعرف بـ(الكوراني)[159]، أظهر الزهد والورع، وسكن بجبل المقطم، وجمع حوله جماعة من الناقمين على الحكم المملوكيّ، وأقطعهم الإقطاعات، وكتب لهم الرقاع «وفي تفصيل ما جرى في القاهرة وقتها، أنّه في أواخر سنة 658هـ/1260م، شقّ الثوّار شوارع القاهرة ليلاً، وهم يصيحون (يا أبا علي)، وفتحوا حوانيت السيوفيّين، (باعة السيوف)، وأخذوا ما فيها من سلاح، واقتحموا اصطبلات الجنود، وأخذوا منها الخيول، ولكنّ جند بيبرس أحاطوا بهم وألقوا القبض على جميع زعمائهم، فهدأت الثورة، وأمر بيبرس بصلب الكورانيّ، وبعض الزعماء على باب زويله»[160].

ويبدو أنَّ بيبرس استحقَّ هذه الثورة، وانتبه إلى مسألةٍ مهمّةٍ، وهي أنَّ جذور الدعوة الفاطميّة والدولة، لا تزال موجودة وبقوَّة في مصر، ولذلك فإنَّه عمل على حسم الأمر مع هذه الثورة بسرعة، وبشدّة، وبشكل عنيف، تمثّل بصلب الكوراني، وكان ذلك مقدِّمةً للقضاء على الثورات التي اعترضت سبيله في بداية حكمه.

ولمَّا شعر أنَّه بحاجة إلى غطاء دينيّ، ليُتابع من خلاله سياسته المرسومة، «شعر بأنَّه في حاجة ماسَّةٍ لإحياء الخلافة العباسيّة، ليُقيلها من عثرتها الدامية التي لحقتها بعد سقوطها على أيدي المغول، وليظهر أمام العالم الإسلاميّ بمظهر الحامي للخلافة، بعد أن حاول بعض حكام الولايات الإسلاميّة إحياء الخلافة في بلدهم، ولكن الظاهر بيبرس كان أسرع هؤلاء جميعاً إلى اتخاذ تلك الخطوة»[161].

ومع وصول الأمير العباسيّ إلى مصر في رجب سنة 659هـ، حزيران سنة 1261، استقبله السلطان بيبرس خارج القلعة… «وكان يوماً مشهوداً بالغ فيه السلطان باحترام الأمير وإكرامه»[162].

ومقابل هذا الأمر، حقّق بيبرس، ما كان يتوق إليه، ألا وهو الاستناد في حكمه على السلطة الشرعية الكبرى في العالم الإسلامي، المتمثِّلة بالخليفة العباسيّ المستنصر.

بدء الصراع المملوكيّ الصليبيّ ودور المغول

بدايةً ننطلق من وقائع، لا بدّ من التوقّف عندها:

ـ لم يكن هناك صراع بين المماليك والصليبييّن، بسبب الخطر المغوليّ، الذي كان يتهدّد الجانبين، بقيادة هولاكو، الذي اجتاح بغداد ودمّرها.

ـ الأيوبيّون وخوفاً من المغول استسلموا لهم، وهرب الناصر يوسف الأيوبي من دمشق، فسقطت بأيديهم، ثمّ احتلوا غزّة، ووضعوا نصب أعينهم مصر.

ـ مماليك مصر تحالفوا مع الصليبيّين في فلسطين والمناطق اللبنانية ضدّ المغول، وسمح الصليبيون للمماليك بالمرور عبر فلسطين، فعبروا بقيادة قطز وبيبرس سواحل عكا، وتلقوا الهدايا من الصليبيّين، وانتصر المماليك على المغول وهنا بقي في الساحة قوَّتان رئيسيّتان هما: المماليك والصليبيّون.

بدأت المناوشات بين المماليك والصليبيّين، وكانت في البداية خفيفة، لكن سرعان ما اتَّسمت بالعنف، وبدأت تتحوّل تدريجيّاً إلى عمليّات عسكريّة واسعة، وكان تركيز المماليك على ما يبدو على المناطق الداخلية، أكثر من الساحل، ففي الدّاخل كان الوجود الصليبيّ أضعف من المدن الساحلية، التي بقيت بيد الصليبييّن حتّى نهاية حكمهم.

في المناطق اللبنانيّة، بدأ الحكم المملوكي منذ سنة 659هـ/ 1260م، واقتصرت سيطرتهم في البداية على سهل البقاع وبلاد الغرب التنوخيّة.

سنة 664هـ ـ 1266م، بدأت الهجمات ترتدي شكلاً عنيفاً، اجتياحاً واحتلالاً، ففي ذلك العام هاجم بيبرس قلعة صفد وهونين وتبنين[163]، والرملة، وكان لسقوط صفد وقع كبير على الصليبيّين.

في ذلك العام بالذّات قام نائب السلطان باحتلال طبريّة، وباشر بعمارة قبر عبد الله بن العباس، وسكينة بنت الحسين، وأرّخ ذلك على لوحة من الرخام، كتب عليها بخط النسخ المملوكي في خمسة أسطر: «بسم الله الرحمن الرحيم، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهّركم تطهيراً».

أمر بعمارة هذا المشهد المبارك، وهو مشهد الست سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، العبد الفقير لله تعالى، أمير فارس الدّين البكي الساقي العالي المنصوري، نائب السلطنة بالممالك الصفدية والشقيفية، والساحلية، وذلك في غرّة رجب سنة أربع وستين وستماية»[164].

ونشير أنّه كان هناك في طبرية في تلك الفترة أعلام شيعة عديدون، منهم: أبو جعفر الطبري، من مؤلِّفي الشيعة، وصاحب (مفتاح المعاملات) و(المؤنس في نزهة المجالس)، وكان هناك أيضاً: (أبو عمرو الزاهد الطبري، وأحمد النقيب من أعقاب الإمام جعفر الصادق، وأحمد بن علي، وأحمد بن موسى الطبري، وغيره من العلماء الأعلام)[165].

تابع المماليك تحرّكهم باتِّجاه المناطق الداخلية، في فلسطين وبلاد الشام، فسقطت يافا بأيديهم سنة 666هـ/1298م، ثمَّ تابع إلى أنطاكية حيث احتلَّها في نفس العام، وحاصر طرابلس، لكنّه اضطرَّ للعودة إلى مصر، فعقد معاهدة صلح مع أمير طرابلس وغيره، مقابل «مشاركته إيّاهم في منتوجاتهم وغلالهم، كما اضطر ملوك الصليبيّين إلى عقد معاهدات مع المماليك»[166].

لم تكن هذه المعاهدة الوحيدة التي عقدها المماليك، فقد كانت هناك معاهدات أخرى مماثلة، كتلك التي «عقدها المنصور قلاوون وأمير صور مرغريت، تمّ بموجبها الاتفاق على عدم إقامة تحصينات جديدة في صور، وبوقوفها على الحياد إزاء أي صراع يحصل بين السلطان والصليبّية، على أن يتعهّد المماليك بعدم التعرّض لإمارة صور، وفعلاً حيّدت المدينة.

قمع الأقليّات المذهبيّة، خاصة الشيعة

توالى على سلطة المماليك عدّة سلاطين من آل قلاوون، كالأمير المنصور سيف الدين قلاوون الذي نصّب سلطاناً سنة 678هـ/1279م، الذي سدّد عدّة ضربات للصليبيّين، واسترجع منهم بعض المدن، باستثناء عكا وصيدا وصور وعتليت[167]، وتوفي سنة 690هـ/ 1291م.

بعده تولّى السلطنة السلطان الأشرف خليل 690هـ/ 1291م، وأوّل عمل قام به، متابعة خطّة والده في الاستيلاء على بعض المدن المهمّة، وخاصة عكا، التي حاصرها، «وحاول الصليبيّون استمالته، لكنّه أسقطها، وشكَّلت كارثة لهم، ثمّ سيطر على صور وصيدا وطرطوس وعتليت»[168]، وقتل سنة 693هـ/1293م.

بعد سقوط عكا المروّع بالنسبة للإفرنج، وخروجهم من بقيّة المدن الساحليّة تباعاً، اكتملت السيطرة المملوكيّة على مصر وبلاد الشام، التي أعادوا تنظيمها، وتوطيد حكمهم فيها، «كما نظَّموا المناطق اللبنانية إلى قواعد، ليخضع لهم الدروز في الأشواف، والموارنة في الجرد، والشيعة والنصيرية في كسروان، ومناطق انتشارهم الأخرى، وسار المماليك في سياستهم الدينية على غرار السياسة الزنكيّة والأيوبية، وهي توحيد المذاهب الإسلاميّة، ضمن المذاهب الأربعة المعروفة بمذاهب السنّة، وكانوا يُبالغون في التمسك بمذهب أهل السنّة والجماعة، فلم يتساهلوا أبداً مع أهل البدع الأخرى، لذلك فإنّهم بذلوا قصارى جهدهم لتأمين سيادة هذا المذهب، والقضاء على المذاهب الباطنية، التي كان لا يزال لها في أيّامهم أتباع في بلاد الشام، لا سيما في جبل لبنان، وبعض المدن الساحليّة، طرابلس وبيروت وصيدا»[169].

ثم جرّ الملك الأشرف خليل بن قلاوون العساكر إلى جبل كسروان، «لكسر شوكة العشائر المتمنّعة عن الدخول تحت سيطرة الدولة المملوكية هناك، وكان أهالي كسروان، ومعظمهم من الشيعة الإمامية (وهم بتعبير أهل السنّة في ذلك الوقت: الرافضة) قد بقوا حتى ذلك الوقت خارج سيطرة مماليك دمشق وحكامها، كما أنّهم لم يدخلوا مباشرة تحت حكم الفرنجة»[170].

يُذكر أنَّ نسبة الوجود الشيعيّ خلال العهد الصليبيّ في كسروان كانت كبيرةً، ويعتبر بعض المؤرِّخين أنَّ هذه الطائفة «اتَّصفت بنزعة استقلاليّة نتيجة طابعها الجبلي المنيع، ولاختلافها المذهبيّ عمَّا يجاورها في الجنوب، من تمركز تنوخّي درزي، وعمّا يجاورها في الساحل، من تجمّع صليبي، وفي البقاع من تكتّل إسلاميّ سنّي»[171].

ويذكر القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى)، نص الرسالة التي وجّهها السلطان الأشرف شعبان إلى نائبه في الشام، بمنع أهل صيدا وبيروت وأعمامهما من اعتقاد الرافضة والشيعة، وردعهم والرجوع إلى السنّة والجماعة، واعتقاد مذهب أهل الحقّ[172].

تبين لنا هذه الرسالة، بما احتوته من شدّة وعنف وتحذير، الجوّ الديني القمعيّ، الذي سار عليه المماليك، بعد نجاحهم في إجلاء الصليبيّين عن بلاد الشام، فنراهم يغتنمون هذا الانتصار العسكريّ، ليحقّقوا إلى جانبه الانتصار لمذهبهم الدينيّ، على خصومهم من سائر المذاهب، وتميّز المماليك عن غيرهم بمزيد من التشدّد في محاربة المذاهب الإسلاميّة غير السنيّة، فقد أمر السلطان بيبرس سنة 665هـ/1276م باتِّباع المذاهب السنيّة الأربعة، وتحريم ما عداها، كما أمر بأن لا يولّى قاضٍ، ولا تقبل شهادة أحد، ولا يرشح لإحدى وظائف الخطابة أو الإمامة أو التدريس، ما لم يكن تابعاً لإحدى هذه المذاهب[173].

لقد أسرف المماليك بظلمهم للأقليّات الدينية، «فتوالت المصائب على تلك الأقليّات، وعَنُفَ الظلم، فذاقوا الأمرّين، وقتل الكثير من الشيعة الاثني عشرية، والاسماعيليّة والنصيريّة، وكانوا أشدّاء أقوياء، يتواجدون في بعض أنحاء سورية»[174].

حتّى الطوائف فإنّها كانت تشكِّل قلقاً ما للمماليك، لذلك فإنّ الظلم طالها هي أيضاً، ولم تسلم من الاضطهاد المماليكي، ومن هذه الطوائف الموارنة، الذين شكّك المماليك بصدقيّتهم، واعتبروهم يساعدون الصليبيّين، كذلك بالنسبة للدروز.

توّج المماليك سياستهم القمعيّة ضدَّ الأقليَّات الدينيّة التي ذكرنا، بعدد من الحملات العسكريّة على جبال الجرد وكسروان، فدمّرت البلدات والقرى، وهجرت أهلها.

الحملات العسكريّة المملوكية على الجرد وكسروان

كان التبرير المعلن للمماليك في حملاتهم العسكريّة على الجرد وكسروان والمنطق القريب منهما، في جبيل والبترون وغيرهما، هو عدم تحمّل سكان هذه المناطق مواجهة الصليبيّين، لكنّ الواقع كان يؤكِّد أنَّ المماليك كانوا يخافون من الطوائف الدينيّة والمذاهب الأخرى، إضافةً إلى أنّ بعض هذه المذاهب وخاصّة الشيعة، يخالفونهم في المعتقد، ويذكر الصليبيّ في هذا المجال: «لمَّا كان المماليك السنّة هم الذين تحمّلوا عبء الجهاد ضدّ الصليبيّين، فقد اعتبروا أنّ غيرهم من الطوائف يتحمّل مسؤوليّة مهادنة الصليبيّين، أو تثبيت أقدامهم في المنطقة، ولذلك اتَّبع المماليك سياسة القصاص الجماعيّ للشيعة والنصيريّة والنصارى، الذين سكنوا كسروان، ويُعتبرون من الخارجين على القانون»[175].

كانت الحملة الأولى على كسروان في أيَّام السلطان الأشرف، الذي أرسل نائب السلطان الأمير بدر الدّين بيدرا إلى المنطقة في سنة 691هـ/1290م، ويتحدّث ابن كثير عن هذه الحملة، وهو يبرّر حملة المماليك على الكسروانيّين أنّهم «ممالئون للفرنج قديماً على المسلمين»[176].

ويتحدَّث المقريزي عن هذه الحملة ويؤكِّد أنَّ نائب السلطان بيدرا عاد «شبه مهزوم، واضطرب العسكر اضطراباً عظيماً، فطمع أهل الجبال فيهم»[177]، وهكذا أخفقت دولة المماليك في محاولتها الأولى للسيطرة على كسروان، واستمرّ الشيعة في تلك البلاد، وبقوا يقاومون المماليك، فزاد استياء هؤلاء منهم.

قبل استئناف الحملات العسكريّة، نشير إلى تنصيب السلطان الناصر محمد بن قلاوون مكان أبيه السلطان الأشرف خليل الذي قتل، وتسلّم الناصر محمد السلطة على ثلاث فترات، وهذا دليل على أنّ السلطنة كانت تمرّ بفترة اضطراب، مع العلم أنّ حكم هذا السلطان «دام إحدى وثلاثين سنة، عرفت بأعظم عصور التاريخ المصريّ زمن المماليك، وأكثرها رقيّاً وازدهاراً»[178]، وامتدّ حكمه من بلاد المغرب غرباً حتّى الشام والحجاز شرقاً، ومن النوبة (أراضي واسعة جنوب مصر) جنوباً حتّى آسيا الصغرى شمالاً.

استأنف المماليك حملاتهم على نفس المناطق التي ذكرنا، وتحدَّث ابن الأثير في أخبار سنة 699هـ/ 1300م، وقد ورد اسم الشيخ تقي الدين بن تيمية خلال هذه الحملة، في أنّه «رافق نائب السلطنة، ومعه كثير من المتطوِّعة والحوارنة، لقتال أهل تلك الناحية، بسبب فساد نيّتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتار، وقتلوا كثيراً منهم»[179].

استطاع المماليك تحقيق انتصار على أهالي المنطقة الكسروانية، ويبرّر بعض المؤرِّخين مقاتلة هؤلاء بأنّهم طغوا واشتدّت شوكتهم وآذوا العسكر وغير ذلك، لكن يبدو أنّ هذه الحملة لم تقضِ على مناوئي المماليك بشكل كامل، لذلك فإنّ السلطة أعادت الكرّة مرّةً ثانية، «ولم تمضِ بضع سنوات حتّى عادت هذه الطوائف إلى تحدي سلطة المماليك من جديد، وكان أحمد بن تيمية، شيخ المذهب الحنبليّ، كبير أئمة السنّة في الشام، في ذلك الوقت، فذهب على رأس وفد من المشايخ والأعيان آل كسروان سنة 704هـ/ 1305م، لمفاوضة الشيعة هناك في الرجوع إلى الطاعة، فلم ينجح في مهمّته، وعاد إلى دمشق، وبدأ بالتحريض والدعوة إلى القيام بحملة جديدة على أهل كسروان، للقضاء عليهم نهائياً؛ لأنّهم بنظره كانوا يشكلون خطراً على وحدة الدولة الإسلاميّة. ولمّا لم يستجب الشيعة لهذه الضغوطات، جمعت العساكر لقتالهم[180].

السؤال هنا، ما الذي كان يفرضه ابن تيميّة على الشيعة؟

ولد تقي الدين ابن تيمية سنة 661هـ/ 1263م وتوفي سنة 728هـ/1327م. كانت له اليد الطولى في الحملة على كسروان والجرد سنة 704هـ/ 1305م، كان حنفي المذهب، لكنّه لم يتقيَّد بما جاء في المذاهب الأربعة، واجتهد في إبراز الرأي والفتوى، وخالف الكثير من علماء عصره، وفقهاء المذاهب، وله آراء تخالف العديد من أصحاب المذاهب من آرائه المخالفة: إنَّ الطلاق بالثلاث يقع واحدة، لا يجوز لمسلم أن يسافر قصداً إلى زيارة قبر من قبور الأنبياء والصالحين، لا يجوز لمسلم أن يتوسَّل إلى الله بشيء ما، بل يلجأ إليه سبحانه مباشرة دون وسيط، يتحدّث عن صفات الله سبحانه وتعالى، كما وصف الله به نفسه في القرآن، وكما وصفه به رسول الله، وتعرّض للصوفية، وكانت عقيدته في صفات الله تعالى كثيرة الظهور في مؤلّفاته ورسائله.

بناء على رأي ابن تيمية في الشيعة، فإنّه رافق مرّة أخرى، نائب السلطنة، «مع طائفة من الجند، وساروا إلى بلاد الجرد والرفض… فخرج نائب السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم، وأبادوا خلقاً كثيراً منهم، ومن فرقتهم الضالّة»[181].

ويتحدّث المقريزي في أخبار سنة 705هـ/ 1305م عن خمسين ألف رجل زحف بهم الأمير (نائب السلطان) لمهاجمة أهل تلك الجبال.. ورفعت أيدي الرافضة عنها[182].

هكذا سيطر المماليك على منطقة كسروان، وكفّر ابن تيمية بفتاويه فرق الشيعة، واعتبرهم فئات غير إسلاميّة، وأصدر فتوى بهدر دماء الشيعة الكسروانيّين وهدم بيوتهم، وحرق أشجارهم[183]. لقد اتَّخذ المماليك من طرابلس بالذَّات مقراً لنيابة السلطنة، وهذا الأمر «جعل بعض النصيريّة المقيمين في شمال شرقي طرابلس، في المنطقة المعروفة الآن بـ(الضنيّة)، تشق طريقها عبر الجبال العالية، خوفاً من غارات المماليك على مناطقهم، وتتصل جنوباً بأهل كسروان والجرد من الشيعة الإماميّة»[184].

أمَّا كيف أصبح هناك اختلاط شيعي ماروني في كسروان وجبيل، فيذكر المؤرّخون أنَّ «الموارنة، وبعد الحملة المملوكية على جبّة بشري، نزح قسم منهم من شمال لبنان إلى وسطه، حيث أقاموا في بلاد كسروان، واختلطوا مع الروافض، الذين كانوا يقيمون هناك، وفي الجبال العالية المعروفة بالجرد»[185]، وعرفوا باسم الجبليّة، فهذه القرى جميعها، تعرّضت للعمليّات العسكرية، بحكم وجودها الجغرافيّ ضمن المنطقة الشيعيّة، ما أدَّى إلى تدميرها، وقتل الكثير من سكانها.

إنَّ السياسة القمعيّة التي مارسها المماليك على الشيعة خاصّةً، وعلى غيرهم من الأقليّات الدينيّة[186] (موارنة، نصيرية، تيامنة ـ نسبة إلى وادي التيم ـ الدروز)، جعل الاضطراب يسود المنطقة كلّها، ولفترات طويلة، ممّا دفع عدداً كبيراً من أهالي منطقة كسروان والجرد، إلى النزوح إلى مناطق أخرى في لبنان، مثل: جزين، بعلبك، البقاع، وبيروت، وهناك عدد من النصارى سافروا إلى قبرص، ولا تزال بعض عائلاتهم حتى اليوم هناك، كما أنَّ عدداً من العائلات المتواجدة في الجنوب، من شيعة ومسيحيين كانوا ضحايا الحقد المملوكيّ في تلك الفترة، فتركوا بلادهم وأرزاقهم ونزحوا إلى الجنوب، وإلى بلدتي المنيطرة وبشنّاتا.. بالمقابل عمد المماليك إلى «إقطاع القرى والبلدات في كسروان لأمراء المماليك في دمشق وبعلبك، ونتيجة كل ما حدث، صدر مرسوم عن السلطان الناصر محمد بن قلاوون بمنع ابن تيمية عن الكلام في العقائد»[187] وذلك سنة 705هـ/ 1305م.

وكان من نتيجة هذا الوضع أيضاً، وليحافظ الشيعة على مذهبهم، فإنّهم «اعتمدوا مبدأ التقية، فتظاهروا باعتناق المذهب الشافعي طيلة القرن الرابع عشر»[188].

وما هو أخطر من ذلك، فإنَّ بعض الشيعة في كسروان، والذين كانوا مقصودين بشكل أساس من كلِّ حملات المماليك واضطهادهم، فإنّ بعض هؤلاء الشيعة اعتنق المذهب المارونيّ، (هاشم، الحسيني وغيرهما)، والبعض القليل من الذين حافظوا على مذهب التشيع ضمن منطقة تواجدهم السابقة، اضطروا إلى الالتجاء إلى أعالي الجبال، تحت وطأة القتل والتهديد والإرهاب، لأنّ فتوى ابن تيمية كانت بالمـرصاد، لذلك نرى أنّ غالبيّة القرى الشيعيّة تقع في الجرد الأعلى من منطقة كسروان وجبيل، مثل قرى: لاسا، حجولا، رأس قسطا، يتحدّث البعض عن الموقعة التي حصلت يوم الخميس 5 محرم سنة 705هـ، حيث هجم المماليك على بلاد كسروان، وكانت وقعة في قرية (نيبيه) في كسروان بين المماليك والشيعة، وكان حضرها أربعة آلاف من الشيعة، قتل منهم جمع غفير، وتفرّق الآخرون في البلاد، في جزين ونواحيها، وفي البقاع وبعلبك، وقطعت كرومهم وخُرِّبَتْ بيوتهم[189].

يعمد بعض المؤرِّخين إلى تبرير فعلة المماليك، وفي هذا الخصوص يقول صالح ابن يحيى أنّه في سنة 699، تعرّضت بلاد الشام لهجوم مغوليّ على المماليك، وأنزلوا بهؤلاء هزيمة، ودخلوا دمشق. وقد هرب المماليك، ويبدو أنّهم اتّجهوا نحو كسروان وجزين، وقد «تعرّض أهل كسروان وجزين لهم بالأذى، ونهبوا وقتلوا عدداً كبيراً منهم، وذلك أنّ الهاربين من عساكر الملك الناصر محمد بن قلاوون، من قازان، سنة تسع وتسعين وستماية، تفرّقوا في البلاد، فحصل لهم الأذية من المفسدين، خصوصاً من أهل كسروان وجزين»[190].

الشيعة بين التقية أو القتل

بالرغم من أنّ جهد المماليك كان منصبّاً بشكل أساس لمحاربة المذهب الشيعيّ وأتباعه، وأنّهم إذا أرادوا أن يكيدوا لشخص ما، دسّوا عليه من رماه بالتشيّع (وكأنّ هذه المسألة أضحت تهمةً عقابها القتل)، فتُصادر أملاكه وتنهال عليه العقوبات، لكنّ هذه المسائل كان يقابلها إخلاص عقائديّ كبير، يرقى بالإنسان إلى حدّ الاستشهاد في سبيل الله والمبادئ القويمة الرساليّة، وهذا يدلُّ على أنّه كان هناك تحصين للمذهب، بواسطة السلاح العقليّ والفكريّ، في بيئةٍ معاديةٍ، بعيدةٍ عن المنطق، متعصّبةٍ إلى أقصى الحدود.

ولذلك فإنّ هؤلاء المستميتين في سبيل الدّفاع عن المذهب، كانوا أمام خيارين، إمّا المجاهرة بالموقف، حتّى ولو أدّى ذلك إلى الاستشهاد، وإمّا التقية، اتِّقاء لشرِّ الأعداء، والخصوم المخالفين، وأذاهم وخطرهم، وفي هذا الخصوص، يقول الشيخ محمّد رضا المظفر، أحد كبار علماء الإماميّة، شارحاً لموقفهم من التقية ما نصه: «رُوي عن صادق آل البيت R في الأثر الصحيح: «التقية ديني ودين آبائي» وإن تسعة أعشار الدين في التقيّه، ولا دين لمن لا تقية له»[191].

وللتقية طبعاً أحكام معيّنة، وعديدة، من حيث وجوبها وعدم وجوبها، وبحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية»[192] ولا بدّ من ذكر مسألة جرى التطرق إليها، وهي أن بعض من لم يستطع الصمود في وجه الهجمة المملوكية، ولم يستعمل مبدأ التقية، تحوّلوا إلى مذاهب أخرى.

لكن بالرغم من ذلك فقد عرفت تلك الفترة حركة فكرية عقائديّة، الدّين فيها كان الأساس، وتشعَّبت المعارف والعلوم، ونشطت الهجرة العلميّة في سبيل التحصيل الدينيّ والعلمي والمعرفي.

العامليّون في ظلِّ الحكم والتعسّف المملوكي

خلال زيارته لجبل عامل إبَّان الفترة المملوكيّة بتاريخ سنة 725هـ/ 1324م، يتحدّث ابن بطوطة عن هذه المنطقة، وخاصة عن صور وصيدا فيقول: «ثم سافرت منها إلى مدينة صور، وهي خراب، (كانت خرّبت سنة 690هـ، وكذلك وجدها الرّحالة Mondaville موندفيل سنة 731هـ) وبخارجها قرية معمورة، وأكثر أهلها أرفاض»، كما تحدّث عن صيدا، وقال إنّه «نزل عند قاضيها كمال الدين الآشموني المصري»[193].

أمَّا شيخ الربوة (المتوفي سنة 727هـ) فقد مرّ أيضاً بالمنطقة وقال عنها: «وجبل عامل عامرة بالكروم والزيتون والخروب والبطم، وأهله رافضة إماميّة، وجبل جبع كذلك أهله رافضة، وجبل تبنين قلعة، ولها أعمال وولاية، وهم رافضة وإماميّة»[194].

لقد برز العديد من العلماء العامليين في تلك الفترة، وظلّوا يمارسون مهامهم الدينية، يدرّسون ويناقشون في حلقاتهم، ومن أبرز هؤلاء العلماء:

الشيخ إبراهيم بن الحسام العامليّ، ولد أثناء الاحتلال الصليبيّ قبل سنة 650هـ، وتلقّى علومه في بلدة جزين وغيرها، ثمّ رحل إلى العراق في طلب العلم، وسكن الحلّة، ثمّ عاد إلى بلاده وسكن في مجدل سلم. وزاره سنة 722 الخليل بن أيبك الصفدي، وتحدّث عن ذلك الفقيه الشيعيّ، وقد اتَّخذ من القرية مجلسين: أحدهما للوفود والأضياف، والآخر للطلبة وأهل العلم (ويبدو أنّ مدرسته سبقت مدرسة الشهيد الأوّل)… ولم يزل في تلك الناحية قائماً بنصرة مذهب الشيعة والاعتزال، دائماً على جذب من يستضعفه من أهل السنّة بالاقتطاع والاختزال، إلى أن سكت فما نبس، وله شعر، يعرض فيه تأوّهه من الملاحقة والظلم، خاصة بعد أن كُبس في منزله وأخذت كتبه[195].

نشير أنه خلال فترة الشيخ إبراهيم وخليل الصفدي، كان الإفرنج يغيرون بمراكبهم على بعض مدن الساحل، ومنها صيدا، وكانوا يغيرون ثمّ يرجعون في معظم الأحيان خائبين، وهذا يدل على أن المماليك لم يكونوا منتشرين في كل مكان، بل في مناطق معينة محصنة ومنيعة.

الشهيد الأوّل، محمد بن مكي العاملي الجزيني

«كان عالماً ماهراً فقيهاً، ثقةً، متبحراً، كاملاً، جامعاً لفنون العقليات والنقليات، زاهداً، عابداً، ورعاً، شاعراً، أديباً منشئاً»[196].

وهو إلى ذلك، من أشهر علماء الإمامية، وأوفرهم علماً، وهو المؤسّس الفعليّ للنهضة الفكريّة والعلميّة، ليس في جبل عامل فقط، وإنّما برزت تأثيراته وآثاره في كلّ الأماكن التي حلّ فيها، وهو البادئ بتأسيس المدارس في القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي، طاف في كثير من الأماكن بحثاً عن العلم واكتسابه، ثم درّس وعلّم أينما ذهب وارتحل، ووضع قواعد التدريس «واعتبرت سنة 755هـ/ 1354م مبدأ البعث العلمي والأدبي في جبل عامل، وهي سنة عودة الشهيد الأول من العراق»[197].

تلقّى الشهيد الأوّل علومه الأولى في جبل عامل، ثمّ توجّه إلى الحلّة في العراق، وكانت حينها أهمّ مركز علميّ شيعيّ، وكان ذلك سنة 750هـ/ 1349م، وعمره 26 سنة، فقرأ هناك على فخر المحقّقين[198]، الذي نُقل عنه قوله: «استفدت منه (أي من الشهيد الأول). أكثر مما استفاد مني»، وهكذا يُعَدّ الشهيد الأول من أوائل الذين أرسلوا تقليد الرحلة العلمية في جبل عامل، ويقال أن أول من قصد الحلّة من جزين إسماعيل العودي، وحصل في الحلّة على إجازات من أشهر شيوخ العلم فيها.

ثم انتقل إلى بغداد سنة 758هـ/1356م، وتابع دراساته هناك، وحصل على إجازات من علمائها، ثمّ ترك العراق باتجاه دمشق، القاهرة، مكة، المدينة، وفلسطين، وقرأ على أربعين شيخاً من شيوخ السنّة، ثم عاد إلى مسقط رأسه، بعد أن أصبح «أفقه جميع فقهاء الآفاق».

كانت جزين في زمن الشهيد الأوَّل «قصبة محشوّة بالسكّان، وفيها جامع كبير ومنارة رفيعة»[199]، من هنا نجد تركيز الشهيد الأوّل على جزين لينشئ فيها، وبعد عوته من النجف، أهمّ مدرسة دينية، وذلك سنة 771هـ/ 1370م[200].

لم يعد إلى العراق، والسبب أنَّ أمر الهجرة إلى هذا البلد أصبح عسيراً، وذلك إثر استيلاء المغول على بغداد، وكانت مركزاً للخلافة، وقتل إثرها الخليفة العباسيّ، وإثر الاضطرابات في أوضاع الجامعة العلميّة، نتيجة غارات المغول ونكبة بغداد.

وأصبح لهذه المدرسة شهرة كبيرة، ليس في جبل عامل فقط، وإنَّما في معظم الأنحاء، وكان في جزين في تلك الفترة «اثنا عشر شيخاً من العلماء الأفاضل، ولذلك كانت جزين محطة لرجال وطلبة العلم ومنتجعي الأدب، ونبغ في جزين عدد كبير من العلماء على التوالي، وكانت بينَهم الفاضلات والعارفات من النساء، منهن المجتهدة الفاضلة ستّ المشايخ، فاطمة أم الحسين، أخت الشهيد الأول، التي أولاها أخوتها العلماء الفتوى، بكلّ ما يختص النساء من أمورهن الدينيّة»[201].

لقد عمل الشهيد الأوّل على قيادة الشيعة، وإعادة المذهب إلى صفائه «ومحاربة المعتقدات والبدع التي سببها النزوح النصيري إلى الجنوب مع الشيعة الاثني عشرية، بعد معارك كسروان، واضطرّ إلى مقاتلة الخارجين عن المذاهب، ومنهم الشيخ محمد البالوشي، المتّهم بالشعوذة، وادّعاء النبوة، وهذا الشخص ظهر في قرية (يالوش)»[202]. فتصدّى له الشهيد الأوّل والتقى به، وجرت معركة بين الطرفين في منطقة النبطية الفوقا سميت بـ(معركة الشهداء)، وانتصر فيها الشهيد الأوّل والشيعة معه، بعد المعركة جرت اتصالات خارجية معه، فكاتب السلطان علي بن المؤيد في خراسان، إيران، لشدّ أزره، وهذه الحركة أخذت أبعاداً عديدة منها:

أ ـ القضاء على البدع والشعوذات التي هدَّدت الشريعة.

ب ـ حماية جبل عامل من أية حركة مشابهة لما حصل في كسروان.

ج ـ جمع شمل العامليّين، خاصة بعد ظهور منحى إقطاعي، للوقوف في وجه عملية الإصلاح الدينيّ.

د ـ ربط القضية العامليّة بقضايا المنطقة.

هـ ـ تنظيم شؤون الشيعة في مختلف المناطق بزعامة جزين.

طبعاً لم تمرّ هذه الأمور بدون ردود فعل قويَّة، فقد شعرت السلطة الموجودة أنّها مهدّدة، وهي تعمل للابقاء على نفوذها، كذلك فإنّ سلطة الأمن في صفد ـ (والمنطقة العاملية تابعة لها إدارياً وكانت موزّعة على ثلاث ولايات: تبنين، الشقيف وصور)[203] ـ كانت ترى نفسها معنيّة بمناهضة نشاطات الشهيد الأوّل، إضافةً إلى سلطة الحكم المملوكيّ في المنطقة، التي تلاحق الشيعة، ولا تسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينيّة الخاصة بهم، وتلاحقهم، هذه الأطراف الثلاثة كان همّها ضرب حركة الشهيد الأوّل، حتّى لا تتفاقم وتقوى، وتصبح عصيّةً على الدولة.

اتّخذ التصدّي لهذه الحركة شكل الوشاية به، على أنّه يخالف الأحكام الشرعيّة، والأهمّ من ذلك، أنّه يُنسب إليه بعض الفتاوى، التي تصبّ في ولاية الفقيه، وربما يكون قد حصل على الخطوط العامّة لفتواه هذه من بعض مشايخه مثل: لزوم دفع الأخماس إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى، وصفه للفقيه الجامع هذا، بأنه نائب الإمام، نشر وكلائه في المنطقة الشيعيّة، ليحصلوا على هذه الفرائض، تأسيسه تبعاً لذلك نظاماً ضريبياً (فقهياً)، موازياً للنظام الضريبيّ الرسمي، وتأسيسه إدارة محليّة مستقلّة عن الإدارة المركزيّة.

أخصام محمد بن مكي دسّوا عليه وقدّموا بحقّه العرائض، حنقاً عليه، وغيرة، وحقداً أعمى، فتمّ استدعاؤه إلى دمشق من جانب نائب المدينة بيدمر الخوارزمي، في عهد السلطان برقوق، سجن في سجن قلعة دمشق، ودام اعتقاله أحد عشر شهراً، وفي السجن راح ينكبّ على المطالعة والتأليف، ويقال أنّ «الأمير علي بن المؤيّد الخراساني، حاكم خراسان إيران، أرسل إلى الشام وزيره الشيخ محمد الأوي، ليستقدم محمد بن مكي إلى خراسان، ليكون مرجعاً للمسلمين هناك، فاعتذر بعذر جميل، وأرسل إلى الأمير مع الرسول اللمعة الدمشقية، التي أضحت بمثابة دستور الدولة هناك»[204]، واعتمد هذا الكتاب كمرجع أساس للدراسات الإسلاميّة الفقهيّة في أنحاء العالم الإسلامي كلّه.

خلال إقامته في سجن قلعة دمشق، كان يتّصل بحكَّام المماليك لمناقشة أمر سجنه وسبب ذلك، لكنّه لم يلق آذاناً صاغية، فأرسل إلى الحاكم بيدمر الخوارزمي قصيدة، ينفي التهمة الموجّهة إليه، جاء فيها:[205]

يا أيّهـا الملك المنصور بيدمّر

بكم خوارزم والأقطــار تفتخـر

إني أراع بكــم في كلّ آونــة

وما جنيت كعمري كيف أعتـذر

والله والله أيمــانــاً مـؤكــدة

إنّي بريء من الإفكِ الذي ذكروا(2)

لم تصدَّق أقوال محمد بن مكي، ولم يؤخذ بأقواله وبتبريراته، بل اتَّخذوا من الوشايات ذريعةً لمحاكمته، وجاءت المحاكمة بعد محضرٍ نظَّمه له القاضي تقي الدّين الخيامي، ورفعه إلى قاضي صيدا.

لقد حوكم بعد سنةٍ من سجنه، وقد تهرّب قضاة المذاهب من إدانته وهدر دمه، ممَّا استدعى استبدالهم، ثمّ حوكم بوجود قاضيين من مذهبين اثنين، فأفتى أحدهما بوجوب قتله، وهو القاضي المالكي، الذي كفّره وهدر دمه، حتّى وإن تاب، وفرض هذا القاضي تنفيذ الحكم على قضاة المذاهب الأخرى، حتّى تتوزع المسؤوليّة، وبرّأه القاضي الآخر، وكانت النتيجة أنّ النائب الخوارزمي وافق على فتوى القتل، وهو ينتظر بالفعل هذه الفتوى، للتخلّص من محمد بن مكي.

وبالفعل أُخرج محمد بن مكي إلى تحت قلعة دمشق، وضربت عنقه، وذلك في جمادى الأولى سنة 786هـ/ 1384م، ويقول الشيخ أحمد رضا أنّه: «قُتل وصُلب وأحرقت جثته يوم الخميس، فأطلق عليه اسم الشهيد الأوّل؛ لأنَّه كان شهيداً قتل في سبيل الدّين والعلم في جبل عامل»[206].

أمّا على ماذا اعتمد القاضي في حكمه، فإنّ التّهم التي وجِّهت للشهيد هي: سبّ الصحابة، إنحلال العقيدة، اعتقاد مذهب النصيريّة، استحلال الخمر الصرف.

ماذا نتج عن مقتل الشهيد الأوّل؟

التأثير الأوّل كان على مدرسته التي ذاع صيتها، وكانت محطَّ الرحال لطلاب العلم، وخرّجت عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء، الذين نشروا العلم وأنشأوا المدارس في أنحاء جبل عامل، فبمقتله أُقفلت مدرسة جزين، وتفرّق تلامذتها، وانتقلت الحركة العلميّة ونزح العلماء إلى مناطق أخرى، وإلى الخارج، وازدهرت بعض المدارس على حساب مدرسة جزين، ومنها: مدرسة جبع التي كان لها الرياسة الدينية في عهد الشهيد الثاني، الشيخ زين الدين الجبعي.

لقد عُدَّ الشهيد الأوّل من خلال أعماله وجهاده والمؤلَّفات العديدة التي تركها، رائد الحركة العلميّة في جبل عامل مع بداية القرن الخامس عشر، وهو مفجّر حركتها الثورية، وهو الذي نشر بين مواطنيه معارفه، وكان بالفعل صاحب فكر إصلاحيّ متميّز.

وهكذا، وبعد استشهاد الشهيد الأوّل، «كان النظر إلى بلدان جبل عامل، على أنّها بلدان مخالفة رافضة»[207].

على الرغم من كل الضغوطات التي مارسها المماليك على الشيعة في جبل عامل وغيره، فإنّ نشاطاً فكريّاً وعلمياً استمرّ دون توقّف، والفقهاء كانوا بالتالي كتابا وأدباء ومؤرّخين وشعراء، وكان عطاؤهم غزيراً، متنوّعا، مفصّلا ومعمّقاً، وقد أسهموا في العلوم الدينية.

وبرع علماؤنا في ميادين عديدة ومتنوِّعة، وبعضها لم يسبقهم في التبحّر بها أحد، وهكذا كانوا متقدّمين في مجالات الفقه وعلم الحديث، تركوا آثاراً كثيرة في هذا المجال.

[1](*) استاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية.

[2] راجع: محمد جواد مغنية: الشيعة والتشيع، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة للطباعة والنشر، بيروت، لا تاريخ للنشر، ص 160. أيضاً: تقي الدين أحمد بن علي المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج1، القاهرة، بولاق سنة 1270هـ، ص 348 وما بعدها.

وابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج1، القاهرة 1303هـ/ 1886م، ص 11.

[3] حول الاسماعيلية راجع: مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاسماعيلية منذ أقدم العصور حتى وقتنا الحاضر، سوريا 1953، ص 84.

[4] ابن الأثير: نفس المصدر، حوادث سنة 333.

[5] محمد جواد مغنية: المرجع السابق، ص 164، راجع أيضاً حول المعزّ: المقريزي: إتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، نشره الشيال، القاهرة، دار الفكر 1928، ص 185186.

[6] راجع: ابن خلكان: وفيات الأعيان وإنباء أبناء زمان، ج2، بولاق، القاهرة 1299هـ، ص 134.

[7] حسن ابراهيم حسن: تاريخ الدولة الفاطمية، طبعة 1958، ص 147.

[8] ابن الأثير: المصدر السابق، حوادث 363.

[9] تاريخ الكنيسة المفصّل المجلد الثاني، نقله إلى العربية الأب صبحي حموي اليسوعي، ط1، دار المشرق 2002، ص 168.

[10] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج1، دار الكتب المصرية، لا تاريخ للنشر، ص 72.

[11] ابن الأثير: المصدر السابق، حوادث 365، وأيضاً محمد عبد الله عنان: الحاكم بأمر الله، ط2، ص 79.

[12] نقلاً عن محمد جواد مغنية: المرجع السابق، ص 167.

[13] نفس المرجع، ص 168، وعنان: المرجع السابق، ص 103، وحسن ابراهيم حسن: المرجع السابق، ص 168.

[14] تاريخ الكنيسة: المرجع السابق، ص 168.

[15] استسلمت صور للقائد الفاطمي جعفر بن فلاح سنة 359هـ/ 969م: ابن تغري بردي: المصدر السابق، ج4، ص 55.

[16] ابن تغري بردي: نفس المصدر، ص 192.

[17] لقد شهد عام 870م ولادة إحدى الدويلات ضمن الدولة العباسية، وهي الدولة الطولونية، عندما أسسها أحمد بن طولون، وجعل مصر مركزاً لها، واستطاع هذا القائد في فترة لاحقة ضم بلاد الشام له عدة مرات.

[18] البشاري المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق محمد مخزوم، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1987، والبشاري المقدسي هو محمد بن أحمد بن البناء، أبو عبد الله رسنّي المذهب، اعتنق المذهب الشيعي، وتوفي سنة 380هـ.

[19] ابن الأثير: المصدر السابق، ج7، ص 178.

[20] نفس المرجع.

[21] راجع: ابن تغري بردي: المصدر السابق، ج4.

[22] نفس المصدر.

[23] نفس المصدر.

[24] تاريخ الكنيسة، المرجع السابق، ص 170.

[25] سعيد عاشور: تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، دار النهضة العربية، بيروت 1972، ص 34.

[26] نفس المرجع، ص 37.

[27] ابن الأثير: المصدر السابق، حوادث عام 456هـ.

[28] نفس المصدر، حوادث عام 463هـ.

[29] سعيد عاشور: المرجع السابق، ص 45.

[30] نقلاً عن نفس المرجع، ص 45.

[31] ابن العبري: تاريخ مختصر الدول، طبعة الأب انطوان صالحاني، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1980، ص 192.

[32] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق، دون طبعة، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت 1958، ص 121. راجع أيضاً: ابن الأثير: المصدر السابق، حوادث عام 480هـ.

[33] تاريخ الكنيسة المفصل، المرجع السابق، ص 168.

[34] ابن الأثير: المصدر السابق، حوادث عام 482هـ.

[35] ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، تحقيق عمر العمروي، ج53 دون طبعة، دار الفكر، بيروت 1420هـ/ 1995م، ص 372.

[36] راجع: ابن الجوزي: مرآة الزمان، تحقيق علي سويم، مطبعة الجمعية التاريخية التركية، أنقرة، 1968، ص 158.

[37] نفس المصدر، ص 175.

[38] نفس المصدر، ص 185؛ وابن القلانسي: المصدر السابق، ص 112.

[39] ابن القلانسي: نفس المصدر، ص 120، وابن الأثير: المصدر السابق، ج6، ص 318.

[40] ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج4، القاهرة 1906، ص 19.

[41] البشاري المقدسي: المصدر السابق، ص 153.

[42] ابن الجوزي: المصدر السابق، ص 175.

[43] الاصبهاني، عبد الله: رياض العلماء وحياض الفضلاء، تحقيق أحمد الحسيني، دون طبعة، مطبعة الخيام، قم 1401هـ، ص 244.

[44] نفس المصدر، ج1، ص 100 وص 331، وقيل ان العالم الشيعي دفن فيها سنة 446هـ.

[45] ابن الجوزي: المصدر السابق، ص 152 وص 185.

[46] راجع: علي داود جابر: الحلقة الضائعة من تاريخ جبل عامل، ط1، دار الهادي، بيروت 1426هـ/ 2005م، ص 255 حتى ص 285.

[47] ناصر خسرو: سفرنامه، تحقيق يحيى الخشاب، ط2، دار الكتاب الجديد، بيروت 1970، ص 4850.

[48] النجاشي، أحمد بن علي الأسدي الكوفي: رجال النجاشي، تحقيق موسى الزنجاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، دون تاريخ نشر، ص 404.

وأيضاً: الشيرازي، علي خان: الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت 1403هـ/ 1983م، ص 500.

[49] نفس المصدر.

[50] ابن الأثير: المصدر السابق، حوادث عام 492هـ.

[51] ابن العبري: المصدر السابق، ص 197.

[52] سعيد عاشور: العلاقات، المرجع السابق، ص 7172.

[53] ابن الأثير: المصدر السابق، حوادث عام 492هـ.

[54] سعيد عاشور: المرجع السابق، ص 73.

[55] نفس المرجع، ص 15.

[56] Archives de l’Orient Latin, 1, P: 2 - 22

[57]Thompson: Economic and social hist. volume1, P. 385 - History of the Middle Ages

[58] راجع أيضاً: سعيد عاشور: المرجع السابق، ص 17.

عاشور: نفس المرجع، ص 1819، وسورة الشورى 14 و15.

[59] تاريخ الكنيسة المفصل، المجلد الثاني: المرجع السابق، ص 162.

[60] نفس المرجع، ص176.

[61] نقلاً عن عاشور: المرجع السابق، ص 39.

[62] المقريزي: المصدر السابق، ج1، ص 23.

[63] سعيد عاشور: المصدر السابق، ص 30.

[64] نفس المرجع، ص 31.

[65] ابن الأثير: المصدر السابق، أخبار عام 504هـ.

[66] محمد علي مكي: لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني، دار النهار للنشر، بيروت 1972، ص 120121.

[67] راجع: جواد صيداوي: الحملة الصليبية وحصار أنطاكية (1097م) ملحق النهار، السبت 3 نيسان 1993، ص 19.

[68] بسام العسلي: الأيام الحاسمة، ط2، دار النفائس، بيروت 1983، ص 7.

[69] جواد صيداوي: المرجع السابق، ص 19.

[70] راجع: سعيد عاشور: الحركة الصليبية، ج1، ط1، مكتبة الانجلو، مصر 1963. وأيضاً: وليم الصوري: الحروب الصليبية، ج2، دون طبعة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991، ص 268.

[71] راجع: عبد العزيز سالم: دراسة في تاريخ مدينة صيدا الإسلامي، ص 84.

[72] محمد علي مكي: المرجع السابق، ص 121.

[73] ابن الأثير: المصدر السابق، ج8، طبعة جديدة ثانية، دار الكتاب العربي، بيروت 1967، ص 260.

[74] الحافظ ا لذهبي: النجوم الزاهرة، ج5، طبعة 1935، ص 170.

[75] عمر عبد السلام تدمري: لبنان من السيادة الفاطمية حتى السقوط بيد الصليبيين (9691124م) دار الإيمان، طرابلس 1994، ص 285286.

[76] نفس المرجع، ص 286.

[77] أحمد الشقيري: معارك العرب، دار النهار للنشر 1975، ص 77.

[78] حسن الأمين: العرفان م56 ج4، أيلول 1968، ص 351، نقلاً عن ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق، المصدر السابق.

[79] عمر تدمري: المرجع السابق، ص 300 و308.

[80] ابن جبير: رحلة ابن جبير، دار التراث، بيروت 1968، ص 252؛ وابن الأثير: المصدر السابق، ص 315 - 316. وحول المقاومة الشيعية في صور للصليبيين، راجع: وليم الصوري: الحروب الصليبية، ج3، ص 35؛ والمقريزي: اتعاظ الحنفا، ج3، ص 48.

[81] ابن القلانسي: المصدر السابق، ص 182189.

[82] وليم الصوري: المصدر السابق، ج3، ص 35.

[83] المقريزي: اتعاظ الحنفا، ج3، ص 48.

[84] ابن جبير: المصدر السابق، ص 579.

[85] وليم الصوري: المصدر السابق، ج3، ص 40.

[86] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، المصدر السابق، ج5، ص 183.

[87] الصفدي، صلاح الدين: أمراء دمشق في الإسلام، تحقيق صلاح الدين المنجد، دون طبعة، دمشق 1955/ن ص 45.

[88] ياقوت الحموي: المصدر السابق، ج3، ص 433؛ وابن الأثير: المصدر السابق، ج6، ص 594.

[89] نقلاً عن علي داود جابر: المرجع السابق، ص 306 عن ديوان ابن منير الطرابلسي، جمع: عمر تدمري، ط1، دار الجيل، بيروت، ومكتبة السائح، طرابلس 1986م، ص 146.

[90] راجع: بنيامين التطيلي الأندلسي: رحلة بنيامين التطيلي، تحقيق عزرا حداد، عبد الرحمن عبد الله الشيخ، طبعة جديدة، المجمع الثقافي، أبو ظبي 1423هـ/ 2002م.

[91] أبو سعيد السمعاني التميمي: الأنساب، تحقيق عبد الرحمن اليماني، ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد 1382هـ/ 1962م، ج1، ص 189 وج8 صفحات عديدة.

[92] الكناني الأندلسي الشاطبي، أبو الحسين محمد بن أحمد: رحلة ابن جبير، دون طبعة، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1984، ص 273274.

[93] محسن الأمين: أعيان الشيعة، ج2، ص 393؛ والأصفهاني: رياض العلماء، ج4، ص 16.

[94] الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق عمر تدمري، ط2، دار الكتاب العربي، بيروت 1414هـ/ 1993م، ص 448.

[95] ابن حجر العسقلاني: لسان الميزان، ج1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط3، بيروت 1406هـ/ 1986م، ص 386.

[96] الذهبي: المصدر السابق، ص 448.

[97] علي داود جابر: المرجع السابق، ص 298، وحول مقتل القاضي الشيعي، راجع: الذهبي: المرجع السابق، ص 448، والذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق أكرم البوشي، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت 1404هـ/ 1984م. والعسقلاوي: المصدر السابق، ج1، ص 386.

[98] ابن الأثير: المصدر السابق، ج10، ص 284.

[99] راجع: سعيد عاشور: تاريخ العلاقات، المرجع السابق، ص 150.

[100] نفس المرجع، ص 150؛ راجع أيضاً: Riant: Inventaire des letters des Croisades, I P:162

[101] ابن الأثير: المصدر السابق، حوادث عام 491هـ.

[102] نفس المصدر، حوادث عام 492هـ.

[103] نفس المصدر. ويؤكد على عدد قتلى المسلمين مؤرخون مسيحيون. راجع: ابن العبري: مختصر تاريخ الدول، ص 197. وسعيد عاشور: نفس المرجع، ص 195196.

[104] راجع: سعيد عاشور: نفس المرجع والصفحات.

[105] ابن القلانسي: المصدر السابق، ص 137، وأبو المحاسن: النجوم... المصدر السابق، ج5، ص 150.

[106] محمد جواد مغنية: المرجع السابق، ص 172.

[107] محمد علي مكي: المرجع السابق، ص 152.

[108] محمد كرد علي: خطط الشام، ج3، ص 36.؛ وابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق جمال الدين الشيّال، ج1، القاهرة 19531960، ص 131.

[109] محمد مخزوم: جبل عامل في العهدين الصليبي والمملوكي، من كتاب: صفحات من تاريخ جبل عامل، منشورات المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، طبعة أولى، دار الفارابي، بيروت 1979، ص 35.

[110] نفس المرجع، ص35.

[111] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، ج4، القاهرة (بولاق) 1299هـ، ص 77؛ وابن الأثير: المصدر السابق، ص 151.

[112] نفس المصدر، ص 77.

[113] ابن الأثير: المصدر السابق، ج11، ص 153؛ وابن واصل: المصدر السابق، ج1، ص 161.

[114] ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل، تحقيق عبد القادر طليمات، القاهرة 1963، ص 126؛ وابن الفرات: تاريخ الدول والملوك، تحقيق د. حسن محمد الشماع، ج1، البصرة 19671970، ص 163.

[115] محمد علي مكي: المرجع السابق، ص 153.

[116] القلانسي: المصدر السابق، أخبار عام 552هـ/ 1157م، ص 339.

[117] راجع نفس المصدر.

[118] تاريخ بالكنيسة المفصّل، المرجع السابق، ص 204205.

[119] ابن شداد: النوادر السلطانية، المصدر السابق، ص 21؛ وابن الأثير: المصدر السابق، أخبار عام 575، ج11.

[120] تاريخ الكنيسة المفصل، المرجع السابق، ص 204205.

[121] محمد مخزوم: المرجع السابق، ص 39 نقلاً عن الكاتب الفرنسي.

[122] سليمان ضاهر: مجلة العرفان م8، ص 437.

[123] ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج5، ص 415.

[124] المقريزي: خطط، ج2، ص 343؛ وابن جبير: المصدر السابق، ص 158.

[125] نفس المصدر، ص 364 و«المواعظ»، ج4، ص 193.

[126] أسامة زكي زيد: الصليبيون وإسماعيلية الشام في عصر الحروب الصليبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الاسكندرية 1980، ص 6.

[127] سعيد عاشور: المرجع السابق، ص 340.

[128] السيوطي: حُسن المحاضرة، ج2، ص 28.

[129] سعيد عاشور: مصر والشام في عهد الأيوبيين، دون طبعة، دار النهضة العربية، بيروت 1971، ص 61.

[130] حول حسام الدين بشارة، راجع: محسن الأمين: الخطط، ص 132؛ ومحمد جابر آل صفا: تاريخ جبل عامل، ص 28؛ ومحمد تقي آل فقيه: جبل عامل في التاريخ، ص 76.

[131] محسن الأمين: أعيان الشيعة، ج2، ص 189.

[132] ابن حجر العسقلاني: المصدر السابق، ج7، ص 216.

[133] بولياك: الاقطاعية في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان، تحقيق عاطف كرم، دار المكشوف، بيروت 1948، ص 4546.

[134] ابن تغري بردي: المصدر السابق، ج6، ص 109، وابن شداد: المصدر السابق، ص 73.

[135] ابن الفرات: تاريخ ابن الفرات، تحقيق قسطنطين زريق ونجلا عز الدين، دون طبعة، م4، ج1، المطبعة الاميركانية، بيروت 1939م، ص 225.

[136] ابن شداد: النوادر، المصدر السابق، ص 210.

[137] نفس المصدر، ص 245؛ وابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، ج6، ص 59.

[138] ابن واصل: المصدر السابق، م4، ج2، ص 135.

[139] الذهبي: تاريخ الإسلام (611620)، ص 18؛ والدويهي: تاريخ الأزمنة، ص 206207.

[140] راجع ابن شداد: المصدر السابق.

[141] حسن الأمين: ابن جبير في جبل عامل، النهار، الاربعاء 10/9/1986.

إن الزمن الذي مرّ فيه ابن جبير بلبنان كان 580هـ، وكانت المنطقة تحت الاحتلال الصليبي.

[142] حول علماء الفترة الصليبية، راجع: ابن الفرات: تاريخ ابن الفرات، المصدر السابق، والذهبي: تاريخ الإسلام...، ومحسن الأمين: أعيان الشيعة ج2، وابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، ج10، وعلي داود جابر: المرجع السابق من ص 390 إلى 409.

[143] حسن الأمين: نفس المرجع.

ومحسن الأمين: أعيان الشيعة ج11، ط2، مطبعة الانصاف، بيروت 1380هـ/ 1961م، ص 282.

[144] نقلاً عن محمد مخزوم: المرجع السابق، ص 43.

[145] نفس المرجع، نقلاً عن أسامة بن منقذ: الاعتبار، حرره فيليب حتي بريتون، مكتبة المثنى، بغداد 1930. وابن جبير: المصدر السابق. وستيف رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة السيد الباز العريني، دار الثقافة، بيروت 1967.

[146] راجع: الياس القصار: الشرق العربي في العصور الوسطى، الدار اللبنانية للنشر الجامعي، انطلياس 1996، ص 387. وكمال الصليبي: منطلق تاريخ لبنان، منشورات كرافان، بيروت 1979، ص 125، وعرب دعكور: تاريخ الفاطميين والزنكيين والأيوبيين والمماليك وحضاراتهم، ط1، دار النهضة العربية، بيروت 2011، ص 329 وما بعدها.

[147] جلال الدين السيوطي: تاريخ الخلفاء، دار الفكر، بيروت 1974، ص 222. وابن أياس: بدائع الزهور، المصدر السابق، ج1، 1951، ص 37. وابن تغري بردي: النجوم...، المصدر السابق، ج3، ص 256.

[148] ابن حوقل، محمد علي: صورة الأرض، طبع مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ، ص 318.

[149] ابن تغري بردي: المصدر السابق، ج6، ص 319.

[150] المقريزي: السلوك، المصدر السابق، ج1 ق2، ص 339340.

[151] المقريزي: الخطط المقريزية، ج1، دار صادر، بيروت، دون تاريخ نشر، ص 219. راجع أيضاً: ابن تغري بردي: المصدر السابق، ج7، ص 11.

[152] المقريزي: السلوك، المصدر السابق، ج1 ق2، ص 345.

[153] ابن تغري بردي: المصدر السابق، ج6، ص 370.

[154]المقريزي: الخطط المقريزية، المصدر السابق، ج2، نسخة مصورة عن مؤسسة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1845، ص 236.

[155] ابن تغري بردي: المصدر السابق، ج7، ص 19.

[156] المقريزي: السلوك، المصدر السابق، ج1 ق2، ص 368.

[157] راجع: أحمد حطيط: تاريخ البلدان الوسيط، دار البحار، بيروت 1986، ص 2023.

[158] أبو الفداء إسماعيل بن علي: المختصر أخبار البشر، ج1، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1960، ص 207. وفيليب حتي: تاريخ لبنان، دار الثقافة، بيروت 1959، ص 400. وابن شداد: تاريخ الملك الظاهر، تحقيق أحمد حطيط، المعهد الالماني للدراسات الشرقية، فيسبادن 1983، ص 33.

[159] «الكوراني» نسبة إلى كوران، وهي بلدة من نواحي نيسابور، بالقرب من جرجان. راجع: ياقوت الحموي، المصدر السابق، ج1، ص 246247.

[160] المقريزي: السلوك، المصدر السابق، ج1، ص 440.

[161] النويري: نهاية الإرب في فنون الأدب، وزارة الثقافة والارشاد القومي، القاهرة، دون تاريخ، ج28، ص 18.

[162] السيوطي: حسن المحاضرة. والمقريزي: المصدر السابق، ج1، ص 451. حول تركيز سلطات بيبرس، راجع: القلقشندي...، المصدر السابق، ج4، ص 4 و8. ومحمد علي مكي: المرجع السابق، ص 242243.

[163] محسن الأمين: الخطط، المرجع السابق، ص 207208.

[164] ياقوت الحموي: المصدر السابق، ج4، ص 18. ومحمود العابدي: الآثار الإسلامية في فلسطين والأردن، دون طبعة، المطابع التعاونية، عمان 1973م، ص 42.

[165] الطهراني آقا بزرك: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط2، دار الأضواء، بيروت، لا تاريخ للنشر، ج2، ص 283.

راجع: علي داود جابر: المرجع السابق، ص 239242.

[166] ابن الفرات: المصدر السابق، ج7، ص 35.

[167] المقريزي: السلوك، المصدر السابق، ج1، ق3، ص 746747، وابن كثير: المصدر السابق، ج13، ص 316.

[168] نفس المصدر، ص 764765.

[169] طه الولي: تاريخ المساجد والجوامع الشريفة في بيروت، دار الكتب، بيروت 1973، ص 80.

[170] كمال الصليبي: المرجع السابق، ص 132.

[171] القلقشندي: المصدر السابق، ج13، ص 1314.

[172] نفس المصدر.

[173] مصطفى سبيتي: الحياة الفكرية للأقليات المذهبية في لبنان في العهد المملوكي، ط1، دار المواسم 2007، ص 76. والياس القطّار: نيابة طرابلس في عهد المماليك، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1988، ص 118119.

[174] ابن جبير: المصدر السابق، ص 304.

وابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ج1، القاهرة 1938، ص 177.

[175] كمال الصليبي: منطلق تاريخ لبنان، المرجع السابق، ص 133. إلياس القطار: المارونية في أمسها وغدها، دير سيدة النصر نسيب، غوسطا 1997، ص 52.

[176] ابن الأثير: المصدر السابق، ج14، ص 12.

[177] المقريزي: السلوك، ج1 ق4، ص 779.

[178] نفس المصدر، ج2، ص 8081.

[179] ابن كثير: المصدر السابق، ج14، ص 12.

[180] راجع: ابن كثير، نفس المصدر، والمقريزي: المصدر السابق، ج2 ق2، ص 12.

[181]نفس المصدر، ج14، ص 35، راجع: مصطفى سبيتي: المرجع السابق، ص. المقريزي: المصدر السابق، ج2 ق2، ص 1416.

[182] ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، الرياض 1961.

[183] صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، طبعة دار الفكر الحديث، ص 20.

حول التبرير الذي ساقه ابن تيمية لما حدث، راجع: القلقشندي، المصدر السابق، ج1، ص 248.

[184] راجع: عمر تدمري: تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور، عصر دولة المماليك، ج2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981، ص 94.

[185] كمال الصليبي: منطلق، المرجع السابق، ص 133.

[186] راجع: مصطفى سبيتي: المرجع السابق، ص.

[187] عزيز العظمة: ابن تيمية، رياض الريس للنشر 2000م، ص 483485. والدواداري: كنز الدرر وجامع الغرر، تحقيق هانس روبرت ويمر، القاهرة 1960، ص 139. والقلقشندي: المصدر السابق، ج11، ص 280.

[188] صالح بن يحيى: المصدر السابق، ص 195.

[189] سامي مكارم: لبنان في عهد الأمراء التنوخيين، ط1، دار صادر، بيروت 2000، ص 120.

[190] صالح بن يحيى: المصدر السابق، ص 77 – 78.

[191] محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية، ط2، القاهرة 1381هـ، ص 67 – 68. والكليني: أصول الكافي، باب التقية، ج2، ص 217.

[192] جعفر السبحاني: مع الشيعة الإمامية في عقائدهم، دار الأضواء اللبناني، الغبيري 1414هـ/ 1993م، ص 75 حتى ص 96.

[193] أبو عبد الله محمد بن ابراهيم: رحلة ابن بطوطة، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1405هـ/ 1985م، ص 61 – 62. ومحمد كاظم مكي: المرجع السابق، ص 72.

[194] شيخ الربوة الدمشقي، محمد بن أبي طالب الأنصاري: نخبة الدهر وعجائب البر والبحر، مطبعة الأكاديمية الامبراطورية، مدينة بطرسبورغ 1281هـ/ 1865م، ص 211.

[195] راجع: محسن الأمين: أعيان الشيعة، ج2، ص 123. واليونيني: ذيل مرآة الزمان، ج2، ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد 1374هـ/ 1954م، ص 435. وخليل بن أيبك الصفدي: أعيان العصر وأعوان النصر، ج1، تحقيق مجموعة من الأساتذة، ط1، دار الفكر، بيروت 1418هـ/ 1998م، ص 107 – 110.

[196] أمل الآمل، المصدر السابق، ج1، ص 181.

[197] حسن الأمين: عصر حمد المحمود والحياة الشعرية في جبل عامل، ط1، دار التراث الإسلامي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1974. راجع أيضاً: حول الشهيد الأول: عباس القمّي: الكنى والألقاب، ج1، مطبعة العرفان، صيدا 1357هـ، ص341.

[198] محسن الأمين: أعيان الشيعة، ج1، ص 59.

[199] راجع: جواد بنوت: حركات النضال في جبل عامل، ط1، دار الميزان، بيروت 1993، ص 71 وما بعدها.

[200] محسن الأمين: العرفان، عدد 27، ص 462.

[201] راجع: أحمد رضا: الفكر العاملي، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1983، ص 16. وسليمان ضاهر: صلة العلم بين دمشق وجبل عامل، مجلة المجمع العلمي في دمشق، م9، ج5-6، 1928، ص 353 – 354.

[202] محسن الأمين: أعيان الشيعة، م10.

[203] طه الطراونة: مملكة صفد في عهد المماليك، دار الآفاق، بيروت 1404هـ/ 1982م، ص 100 – 101.

[204] محمد علي مكي: المرجع السابق، ص.

[205] محسن الأمين: أعيان الشيعة، م10، ص 69.

[206] أحمد رضا: الفكر العاملي، المرجع السابق، ص 16.

[207] راجع القلقشندي: صبح الأعشى...، المصدر السابق، ص 150 – 153 و154.

حول نهاية الشهيد الأول وأهميته راجع: يوسف بن أحمد البحراني: لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحديث، تحقيق محمد بحر العلوم، ط2، دار الأضواء، بيروت 1406هـ/ 1986م، ص 146 – 148.

مصدران جديدان على سيرتَي الشهيديَن

الشيخ د. جعفر المهاجر (*)

إنّ السيرةَ الحافلة لكلٍّ من الشهيديَن، وخصوصًا قتلتُهما الفاجعة، تختبئُ تحت كومةٍ من الأسرار، التي يكتشفها الباحثُ في الأسئلة التي لا يجِـدُ عليها جواباً. إنهما حدثان كبيران بكلّ المعاني. ومع ذلك فإنّ المعلومات عنهما مُتناثرة، بحيث أن وقوفَ الباحث عليهما مُتوقّفٌ إلى حدٍّ كبيرٍ على الحظّ. ذلك لأنّ المصادر الشيعيّة المحلّيّة ضعيفةٌ جدّاً في هذا النطاق، بسبب ضعف اتصالها بالسُلطة وأجهزتها، وهي التي ارتكبت الجريمتين.[1]

لكنّ انبعاثَ الاهتمام بالسيرتين، بفضل أبحاثنا المُتوالية عليهما خلال ثلاثين سنةٍ تقريباً، وضعهما في دائرة الاهتمام. الأمر الذي كان سبباً في اكتشاف مصدرين في غاية الأهميّة. ألقيا ضوءاً جديداً على بعض المعالم المجهولة من سيرتهما.

(1)

الأوّل مخطوطة (مُختصر نسيم السّحَر) المحفوظ أصلُها في مكتبة مدرسة السيّد البروجرديMفي «النجف» برقم 8/399. لمحمد مكي بن محمد بن شمس الدين من سُلالة الشهيد الأول. الذي كان حيّاً سنة 1169هـ/1755م. والأصل الذي اختصره هو (نسيم السّحَر) لمحمد بن علي بن الوحيد البتدّيني، نسبةً إلى «بتدّين اللقش» المجاورة لـ «جزّين»، وهو من تلاميذ الشهيد، كان مجهولاً قبل اكتشاف المخطوطة. والظاهرُ أنها نسخةُ الأصل بخط صاحبها، وهي من ثماني ورقات، ضاع قسمٌ من آخرها.

تُمكن قسمة المخطوطة موضوعيّاً إلى قسمين:

في القسم الأوّل يبدو الشهيد أشبهَ بأبطال القصص الشعبيّة. بطلٌ تُحرّكه نوازعُ خيّرةٌ، جَماعُها طلبُ الخير للناس. سلاحهُ معرفةٌ لا حدود لها، واستعدادٌ للتضحية طلباً لرضى الله سبحانه. في مُقابل أعداءٍ تُحرّكهم نوازعُ شرّيرةٌ، هم اليالوشي وابن يحيى والقاضي ابن جماعة. وهو دائماً ينتصرُ عليهم بالحُجّة البالغة، أو بالتمكُّن من المعارف السريّة، أو بكرامةٍ إلهيّة. ولكنه أخيراً يفوزُ بدرجة الشهادة لأن الله تعالى شاء له ذلك فامتثل.

من الواضح أنّ هذه الصورة لا تكترث بالمُعطيات التاريخيّة الموضوعيّة التي اضطرب فيها الشهيد، كما أفرزتْ أضدادَها، كما هو الشأنُ دائماً في كلّ حركةٍ تغييريّةٍ. ولكنّ هذا لا ينتقصُ أبداً من قيمتها. هو ذا الجانبُ غير المرئي من سيرة الشهيد، الذي صبّ جهودَه على نقل شعبه من التشيّع الشامي البسيط، إلى التشيّع الفكري الاجتهادي. وممّا يجدرُ بنا ذكرُهُ في هذا السياق، أنّه نصّ غير مرّةٍ أنّه بنى في «جزّين» «مدرسةً عظيمة» على حدّ قوله. هذه المرّة الوحيدة في كل المصادر التي نقعُ فيها على هذه المعلومة ذات الأهميّة الفائقة. إنّها أولُ مدرسةٍ في العالَم الشيعيّ.

أمّا القسم الثاني فهو عبارةٌ عن ستّ نقولات عن ستة من تلاميذ الشهيد على سيرة شيخهم. كلُّها مفقودٌ من أسف. ممّا يدلُّ على اهتمام أولئك التلاميذ بكتابة سيرته.

أوّلهم: محمد بن علي بن الوحيد البتدّيني، الذي قلنا أنّه صاحبُ (نسيم السّحَر). أورده تحت عنوان «ما ذكره الشيخ الأفضل المجيد محمد بن علي بن الوحيد في مجموعه».

ثانيهم: محمد بن علي بن نجدة الكركي (ت:808هـ/1405م)، يُسمّيه محمد بن علي النجدي. وهو من أقرب تلاميذ الشهيد إليه. وقد ضمّن في «مجموعته التي رواها عن شيخه «مديحاً له ختمه بالترجمة له.

ثالثهم: الحسن بن سليمان الحلّي (ح:802هـ/1399م). وهو أحد اثنين حلّييَن التحقا بالشهيد من وطنهما. وعاش معه هذا في «جزّين» لم يُفارقه إلى أن استُشهد. «ذكرَ شيخه «في آخر رسالةٍ قد ألّفها».

الثلاث الباقيات، اثنتان منهما لمحمد بن أحمد الموسوي البعلبكي، الذي يصفه بـ «السيّد الجليل النبيل»، وحسين بن محمد الوحيدي البتدّيني، الذي يصفهُ بـ «الصالح الزّاهد العابد». وهما في كرامتين للشهيد. والثالثة قطعةٌ من إجازةٍ للشهيد لمحمد بن الخازن الحائري. وهؤلاء الثلاثة لا ذكرَ لهم في المصادر كافة.

(2)

النصُّ الثاني هو على ثاني الشهيديَن. وهو لقُطب الدين النهروالي. سطره أثناء رحلةٍ له إلى عاصمة الدولة العثمانيّة. فصادف وجودُه فيها وصولَ الشهيد الثاني إليها اسيراً، بعد أن قُبض عليه في حرَم الله وأمنه. وهو يُلقي ضوءًا جديدًا على واقعة وملابسات قتله. يقول:

«في ثامن شعبان أمر الوزيرُ الأعظم بقتل الشيخ زين الدين الجبل عاملي. فأُتي به إلى الديوان ولم يُسأل عن شيء. وأُمر به إلى الاسقالة، فقُطع رأسُه هناك. وفتحوا أخمص رجليه بالسيف. وكان يتشهّد عند قطع رأسه».

وكان من قصّته أنه كان بالشام في أيام حسن بك أفندي. وكان مُتّهماً بالرفض. فأُخذ وأُتي به إلى حسن بك، فسأله عن مذهبه فقال إنّه شافعي. وتكلّم معه بكلماتٍ علميّةٍ، فإنّه كان فاضلاً مُفنّناً. وترضّى عن الصحابة. وأورد أحاديث شريفةً في فضلهم وفي فضل الشيخيَن رضي الله عنهما. فأحسن إليه الأفندي حسن بك وأطلقه. فلمّا برز من عنده قيل للأفندي إنّ هذا من كبار علماء الرّافضة، وهو مُجتهد مذهبهم، وله كُتُبٍ عدّةُ في مذهب الرافضة. فأرسل إليه يتطلّبه فاختفى ولم يظهر. وصار ذلك عُقدةً في خاطر حسن بك قاضي الشام، وتأسّفَ على خلاصه من يده. فعُزلَ عن الشام وولي قضاء مكة المُشرّفة. فصادف مُجاورةَ الشيخ زين الدين بمكة. فأُخبر الأفندي بأنّه بمكة. فأمر بالقبض عليه. فقُبض عليه وحبسه. وسعى كثيرٌ من الناس في إطلاقه، وبذلوا له على ذلك مالاً. فتسلّمَ المال وقال: «هذا من عند مَن؟» فقيل له: «من عند الخواجا محمد مكّي». فطُلب وسُئل عن ذلك فأنكر أن يكونَ المالُ له. فذهب المال، وعجز الناسُ عن استخلاصه. فأرسله إلى مصر مُقيّداً مع حسين بك باتجاه الساحل . وأمره أن يوصله إلى الوزير الأعظم. فأوصله إليه، فأمر بقتله على هذه الصورة».

«وكان رجلاً ظاهرُهُ في غاية الاستقامة. والله تعالى أعلمُ بباطنه. وكانت له فضيلةٌ تامّةٌ وحُسْنُ محاورة ولُطفُ مكالمة. تجاوز الله عنه ومحا سيئاته. فإنّ السيف محّاء الذنوب».

النصُّ غنيٌّ جدّاً. وتحليله وكشف خفاياه يقتضي صفحاتٍ طوالاً. وسنعالجه إن شاء الله في كتابٍ على سيرة الشهيد.

وعلى كلّ حال فأنا لم أرمِ من إيراد النصَّين إلى أكثر من إلفات النظر إليهما، والتنويه بأهميتهما، بقدر ما يتسعُ له المقام.

[1](*) محقق ومؤرخ - لبنان.

لمحة من سيرة الطودين الشامخين الشهيدين

الشيخ محمد سالار (*)

قال عز من قائل: }إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء{[1]

وقال عز من قائل:}ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء { صدق الله العظيم

من المصاديق البارزة، والنماذج الفاخرة لهاتين الآيتين الكريميتين في مقامي العلم والعمل: الشهيدان الأول والثاني {. وهما

ابو عبد الله شمس الدين محمد بن مكي الجزيني العاملي، المولود في جزين سنة 734هـ، والمستشهد مظلوما بقطع رأسه واحراق جسده الطاهر، في التاسع من جمادى الأولى سنة 786هـ.

والشيخ زين الدين بن علي بن أحمد العاملي، المولود في الثالث عشر من شهر شوال سنة 911هـ، والمستشهد في شهر رجب سنة 965هـ.

وهما متقاربان في عمريهما الشريفين، فالأول عاش اثنين وخمسين سنة، والثاني عاش أربعًا وخمسين سنة.

فسلام الله عليهما يوم ولدا ويوم استشهدا ويوم يبعثان في ركب الشهداء والصالحين.

وماذا عسى المرء ان يتكلم في هذه العجالة حول هذين الطودين الشامخين في عالمي العلم والعمل، إذ تشابهت إلى حد بعيد سيرتهما الذاتية والعملية.

اما الشهيد الأول{، فقد اتفق كل من ترجم له بان حياته متشعبة الأطراف، بعيدة الغور، وكان جامعا للمعقول والمنقول.

فهو صاحب مدرسة تجريدية في الفقه على مستويين: العرض والاستدلال. وكان جامعا ومحيطا في فقهي الخاصة والعامة. ولذا اعتُبر عصره عند الخاصة نقلة نوعية فقهيًا. مضافا الى هذا، فقد خاض غمار السياسة؛ لأنه يؤمن بان الشريعة المقدسة هي منهج كامل جامع للفرد والمجتمع في كل ما لهما من شؤون. ولذا لم يسكت عن الظلم والظالمين بل ناهضهم فكريًا وسياسيًا، مما أدى في النهاية الى تلك الشهادة الخالدة التي اشبهت شهادة سادااته الطاهرين R.

وإذا أردنا الوقوف بحق عند حياة هذا الفقيه الشهيد الأعظم(ره)، فلا بد لنا من استعراض البيئة التي ولد فيها، وكيفية دراسته ومن هم اساتذته وتلاميذه، وما هي مؤلفاته، وهذا يحتاج إلى تأليف مستقل. إلا إننا نستعرض وباختصار نبذة من حياته ومؤلفاته. وقد أسلفنا أنه ولد في جزين من قرى عاملة التي كانت منارًا وإشعاعًا للعلماء والفقهاء والأدباء، وترعرع في بيت علمي يُعرف بالطهارة والنجابة، وهذا مما ينتج هذا الثمر الزكي الطيب. وقد قال الحر العاملي حول عاملة وعلمائها:

«إن علماء الشيعة في جبل عامل يبلغون نحو الخُمس من علماء الشيعة في جميع الأقطار، مع إن بلادهم أقل من عُشر عُشر بلاد الشيعة».

ولم تقتصر حياة الشهيد السعيد على بلاد عاملة، بل طاف ما امكنه في مراكز الفكر الاسلامي، ودرس عند الخاصة والعامة، وانتقل من محفل فكري إلى آخر، وكان أهمها: الحلة وكربلاء ومكة المكرمة والمدينة المنورة والشام والقدس.

وأما آثاره الخالدة فهي كثيرة تنوف على عشرين، كان اعظمها في بيان فقه شريعة سيد المرسلين وآله الطاهرين.

والشهيد السعيد كان يؤمن بان العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء، بعد حصول الجد والاجتهاد والتزكية.

وكان من جملة ما انعم الله عليه به، بعدما عُرف بالفقاهة والبيان البليغ، «كتاب البيان». وأرد ان يذكّر العباد بطاعة الله، فكانت الذكرى«كتاب الذكرى». وكان معلمًا مربيًا للعلماء، فكانت الدروس «كتاب الدروس الشرعية». وأحب ان يتنفّل فكتب «النفلية». وختم عمره الشريف في سجن الشام، فأبى إلا أن يترك نورًا لامعًا يدل عليه عبر العصور، فكانت «اللمعة الدمشقية». إضافة الى العديد من الكتب في بقية العلوم.

وإذا اردنا ان نتعرف على مقام الشهيد السعيد فلننظر ما قاله في حقه استاذه فخر المحققين(ره):

«الإمام الأعظم، افضل علماء العالم، وسيد فضلاء بني آدم مولانا شمس الحق والدين، محمد بن مكي بن حامد أدام الله أيامه». هذا ولا ننسى انه من الاستاذ في حق التلميذ. فأي عظمة حصّل{؟

وقال عنه الشيخ محمد بن يوسف الكرماني القرشي الشافعي في اجازته له: «المولى الأعظم الأعلم، إمام الأئمة، صاحب الفضلين، مجمع المناقب والكمالات الفاخرة، جامع علوم الدنيا والآخرة».

ونختم بما قاله الشهيد الثاني(ره) في حق الشهيد الأول، ولا ينبئك مثلي خبير:

«شيخننا وإمامنا المحقق البدل النحرير المدقق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة. الإمام السعيد أبو عبد الله الشهيد محمد بن مكي أعلى الله درجته كما شرّف خاتمته عليه رضوان الله تعالى».

واما ثاني الشهيدين، فكانه بعث ليكمل مسيرة الشهيد الأول، ويوضح بياناته، مضيفا الى ذلك علوما جديدة واساليب انيقة في بيان ادق المطالب في المعقول والمنقول، مضافا الى ما سطرته يراعه المباركة من كتب في تهذيب النفس وتحصيل الكمالات.

ولا عجب، فالبيئة هي البيئة، وعاملة هي الأم فكان النتاج متشابهًا.

وقد اقر كل من كتب حول الشهيد الثاني بانه:

نجم لامع في سماء الفقاهة، وصاحب شجرة مباركة في الفقه والشريعة تؤتي اكلها كل حين. وكان فقيها جامعا يتكلم على كل المذاهب الاسلامية، فدرّس الفقه في «بعلبك» على المذاهب الخمسة.

ولم يقتصر على الفقه، بل درس كلا من:

علم الهيئة، والطب، والرياضيات، والأدب، والفلسفة، وفي جميعها أقر له بالنضج الذهني.

واعترف كل من درس حياة الشهيد الثاني بالعناية الالهية الخاصة، إذ حصّل كل تلك العلوم مع ما له من الرحلات الطويلة الشاقة.

وقد وصف مع ذلك كله، بانه من اولياء الله المقربين لما كان له من تهذيب للنفس. إذ كانت لياليه عامرة بالذكر والاستغفار، ونهاراته بالدراسة والتأليف والجهاد، مضافا الى عمله في الزراعة للكد على عياله والمؤمنين.

فكان كله لله واستحق أن يختم له بالشهادة في رحلته الجهادية، علما وعملا، في الغربة قتلا فظيعا، ليكون اميرًا في ركب الشهداء والصالحين.

اما آثاره، فهي كثيرة؛ أوْلى في جزء منها العناية يشرح عن الشهيد الأول، إذ شرح الألفية في مقاصده العلية، وشرح النفلية في فوائده الملية، ورأى أعمدة النور للمعة الدمشقية، فغرسها في بستان فقاهته، فكانت الروضة البهية. إضافة إلى الى تاليفه، المسالك لكل سالك إلى تحصيل رضا المالك الواحد تعالى.

وتصانيفه في المعقول وتهذيب النفوس وآداب التعامل، لا تخفى على الناظر من ذوي العقول.

ونختم بما قاله تلميذه ابن العودي:

«حاز من خصال الكمال محاسنها ومآثرها، وتردّى من أصنافها بانواع مفاخرها، كانت له نفس علية تزهو بها الجوانح و الضلوع، وسجية سنية يفوح منها الفضل ويضوع، كان شيخ الأمة وفتاها، ومبدأ الفضائل ومنتهاها. لم يصرف لحظة من عمره إلا في اكتساب فضيلة، ووزع اوقاته على ما يعود نفعه في اليوم والليلة».

والسلام عليهما يوم ولدا ويوم ماتا ويوم يبعثان

والسلام عليكم ورحمة وبركاته.

[1](*) مساعد الشؤون الدولية في المجمع العالمي لأهل البيت R - ايران.

الشهيد الثاني: مسيرة نهوض ووحدة

د. يوسف طباجة (*)

الوحدة والشهادة في الوجدان

باكراً اختطّ الشيخ زين الدّين بن علي الجبعيّ العامليّ (911-965هـ/ 1506-1558م) طريقه بالانفتاح على الآخر لأجل الوحدة الإسلاميّة، وهذا فعل الفقهاء القادة الأفذاذ في مسيرة حياتهم وجهادهم[1]، ولا شكّ أنّ قدوته في حركته هذه ـ كما صرّح بنفسه ـ كان الشهيد الأوّل، الذي ولشدَّة شغفه وتعلّقه به فكراً وعقيدةً وجهاداً[2]، كان يعتقد في حدسه أن خاتِمتَهُ ستكون كخاتمتِهِ في: «المشاركة في نيل درجة السعادة بخاتمة الشهادة»[3]، وهكذا كان؛ إذ يحدِّثنا الشيخ البهائي فيقول: «أخبرني والدي ـ الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي ـ { أنّه دخل في صبيحة بعض الأيام على شيخنا الشهيد الثاني فوجده متفكِّرا، فسأله عن سبب تفكّره فقال: يا أخي أظنّ أنّي أكون ثاني شيخنا الشهيد في الشهادة»[4].

وعن خطّ الشيخ حسين بن عبد الصمد أيضاً، وفي أواخر حياته عندما ترك إيران وذهب إلى الحجّ سئل: ما يقول مولانا شيخ الإسلام في ما روي عن الشيخ المرحوم المبرور الشهيد الثاني، أنه مرَّ بموضعٍ في اسطنبول ومولانا الشيخ (سلَّمه الله) معه، فقال: يوشك أن يقتل في هذا الموضع رجل له شأن، أو قال شيئاً قريباً من ذلك، ثمَّ أنّهMاستشهد في ذلك الموضع، ولا ريب أنّ ذلك من كراماتهMوأسكنه جنان الخلد.

(أجاب الشيخ حسين): «نعم، هكذا وقع منه {؛ وكان الخطاب للفقير. وبلغنا أنّه[5] استشهد في ذلك الموضع، وذلك ممّا كشف لنفسه الزكية، حشره الله مع الائمّة الطاهرينR. كتبه حسين بن عبد الصمد الحارثي، ثامن عشــر ذي الحجة سنة 983هـ/1575م، بمكّة المشرفة زادها الله شرفا وتعظيما»[6].

الإعداد الذّاتي والشروع بالمشروع (القديم الجديد)[7]

تظهر حركة الشهيد الثاني ونهضته على مستويين: الإعداد الذّاتي والانفتاح على الآخر، فعلى المستوى الأول؛ يبدو أنّ جبل عامل وعلماءه قد كفوا الشهيد مؤونته العلميّة، إذ وبحسب سيرته العلمية أنّه لم يذهب إلى المراكز العلميّة التاريخيّة للشيعة في العراق للتعلّم فيها.

أمّا المستوى الثاني فكان على درجتين: الدرجة الأولى انفتاحه على الآخر من المذاهب الإسلاميّة الأربعة الرسميّة في الدولة العثمانيّة، والهدف على ما يتّضح هو التأسيس لحركةٍ ثقافيّةٍ علميّةٍ جامعةٍ، تؤدِّي إلى جمع الأمة ووحدتها على مذاهبها كافة، انطلاقا من أنّ الانقسام والتشرذم كان العلّة الأساس في انحطاطهاوضعفها، ولا ضير أن يبقى كل مذهب من المذاهب على خصوصيّته، على قاعدة: التنوّع في الوحدة غنىً.

وعلى مستوى الدرجة الثانية، كان انفتاحه على العمل مع السلطان العثماني مباشرةً، متجاوزاً أدواته المحليّة إن كان من القضاة أو الإقطاعيّين... ولا شكَّ أنَّ الشهيد كان يعلم أنّ هكذا مشروع كان محفوفاً بأشدّ المخاطر... خصوصاً عندما نعلم أنَّ صراعاً على السلطة انسحب عليه صراع ثقافي اتَّخذ صفة المذهبيّة، كان يدور أو بالأحرى تتمترس خلفه أكبر أمبراطوريتين إسلاميّتين متنازعتين في تلك المرحلة وهما: الدولة الصفويّة في إيران، والدولة والعثمانية في تركيا.

جبل عامل والمؤونة الأولى

إذاً، وبعد تلقي الشيخ زين الدين بن علي العامليّ لعلومه الدينية في حواضر جبل عامل العلميّة، أولا على والده في جبع[8]، ثمّ على الشيخ علي بن عبد العالي الميسي (ت938هـ/1531م)[9]، ثمّ في كرك نوح على السيد حسن بن جعفر الأعرجي الحسيني العامليّ (ت936هـ/1530م)[10]، عاد إلى بلده جبع وبقي فيها مشتغلا بمطالعة العلم والمذاكرة إلى سنة 937هـ/1530 م[11].

دمشق وِجْهته الأولى بالانفتاح على الآخر

كان قد بلغ السادسة والعشرين من عمره الشريف، عندما عزم على توسعة علومه الدينيّة (الشيعيّة) بعلوم مذاهب أهل السنة، تماماً كما فعل أسلافه الشهيد الأوّل[12] والعلامة الكركي والشيخ الكفعمي[13]، فانتقل إلى دمشق ـ بحسب ما صرَّح ـ ليقرأ على الشيخ الفاضل المحقّق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي (ت938هـ/1531م) في الطبّ والهيئة، وبعض حكمة الإشراق للسهرورديّ[14]، وعلى الشيخ أحمد بن جابر الشاطبية علم القراءات. وبعد عام من إقامته في دمشق عاد إلى بلده جبع عام 938هـ/1531م، وبقي فيها إلى تمام العام 941هـ/1534 م[15].

وفي أوائل سنة 942هـ/1535 م، عاود الشيخ زين الدّين زيارته إلى دمشق، قاصداً التواصل مع شخصيّاتها العلميّة على مختلف مذاهبهم الإسلاميّة حيث صرّح بقوله: «...وفي تلك السفرة اجتمعت بجماعة كثيرة من الأفاضل». وأوّل اجتماعه كان بالشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفي، وقرأ عليه جملةً من الصحيحين فأجازه روايتهما معاً. إلى ذلك يقول تلميذه ابن العودي الذي كان يرافقه في هذه السفرة[16]: «كانت قراءته عليه في الصالحيّة بالمدرسة السليميّة، وكنت إذ ذاك في خدمته أسمع الدرس، وأجازني الشيخ المذكور الصحيحين المذكورين»[17].

مصر وجهته الثانية[18]، ثمّ إلى مكّة المشرفة

تعزيزا لآرائه ومعارفه الفقهيّة على مختلف المذاهب الإسلاميّة، شدَّ الشيخ زين الدّين الرحال إلى مصر في أول العام 942هـ/1535م، إذ كانت مصر تحتفظ لنفسها بمكانة إحدى أهمّ العواصم الثقافيّة الإسلاميّة في تلك المرحلة، مصطحباً معه عدد من تلامذته ومنهم رفيقه وصديقه[19] (وسفيره) الشيخ حسين بن عبد الصمد[20]، وتأكيداً على سعي الشهيد في تنفيذ خطّته بالانفتاح على المذاهب الإسلاميّة كافّة، ففي طريقه إلى مصر اجتمع في فلسطين بالشيخ محي الدين عبد القادر بن أبي الخير الغزاوي الذي أجازه إجازة عامّة.

وفي مصر، اشتغل بها على جماعةٍ كثيرةٍ من علمائها على اختلاف مذاهبهم، فسمَّى منهم ستة عشر عالماً؛ أوَّلهم الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعيّ (ت957هـ/1550م)، والملا حسين الجرجاني، والملا محمد(بن عبد القاهر) الأسترآبادي، والملا محمد الكيلاني، والشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي، والشيخ زين الدّين الحري المالكي، والشيخ المحقّق ناصر الدين اللقاني المالكي، والشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعي(ت 966هـ/1559م)، والشيخ شمس الدين محمد أبي النجا النحاس، 10ـ والشيخ الفاضل الكامل عبد الحميد السمهودي، 11ـ والشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الفرضي الشافعي، 12ـ والشيخ عميرة، 13ـ والشيخ شهاب الدين بن عبد الحق، 14ـ والشيخ شهاب الدين البلقيني، 15ـ والشيخ شمس الدين الديروطي[21]، 16ـ والشيخ أبو الحسن البكري، وغيرهم كثر يطول الخطب بتفصيلهم على حد قول الشهيد نفسه.

...إلى مكة المشرفة بقصد الحج

بعد أن مكث الشهيد الثاني في مصر ما يقارب السنتين[22]، ومن بين هذا العدد الكبير من كبار الفقهاء الذين قرأ عليهم واستجازهم، يستوقفنا فقيه كبير هو الشيخ أبو الحسن محمد بن محمد بن عبد الرحمن البكري الشافعي (ت953هـ/1546م)[23]، والذي صحبه الشهيد من مصر إلى الحجّ (في سابع عشر شهر شوال سنة 943هـ/1536م)، وأثناء الطريق دار بين الفقيهين حوار راق في الوحدة الإسلامية، له دلالاته الواضحة على منهج وحراك الشهيد الفكريّ والاجتماعيّ والدينيّ، هذا الحوار أورده ابن العودي في بغية المريد نقلا عن أستاذه الشهيد حيث قال: «كثيراً ما كان {يطري علينا أحوال هذا الشيخ ويُثني عليه، وذكر أنّه كان له حافظة عجيبة؛ كان التفسير والحديث نصب عينيه، وكان أكثر المشايخ المذكورين أبهةً ومهابةً عند العوّام والدولة، وكان على غايةٍ من حسن الطالع والحظِّ الوافر من الدنيا، وإقبال القلوب عليه، وكان من شدّة ميل الناس إليه إذا حضر مجلس العلم، أو دخل المسجد، يزدحم الناس على تقبيل كفّيه وقدميه، حتّى منهم من يمشي حبوا حتى يصل إلى قدميه يقبلها، صحبه شيخنانفع الله بهمن مصر إلى الحج، وذكر أنّه خرج في مهيعٍ عظيم من مصر، راكباً في محفّة، مستصحبا ثقلا كثيرا بعزم المجاورة بأهله وعياله، وكان شأنه أنّه إذا حجّ يُجاور سنةً ويُقيم سنةً ويحج، وكان معه من الكتب عدَّة أحمال ـ ذكر شيخنا عددها ولكن ليس في حفظي الآن ـ حتّى أنّه ظهر له منه التعجّب من كثرتها، فروى له أنَّ الصاحب بن عبادMكان إذا سافر يصحب معه سبعين حملا من الكتب بحيث صار ما صحبه قليلا في جنب ذلك.

وذكر أنَّه حكى له: «في أوَّل منزلٍ برز إليه الحاج خارج مصر أنّه أخرج ـ حتّى صار في ذاك المنزل ألف دينار من المال، وكان محبّاً لشيخنا، مقبلا عليه، متلطِّفاً به، ولمَّا رآه أوَّل مرّةٍ راكباً في المحارة ـ وهو كان في المحفّة ـ سلَّم عليه وتواضع معه وقال له: يا شيخ أنا أوّل حجّة حججتها ركبت في موهية؛ عبارة عن وعاء من الخوص، وأنت الحمد لله ـ من أوّل حجّة ركبت في المحارة.

وكان شيخنا يتحرّى أن لا يراه وقت الإحرام، فاتّفق أنّه صادفه حال السير محرما، فقال له بصوت عال: ما أحسن هذا، ما أحسن هذا، تقبّل الله منكم. وكانت له معه محاورات ولطائف في تضاعيف المباحثات.

سأله يوما في الطريق: ما تقولون في أمر هؤلاء العوّام والرعاع الذين لا يعرفون شيئاً من الدلالات المنجية من الهلكات؟ ما حكمهم عند الله سبحانه؟ وهل يرضى منهم مع هذا التقصير؟ بل تنقل الكلام إلى العلماء الأعلام والفضلاء الكرام الذين جمد كلُ فريقٍ منهم على مذهب من المذاهب الأربعة، ولم يدر ما قيل فيما عدا المذهب الذي اختاره، مع قدرته على الاطلاع والتفحص وإدراك المطالب، وقنع بالتقليد للسلف، وجزم بأنّهم كفوه مؤونة ذلك، ومن المعلوم أنّ الحقّ في جهةٍ واحدةٍ، فإن قالت إحدى الفرق: الحقُّ في جانبنا اعتمادا على فلان وفلان، فكذلك الأخرى تقول اعتماداً على محقّقيهم وأعيان مشايخهم؛ لأنّ ما من فرقةٍ إلا ولها فضلاء ترجع إليهم وتعوِّل عليهم، فالشافعيّة مثلا يقولون: نحن الإمام الشافعيّ، وفلان وفلان كفونا ذلك، وكذلك الحنيفيّة يستندون إلى الإمام أبي حنيفة وغيره من محقّقي المذهب، وكذلك المالكيّة والحنابلة يستندون إلى فضلائهم ومحقّقيهم، وكذلك نحن الشيعة يقولون: السيّد المرتضى والشيخ الطوسي والخواجة نصير الدين والشيخ جمال الدين وغيرهم بذلوا الجهد، وكفوا مؤونة التفحّص، ونحن على بصيرةٍ وثقةٍ من أمرنا، فكيف يكتفي مثل هؤلاء الفضلاء بالاقتصار على أحد المذاهب ولم يطّلع على حقيقة المذاهب الأخرى، بل لا وقف على مصنّفات أهله ولا عرف أسماءهم؟ فكون الحقِّ مع الجميع لا يمكن، ومع البعض ترجيح من غير مرجح!

فأجاب الشيخ أبو الحسن: أمَّا ما كان من العوَّام فنرجو من عفو الله أنّه لا يؤاخذهم بتقصيرهم، أمّا العلماء فيكفيهم كون كلٍّ منهم محقّاَ في الظاهر.

فقال شيخنا: كيف يكفيهم مع ما ذكر من تقصيرهم في النظر وتحقيق الحال؟!

فقال له: يا شيخ جوابك سهل، مثال ذلك مَنْ ولدَ مختوناً خلقةً فإنّه يكفيه عن الختان الواجب شرعا.

فقال له شيخنا: هذا المختون خلقةً؛ لا يسقط عنه الواجب حتّى يعلم أنَّ هذا هو الختان الشرعي؛ بأن يسأل ويتفحّص من أهل الخبرة والممارسين لذلك، وأنَّ هذا القدر الموجود خلقةً؛ هل هو كافٍ في الواجب شرعا أم لا؟ أمّا أنّه من نفسه يقتصر على ما وجده، فهذا لا يكفيه شرعاً في السقوط.

فقال له: يا شيخ ليست هذه أول قارورةٍ كُسرت في الإسلام».

إنَّ سيرة هذا الفقيه الشافعي، وحديثه مع الشهيد يرشدنا إلى همِّ الأخير وهو: أُمّة الإسلام وهدايتها ونهضتها بوحدتها من خلال وعي جماهيرها بانفتاحها على بعضها، حيث أنّ الشهيد الثاني كما الشهيد الأوّل كانا يعتبران النهضة تبدأ بتوعية الناس وإرشادهم وانفتاحهم على كافّة المذاهب والآراء، والتفحّص وإدراك المطالب الشرعية... ليصبحوا أمّةً واحدةً.

عودته إلى الوطن (جبع) مجتهداً

عاد الشهيد إلى بلده جبع في العام 944هـ/1537م[24]، وفيه توشّح ببرود الاجتهاد، فيكون عمره الشريف لمَّا اجتهد ثلاثة وثلاثين عاما[25].

وبهذه العودة كان يحمل معه إحاطةً فكريّةً وثقافيةً وعلميّةً واجتماعيّةً المذاهب الإسلاميّة كافّة، إضافةً إلى اشتغاله في الطرق والمعارف العلميَّة كالهندسة والهيئة كما مرَّ ذكره، ومعرفةً بالحراك والاجتماع السياسيّ، إن كان على مستوى السلطة ومركزيّتها؛ أو أدواتها وتابعيها. هذه الإحاطة المعرفيّة والمستوى الفكريّ الذي بلغه، انتقل بواسطتها الشهيد الثاني من مرحلة التلقّي إلى مرحلة التفكّر والعطاء، خصوصاً أنَّه قد ذاع صيته قبل وصوله، إذ يقول ابن العودي: «كان قدومه إلى البلاد كرحمةٍ نازلةٍ، أو غيوثٍ هاطلةٍ، أحيا بعلومه نفوساً أماتها الجهل، فازدحم عليه ألو العلم... وابتهجت قلوب أهل المعارف، وأضاءت أشهر ما اجتهد في تحصيله منه، وأشاع وظهر فوائد ما لم يطرق الأسماع، رتب الطلاب ترتيب الرجال وأوضح السبيل لمن طلب»[26].

لبث الشهيد في بلده إلى سنة 946هـ/1539م، وفيها عمّرَ بيده داره، وشرع في عمارة المسجدالمدرسة ـ المجاور للدار، وانتهى في سنة 945هـ/1539م، وفي هذه الفترة ذهب تلميذه الشيخ حسين بن عبد الصمد في مهمّة إلى اسطنبول كما سيلي الحديث، والجدير ذكره هو أنَّ الشهيد كان «يتعاطى جميع مهماته بقلبه وبدنه، حتّى لو لم يكن إلا مهمّات الواردين عليه، مصالح الضيوف المتردّدين إليه، مضافاً إلى القيام بأحوال الأهل والعيال، ونظام المعيشة وإتقان أسبابها من غير وكيل ولا مساعد يقوم بها، حتّى أنه ما كان يُعجبه تدبير أحد في أموره.. ومع ذلك كله فقد كان غالب الزمان في الخوف الموجب لإتلاف النفس، والتستر والاختفاء»[27].

العمل مع السلطان(العثماني)

أولاً: بواسطة (سفيره)[28] الشيخ حسين بن عبد الصمد

يبدو أنّ الشهيد الثاني (كفقيهٍ شيعيٍّ كبير) وفي مسألة لا بل إشكاليَّة العمل مع السلطان، قد اجتهد مستفيداً من تجارب ملهمه الشهيد الأوّل والعلامة الكركي[29]. إن لم نقل من التجارب التاريخيّة منذ الإمام الرضاQ مع المأمون، أو تجربة علي بن يقطين، مروراً بالشريف المرتضى[30] والعلامة الحلي... إضافةً إلى أنّه كان يحمل مشروعاً نهضوياً وحدوياً كبيراً بحجم المخاطرة التي كان يُقدِم عليها، ومعه تلامذته وفي مقدّمتهم الشيخ حسين بن عبد الصمد.

كان قرار الشهيد الثاني أن يبدأ من القمَّة، أعني من رأس السلطة العثمانيّة في زمانه السلطان سليمان القانونيّ (حكم927-974هـ/1520-1566م)، والذي في عهده لوحق الشهيد واعتقل فأُعدم، بعد أن سيق مخفوراً إلى العاصمة اسطنبول..، وهذا موضوع سنبحثه في مفصل آخر من هذه الدراسة..

الحقيقة أنَّ الشهيد بدأ باكراً في الاتِّصال بالسلطان العثمانيّ، أي في العام 945هـ/1539م، ولكن بواسطة سفيره (ابن بلدته وصديقه ورفيقه لا بل ساعده الأيمن) الشيخ حسين بن عبد الصمد[31]، والذي من الواضح أنّه كلَّفه باستكشاف الطريق إلى عاصمة السلطنة اسطنبول، ثمّ ليرافق (السفير) الشهيد في رحلته المشهورة إليها عام 952هـ/1545م، حيث حصل منها على وكالة للتدريس؛ وإدارة أوقاف المدرسة النوريّة في بعلبك[32].

إذاً في الخطوة الأولى الاستكشافيّة ـ على أهميّتها الاستراتيجيّة ـ لا يوجد نصٌ مباشر يتحدَّث عن المهمّة والسفر والاتِّصال بالسلطان سليمان القانوني، والتي يبدو أنّها كانت سريّةً أو أرادها الشهيد كذلك، وبالتالي لم نقف على نتائجها إلى الآن، لكنّنا اعتمدنا وثيقةً مهمّةً تعتبر مصدراً واضحاً على تلك الخطوة وهي كتاب الشيخ حسين بن عبد الصمد (نورُ الحقيقة ونوْرُ الحديقة)[33]، والدليل فيه مقدّمته؛ إضافةً إلى مضمونه.

في المقدِّمة يصرّح الشيخ حسين بن عبد الصمد أنّه كتب هذا الكتاب ليهديه للسلطان سليمان شخصياً، فبعد الافتتاحية يقدِّم نفسه ثمّ يقول: «..إنّي لمّا رأيْتُ النّملةَ مع وَهْنِ أمْرِهَا، قد أهْدَتْ لسُليمانِ عَصْرِهَا، ما رَجَتْ أن يَرفعَ بهِ قدرَهَا، ويشُدَّ أزْرَهَا وكانَتْ هَديَتُها نِصفَ رجلِ جرادَةٍ، وَلَمْ يُسْتَنكَرَ ذَلِكَ مِنْهَا في العَادَةِ، حيثُ لا طاقَةَ لهَا على الزِّيادَةِ، وحَيْثُ أنّ الهديَّة على مِقْدارِ مُهْدِيها، وإلاّ لصَغُر عنْ مِقْدارِ سُليمانِها كما صَغُرَ عن مِقْدارِ سُليمانِنا الدُّنيا وَما فِيهَا. قلتُ يا ويلتَا أعجزتُ أن أكونَ مثلَ هذهِ النَملة[34]، فأهدِي لسُليمانَ عَصْري مَا أطيقُ حملَه، كيفَ وقبُولُ اليسيرِ، لمْ يَزلْ من شِيَمِ ذَوِيْ القدْرِ الخطِيْر، وفتحُ بابِ الأَعْذارِ، لم يزلْ من دَأْبِ الأبْرارِ، ولما فكّرت فيما أُهدِيه، وجدتُهُ مقصوراً على ما أُنشيهِ، فأجلتُ الفكرةَ عِندَ ذلِكَ فيه. لا خيل عندك تهديها ولا مالُ»[35].

«وَوَجَدتُ سَلفَنا الماضِينَ، رِضْوانُ الله عليهم أجمعينَ، قَد أكثروا منَ التصنيفِ في كُلّ العلوم، معقولاً ومنقُولاً، مُطوّلاً ومختصراً، ومتوسِّطاً متناً وشَرحاً، فأسمَعُوا من كانَ حيّاً، وأغنوا مَن بعدَهُمْ عن تجشُّم ذلِكَ، فليسَ لمن تعرّضَ لمُشارَكَتِهِمْ فيهِ إلّا شَغْلُ البالِ، وتَكثيرُ القيلِ والقالِ.

فسَلكتُ في التأليفِ نهجاً نَافعاً بفضلِ الله لمن يرومهُ، قليلَ النظيرِ إن لم يكنْ مَعْدُمَهُ، وَوَضعتُ هذا الكتابَ،مشتمِلاً على نُبذٍ ممّا يتعلّقُ بالعقْلِ والعلمِ والأخْلاقِ والآدابِ، وجعلتُه متعمماً بالآياتِ القرآنيةِ، مرتدياً بالأحَادِيثٍ النبويةِ، مُتوشِحاً بالأمثالِ البليغةِ الحكميّةِ، مُتحزّماً بالمواعظِ الفائِقةِ السَنيّةِ، مُتَسَرْولاً بالأبْياتِ الفصيحةِ الشعريَةِ، وسَمْيتُهُ: نُورَ الحقيقةِ ونَوْرُ الحديقةِ، فاللّبيبُ يقتبِسُ من أنْوارهِ، وَالأديبُ يقتطِفُ من أزهارهِ، ثم شرّفتهُ بالحضرةِ العليّة السُليمانيّةِ، حَضرةِ مُنيرِ الملّة الحنيفيّةِ، حَضّرةِ سُلطانِ سَلاطِينِ العَربِ والعجَم، مُبزِغِ شمْسِ الاسْلامِ والعدْلِ على ما أحدثَ الكفرُ والظُلْمُ من الظُلَمِ، الجامع للكمالاتِ البشريةِ، المُؤيّدِ من ربِّه بالألطافِ الإلهيّةِ، فأصْبحتِ الآفاقُ مُعطّرةً بنَشْرهِ، والألسُنُ مُشرفةً بذكرهِ، الذي قَدْ بهرتِ الشمسَ غُرَّتُه، وتجاوزَتِ الأفلاكَ هِمَّتُه، فاسّتخدمَ الدهرَ عَزْمُه، وأدَّبَ الأيامَ حَزْمُه، الذي قَدْ ذبَّ عن الدينِ حسامُه، وعمَّ جميعَ الأُمَّةِ إنعامُه، فالجهادُ في سبيلِ الله لذتُه، وبذلُ جزيل النَّوال بُغيتُه، الذي لا يصلُ الشكُ إلى سَريرتهِ، ولا ترقدُ عن حِفْظِ الحقَ عينُ بصيرتهِ، فنفسهُ المقدَّسةُ المعية، وسِرتهُ الميمونةُ محمديّة، إن قالَ نصَتَ الدهرُ إليه، أو أمسكَ تظاهرتِ السكينةُ عليه، كيفَ لا وحوادِثُ الدهرِ جُنُودُهُ، وملوكُ الأرضِ عبيدُهُ، أو نهضَ أشْغلَ خواطِر الأيامِ بسَطوتهِ، وضَعْضَعَ أسِرَّةَ الملوكِ بهَيبَتهِ، فهُمْ ما بينَ مُزْمعٍ على الهَربِ ومُوقنٍ بالهلاكِ والعَطبِ، أو سارَ سارَ الرعبُ حولَهُ، أو قالَ سَبَقَ فِعلُهُ قولَهُ، فالأقدارُ جاريةٌ على وفقِ إراداتهِ، والبحارُ قطرةٍ من قَطراتِ هباتهِ.

طلبتُ لهُ مدحاً فما مِنْ فَضِيْلَةٍ

تأملتُ إلّا جلّ عنها وقلّتِ

السلطانُ سُليمانُ بن السلطانِ سليم بن السلطانِ بايزيد بن السلّطانِ محمد بن السلطانِ مُراد.

أســامياً لـم تزِدْهُ معرفــةً

وإنّمــا لــذةًذكرنــاهَــا

أوليكَ (كذا) الذينَ شيّدوا دينَ الله بجهادِهم، وأحييوا سُنّةَ نبيهِ بأوامرِهم ونواهيهم وأوْرادِهم، وأخلصُوا لله عزَّ وجَلَّ أعمالَهم، فَبَذَلُوا في سبيلهِ أنفسَهم وأموالَهُمْ، فنسَجَ سِرُّهُمْ بَعْدَهُم على مِنْوَالهمْ، واقتَدى بهِمْ في أقوالِهمْ وأفعالِهمْ، فخلَّدَ الله على ذلكَ عِزَّ دَولتهِ، وبلّغهُ من أعدائهِ أعداء الدينِ فوق أمنيتهِ، وحرسَ من الغيرِ سُلْطَانَهُ، وقَرنَ بنفَاذِ الأمرِ في الأقالم السّبعِ يدَهُ ولسانَهُ، ليدُومَ عَلى أهْلِ ايمانِ عمومُ التفضُّلِ والعزِّ والأمانِ.

ولمَّا كانَ لكلِ مخلوقٍ في هذا الدُّعاءِ حَظٌ وافرٌ يصِلُ إليهِ، كان جديراً بالحكيمِ الكريم قبُلُهُ بلْ والزّيادَةُ عَليهِ.

ثُمّ إنّي تحرّيتُ في كتابي هذا الاختصارَ على حَسَبِ الحالِ، وقدرِ سَعَةِ الإحتمالِ، ولمْ أُطلِقُ للقلمِ العِقالَ، وإلّا لقالَ في هَذَا النحوِ فأطالَ، فَربَّما أفضَى إلى الملَالِ فالإهمالِ، وهَــا أنا أستَمْنحُمن كرمِ الجوادِ المُتعالِ، أن يُسَهِّلَ لي إتمامَهُ على أحسنِ الأحوالِ، وأن يجعَلَهُ في حَيزِ القُبولِ والإقبالِ، وأن يجعَلني مِن أهلِ الفِعالِ كما جعلني من أهلِ المقال، إنّه هو الوهّابُ المفضال ولنتكلَمْ اوّلاً على العقلِ لأنَّه أوّل مخلوقات الله تعالى وأصل كل صلاحٍ وفلاح»[36].

ويختتم الشيخ حسين كتابه في عاصمة السلطنة العثمانيّة بالقول: «بالتأييدِ والمعونةِ من العزيز اللطيف، فالحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي وآله وأصحابه أجمعين، فرغَ من مشقّةِ مَشقهِ مؤلِّفُه فقير رحمة ربّه الغني، حسين بن عبد الصمد الشافعي الحارثي الهمداني، غفر الله ذنوبه وستر عيوبه، في ثاني عشر ذي القعدة سنة خمس وأربعون وتسع مئة من الهجرة النبويّة، على مشرفها السلام، بمدينة قسطنطينية، حماها الله دار الإسلام إلى يوم القيام، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الكرام»[37].

هذا في المقدِّمة والخاتمة، أمَّا في المضمون فنلاحظ أنَّ الشيخ حسين ينتمي إلى المذاهب الإسلاميّة كافَّة، فقد استطاع أن يبعد عن أدب التشيّع ومصطلحاته، وإن جهد الشيخ حسين في إظهار نفسه بالشافعي سنداً إلى توقيعه في الخاتمة التي بينّاها أعلاه، لكنه أخفاه في النسخة الأولى التي وصفها الطهرانيّ في ذريعته... لكنّنا نفهم تماماً أنَّ الكتاب أُعدَّ ليكون بمثابة بطاقة عبور إلى السلطنة العثمانيّة من بابها العالي وذلك لسببين: الأوَّل: للنجاة من الظلم الذي كانت تُلحقه بأهل الشيعة، والثاني: أخذ براءة في حريّة الحركة على الساحة الثقافيّة والعلميّة والاجتماعيّة إن لم نقل على الساحة السياسيّة ببناء جسورٍ مع السلطان مباشرةً، وهذا أمر يزيد في خطورة حركة الشهيد ونهضته لجهة تجاوز أجهزة السلطة وأدواتها أعني النظام الإقطاعيّ ونظام القضاء المرتبط به.... ولا بدّ من التنويه بعملٍ كهذا إن من ناحية المضمون أو لناحية الهدف الذي من أجله أُعد، فإنَّ العمل يُخفي خلفه شخصيّةً فذّةً بارعةً ليست التقية كقاعدةٍ فقهيّةٍ بعيدةٍ عن هذا الحراك...

نحو العراق لزيارة الأئمة R

سافر الشهيد لزيارة الأئمّة في العراق سنة 946هـ/ 1539 م، على رأس وفدٍ كبيرٍ بحسب ابن العودي الذي يقول: «وكنت في خدمته مع جماعة من الأصحاب وأهل البلاد تلك المرّة، وكانت من أبرك السفرات بوجوده»[38]، وقرَّر الرجوع منها إن لم يمكنه الزيارة خفيةً، نظراً لما حصل له في الطريق من بعض المتعصِّبين الذين عزموا على السعاية به في بغداد، وقدّر له أن يتخلّص منهم، لكنّه زار الأئمّة R مستعجلا؟!، ورجع واجتمع عليه فضلاء العراق، وكان منهم السيّد شرف الدّين السمّاك العجمي[39]، أحد تلامذة المحقّق الكركي، «وأخذ عليه العهد عند قبّة أمير المؤمنينQ إلاّ ما أخبره إن كان مجتهداً، وأقسم له أنّه لا يريد لذلك إلاّ وجه الله سبحانه، ثمّ بعد رجوعه إلى البلاد (15شعبان946هـ/1539م)جاء منه سؤالات ومباحث وإرادات، فأجابه عنها بما يقتضيه الحال[40]، وحقّق فيها المقال[41].

إلى بيت المقدس...

في منتصف ذي الحجة سنة 948هـ/1543م؛ سافر الشهيد إلى بيت المقدس، واجتمع هناك بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، وقرأ عليه بعض صحيح البخاري، وبعض صحيح مسلم، وأجازه إجازة عامة.

ثمَّ رجع إلى وطنه الأول جبع، وأقام به إلى أواخر سنة إحدى وخمسين (951هـ/1545م) مشتغلا بمطالعة العلم ومذاكراته[42]... حيث قرَّر القيام بزيارةِ القسطنطينية عاصمة السلطنة العثمانيّة.

العمل مع السلطان (العثماني) وزيارة اسطنبول[43]

يورد الشهيد الثاني في كتابه (منية المريد في أدب المفيد والمستفيد)[44] والذي فرغ منها بتاريخ (الخميس يوم العشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وتسع مائة) وهو التاريخ الذي كان فيه يدرِّس في بعلبك كما سنبيّن لاحقا، وفي الباب الأوّل الذي يسمّيه: في آداب المعلِّم والمتعلِّم، يذكر حديثاً للرسولP يقول فيه: «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله ! وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتِّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»[45]. ولعلّنا نستفيد هنا بأنّ الشهيد عمل مع السلطان ولم يكن تابعاً له، ولعلَّ هذا سبب من الأسباب التي أدّت إلى ملاحقته ومقتله.

ربما يُطرح السؤال: لماذا عمل الشهيد الثاني بهذه الهمَّة مع السلطان العثمانيّ، وليس مع السلطان الصفويّ، الذي وكَّل تلامذته بالعمل معه؟!.. لعلّها الدلالة على أنّ العمل مع السلطان لم تكن رغبةً أو ارتزاقاً، بقدر ما هي تسهيلاً لمشروعه النهضويّ والوحدوي (القديم الجديد) في بلاد الشام عامّة وجبل عامل خاصة.. إلى هذا ويوضح أحد الباحثين أنّ السلطان سليمان قد ترك فسحةً للشيعة بهدف دمج علمائهم الذين هم تحت سيطرته في النِّظام العثمانيّ[46].

في هذه الأجواء وصل الشهيد الثاني إلى القسطنطينيّة يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول 952هـ/1545م، قاصداً الاجتماع بمن فيها من أهل الفضائل والعلوم، والمتعلّق بسلطان الوقت والزمان السلطان سليمان بن عثمان، وكان ذلك على خلاف مقتضى الطبع ومساق الفهم، لكن ما قدر لا تصل إليه الفكرة الكليلة والمعرفة القليلة من أسرار الحقائق وأحوال العواقب، والكيس الماهر هو المستسلم في قبضة العالم الخبير القاهر.. كيف لا؛ وإنّما يأمر بمصلحةٍ تعود على المأمور مع اطِّلاعه على دقائق عواقب الأمور..[47].

ووفَّق الله تعالى لنا منزلا حسناً وقفاً من أحسن مساكن البلد، قريباً إلى جميع أغراضنا، وبقيت بعد وصولي ثمانية عشر يوماً لا أجتمع بأحدٍ من الأعيان. ثمّ اقتضى الحال أن كتبت في هذه الأيام رسالةً جيدة... وأوصلتها إلى قاضي العسكر، وهو محمد بن قطب الدين بن محمد بن محمد بن قاضي زاده الرومي. وهو رجل فاضل أديب عاقل لبيب، من أحسن الناس خُلقاً وتهذيباً وأدباً، فوقعت منه موقعاً حسناً، وحصل لي بسبب ذلك منه حظٌ عظيم، وأكثر من تعريفي والثناء عليّ للأفاضل، واتّفق في خلال المدّة بيني وبينه مباحثة في مسائل كثيرة من الحقائق.

قلت: (الكلام لابن العودي).. حكى لنا{ إنّه اجتمع ببعض الفضلاء في قسطنطينية فسأله: (بحسب النظام الاداري العثماني)[48]: هل معك عرض القاضي؟ فقال: لا، فقال: إذاً أمرك مشكل؛ يحتاج إلى تطويل زائد، فأخرج له الرسالة المذكورة التي ألّفها، وقال: هذا عرضي، فقال: ما تحتاج معه شيئا[49].

قال (الشهيد) طاب ثراه: ففي اليوم الثاني عشر من اجتماعي به، أرسل إليّ الدفتر المشتمل على الوظائف والمدارس، وبذل لي ما أختاره، وأكَّد في كون ذلك في الشام أو حلب، فاقتضى الحال أن اخترت منه المدرسة النوريّة ببعلبك؛ لمصالح وجدتها، ولظهور أمر الله تعالى بها على الخصوص، فأعرض لي بها إلى السلطان سليمان، وكتب لي بها براءة، وجعل لي في كلِّ شهرٍ ما شرطه واقِفها السلطان (المملوكي) نور الدين (زنكي (ت 569هـ/1173 م)) الشهيد....[50]

من القسطنطينية إلى العراق
لتقبيل العتبات الشريفة في طريق العود

قرَّر الشهيد أثناء عودته إلى الوطن، أن يزور العتبات الشريفة في العراق، فزار سامراء والمشهد المقدس الكاظمي وسلمان الفارسي وكربلاء والحلة والكوفة والمشهد الغروي[51].

وصل الشهيد إلى البلاد منتصف شهر صفر سنة 953هـ/1546م، «ووافقه من الحروف (خيرٌ معجَّل) وهو مطابق للواقع، أحسن الله خاتمتنا بخيرٍ كما جعل بدايتنا إلى خير، بمنّه وكرمه»[52]. وهذا دليل على نجاح خطوة الشهيد.

الاقامة في بعلبك والتدريس فيها (قمة العمل بالمشروع النهضوي الوحدوي)

كانت مدينة بعلبك يوم نزلها الشهيد، ميداناً مناسباً جداً، ونكاد نقول نموذجاً، لما اختطَّه لنفسه من مشروع إصلاحي نهضويّ ووحدويّ، فقد كانت تتمثّل فيها، وإن بنسبٍ متفاوتة، كافّة المذاهب الإسلامية حيث تعايشت وتتعايش بسلام ووئام، بحيث أنّه لم يذكر أحدٌ أنَّه حدث بين أهلها ما يعكِّر صفو العلاقات بينهم تعكيراً عاماً[53].

إلى ذلك يقول الشهيد: «ثمَّ أقمنا ببعلبك ودرَّسنا فيها مدّةً في المذاهب الخمسة وكثيرٍ من الفنون، وصاحبنا أهلها على اختلاف آرائهم أحسن صحبة، وعاشرناهم أحسن عشرة، وكانت أيّاما ميمونةً وأوقاتا بهجة، ما رأى أصحابنا في الأعصار مثلها»[54].

أمَّا تلميذه ابن العودي فيقول: «كنت في خدمته ي تلك الأيّام، ولا أنسى وهو في أعلى مقام، ومرجع الأنام وملاذ الخاص والعام، ومفتي كلِّ فرقةٍ بما يوافق مذهبها، ويدرِّس في المذاهب كُتبَها، وكان له في المسجد الأعظم بها درسٌ مضافاً إلى ما ذكر[55]، وصار أهل البلد كلهم في انقياده ومن وراء مراده، ورجعت إليه الفضلاء من أقاصي البلاد[56]، ورقى ناموس السادة والصحاب في الازدياد، وكانت عليهم تلك الأيام من الأعياد، وقلت أنا في محاسن تلك الأوقات وصفائها، وأعيان تلك الرجال وحسن وفائها مادحاً:

إبِبَعلبَكَّ تَـــروم فِرقةَ صُحبـةٍ

كــانت ليالي وصْلِهِمْأيامـا

سادوا الأنامَ بِفضلهِمْ وبجُوْدِهِـمْ

فَلِذاكَ صارُوا للوَرَى أعْلاما

حازوا السيادةَ والمَكارِمَ والتُقَى

فَتَجَنَّبُوا ما يُوجِـبُ الآثامــا (3)

ويقول الشيخ حسين بن عبد الصمد في (أعياد ومحاسن) تلك الأيام من قصيدة كتبها في ذيل رسالته إلى أستاذه الشهيد بعد ارتحاله إلى العراق:

لا بعلبكَ تشوقني كلا ولا حمصُ النحوسُ

بل شاقني من بَعَلبكَّ جماعةٌ معنا جُلوسُ (4)

الحدث الكبير.. العودة إلى جبع، ثم التخفي.. والشهادة

بالتأكيد حدثٌ كبيرٌ وقع وهَدَّدَ فيه الشهيد وتلامذته، وهدَّ؛ لا بل هدم المشروع ونهضته، هذا الحدث لا يعرف عنه شيء إلى اليوم، لكنّ إشارات وبعض الوقائع تُشير إلى أنَّ أحد متنفِّذي السلطة هاله ما يحصل، فاختبأ بحقده وكيده خلف سبب تخلُّف الأمة وانقسامها وتشتّتها وضعفها ألا وهي المذهبيّة بسفاسفها. ويُمكننا أن نشير إلى أنّ الصراع الصفويّ العثماني كان على أشدّه، ويشهد انتصارات وتوسّعاً للعثمانيين في المناطق التي كانت تحت السيطرة الصفويّة[57].

يتحدّث الشهيد عن الحدث بحزنٍ وألم، من دون أن يوضِّحه؛ إذ يقول: «ثمّ انتقلنا عنهم إلى بلدنا بنية المفارقة، امتثالا لأمرٍ إلهيّ، سابقاً في المشاهد الشريفة)؟[58]، ولاحقاً في المشهد الشريف مشهد شيث Q)، وأقمنا في بلدنا إلى سنة خمس وخمسين، مشتغلين بالدرس والتصنيف»[59].

ويعلق تلميذه ابن العودي الذي كان معه في بعلبك، ثمّ تخفَّى الشهيد بمنزله في جزين فيقول: «... هذا التاريخ كان خاتمة أوقات الأمان والسلامة من الحدثان، ثمَّ نزل به ما نزل... إلى خاتمة الأجل»[60].

ونذكر هنا أنَّ عدداً من تلامذة الشهيد قد غادروا إلى إيران، ومنهم ابن العوديّ، الذي كان قد ترك جبل عامل وهاجر إلى خراسان في إيران في العام 962هـ/1555م[61]، حيث كان قد وصلها الشيخ حسين بن عبد الصمد من العراق عام 961هـ/1554م[62]، ولكنّ ابن العودي ترك إيران وعاد إلى جبل عامل وليس إلى بلده جزين، بل ليقيم على تلةٍ مرتفعةٍ منعزلةٍ إلى الجنوب من قلعة الشقيف، ومطلةٍ على سهل الحولة فوق بلدة كفركلا.. حيث يعرف الجبل أو التلّة باسمه تصحيفاً (تلة العويضي) بدلا من (العويدي) لصعوبة في اللفظ[63]... وكذلك تلميذ الشهيد وأبو زوجته الذي تخفَّى عنده في جزين وهو السيّد علي الصائغ الذي توفّي عام 980هـ/1572م، ودفن في بلدة صديق وهي غير صديقين بالقرب من تبنين وقبره معروف[64]. وكذلك تلميذه الحيانيّ (صاحب المنام في 22 ذي الحجة في جزين 965هـ/1558م)[65] والذي حمل معه من الشهيد كتابين: «أحدهما إلى الملا عبد الله الشوشتري[66] في المشهد الرضويّ، في حقّ الشيخ محمد الحيانيّ، والثاني إلى السيّد فخر الدّين السماكي شرف الدين السماك العجميّ[67] يوصيه به».

وقد جاء في الكتاب الأول:

«مجمع الفضائل منبع الفواضل مرجع الأفاضل صفوة الأكامل، تاج الأتقياء أسوة الأصفياء، خلاصة الإخلاص في الإخلاص مظهر الوداد في الاختصاص، الوحيد الفريد إلى الأشباه بلا اشتباه، مولانا عبد الله؛ أديمت ميامن قواعد محبّته ومودّته في شرائع إخلاصه واختصاصه، وأيدت في جوامع فضيلته وطريقته لوامع إفادته وإفاضته، وتأكّدت في مطالع الوداد والاتحاد طوالع أمانته وديانته... بحق الحق إنّه قادر على ما يشاء.

وحيث إنَّ الواصل جناب الفاضل الكامل التقي النقي الورع الزكي الشيخ محمد الحيانيّ، سعد جده وجد سعيه، لم يحتج حديث تفسيره في شرح وبيان، فإنّ بديع معاني تحريره من مبادي تقريره في أظهر مواقع البيان.

وكيف يصح عند العقل شيء إذا احتاج النهار إلى دليل، والمأمول إبلاغ جليل التحية وجزيل السلام وجميل الثناء والإكرام إلى جميع الإخوان، المؤمنين والخلان الموقنين على اختلاف درجاتهم وتفاوت طبقاتهم، والتماس الأدعية المستطابة في مظانِّ الإجابة ومواقع الاستجابة، وعدم الإغفال من الزيارات المقبولة والضراعات المبتولة، والسلام والاكرام لمطالع أنوار السيادة والنقابة والنجابة، قواعد فضائله وفواضله وحقائقه ورقائقه ومحبته ومودته ما طلع نجم ونجم طلع، بحقّ الحقّ وأهله.

وحيث إنّ تفاصيل الأحوال؛ موكولة إلى تقرير الفاضل الكامل العالم العامل الصفيّ الوفيّ الورع الزكيّ الشيخ محمد الحيانيّ سعد جده وجد سعده، لم يحتج إلى كشفها وبيانها، والإعلام بسوانح الاعلام، وعدم الإغفال من صوالح الدعوات المستطابة في مواضع الإجابة على مرور الليل وكرور الأيَّام، من أعاظم ما يُطلب ويراد، وإبلاغ السلام إلى جميع أهل الإيمان ومحل الإيقان الصلحاء الأخيار العلماء الأبرار، وسؤالهم الدّعاء تحت القبّة الشريفة المنيفة المقدّسة المطهّرة، الراضية المرضية الرضوية، على مشرِّفها الصلاة والسلام والتحيّة ما لا يحتاج إلى مبالغة وتأكيد والسلام».

وجاء في الكتاب الثاني:

«السيّد السند العالم العامل الفاضل الكامل، زين العباد في العباد، خلَّدَ الله معاقد سيادته لقابته ونجابته وفضيلته وحقيقته ومحبّته إلى قيام ساعة القيام بمحمدٍ وآله الكرام.

الشوق أعظم أن يختص جارحةً، كلي إليك على الحالات مشتاق عجل الله لمحات الوصال على أسرِّ حال وأرضى بال، بالنبي والوصي والآل، عليهم الصلاة والسلام والاكرام على الدوام..».[68].

هذا والشهيد متخفٍ بين جبع وجزين طيلة تسع من السنين (955-964هـ)، ولكن ترشدنا مؤلَّفاته وإجازاته الصادرة عنه إلى أنَّه كان في ذروة عطائه[69]، إذ أنجز معظم مؤلَّفاته في تلك المرحلة، ويذكر الحرّ العاملي مرويةً فيقول: «وكان الشيخ مشغولا في تلك الأيَّام بتأليف شرح اللمعة، وفي كلِّ يومٍ يكتب منه غالباً كرَّاساً، ويظهر من نسخة الأصل أنَّه ألّفه في ستة أشهر وستة أيّام....، فأرسل القاضي إلى جبع من يطلبه؛ وكان مقيماً في كرمٍ له مدة منفرداً عن البلد متفرِّغاً للتأليف، فقال له بعض أهل البلد: قد سافر عنا مدّة»[70]. ويتَّضح أنَّ مسألة الحذر والتستّر بلغت عند الأهالي والنسيج الاجتماعيّ من حوله فهماً وموقفاً تجاه الشهيد ومركزه ودوره، ممَّا أمَّن له الأمن والأمان الاجتماعيّ الذي لم تستطع إزاءه السلطة وأتباعها من اختراقه، حيث لم نجد ارتدادات محليّة تقف أو تستغلّ الأوضاع كما حصل مع الشهيد الأوّل[71].

وذكر تلميذه اللاهجاني[72] (وهو إيراني من بلدة لاهجان التحق بالشهيد وأجازه في بعلبك ـ غرة شهر رجب 953هـ/28 آب1546م ـ[73] وفي كربلاء مع الشيخ محي الدّين الميسي ـ أواخر ربيع الثاني 954هـ/ أواسط حزيران 1547م[74]ـ، وكان معه أثناء اعتقاله في مكة..): «...زمان اختفائه من الطغاة البغاة لمَّا قصدوه و دخلوا بيته و نهبوه و كان {ـ هارباً من شرَّهم من جبل إلی جبل و قرية إلی أخری.».[75].

مع أنَّ حال الشهيد على تلك الصورة، لكنّ أخبار بعض تلامذته تدلُّ على أنَّه كان إضافةً إلى التأليف والكتابة وعلى غزارتها وبهمة عالية، لم ينقطع عن التدريس، بل كان لا يزال يُدَّرس ويُجيز، فهذا تلميذه السيد علي الصائغ يُجزه في هذه الفترة من التخفّي ثلاثة إجازات (يوم الخميس خاتمة شهر جمادي الأول 958هـ/1551م، ويوم الخميس منتصف شهر شعبان المبارك سنة 960هـ/1553م، ويوم الاثنين سادس شهر صفر 962هـ/1555م)[76]. وللشيخ إبراهيم بن الشهيد علي بن عبد العالي ولولده عبد الكريم (يوم الثلاثاء 14رجب 957هـ/1550م)[77]، والسيد جمال الدين حسن بن أبي الحسن الحسيني (958هـ/1551م)[78]، الشيخ أحمد بن شمس الدين الحلي (عراقي التحق بالشهيد) الأربعاء 16 رمضان المعظم 961هـ/1554م[79]، والسيد يوسف بن محمد بن زين الدين الحسيني الشامي العاملي، يستنسخ المسالك ويُتِمُه في يوم الخميس 14 جمادي الأولى سنة 964هـ/1557 م[80]، مصرِّحاً بأنه من مجالسيه وخدّامه وعبيده، وغيرهم كثر حفلت بهم كتب الإجازات والتراجم.

وهكذا كان حاله عندما عزم الرحيل والمجاورة في مكّة المشرَّفة[81]، ونحن نعتقد أنَّ ذهابه إلى تلك البقعة المباركة لم يكن هرباً أو مخبأ، وهو المكان الذي يأتي إليه الناس }مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ{(الحج، 27)، بل كان على درجةٍ جديدةٍ من مشروعه النهضويّ رغم المخاطر التي لم يأبه لها، بل كان متأكِّداً من نجاحه وصوابيّته، وها هو يكمل طريقه وبنفس الهمة والإيمان، فينكبُّ على إتمام مشروعه الموسوعيّ في الفقه (مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام)[82]، ويُجيز لطلابه ومنهم: الشيخ تاج الدين بن هلال الجزائري[83] (ليلة الجمعة 14 ذي الحجة الحرام 964هـ/1557م، على سبيل الارتجال، وغاية الاستعجال، وضيق المجال..)[84]، والشيخ اللاهجانيّ الذي يبدو أنَّه رافقه من جبل عامل إلى الحجّ، وكان معه يَستنسخ المسالك.

وعندما أُلقي القبض على الشهيد (في خامس شهر ربيع الأوّل سنة خمس وستين وتسعمائة)، وكان القبض عليه بالمسجد الحرام بعد فراغه من صلاة العصر، وأخرجوه إلى بعض دور مكّة، وبقي محبوساً هناك شهراً وعشرة أيام[85]، «وكنت ساعياً فی خلاصه، فحبسوني و أخذوه إلی الروم، و كان مدّة حبسي اثنين واربعين يوماً، ثمّ أطلقت يوم(الجمعة) العشرين من جمادی الأولی، و كان يوم الجمعة ويوم النيروز سنة خمس وستين وتسع مائة، وكنت متظاهراً بمكة وحواليها إلی أن جاء خبر قتل الشيخ (الشارح) الشهيد المبرور السعيد فی ذی القعدة من السنة المذكورة، فقصدونی ثانياً، فانهزمت منهم واختفيت وبعد الفراغ من الحجّ والعمرة علی الخفية اشتغلت بكتابة الشرح، و سافرت فی آخر (أواخر) شهر صفر من مكة المشرفة الی الطيبة ووفّق الله تعالی لإكمال هذا المجلد غدوة يوم الأحد لأربع ليال خلون من شهر جمادی الأولی سنة ست و ستين و تسع مائة بقلم أحوج الخلق إلی عفو ربِّه الغنیّ محمود بن محمد بن علی بن حمزة اللاهجانیّ»[86].

إذاً اعتُقل الشهيد وهو في الحرم المكيّ في العشر الأوَل من ربيع الأوّل 965هـ/1557م، حيث كان على ما يبدو من النصوص المتقدمة واللاحقة؛ بكامل حريّته وحركته العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة والعباديّة. ويوضح ذلك عنوان الفصل التاسع في بغية المريد لابن العودي بالقول: «... وسبب القبض عليه، ومن سعى في تعجيل الحتف إليه، وأين وقع، وكيف اتّفق، وما يتبع ذلك من الكتابات المشتملة على الشفاعات، من أعيان علماء أهل الشام وفضلاء الإسلام»[87].

ويؤكِّد على هذه الحقيقة وثيقة تمَّ الكشف عنها حديثاً وهي رحلة الشيخ قطب الدّين محمد بن علاء الدين أحمد النهروالي (الحنفي)[88] إلى عاصمة الدولة العثمانيّة اسطنبول وسمَّاها: (الفوائد السنيّة في الرحلة المدنيّة والرومية)، والتي بدأها في محرم 965هـ/ تشرين الأول 1557م.حيث شهد فيها جريمة إعدام الشهيد الثاني، وممَّا جاء فيها: «... فصادف مجاورة الشيخ زين الدّين بمكَّة، فأُخبرَ الأفندي حسن بك بأنَّه في مكة، فأَمَرَ بالقبض عليه، فقُبِضَ عليه، فحبسه وسعى كثير من الناس في إطلاقه؛ وبذلوا له على ذلك مالاً، فتسلَّم)حسن بك) المال، وقال: هذا من عند مَنْ؟ فقيل له: من عند الخواجا محمّد مكي. فطُلِبَ (محمد مكي) وسأل (وسُئِلَ) عن ذلك، فأنكر أن يكون المال له، فذهب المال؛ وعجز الناس عن استخلاصه... وكان (الشيخ زين الدين) رجلاً ظاهره في غاية الاستقامة، والله أعلم بباطنه، وكانت له فضيلة تامّة، وحُسْنُ مُحاورة، ولطف مكالمة[89]، تجاوز الله تعالى عنه ومحا سيئاته»[90].

وعليه فإنَّ وثيقة الشيخ النهرواليّ الحنفي تُثبت مجاورة الشهيد في مكّة...، وأنَّه أثناءها تعرَّف عليه وعرفه وجالسه ليكتب بحقِّه هذه الشهادة...، وأنَّ كثيراً من الناس (بكلِّ مشاربهم ومذاهبهم) سعوا لتخليصه، كونه بنظرهم لا يستحق ما يُنْزَلُ به... وبالتالي هي مصداق لما ذهبنا إليه من أنَّ الشهيد كان بكلِّ تصميمٍ وإرادة يتابع مشروعه النهضويّ والوحدوي، برغم المخاطر التي كانت تحدق به.

هذا وإن كان الاعتقال حدثاً هزَّ الأوساط المكيّة كما المقرَّبين من الشهيد، إلا أنَّ خبر استشهاده بقي اللغز المحيّر، وهذا ما أفاد به تلميذه وكاتب سيرته ابن العودي الذي خصّص لهذه الإشكاليّة الفصل العاشر من بُغيته بعنوان: «في اضطراب الأخبار في تحقيق الأحوال، بعد أخذه من الحجاز إلى الروم، وما انتهى إليه الحال حتّى صار من المعلوم»[91].

وبالفعل؛ فإنّ اضطراب الأخبار عمَّا جرى للشهيد بعد الاعتقال قد وقع به كلُّ من كتب سيرة للشهيد، ومع فقدان الفصول التي تتعلَّق بهذه المسألة التي يبدو أن ابن العودي جمعها وحصّل حقيقتها، عاد الاضطراب إلى القضية، ومعها عادت الأخبار المنتشرة من هنا ومن هناك، لتكون مادَّةً متداولةً في صفحات من أرَّخ لهذا الحدث الكبير، وقد تقاطع بعضها عمَّا أفصحت عنه وثيقة النهرواليّ[92]، ومن هنا نحن لا نستبعد أيٍّ من هذه الأخبار خصوصاً علاقة القاضي معروف الصهيونيّ، والذي استحوذ على سيرة الحرّ العاملي، والذي ذكره النهروالي في رحلته أثناء مكوثه في دمشق لأكثر من شهرين[93]، حيث يذكر ابن العودي في عنوانٍ آخر من الفصول المفقودة، وهو الفصل الثامن بعنوان: «في ذكر ما عرض له من الأخاويف، وما نزل به من الأراجيف، وما يتبع ذلك من التستر وإخفاء نفسه من النازلات من الأعداء وأهل السعايات.».

وفي هذا المجال جاء الكشف عن وثيقة النهروالي لتحسم الجدل حول أمور كانت قيد النقاش، ومنها إسقاط بعض الأخبار عن مكان وكيفيّة قتل الشهيد وأحد أسبابها حيث كتب النهروالي:

«وفي(الخميس) ثامن شعبان(965 هـ = 26 أيار 1558)، أمر الوزير الأعظم(رستم باشا) بقتل الشيخ زين الدين الجبل عامريّ(عاملي). فأتى به إلى الديوان، ولم يُسأل عن شيء، وأَمر به إلى الإسقالة، فقُطِعَ رأسه هناك. وفتحوا أخمص رجليه بالسيف، وكان يتشهّد عند قطع رأسه.

وكان من قصَّته: أنَّه كان بالشام في أيَّام حسن بك أفندي. وكان متَّهما بالرفض، فأُخِذَ وأُتِيَ به إلى حسن بك.(القاضي في دمشق) فسأله عن مذهبه، فقال(زين الدّين) إنّه شافعي، وتكلَّم(الشهيد) معه بكلمات علميّة. فإنَّه كان فاضلا مفنّنا وترضى عن الصحابة، وأورد أحاديث شريفة في فضلهم وفي فضل الشيخين)أبو بكر وعمر)...، فأحسن إليه الأفندي حسن بك وأطلقه، فلمّا برز(زين الدّين) من عنده قيل للأفندي: إنَّ هذا من كبار علماء الرافضة، وهو مجتهد مذهبهم، وله عدّة كتب في مذهب الرافضة، فأرسَلَ(حسن بك) إليه من يتطلّبه ثانياً، فاختفى ولم يظهر، وصار ذلك عقدةً في خاطر حسن بك قاضي الشام، وتأسَّف على خلاصه من يده. فعُزِلَ(حسن بك) عن الشام وولي قضاء مكّة المشرفة، فصادف مجاورة الشيخ زين الدين بمكّة، فأُخبرَ الأفندي حسن بك بأنّه في مكّة، فأَمَرَ بالقبض عليه، فقُبِضَ عليه، فحبسه وسعى كثير من الناس في إطلاقه؛ وبذلوا له على ذلك مالاً، فتسلّم(حسن بك) المال، وقال: هذا من عند مَنْ؟ فقيل له: من عند الخواجا محمد مكي. فطُلِبَ(محمد مكي) وسأل (وسُئِلَ) عن ذلك، فأنكر أن يكون المال له، فذهب المال؛ وعجز الناس عن استخلاصه. فأرسله(حسن بك) إلى مصر مقيداً مع حسين بك، كتخدا جدة، وأمره أن يوصله إل الوزير الأعظم، فأوصله إليه، فأمر)الوزير الأعظم رستم باشا) بقتله على هذه الصورة»[94].

إضافةً إلى المشهد الذي صوّره النهرواليّ عن كيفيّة الإعدام، توضح هذه الوثيقة أحد جوانب الأسباب التي أدَّت إلى هذه الجريمة المروِّعة، وهي الاختباء وراء العصبيّة والعداوة المذهبيّة المصطنعة...، والدّوافع الشخصيّة القائمة على النرجسيّة، وباستخدام سلاح الصراع المذهبي من قبل موظَّف يحمل عنوان قاضي ورتبة (بك) إقطاعيّة، أثارت غرائزه بعض السعايات على حدّ تعبير ابن العودي، كون حسن بك نقل إلى دمشق في العام 959هـ/1552م، أي بعد الحدث الكبير الذي أدّى إلى ترك الشهيد وتلامذته لبعلبك والتخفّي.

خدم حسن بك رئيساً للقضاة في دمشق مرّتين، عين أولا في العام 959 / 1552، ليحل محل عبد الكريم زاده. بعدها بحوالي سنتين، غادر هذا المنصب في 961/1554 ليكون بمثابة قاضي بغداد. ثمّ عيِّن قاضي القضاة في دمشق في رمضان 963/ تموز1556، ولم يبق لأكثر من عامٍ واحدٍ فقط، حتّى شوال 964 / 28 تموز / 25 آب 1557، عندما تم تعيينه قاضيا في مكّة المكرمة. وشغل منصب قاضي مكّة لفترةٍ قصيرة، حتّى ربيع الثاني 965 / 21 كانون الثاني / 18 شباط 1558، عندما تمّ تعيينه قاضيا في القاهرة. وتوفّي في 19 محرم984/18 نيسان 1576.

وعليه فيكون اعتقال الشهيد الثاني لأوّل مرّة (زمان اختفائه من الطغاة البغاة لما قصدوه و دخلوا بيته و نهبوه)[95]، وعلى الأرجح عندما كان حسن بك للمرّة الثانية قاضياً في دمشق عام 964/1557، وهذا هو المعنى الضمني لرواية النهروالي، والتي يبدو من مضمونها أنّ الاعتقال وقع قبل فترة وجيزة من نقل حسن بك إلى مكّة المكرمة[96].

وهنا نسأل سؤالاً: هل إنّ الشهيد عندما قرّر المجاورة في مكّة لم يكن يعرف أنّ قاضي قضاتها هو حسن بك؟ ونحن نجيب تأكيداً أنّه على علم بهذا الأمر، خصوصاً أنّه كان منفتحاً على الناس كافّة فيها. وإنّنا نعرف أنّ قضيّة الشهيد بدأت بحدود العام 955هـ/1548م. وهذا اللغز الذي لا زال غامضاً، نفترض أنّ وراءه مجموعات انتهازية كانت تدبِّر السعايات لدى السلطات النافذة كما عبّر عنها ابن العودي، مستغلّةً المذهبيّة لتوقع بالشهيد ومشروعه، وعلى ما يبدو قد أفلحت هذه المرّة في مكة وإن كان التأسيس لها في دمشق على ما يبدو.

الجدير ذكره هو أنَّ الشيخ والفقيه النهرواليّ هو أحد أهمّ مساعدي أشراف مكّة في ذلك التاريخ، وأنَّ رحلته إلى القسطنطينية كانت لأجل مهمّة سياسيّة وهي: طلب عزل الوالي الدالي بيري؛ القائد الطاغية للحامية العثمانيّة في المدينة المنورة، ومدى الفحش الذي أظهره في سلوكه السيئ بحسب ما ذكر النهرواليّ في مخطوطة رحلته.

وبالمناسبة فإنّ النهروالي نفسه عندما مرَّ بدمشق ومكث فيها طيلة شهرين بسبب الأحوال الجويّة السيئة[97]، قال واصفاً الأوضاع الاجتماعيّة فيها: «...ورأيت أهل الشام قاطبةً يغلب عليهم الجفاء والجلافة والانقباض عن الغرباء، فلم آلف أحداً منهم.»..

نخلص إلى أنَّ الشهيد الثاني قد أشاد مشروعه النهضويّ والوحدويّ، ومارسه فكراً وعملا، إلى حد أنَّ الحرَّ العاملي أورد نصاً يقول فيه إنَّ الشهيد الثاني اجتمع مع «علماء العامة وقرأ عندهم كثيرا من كتبهم في الفقه والحديث والأصول وغير ذلك، وروى جميع كتبهم، وكذلك فعل الشهيد الأوّل والعلامة، ولا شك أنّ غرضهم كان صحيحاً، ولكن ترتّب على ذلك ما يظهر لمن تأمّل وتتبّع كتب الأصول وكتب الاستدلال وكتب الحديث، ويظهر من الشيخ حسن (ابن الشهيد الثاني) عدم الرضا بما فعلوا.».[98].

وفي هذا المجال يقول ابن العودي: «ولا أنسى وهو في أعلى مقام... ومفتي كلّ فرقة بما يوافق مذهبها ويدرس في المذاهب كتبها». والدليل الآخر لكلامنا هذا هو من المحدِّث الجزائري، آخر تلامذة الشهيد المجازين في مكّة المكرمة (14 ذي الحجة 964هـ/أيلول1557م)، أنّه كتب في كتابه (الجواهر الغوالي في شرح عوالي اللآلي) يقول: «حكى لي عالم من أولاد شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه: إنّ بعض الناس كان يتّهم الشيخ في زمن حياته بالتسنّن؛ لأنّه كان يدرِّس في بعلبك وغيرها من بلاد المخالفين على المذاهب الأربعة نهاراً، ويدرّس على دين الإماميّة ليلا. وكان معرفته بفقه المذاهب الأربعة واطلاعه طاب ثراه على كتب أحاديثهم وفروعهم أعلى من معرفتهم بمذاهبهم»[99].

وتأتي وثيقة النهرواليّ لتأكِّد على هذا الدور الذي اضطلع به الشهيد «...وتكلّم معه بكلمات علميّة. فإنّه كان فاضلا مفنِّنا وترضّى عن الصحابة، وأورد أحاديث شريفة في فضلهم وفي فضل الشيخين....، فأحسن إليه الأفندي حسن بك وأطلقه..».[100].

هذا وإنّ النهروالي في مخطوطته ترك فراغاً بعد سرده لواقعة إعدام الشهيد وتعليقه عليها بما يوازي نصف صفحة، وهو أمر لم نلحظه على مدى المخطوطة، ولعلّه كان يريد التعليق أو تسجيل أشياء تتعلّق بالحدث ولكن لسبب أو لآخر بقي النصف من الصفحة أبيض.

لم يقتل الشهيد بسبب تحرّكٍ يضرّ بالسلطة العثمانية أو بمعتقدها، ولكن قتل { لأجل همّة ربما أراد أن تحيي أمّة[101]، لكن العصبيّة وانسداد الأفق والآفاق فعلت فعلها، ولعلَّنا لا زلنا ننوء تحت ثقل هذه الآفة المستشرية في جسد الأمّة، والحاضر ليس ببعيد!!...

وأختم بأبيات أفاض بها الصديق الشاعر الدكتور حسن جعفر نور الدين، حين كنا في مجالس نتحدث فيها عن الشهيد السعيد فقال:

أبـداً أنـتَ للجـهادِ حســـــامُ

لستَ تفنى ضميرُكَ الاسـلامُ

قد بذلتَ الفؤادَ طوعاً وذوداً

عـن كتـابٍ حروفـهُ إلهـــامُ

وسقيتَ الأمجادَ أزكى دماءٍ

كي يفيضَ النهرُ ويحيا الوئامُ

أنـتَ من تربةٍ عليها لـواءٌ

خافقُالطلعِلونُهبســام

أوأزكى من أن يُقال شهيدٌ

يا شـهيداً عليك صلى الكـلامُ

الصفحة 205 من مخطوطة النهروالي والتي يذكر فيها الشيخ زين الدين معروف

tabaja.psd

[1](*) باحث اسلامي - أستاذ في الجامعة اللبنانية.

حول موضوع القيادة وشروطها عند الشهيد الأوّل راجع دراستنا: الشهيد الأوّل الفقيه القائد، ضمن كتاب: مجموعة مقالات المؤتمر العالمي للشهيدين، مركز العلوم والثقافة الاسلامية، قم، 1330هـ/2009م، ص148.

[2] اهتمّ الشهيد الثاني بأعمال الشهيد الأول وشرحها، وأهم هذه الشروح الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية.

[3] ابن العودي: بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد، ضمن كتاب حفيد الشهيد الثاني الشيخ علي بن محمد بن حسن بن زين الدين الجبعي العاملي: الدر المنثور في المأثور وغير المأثور، ج2، ص184.

[4] الخونساري: روضات الجنات، ج7، ص384.

[5] في الدر المنثور: ويقال أنه.

[6] السيد حسن الصدر: تكملة أمل الآمل،ص 176 نقلا عن السيد نعمة الله الجزائري في كتاب المقامات. وبنفس المعنى،ابن العودي، بغية المريد...في الدر المنثور..م،س،ص190 «...مما سمعته في بلادنا مشهورا، ورأيته أيضا مشهورا في غيرها، أنه{ لما سافر السفر الأول إلى اسطنبول، ووصل إلى المكان الذي قتل به تغير لونه، فسأله أصحابه عن ذلك فقال ما معناه: إنه يقتل في هذا المكان رجل كبير – أو عظيم – له شأن، فلما أخذ قتل في ذلك المكان.

ورأت في نسخة لشرح اللمعة عند بعض الأكابر، أن الشيخ حسين بن عبد الصمد M سئل عن هذا وكان رفيقه في ذلك السفر، فأخبر بأن ذلك حق بعد سؤاله أو سؤال غيره «.

[7] عن مشروع الشهيد الأول المتجدد باستراتجية جديدة على يد الشهيد الثاني.راجع أطروحتنا للدكتوراة، ص 198.

[8] راجع عن ترجمة والده: الحر العاملي:أمل الامل، ج1، ص118.

[9] ترجمته: الحر العاملي:أمل الامل، ج1، ص131.والأمين:أعيان الشيعة، ج8، ص262.

[10] ترجمته: الحر العاملي:أمل الامل، ج1، ص56.والأمين:أعيان الشيعة، ج5، ص472.

[11] ابن العودي: بغية المريد..، م.س، ص158.

[12] عن حركة الشهيد الأول ونهضته راجع دراساتنا: الشهيد الأول ومشروع القيادة الدينية والساسية في جبل عامل، مجلة العرفان مجلد 80.وتحقيقنا ودراستنا لمختصر نسيم السحر في حياة الشهيد الأول، مجلة المنهاج، العددين 51و52.والشهيد الأول الفقيه القائد، ورقتنا لمؤتمر الشهيدين، ضمن كتاب صدر عن المؤتمر في قم 1430هـ/ 2009م.

[13] عن العلامة الكركي والشيخ الكفعمي راجع أطرحتنا للدكتوراة في الجامعة اللبنانية 1993.ص(170-183)

[14] ترجمته:الغزي: الكواكب السائرة في علماء المائة العاشرة،ج2،ص59.

[15] ابن العودي: بغية المريد،م.ن،ص 159. وفي العام 941هـ أجاز الشهيد الشيخ حسين بن عبد الصمد إجازة كبيرة.راجع الاجازة في البحار،ج105. وفي رسائل الشهيد الثاني،ج2.

[16] هذه عادة الشهيد حيث كان يصطحب معه تلامذته في سفراته، وأخصهم الشيخ حسين بن عبد الصمد...

[17] ابن العودي: بغية المريد..م.س،ص 159.

[18] يروى أن الطبيب المكفوف داود الانطاكي(ت1008هـ/1600م) زار جبل عامل كما جاء في أعيان الشيعة م6، ص375. نقلا عن المحبي في خلاصة الأثر، نقلا عن سانحات أبي المعالي درويش الطالوي، عن الشيخ داود نفسه أنه قال: «.. وكنت عاملة، وأخذت عن مشايخها ما أخذته، وبحثت مع فضلائها فيما بحثت» والحقيقة أن الانطاكي يتحدث في تذكرته ص 200 عن سمكة «تول» تعيش في عين تول غرب النبطية.راجع أطروحتنا للدكتوراة، ص 202.

ويروى أيضا أن الانطاكي صلى وراء الشهيد الثاني في مسجد النبطية، واعترض على قراءته، لأنه كان قد تعلم التجويد بمصر، فبلغ ذلك الشهيد، وكان ذلك سبب من أسباب سفره إلى دمشق ومصر لتعلم التجويد والقراءات، راجع: سليمان ظاهر: صلة العلم بين جبل عامل ودمشق. مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق،م1، ج1، ص269.

[19] هكذا وصفه الشهيد «رفيقي وصديقي». ابن العودي: بغية المريد،م.س، ص 178. ولكننا نضيف عليه لقب سفير إذ تبين لنا أن الشهيد قد عهد له بالكثير من المهمات التي كلفه بها والتي سنبينها في هذه الدراسة.

[20] ومنهم الشيخ علي بن زهرة العاملي الجبعي، ابن عم الشيخ حسين, وكان الشهيد يعتقد فيه الولاية، توفي معه في مصر. راجع: الأمين: أعيان الشيعة، (ضمن ترجمة الشيهد الثاني)ج7،ص 152.

[21] أغلب هؤلاء الفقهاء ذكرهم الغزي في الكواكب السائرة، وكذلك في شذرات الذهب، وفي الأعلام للزركلي.ولاحظ أهميتهم في: ابن عابدين(محمد أمين): حاشية رد المختار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الامام أبي حنيفة النعمان، دار الفكر، بيروت 1995م،ج4، ص647. حيث يتحدث عن آراء الرملي والبلقيني والطبلاوي وغيرهم مما يدل على علو شأنهم.

[22] كان { قد رأى النبي P في منامه بمصر، ووعده بالخير.. ولما وقف على القبر المقدس وزاره، خاطبه وأنشده. ومما قاله:

وماذايقول الناس في مدح من أتت

مدائحه الغراء في محــكم الذكــر

ســــعيت إليه عاجـــلا سعى عاجز

بعبء ذنوب جمة أثقلت ظهــري

ولكن ريح الشـــوق حــرَّك همتــي

وروح الرجا مع ضعف نفسي ومع فقري

ومن عادة العرب الكرام بوفدهـم

إعادتـــه بالخيـــر، والجبــر والوفـــر

وانيكوفـدٌقـد وفـوا لنزيلهــم

فكيف وقد واعدتني بالخيـر فـي مصـر

فحقق رجائي –سيدي -في زيارتـي

بنيل منائي والشــفاعة فــي حشــرى

ابن العودي: بغية المريد، م.ن، ص 167.

[23] الغزي: الكواكب السائرة. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج8، ص292. الزركلي: الأعلام، ج7،ص27. وأورد ابن العودي في آخر الحوار: «توفي سنة953هـ بمصر ودفن بالقرافة، وكان يوم موته يوما عظيما بمصر لكثرة الجمع، ودفن بجانب قبة الامام الشافعي، وبنوا عليه قبة عظيمة».

[24] نؤيد أخي المحقق سماحة الحجة المختاري في رؤيته بأن الشهيد بلغ درجة الاجتهاد قبل هذا التاريخ (944هـ)، ودليله الظاهر هو طي إجازته الكبيرة لتلميذه الشيخ حسين بن عبد الصمد عام 941هـ والتي يظهر فيها اجتهاد هذا الشيخ الجليل، وعلى قاعدة: فاقد الشيء لا يعطيه؛ فلا يعقل أن يكون المجيز غير مجتهد ليجيز الاجتهاد لغيره. ولتعزيز رأينا راجع الشهيد الثاني نفسه: الاجتهاد والتقليد، ضمن رسائل الشهيد الثاني،ط1،ج1،ص ص(8- 70) مركز الابحاث الاسلامية، قم 1421هـ. وأيضا: الاقتصاد والارشاد إلى طريق الاجتهاد.. ط1،ج2، ص ص(747-793)، مركز الأبحاث الاسلامية، قم 1422هـ. حيث أفاض { في التوضيح..

[25] راجع ابن العودي في بغية المريد ص183.. كيف أخبره عن ابتداء أمره في الاجتهاد حيث كان يبالغ في كتمان أمره؟! وأن ظهور اجتهاده كان في سنة 948هـ/ 1541 م. فنلاحظ مدى التكتم والسرية في حركة وحضور الشهيد ولعل ذلك يعود للأجواء السياسية المشحونة بالمذهبية التي كانت سائدة.

[26] ابن العودي: بغية المريد..ص168.

[27] ابن العودي: بغية المريد،م.ن،ص 166. ويذكر ابن العودي أيضا أن الشهيد لا يرتقب لمن يباشر عنه ما يحتاج إليه من الأعمال، فكان ينقل الحطب على حمار في الليل لعياله، ويذهب لحفظ كرمه (الذي لا زال معروفا إلى اليوم بكرم الشهيد، وكذلك المسجد، وداره وهو خراب نطلب ونرجو ترميمه ليكون أثرا يزار، ومما هو شائع بالتواتر في جبع خاصة وجبل عامل عامة أن الشهيد كان بنفسه يذهب إلى صيدا ليبيع محصول كرمه،وانه كان يأخذ معه في أسفاره ما يتاجر به كالحلويات (لاحظ بغية المريد: في الطريق إلى مصر كان مع الشهيد حلويات) وغيرها، هذا وقد حدثني أحد معمري جبع عام 2010م، وهو المشرف على أوقاف البلدة روايات كثيرة متواترة على ألسن الناس إلى اليوم ومنها:أن زوارا كانوا يقصدون الشهيد، فصادفوه حطابا على الطريق فسألوه عن بيت الشيخ زين الدين فقال لهم: اتبعوني، فتبعوه إلى داره، فقال لهم انتظروني لحظات لأضع الحطب وأكون بخدمتكم عند الشيخ زين الدين، وبعد وقت قصير بدَّل لباسه ودخل عليهم ورحب بهم من جديد وقال لهم: نعم، أنا الشيخ زين الدين... فاستغربوا الأمر مستهجنين؛ كيف يكون الحطاب هو الشيخ زين الدين المشهور..؟! وتقدموا منه يقبلون يديه...

[28] لاحظ استخدام الشهيد لمصطلح (سفير، سفرائه ـ ما يلحقه من الكمال معرفة سفرائه.. وكان من أهمه على ما أرشد إليه هو الاخبار عن سفرائه حسب ما دل عليه) في إجازته لتلميذه الشيخ حسين بن عند الصمد.. ضمن رسائل الشهيد الثاني،م.س.ن. ونحن أطلقنا هذه الصفة على الشيخ حسين لكثرة أسفاره، وكونه فعلا كان سفير الشهيد في الكثير من المهمات من أبرزها هجرته إلى العراق ثم إلى إيران..حول الموضوع راجع تحقيقنا لرسائل الشيخ حسين لأستاذه الشهيد الثاني...

[29] حول موضوع العمل مع السلطان عند الشهيد الأول والعلامة الكركي والشيخ الكفعمي راجح اطرحتنا للدكتوراه،وأيضا دراستنا: الشهيد الأول الفقيه القائد، ضمن مجموعة مقالات المؤتمر العالمي للشهيدين،مركز العلوم والثقافة الاسلامية، قم1430هـ/2009م، ص123.تحت عنوان: العمل مع السلطان (السياسة الاجتماعية على المستوى العام في بلاد الشام) فقيه السلطة الموظف وسلطة الفقيه الحر/القائد.

[30] الشريف المرتضى: مسألة في العمل مع السلطان، ضمن رسائل الشريف المرتضى،تحقيق:مهدي رضائي، ص89. وأوردها رضوان السيد في آخر كتابه: الأمة والجماعة والسلطة.

[31] لاحظ الثناء عليه في الاجازة الكبيرة التي منحه ايها الشهيد الثاني ضمن رسائل الشهيد الثاني،م.م، ج2.

[32] عن الحلة وتفاصيلها راجع ابن العودي: بغية المريد، م.م.

[33] لهذا الكتاب عدة مخطوطات أهمها مخطوطتان لا تختلف في المضمون وهي: مخطوطة كانت في كربلاء وشاهدها الطهراني ووصفها في موسوعته: الذريعة إلى تصانيف الشيعة،م24،ص367حيث يقول أن تاريخ كتابتها 3 رمضان 945هـ، ولكن فقدت هذه المخطوطة ثم وجدت في مكتبة شستر بيتي Chester Beatty Library في إيرلنده تحت رقم (MS 3820) تاريخ كتايتها 3 شعبان 945هـ، وقد حققها ونشرها السيد محمد جواد الحسيني الجلالي: مؤسسة النور للمطبوعات،ط2، بيروت 1407هـ/1987م، ولكن التلف الذي أصاب أجزاء من المقدمة يخفي ما نقصد تبيانه وهو أن الكتاب كتب وقدم للسلطان سليمان في اسطنبول.وهذا ما أوضحته المخطوطة الثانية والموجودة في مكتبة جامعة ليدن Leiden في هولندا تحت رقم(979 OrMS) والذي تحدث عنها كارل بروكلمان Carl Brockelmann: Geschichte der Arabischen Litteratur,2ed.vol2.g, II: 429, s, II: 575, 576 332(Leiden1937):ونقل عنه جرجي زيدان:تاريخ آداب اللغة العربية،ج3،ص284. وهي التي سنعتمدها في دراستنا هذه.راجع عن هذا الموضوع دراسة دفن ستوارت Devin Stewart:Husayn B. AbdAlsamad Al-Amili’s Treatise for sultan Suleiman And The Shi’ISshafi’I Legal tradition.Islamic Law And Society 4.Brill Leiden,1997.PP156-99

[34] يشبه الشيخ حسين نفسه بنملة النبي سليمان التي }... قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{ سورة النمل / 18. ويعلق دفن ستوارت بأن الشيخ حسين كان يعرف أن السلطان سليمان يستطيع سحقه إن لم يساسره راجع: Devin Stewart:Husayn B. AbdAlsamad..OP cit,P175 -

[35] هذا الشطر من الشعر مكتوب عاموديا إلى يمين النص..

[36] مخطوطة جامعة ليدن، ص (2 ـ 9).

ولاحظ: عن خط الشيخ حسين بن عبد الصمد الذي كتب جوابا للسلطان سليمان لمّا أرسل يطلب أولاده من الشاه طهماسب لمّا هربوا إلى عنده. حيث يقول:»..فكتبت هذا الكتاب على لسان الشاه جوابا، وذلك سنة 968 هـ/ 1560 م، (أي بعد حوالي الثلاث سنوات من قتل الشهيد الثاني) (...) لأنا لن نتمسك إلا بكتاب الله، والذي أمر الرسول بالتمسك بهم، فيا لنا فخرا يفوق كل فخار، فأنسابنا أنور من ليلة القدر(...) وجوهرنا من جوهر الشرف لا من جوهر الصدف، ويواقيتنا من يواقيت الأحرار لا من يواقيت الأحجار، لسنا بحمد الله في شك من الدين,إناّ لعلى هدىً بيقين؛ وأي يقين، رأينا فيه ولله المنة سديد، وبأسنا شديد، وكيدنا عتيد لكل جبار عنيد وحينا سعيد، وقتيلنا شهيد وما عند الله خير للأبرار.». ونعتقد أنه في الجملة الأخيرة يشير لقضية الشهيد. راجع المكتوب في:السيد محمد الدماد: فضائل السادات، شركة المعارف والآثار.قم 1380هـ.ص421و422.

[37] تختلف هذه الخاتمة عن خاتمة نسخة شستر بيتى Chester Beatty ببعض التعابير وبتاريخها وهو(3 شعبان المعظم)، بينما ذكر الشيخ الطهراني 3 رمضان)، ونحن نقول بأن نسخة شستر بيتى Chester Beatty والتي وصفها الطهراني في ذريعته هي الأساس أوالمسودة، ونسخة ليدن هي التي قدمت للسلطان، وكتب تاريخها الشيخ حسين كما هو مبين أعلاه عندما وصل إلى القسطنطينية، حيث يبدو واضحا أن الريشة التي كتبت بها الخاتمة هي غير التي كتب فيها المتن..أما الاختلاف الملفت في المضمون هو أن الشيخ حسين ينسب نفسه بالشافعي في نسخة ليدن، بينما اختفى هذا الانتساب من نسخة شستر بيتي التي اقتصر فيها على: «حسين بن عبد الصمد الحارثي». ولا شك أن الشيخ حسين كان قد أنهى كتابه وهو ببلدته جبع إلى جانب استاذه الشهيد الثاني.. لاحظ تعليق دفن ستوارت:Devin Stewart:Husayn B. AbdAlsamad..OP cit,P177 -

[38] ابن العودي: بغية المريد، م.ن، ص169.

[39] ترجمته: الأمين: أعيان الشيعة، ج7، ص336.ولاحظ لزميله عبد الله أفندي: رياض العلماء، ج7.

[40] راجع الاجابات في: رسائل الشهيد الثاني ج1،ط1،أجوبة مسائل السيد شرف الدين السماك، تحقيق:عباس المحمدي،مراجعة:رضا المختاري. مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم 1421هـ، ص (336-353).

[41] وحقق فيها المقال: أي أنه مجتهد. راجع التفاصيل في بغية المريد،م.س.ن.

[42]ابن العودي: بغية المريد..م.، ص 170. وتجدر الاشارة هنا إلى عمل آخر للشيخ حسين بن عبد الصمد وهو مناظرته مع بعض علماء حلب في الامامة عام 951هـ/1545م، مخطوط في مكتبة المرعشي، قم مجموع رقم 1161، وذكر معظمها السيد الأمين في أعيانه،ج6 ص62. ويبدو أن هذه المناظرة أيضا هي واحدة من المهمات التي قام بها (سفير الشهيد) في حلب..

[43] راجع آنفا ما ذكرناه عن رواية الشيخ حسين بن عبد الصمد من أن الشهيد مرَّبموضع في اسطنبول ومولانا الشيخ (سلَّمه الله) معه، فقال: يوشك أن يقتل في هذا الموضع رجل له شأن، أو قال شيئا قريبا من ذلك، ثم انهMاستشهد في ذلك الموضع..كذلك راجع دراسة الباحث الايطالي ماركو سالاتي Salati عن زيارة الشهيد الثاني إلى اسطنبول.

[44] عن أهمية هذا الكتاب وانتشاره راجع مقدمة محققه سماحة الأخ الحجة الشيخ المختاري، ونذكر أن هذا الكتاب استفاد فيه الشهيد من تلاقح معارفه مع فقهاء المذاهب على اختلافها.. كما يتبين من مخطوطاته أن تلامذته في بعلبك قد استنسخوه واستجازوه من مؤلفه. راجع المختاري: المرجع نفسه. ص 70.

[45] الشهيد الثاني: منية المريد.. تحقيق الشيخ المختاري، ص138.

[46] Devin Stewart:Husayn B. Abd Alsamad..OP.Cit,P163- نقلا عن –Caroline Joyce Beeson,The Origins of Conflict in the Safawi Religious Institution.

[47] ابن العودي: بغية المريد...ص170.

[48] بحسب هذا النظام يتوجب على كل زائر رسمي إلى القسطنطينية أن يتزود بعرض من قاضي ناحيته. حول الموضوع راجع لما لم يأخذ الشهيد عرض قاضي صيد مع العلم أنه كان على علاقة جيدة به. ابن العودي: بغية المريد..م.ن ص 174.

[49] لعل الشهيد استفاد من تجربة سفيره الشيخ حسين في سفره وتقديمه للسلطان كتابه» نور الحقيقة «، ولعلنا نلاحظ أمرا آخر كان الشهيد يريد أن يظهره وهو حضوره العلمي والمعرفي (كمجتهد)...دون أمور أخرى كان يرتكز عليها النظام الإقطاعي العثماني.

[50] للمزيد حول تفاصيل الرحلة راجع:ابن العودي: بغية المريد، م. ن ص175. ومايليها. ولا بد من أن نلفت الانتباه إلى أن الشهيد قد التقى بالعديد من الشخصيات (الفضلاء) في قسطنطينية وممن أفصح عنه لتلامذته الفقيه الشهير عبد الرحيم العباسي، ويقول صاحب المعالم في إجازته الكبيرة بهذا الشأن: «وكان اجتماعه به في قسطنطنية، ورأيت له كتابة إلى الوالد تدل على كثرة مودته له ومزيد اعتنائه بشأنه».

[51]للمزيد عن زيارة المشاهد الشريفة في العراق وما حصل مع الشهيد هناك راجع: ابن العودي:المصدر السابق، ص178 وما يليها.

[52] المصدر نفسه ص 182.

[53] يقول سماحة الشيخ الدكتور جعفر المهاجر في مؤلفه: ستة فقهاء أبطال، ص152: «كانت بعلبك أحد المراكز الحنبلية النادرة في النطقة الشامية..ولكنها في ذلك الأوان كانت، بحسب تركيبتها المذهبية، حنبلية شيعية. مع نسبة غير معروفة بالضبط من الشافعية والأحناف، واقلية ضئيلة من المالكية..»..

[54] ابن العودي: بغية المريد، المصدر نفسه، ص182، نقلا عن خط الشهيد. وصدر من الشهيد عدة اجازات لتلامذته فيها ومنهم الشيخ اللاهجاني.

[55] المسجد الأعظم هو المسجد المجاور للمدرسة النورية، لا بل المدرسة ملحقة به لصغر حجمها نسبة لحجمه، وهذا المسجد لا زال قائما إلى اليوم وفيه عدة محاريب، وأعمدته من الغرانيت أخذت من قلعة بعلبك المجاورة له، لهذا نقترح أن ترمم المدرسة وتصبح مع المسجد الأعظم مركزا للوحدة الاسلامية التي على محرابها قدم الشهيد نفسه..

[56] لا نستبعد أنه أراد البلاد الشامية..

[57] عن تلك المرحلة راجع كتب التاريخ العثمانية والصفوية..

[58] لاحظ كلام الشهيد في بغية المريد لابن العودي، ص 180.

[59] ابن العودي: المصدر نفسه.

[60] نفسه. ونذكر هنا أن ابن العود كان قد ترك جبل عامل وهاجر إلى خرسان في إيران في العام 962هـ/1555م، حيث كان قد وصلها الشيخ حسين بن عبد الصمد من العراق عام 961هـ/ 1554 م،ولكن ابن العودي ترك إيران وعاد إلى جبل عامل وليس إلى بلده جزين، بل ليقيم على تلة مرتفعة منعزلة إلى الجنوب من قلعة الشقيف ومطلة على سهل الحولة فوق بلدة كفركلا.. حيث يعرف الجبل أو التلة باسمه تصحيفاً (تلة العويضي) بدلا من العويدي لصعوبة في اللفظ... راجع أطروحتنا للدكتوراه، ص 199. وتحقيقنا ودراستنا لرسالة الشيخ حسين بن عبد الصمد في مجلة المنهاج عدد29. وكذلك تلميذ الشهيد وأبو زوجته الذي تخفى عنده في جزين وهو السيد علي الصائغ الذي توفي عام 980هـ/1572م، ودفن في بلدة صديق وهي غير صديقين بالقرب من تبنين وقبره معروف. راجع ترجمته: الأمين: أعيان الشيعة،م5،ص96.

[61] كما صرح نفسه في بغية المريد ص 151.

[62] دراستنا وتحقيقنا لرسالة الشيخ حسين للشهيد، مجلة المنهاج عع29. ولاحظ في عنوان الفصل الثامن (المفقود) من بغية المريد لابن العودي: «.. وما وقع في خلال ذلك بيننا وبينه من المراسلات».

[63] راجع أطروحتنا للدكتوراه، ص 199.

[64] راجع ترجمته: الأمين: أعيان الشيعة،م5،ص96.

[65] عن هذا المنام تحدث ابن العودي في بغيته، ص 192. ولكن دون توضيح لأن قسما من كتابه فقد ففقد التوضيح، لكن الميرزا عبد الله الافندي في كتابه رياض العلماء،ج2،ص 377. أوضح أنّه للحياني.. وهذا دليل على أن الحياني عاد إلى جبل عامل كما زميله ابن العودي، وهذه أمور تستدعي البحث للكشف عن ذلك التحرك لا بل حركة الشهيد الثاني ونهضته التي بلغ مجالها الحيوي من بلاد الشام إلى مصر فالمغرب العربي (الجزائري)، فالجزيرة العربية، فالعراق ثم إلى إيران الصفوية والقسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية !!...

[66] لا يوجد في المصدر كنية للملا عبدالله ولكننا بالتدقيق والتحقيق قررنا أنه الشوشتري. ترجمته:الأمين: أعيان الشيعة، م8، ص50. «مولانا عبدالله الشوشتري، كان من أجلاء أساتذة عصره في العلوم...جاور في المسجد المقدس الرضوي، وفي سنة 997هـ/ 1588 م، حينما فتح الأزبك المشهد المقدس وقع المترجم في أسرهم وأخذوه إلى بلاد ما وراء النهر وحصلت له مباحثات شديدة معهم، وأخيرا قتلوه وأحرقوه».

[67] هو أحد تلامذة العلامة الكركي، التقى الشهيد في العراق وأرسل للشهيد أسئلة رد عليها. راجع الحديث عنه آنفا.

[68] الأمين: أعيان الشيعة م 9،ص270

[69] لاحظ: انهاءات الشهيد في:رسائل الشهيد الثاني، ج2، وكذلك في ترجمته في الأعيان.

[70] الحر العاملي:أمل الآمل، ج1،ص90.

[71] راجع اطروحتنا للدكتوراه، ص223. وقارن مع الشهيد الأول دراستنا وتحقيقنا لمختصر نسيم السحر في مجلة المنهاج العددين 51و52، وكذلك دراستنا عن مشروع الشهيد الأول في مجلة العرفان المجلد 80.

[72] ترجمته

[73] الشهيد الثاني: رسائل الشهيد الثاني،ج2،ص1147.

[74] المجلسي: بحار الأنوار،180/173. يدل تاريخ الاجازة الثانية ان الشهيد زار العراق في هذه الفترة، دون أن يعلن أحد عن تلك الزيارة سوى هذه الاجازة، باعتبار أنه { ذكر أنه لما وصل في صفر 953هـ، لم يغادر بعلبك إلاّ سنة 955هـ، إلى جبع، وعلى ما يبدو أن تلك الزيارة حصلت بالتخفي...

[75] نشرة (هاي خطي)،العدد السابع،614، نسخة رقم 512. ونوضح هنا إلى أن الاقتحام هذا لبيت الشهيد جرى في جبل عامل وليس في مكة كما ذهب الباحث دفن ستوارت، حيث تؤكد المصادر أنه القي القبض عليه وهو في المسجد الحرام، وعلى الأرجح أن هذا الاقتحام جرى أثناء أخذ الشهيد إلى دمشق بأمر من قاضي القضاة حسن بك أفندي كما جاء في مخطوط النهروالي، وكما سيأتي الحديث عنها.

[76] رسائل الشهيد الثاني، ج2، م.ن. الاجازات.

[77] المصدر نفسه.

[78] المصدر نفسه.

[79] المصدر نفسه.

[80] السيد أحمد الحسيني: تراجم الرجال،نشر مكتبة آية الله المرعشي،قم 1414هـ.ص 879.

[81] الشهيد يصرح في اجازته للشيخ تاج الدين الجزائري:» وجرى من خلال المجاورة ومجالس المذاكرة وزمن المصاحبة جملة من المباحث العلمية..»..رسائل الشهيد الثاني،ج2، م.ن.ص1163. ودليلنا على قصد المجاورة هو بقاءه في مكة بعد انتهاء موسم الحج..ويعزز رأينا ما قاله الشيخ النهروالي في وثيقة رحلته:»..فصادف مجاورة الشيخ زين الدين بمكة «.

[82] حول إتمام المسالك راجع ما قاله الشهيد في جازته للشيخ تاج الدين الجزائري:»..وفق الله لاكماله.».. ولاحظ رأي الشيخ المختاري في مقدمة تحقيقه لمنية المريد، ص29وما بعدها.

[83] ترجمته: الطهراني: إحياء الداثر،ص32.

[84] رسائل الشهيد الثاني،ج2، م.ن.ص1163.

[85] الشيخ يوسف البحراني:لؤلؤة البحرين،ص34.نقلا عن خط الشيخ البهائي..وفي بغية المريد لابن العودي، ص 190،عن خط تلميذه السيد علي الصائع:»فإنه أسروهو طائف حول البيت..»..وفي تعليقة أمل الآمل، ص49، ينقل الميرزا عبد الله الأفندي الاصفهاني عن الشيخ حسن ابن الشهيد:» انه قتل سنة خمس وستين وتسعمائة، وقيل قبض (ره)بمكة المشرفة ثامن ربيع الأول سنة خمسة وستين وتسعمائة، حين فرغ من صلاة العصر بالمسجد الحرام وأخرج الى بعض دور مكة وبقي محبوسا هناك شهرا وأربعة ايام، ثم سير به على طريق البحر الى قسطنطينة وقتلوه بها في تلك السنة وبقي مطروحا ثلاثة أيّام ثم القوا جسده الشريف في البحر»..

[86] نشرة (هاي خطي)،العدد السابع،614، نسخة رقم 512. واللاهجاني أصبح فقيها كبيرا في إيران (راجع إجازاته في البحار لتلامذته والثناء فيها على استاذه الشهيد).

[87] هذا الفصل هو من الفصول التي فقدت من كتاب ابن العودي، والتي معها ضاع كثير من تفاصيل سيرة الشهيد الثاني.

[88] عن سيرة النهروالي راجع: الغزي: الكواكب السائرة،ج3،ص44. النور السافر 342، كشف الظنون 1،126، 239، 2، 1098، و...، شذرات الذهب 8،420، البدر الطالع 2، 57 برقم 379، هدية العارفين 2، 255، إيضاح المكنون 1، 321، 2، 78، تاريخ آداب اللغة العربية 3، 324، الاَعلام 6، 6، معجم الموَلفين 9، 17.

[89] يتبيّن من هذا التصريح أن النهروالي كان يعرف الشهيد الثاني والتقاه وحاوره... كونه صرح ببداية الوثيقة بقوله: «...أمر الوزير الأعظم(رستم باشا) بقتل الشيخ زين الدين الجبل عامري (عاملي). فأتى به إلى الديوان، ولم يُسأل عن شيء».

[90] مخطوط رحلة النهروالي، ص157.

[91] أيضا هذا الفصل هو من الفصول التي فقدت من كتاب ابن العودي..

[92] راجع في هذه المسألة رأي دفن ستوارت في المرجع المذكور أعلاه.

[93] راجع مخطوطة النهروالي خصوصا الصفحة 205.حيث يأتي على ذكر الشيخ زين الدين معروف..وقارن مع سيرة الأخير في الكواكب السائرة للغزي،ج3،ص219.

[94] النهروالي: المصدر نفسه.ص157.

[95] راجع كلام تلميذ الشهيد ومرافقه اللاهجاني آنفا.

[96]راجع دفن ستوارت نقلا عن: Richard Blackburn: Journey to the Sublime Porte,The Arabic …..Beirout: Orient Institute 2005. -

[97] دخل النهروالي (الشام المحروسة يوم الثلاثاء 15 صفر 965هـ/تشرين الثاني1557م). الرحلة ص 199، في هذه الفترة اعتقل الشهيد في مكة 5أو 8 ربيع الأول 965هـ/كانون الأول 1557م، ولعلها الأسباب الطبيعية نفسها هي التي حالت دون وصول الشهيد معتقلا إلى العاصمة العثمانية.

[98] الحر العاملي: أمل الآمل،1/88.

[99] الشيخ رضا مختاري: مقدّمة تحقيق منية المريد ص47، نقلا عن المحدث الجزائري في شرحه.

[100] النهروالي: المصدر نفسه.ص157.

[101] قول للإمام علي عليه السلام: رُبَّ هِمَّةٍ أحيتْ أُمَّة.

قراءَة في مفهوم الوحدة الاسلامية من حيث التأهيل والتحديات المناهضة: الشهيد الثاني نموذجاً

المحامي الشيخ مصطفى ملص (*)

المفهوم:

الوحدة الإسلامية هي الحقيقة التي أراد الإسلام اثباتها لاتباعه عندما اختار لهم أن يكونوا أمة واحدة من دون بقية الناس، تجمعهم الكلمة المعبرة عن عقيدتهم، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والاختلاف بين أبناء الأمة لا يجعل منهم امتين أو أكثر مهما بلغ شأو هذا الخلاف. قد يحولهم ذلك إلى فئتين أو طائفتين، ولكن ضمن الكيان الواحد للأمة. وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المفهوم بقوله تعالى:»وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيءَ إلى أمر الله، فإن فاءَت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين» صدق الله العظيم[1]

وجاءت الأحاديث النبوية المنقولة الينا لتؤكد على وحدة الأمة، وعلى وجوب وضع حد لكل ما يمكن أن يشكل ظاهرة انقسامية حتى ولو كان الأمر على صعيد السياسة والإدارة، قالP: «إذا بويع لخليفتين فاضربوا عنق الآخر». وفي ذلك دليل واضح على وجوب الحزم في التصدي لظاهرة الانقسام ولو وصل الأمر إلى حد استعمال السيف أو العنف.

فخطاب المولى عز وجل لجماعة المسلمين بأنهم أمة، ورابطهم هو الإيمان بالله ورسوله، ولو اختلفت ألوانهم وأعراقهم وبلدانهم وألسنتهم ومذاهبهم، قد رسخ في وعيهم وثقافتهم مفهوم الوحدة في ما بينهم، فلا تجد داعية من كل الدعاة الذين حملوا لواء الاسلام على مر الأزمان إلا وهو يؤكد على مبدأ الوحدة بين أبناء الأمة، مع التباهي بأنها ضمت بين جناحيها الأعراق كافة منذ انطلاقتها فدخل فيها الحبشي والرومي والفارسي والعربي، ولم يتوقف تمدد الإسلام بين الأعراق إلى يومنا هذا. إنه الدين المنفتح على الناس جميعًا. إنها الأمة الأغنى تنوعاً بشرياً.

إن الإسلام بما هو عقيدة وشريعة حاضنة انسانية تعطي الناس حرية التمايز بالخصوصيات الانسانية، فلا يُضَيّق عليهم في مجال من المجالات إلا بالحدود التي تكفل صيانة العقيدة وعدم الاجتراء على الشريعة، وهذا يكفل اليسر في مسألة الوحدة بحيث لا يشعر أحدٌ ممن ينتسب إلى هذا الأمة بالغربة فيها أو أنه مستلب، بل يشعر بلذة الانتماء إليها والفخر بهذا الانتماء.

الشعار:

ليست الوحدة الاسلامية مجرد مفهوم فقط، بل إنها شعار يرفع لواءَه كل من يتصدى للشأن العام في أمتنا، وتكاد تجد اجماعاً على هذا الشعار، وأن كان البعض ممن لا ينكرون أحقية الشعار يمارسون نقيضه في أعمالهم وأقوالهم، ويبررون ذلك بأنهم يلتزمون القيود المحددة للإيمان بحسب ما يفهمون الايمان ومقتضياته، وهذه القيود في معظمها مجرد فهم بشري للنصوص الشرعية ليس إلا. وإذا عرضنا هذا الفهم على مسيرة المصطفى P نجد أنه متناقض مع هذه السيرة وما سلكه النبي P مع الناس في زمنه: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».

وهذا ما نسمِّيه بالمنهج التكفيري، الذي تعاني منه امتنا اليوم أشد المعاناة. كما عانت منه في السابق، وما آل إليه مصير العالمين الكبيرين الَّذيْن يقامُ هذا المؤتمر لتكريمهما وهما الشهيدان الأول: محمد بن مكي الجزيني، والثاني: الشيخ زين الدين الجبعي، إلا نتيجةً لهذا المنهج التكفيري الذي أودى على مر التاريخ الإنساني بكثير من العلماء والدعاة والمصلحين.

الشهيد الثاني المثال الوحدوي:

من المعروف أن أهم أسباب تفرق أبناء الأمة هو الخلاف السياسي حول مسألة الحكم والخلافة. وقد كانت البداية منذ اجتماع السقيفة، سقيفة بني ساعدة، لاختيار خليفة لرسول الله P في الحكم، لقد أسس ذلك الاجتماع لصراع ما زالت رحاه دائرة إلى اليوم، تثور مرة وتخبو أخرى، ولكنه موجود وأثاره ظاهرة إلى يومنا هذا لأن كل ما تلاه انما يعود إليه بشكل من الاشكال.

وتطور الأمر بنقض معاوية بن أبي سفيان أسس الخلافة الراشدة عندما حول الحكم إلى ملك عضوض كانت فاتحته تولية يزيد الحكم وما نجم عن هذا الأمر من مسار مأساوي، كانت قمته باستشهاد الامام الحسين عليه السلام، ووقوع الشرخ الذي عمل الحكام والسلاطين على توسيعه وتأصيله على مر العصور، مما أوجد شريحة من المسلمين جعلت كلَّ همِّها هو نبذ الآخر من بين صفوف الأمة.

الأمة واحدة بنص كتاب ربها وسنة نبيها P، وبما قدمه أهل البيت R من نموذج رائع لوحدة الأمة وتمسكهم بها رغم الظلم الكبير الذي أصابهم على أيدي الحكام الظالمين، وذلك منذ الامام علي كرم الله وجهه واستمرار لذلك في الأئمة من ذريته.

ولو سلك أئمة أهل البيت R سلوكاً آخر لانتهت وحدة الأمة، ولسقط مفهومها وشعارها. لذلك يعود اليهم الفضل في تكريس مفهوم الوحدة، وحدة المسلمين كأمة لها مرجعية واحدة، كتاب الله وسنته نبيه محمد P.

على خطى أئمة أهل البيت R سار الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي الجبعي.

ومن خلال ما اطلعنا عليه من سيرة هذا العالم الجليل نجد أنه أسس على مفهوم الوحدة، وأن الدين واحد، وأن العلم مبثوث بين أبناء الأمة على اختلاف مناهجهم ومدارسهم ومذاهبهم.

فبعد أن تلقى أسس العلوم الشرعية على والده الشيخ علي الجبعي ارتحل يطلب العلم في ميس وكرك نوح، ثم عاد إلى جبع يشتغل بالعلم والمذاكرة حتى سنة 937هـ.

ثم انتقل إلى دمشق، وهناك يقول إنه قرأ على المحقق الشيخ شمس الدين بن مكي كتب الطب والفلسفة والحكمة.

وقرأ على الشيخ أحمد بن جابر الشاطبية في علم القراءَات وقرأ القرآن بقراءة نافع وابن كثير وابي عمر وعاصم.

وفي عام 942 هـ يقول أنه رحل إلى مصر لتحصيل ما أمكن من العلوم: «واجتمعتُ في تلك السفرة بجماعة كثيرة من الأفاضل منهم الشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفي وقرأت عليه جملة من الصحيحين واجازني في روايتهما مع ما يجوز له روايته». ومنهم الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي وقرأت عليه منهاج النووي في الفقه، وأكثر مختصر الأصول لابن الحاجب، وشرح العضدي مع مطالعة حواشيه، منها السعدية والشريفية.

وسمعت عليه كتبا كثيرة في الفنون العربية والعقلية... ومنها شرح الشيخ المذكور لورقات امام الحرمين الجويني في أصول الفقه ومنها أذكار النووي وبعض شرح الجوامع المحلّى في أصول الفقه وتوضيح أين هشام في النمو.

ومنهم الملا حسين الجرجائي والملاّ محمد الاسترابادي والملا محمد الليلاتي والشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي ومنهم الشيخ أبو الحسن البكري والشيخ المحقق ناصر الدين اللقاني المالكي الذي قال فيه الشيخ الجبعي: (لم أر بالديار المصرية أفضل منه في العلوم العقلية).

ومنهم الشيخ ناصر الدين الطلاوي الشافعي الذي قرأت عليه بقراءَة ابن عمرو ورسالة في القراءات من تآليفه.

ومنهم الشيخ شمس الدين محمد بن ابي النجا النحاس، والشيخ الفاضل الكامل عبد الحميد السمهوري، والشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الفرضي الشافعي.

ثم انتقل بعد ذلك من مصر إلى الحجاز الشريف سنة 943، ثم بعد عودته إلى موطنه الأول سافر إلى العراق لزيارة الأئمة R، وانتهى به المطاف في بيت المقدس حيث يقول أنه اجتمع فيها بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازة عامة.

إذن لم يكتفِ الشهيد الثاني بما تلقاه من علوم على يد علماء المذهب الاثني عشري، بل قصد علماء المذاهب الأخرى في مختلف البلدان من دمشق إلى مصر إلى الحجاز وبيت المقدس، وقرأ عليهم في مختلف العلوم من علم القراءات إلى الفقه والسيرة والحديث وعلوم اللغة العربية والمنطق والرياضيات والفلسفة والهندسة والطب، ومن اجتمعت له معرفة بهذه العلوم جميعها كان موسوعياً بحق.

وتبين من رحلته إلى اسطنبول في تركيا، حيث دار الخلافة، انه كان قد بلغ المرتبة العليا في طريق العلم والمعرفة، إذ ما أن عرف أصحاب القرار بسعة علمه حتى عرضوا عليه المناصب، فاختار أن يكون له مركز بعلبك في بلاد الشام، مركز ينشر فيه علمه حيث لم يقتصر نشاطه على مذهب واحد بل انه يقول: «واتفق وصولنا إلى البلاد منتصف شهر صفر سنة 953 (...) ثم اقمنا ببعلبك ودرَّسنا فيها المذاهب الخمسة، وكثيرًا من الفنون وصاحبنا أهلها على اختلاف آرائهم أحسن صحبة، وعاشرناهم أحسن عشرة، وكانت أياماً ميمونة، وأوقاتاً بهجة، ما رأى أصحابنا في الأعصار مثلها».

لقد جسد الشيخ الجبعي كما رأينا من خلال ما كتب، الوحدة الاسلامية تجسيداً حقيقياً صادقاً.

لقد جسدها وهو يحصل العلوم من مصادرها بغض النظر عن الاختلاف في المذاهب ورؤيتها لبعض المسائل، إذ لم تؤثر تلك الاختلافات عليه في تلقي العلم والمعرفة، وفي الإقرار لأهل الفضل بفضلهم وللمتميزين بتميزهم.

ثم نراه بعد ذلك يجسدها عندما زار عاصمة دولة الخلافة وقبل أن يتولى المنصب الديني بتوليتها إياه له، وهذا بحد ذاته موقف وحدوي قل نظيره فيما نعلم.

وجسده في قيامه بوظيفته في بعلبك في المدرسة النورية حيث درسّ الناس وأفتاهم على مذاهبهم الخمسة فأحبوه جميعاً واحبهم، واجتمعوا حوله في صورة رائعة كما يقول هو نفسه إذ وصفها بأنها أحسن صحبة وأحسن عشرة وكانت أياماً ميمونة.

ويتحدث تلميذه ابن العودي عن تلك المرحلة فيقول:» كنت في خدمته في تلك الأيام، ولا أنسى وهو في أعلى مقام، ومرجع الانام، وملاذ الخاص والعام يفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها ويدرس في المذاهب كلها، وكان له في المسجد الأعظم بها درس مضافاً إلى ما ذكر. وصار أهل البلد كلهم في انقياده، وأقام سوق العلم بها على طبق المراد، ورجعت إليه الفضلاء من أقاصي البلاد ورقى ناموسُ السادة والاصحاب في ازدياد، وكانت عليهم تلك الأيام من الأعياد». الدر المنثور: 2/182.

يدلنا هذا النص على تجربة عالم وحدوي علم استطاع أن يجسد نموذج الوحدة الاسلامية، فصار محل قبول عند جميع المسلمين يثقون بعلمه وحكمته وورعة وتقواه، إذ لا يكفي العلم وحده ليحظى العالم بمحبة الناس واحترامهم وبترؤسه عليهم، فذلك كله من توفر عنصر الثقة الذي عماده التقوى والورع، وقد استطاع هذا العالم المتصف بهذه الصفات أن يؤسس مجتمع الوحدة الإسلامية لفترة من الزمن.

إن تجربة الشيخ زين الدين الجبعي في بعلبك لم ترق على ما يبدو للبعض من أصحاب النفوذ والأغراض، لذلك عملوا على وضع حد لها بالطرق التي أدت إلى أن يترك الشيخ الجبعي بعلبك ومدرستها النورية وجامعها الأعظم وأن يعود إلى بلدته جبع، ليعيش فيها حياة من نوع آخر كما يقول في ختام مذكراته:»ثم انتقلنا إلى بلدنا ببينة المفارقة واقمنا في بلادنا إلى سنة خمس وخمسين مشتغلين بالدرس والتصنيف».

وقد علق تلميذه ابن العودي على هذه الكلمات بقول: «وهذا التاريخ كان خاتمة أوقات الأمان والسلامة من الحدثان ثم نزل به ما نزل وسنقف عليه إن شاء الله إلى خاتمة الأجل» الدر المنثور: 2/182-183).

لقد تحولت حياته بعد ذلك إلى حياة أخرى فقد أصبح مطارداً وملاحقاً يعيش في تستر وتخف على مدى تسع سنوات، انتهت بالقبض عليه في مكة المكرمة وبسوقه إلى مدينة اسطنبول، حيث نفذ فيه حكم الطغيان بالإعدام ليتم وضع حد لتجربة نموذجية رائعة مَثَّلها عالم مسلم رفض أن يكون منغلقاً على نفسه ومذهبه وانفتح على مذاهب الأمة وعلمائها.

وهذه هي ثمار منهج التكفير على مر العصور، فساد وازهاق أرواح المؤمنين المخلصين العاملين، إنه المنهج الذي يضع نفسه في خدمة الحاكم حماية لعرشه من اصلاح المصلحين.

التحديات المناهضة لمشروع الوحدة في الأمة:

لم تكن التحديات المواجهة لوحدة الأمة يوماً اكثر مما هي عليه اليوم. كما أنها لم تكن قياساً بالمعطيات الزمنية السائدة أقل مما هي عليه اليوم.

فلطالما كانت سياسة فرق تسد هي الدستور الذي يلجأ إليه الطغاة لتفريق صفوف الناس عبر بث مشاريع الخلاف فيما بينهم واستحضار الوقائع التاريخية كعامل مساعد على ايغار الصدور وايقاظ الضغائن وهذا نهج مستمر إلى يومنا هذا.

والذي يزيد الأمور سوءاً هو وجود هذا الكم الهائل من وسائل الإعلام التي تستعمل الفضاء لبث الحقد والضغينة والاختلاف والتنازع، وهذه الوسائل الفضائية والاذاعات المسموعة والمرئية تحرض على الكراهية والقتل مباشرة وصراحة دون مواربة او تمويه، وهي تتمتع بحماية ورعاية حكومات ودول عربية واسلامية، أوجهات سياسية أواعتقادية، فتؤمن لها مستلزمات استمرارها مادياً ومعنوياً.

ومع تحول الاعلام من ناقل للحدث إلى صناعته بكل ما للكلمة من معنى، صار الاعلام يصنع الحدث ويهيئ له الظروف المناسبة لحدوثه، فلم يعد لدى الاعلام في ظل هذا الواقع أدنى مصداقية، فقد تحول إلى تجارة أو صناعة، في خدمة من يموّل ومن يدفع.

إن ظروف عالمنا الإسلامي من التعقيد بمكان تتشابك فيه خيوط الواقع المحلي الفاسد والمريض، مع خيوط الواقع الاقليمي السيئ، والواقع الدولي المتربص شراً بالإسلام والمسلمين.

وإن أخطر ما في الأمر هو هذا الواقع الإسلامي القابل للفتنة والمتعطش للخلاف والتناحر، لذلك نراه سريع الوقوع في حبائل شياطين الفتن الذين لا يدعون مناسبة إلا ويستغلونها لإيقاع الشر بالمسلمين وقضاياهم.

إننا في ظل انعقاد هذا المؤتمر التكريمي لعلمين من اعلام امتنا خاضا تجربتين قد لا تكونا متشابهتين لكنهما بالتأكيد انطلقا من قاعدة واحدة وانتهيا إلى مصير واحد. فقدما نموذجين للأمة واجيالها.

أقول اننا في ظل هذا المؤتمر وما تواجهه الامة من مؤامرات تهدف إلى انهاء الاسلام من الوجود كقوة حيّة وفاعله وتحويله إلى مجرد ذيل وتابع خاضع، نجد أن من أهم أسباب منعتنا ومن عوامل قوتنا كمسلمين هو هذه الوحدة التي تجمع كلمتنا وتلم شعثنا وتجعلنا قادرين على المواجهة والتحدي لاعداء امتنا. الذين لم يعودوا موجودين خلف الحدود وانما اصبحوا في العواصم وداخل الأوطان. إن على المسلمين أن يتوقفوا عن استحضار السلبيات في تجربة أمتهم وان يستحضروا الايجابيات التي جعلت من هذا الدين الدين الأقوى شعبياً في العالم.

[1](*) عضو مجلس الأمناء في تجمع العلماء المسلمين - لبنان.

الذكوات البيض... جبل عامل... الشهيدان الشاهدان

أ.جابر الجابري (*)

مقدمة

-جدلية الالهام والتخييل والوهم المنتج للكذب المرافق لهما وتحاشي النبي الأعظم والمعصومين من قوله وتجنب وقوعهم في المحذور والتزام علماء مدرسة اهل البيت بآداب وتعاليم المعصومين في اقوالهم وافعالهم واقرارهم جعل اشكالية الشعر قائمة بين الشدّ والجذب.[1]

- امام هذا نجد ان الائمة جميعا تمثلوا باقوال الشعراء واستشهدوا بها، وكرموهم وقربوهم ووعدوهم بالجنة مقابل قصائدهم وابيات شعرهم التي كانت تودي بهم الى القتل والتنكيل والتشريد  والفتك. وعند استعراضنا للقصائد والابيات المنسوبة لائمة أهل البيت، في أغراض النصح والزهد والتقوى والتمسك بالفضائل والسعي الى الخير والمعروف، فإنها لاتكاد تحصى لكثرتها كما ان اكرامهم لشعرائهم وتقريبهم لهم والاشادة بمواقفهم، شجع الشعراء على قول الشعر فيهم وفي مناقبهم وكراماتهم وحبهم والولاء لهم وكشف ما انطووا عليه من الفضائل التي لاتعد ومثالب اعدائهم التي لاتحصى ايضا. ومن هنا دأب علماء الامامية على سيرة أئمتهم الاطهار ومجاراتهم مع الشعراء حتى بلغ بالميرزا حسن الشيرازي ان يذهب الى بيت السيد حيدر الحلي بعد القائه لحوليته ويقبل يده امام الحاضرين ويقدم له مائة روبية. كذلك بلغ بصاحب الجواهر ان يقايض شاعر اهل البيت السيد جعفر الحلي بكل مؤلفاته مقابل قصيدة واحدة قالها بحبهم. وعلى هذا درج كبار الفقهاء والمجتهدين والمجددين، خاصة في مدرسة النجف الاشرف التي شهدت بروز علماء يحملون صفة الشعراء الكبار، وهم يتبارون في المجالس الادبية النجفية ويعقدونها في المناسبات والافراح والمآتم والمراثي، حتى طبعوا المدينة الشاحبة، بالوان بديعهم وجناسهم وطباقهم واستعاراتهم  وتشابيههم التي اعادت المجد الى القصيدة العربية وفحول شعرائها، فكان الحبوبي والشبيبي والشرقي وآل بحر العلوم واليعقوبي وجمال الدين والجواهري، من خريجي مدرسة النجف العلمية التي انست من قبلها واتعبت من بعدها.

وهذه العلامات البارزة لم تخل منها مدرسة جبل عامل التي زخرت هي الاخرى باساطين العلم والمعرفة، احصى  منهم الدكتور ميشال جحا في كتابة الانطولوجي «شعراء لبنانيون رحلوا»، الصادر العام  2010، اكثر من ستة وثلاثين شاعرا منهم المجيدون خلال قرن واحد. حتى اصبحت صبغة الذكاء والفطنة واحدة من اهم الميزات التي جبلت عليها المنطقة، فامتاز سكانها بالذكاء واعتدال القرائح وكثرة النابغين من الشعراء والقواد والامراء. وحسبك في  فضل جبل عامل ان يجتمع في قرية  على جنازة واحدة سبعون مجتهدا - كان ذلك في عهد الشهيد الأول -حتى ان صاحب كتاب امل الامل اعترف بعدم الاستقصاء وقدرة الاحصاء لعلمائها ومبدعيها وشعرائها وادبائها. ولكثرة مؤلفاتهم بقيت افران عكا تشتعل ستة ايام لاحراقها في حادثة الجزار المشؤومة، لذلك قصدها الطلاب والعلماء من العراق وايران حتى بلغ عدد الطلاب في مدرسة المحقق الميسي، اربعمائة طالب، لذلك كانت العداوة الدينية من اعظم البلايا على اهل جبل عامل، حين استحلت دماءهم وقتلت علماءهم، ظلمًا وعدوانًا، مثلما جرى للشهيد الاول محمد بن مكي العاملي الجزيني، الذي قتل في دمشق، في دولة بيدمر وسلطنة برقوق، بعدما حبس سنة كاملة في قلعتها، ثم قتل بالسيف ثم رجم ثم احرق العام 786 هـ. وكذلك جرى للشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي الجبعي اول من صنف من الامامية المتأخرين في دراية الحديث، فلقد قبض عليه في مكة المكرمة وهو في الطواف، بوشاية قاضي صيدا وقتل في طريق القسطنطينية في سلطنة السلطان سليمان الثاني سنة 965 هـ,. وهذا نموذج مما كان يعامل به اجلاء علماء الشيعة في تلك العصور المظلمة.

ومن هذه المقدمة والديباجة اخلص الى القول ان الصناعات اللفظية والعقلية امتاز بها الشيعة دون سواهم من المكونات الاسلامية ولا اقول الطوائف، لان الشيعة ليست طائفة ولا مذهبا، بل هي حركة سياسية اجتماعية طالبت بالحاكم العادل الذي ورد بحقه النص، كما ورد بحق الانبياء في سلسلة النبوات والرسالات، وهذا المطلب اصطدم بمنطق الانقلاب على النص للاستيلاء على الحكم. ولان هذا المنطق لايمتلك من الادلة والنصوص مايمنحه الشرعية، لجأ الى اساليب البطش والفتك والتنكيل والقسوة المفرطة، تدعمه الاحاديث الموضوعة والنصوص المفبركة.

واسجل هنا ان الشيعة في المنظومة الاسلامية تحولوا الى أقلية بسبب عزوفهم عن الحكم وانفراد خصومهم به، وما تعرضوا له من صنوف الملاحقة والتنكيل والابادة الجماعية على يد الحاكمين والطغاة  والجلادين الذي تناوبوا على سدة الحكم. كذلك اغتنم  الفرصة  الان لأسجل تحفظي على المنهجية التي انتجت الفكر السياسي الشيعي، فجعلتهم دوما ضحية الاصطدام بالاقوياء في عز سطوتهم ونفوذهم وبطشهم وغرورهم. ولا ادري لماذا جعلت الشيعة نفسها قيّمة ووصية على القضايا الكبرى للامة، في وقت لم تنل من هذه الامة الا الهوان و الاذلال والعزل والتهميش والاقصاء، فيما يقع عليها النضال والجهاد وتحرير المقدسات وحفظ الثغور والتضحية بالدم والمال والعرض دون سواها، لتحمي حياض الامة وبيضة الاسلام وحدها. كل ذلك جعلها تستعيض عن سلطة الحكم بسلطة العقل والحكمة والعلم، وبرعت في هذه الحقول وابدعت، وتخرج الكبار من رموزها وقادتها من هذه المدارس العقلية واللفظية والكلامية، فبرز الفقهاء والعلماء والفلاسفة والعباقرة والشعراء، وانسحبت القوة الظاهرة لصالح القوة الباطنة، التي عبرت عن مكنوناتها باروع نصوص البديع والبلاغة والبيان، حتى اكتملت السلسلة الذهبية من الأدباء الشعراء الذين شهد لهم القاصي والداني. 

شعر الشهيدين

بما ا ن الشعر هو  سيد الكلام، فقد استعمله كبار رجال الطبقات من اهل الراي، ونظمه الافاضل من علماء وبلغاء وفصحاء. ولعل حث اهل البيت (ان من قال فينا بيتا من الشعر بنى الله له بيتا في الجنة)، كان معيارًا لابراز حقهم والانحياز لنهجهم والتعريف بمقامهم ورسالتهم الانسانية التي تنافض الجور والظلم والاستئثار بالفيء، وهذا وحده يمثل ثورة كبرى في القيم والادب والمبادئ السامية، التي نادوا بها وعملو لاجلها واستشهدوا دونها. فكان لابد لسيد الكلام (الشعر) ان يوثق لحركتهم ويفجر براكين الغضب ضد قتلتهم ومنتهكي حرماتهم والمتجاوزين على حدودهم. وهذا ما اضطلع به جميع الشعراء الافذاذ الذين تحدوا بشعرهم، حتى داخل البلاطات الحاكمة. اما العلماء الكبار الذين امتازوا بقاماتهم العلمية، فإنهم لم يزهدوا بقول الشعر ونظمه، خاصة في ما يتعلق بمكانة وقدسية الرسول الاكرم واهل بيته، والتذكير بحال الدنيا، ونهاياتها المفجعة لكل الخيرين والافذاذ والعلماء في المسيرة البشرية. وهذا ما نلحظه في سيرة الشهيدين العظيمين، الأول والثاني، من كبار علماء الأمة، اللذيْن لقيا حتفيهما على يد الحاكمين، وبوشاية وضيعة من النكرات والهوام البشرية، التي تفتك بالأكابر والأعاظم نتيجة لشعورها بالصغار والضعة والدونية. فما وردنا عن الشهيد الاول، اراد ان يوصل رسالته الاحتجاجية بأرقّ ما يملك من الوسائل المتاحة لحاكم وجد من البطش سلوكا يوميا ومن حواشي السوء بطانة تلائم نوازعه ودوافعه الشريرة تجاه رعيته، من دون النظر الى دلالاتهم ومكانتهم وقيمهم التاريخية. يعامل الجميع على اساس الخضوع لسلطانه. كلهم رعية له، واعناقهم ممدودة لسيفه، يقطعها متى يشاء. يقسم الناس الى طبقات ثلاث: طبقة تأكل وهي الحاشية والبلاط والاعوان. وطبقة تؤكل وهي الخارجة عن سلطانه او المتمردة عليه، او التي لا تقدم فروض الطاعة والولاء. اما الطبقة الثالثة فهي التي تقدم المأكول الى الأكل، وهذه اوسع الطبقات واكثرها عددا، وقد تكون متطوعة ومسارعة لكسب رضا السلطان والتزلف له، حيثما مالت بها الريح السلطانية، تميل من اقصى اليمين الى اقصى الشمال، وهذا ما اوقع الكبار في مصائدهم، لانهم يبحثون عن الفرائس وينهشون كل اللحوم. تعودوا على السعار والافتراس، وأنوفهم تلهث وراء رائحة الدم وهذا ما دعا الشهيد الاول الى ان يقسم للملك بيدمر: 

 والله والله ايمانا مؤكدة

اني بريء من الافك الذي ذكروا

لاتسمعن فيّ اقوال الوشاة فقد

باؤوا بوزر وافك ليس ينحصر

الفقه والنحو والتفسير يعرفني

ثم الاصولان والقرآن والاثر

 مالذي يدعو حاكما الى قطع عنق يحمل هذا الرأس الذي يحمل الأثر والقران والاصول والفقه والنحو؟ هل انها الوشاية وحدها ام الصغار الذي تعاني منه السلطة ورجالها امام العلماء؟ ثم لماذا يصرّ رجال السيف ان يمتثل رجال القلم، دوما، لجهلهم وتخلفهم وعنتهم ونزقهم وغرورهم وطيشهم، انه الملك العقيم الاعمى الذي يضرب ذات اليمين وذات اليسار فلا يفرق بين اخ وابن ورفيق وجار وزميل اذا نازع الملك على عرشه وسيفه: 

لا أستغيث من الضراء يعلم ذا

ربي واستاذ  دار ظل يدّكر

لانني واله العرش مفتقر

الى نقير وقطمير له خطر

كل هذه الرقة في المفردات والكلمات، لم تشفع لدى سيف الملك ولم تردعه، لان السيف لايعرف الا لغة السيف، والعلم مهما علا مقامه لايحميه الا سيف الى جانبه، وما يؤخذ بالقوة لايسترجع الا بالقوة. ولكن الشهادة بذاتها قد تتحول على مر الزمن الى سيف فتقطع رؤوس القتلة. فقد مضى الملك بيدمر صغيرا، تلاحقه اللعنة وبقي محمد بن مكي العاملي - الشهيد الاول – كوكبا دريا، يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار.

القصة ذاتها تتكرر مع علم من اعلام التاريخ ادبا وعلما وفقها، ذكره المصنفون، فقالوا: كان بحر الفضل وجيد علم كثير التصنيف وكثير الترحال عظيم الحفظ والضبط، مشهور الفضل بعيد الصيت اديبا فاضلا هو الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن احمد العاملي الجبعي.

هذا العلم الفارع، تحول ايضا الى ضحية من ضحايا التحجر والتخلف والجهل. لاحقته الطائفية تحت كل حجر ومدر، بقدر ما تناولته الالسن وذاع صيته في كل فج عميق. لعله كسالفه الشهيد الاول ابى الا تكون عناصر الاشتراك كاملة بينهما حتى في صياغة الكلمة وعملية بنائها، فوجد من الشعر ضالة وملاذا روحيا ووجدانيا لاتسع حقول العلم والمعرفة والفلسفة لما يتسع له الشعر لانه يطلق العنان للخيال الجامح الواسع ولان العبارات يأسرها المشهد العظيم وتخرس الالسن امام هوله وروعته وفرادته. ينطلق جموح الشعر في مضمار الحروف الشاسعة، وتقف هي امام سيد الكائنات محمد بن عبد الله عاجزة الا عن التأتأة بالقصيدة:

صلاة وتسليم على اشرف الورى

ومن فضله ينبو عن الحد والحصر

ومن قد رقى السبع الطباق بنعله

وعوضه الله البراق عن المهر

وخاطبه الله العلي بحبه

شفاها ولم يحصل لعبد ولاحرّ

سعيت اليه عاجلا سعي عاجز

بعبء ذنوب جمة اثقلت ظهري

ولكن ريح الشوق حرك همتي

وروح الرجا مع ضعف نفسي ومع فقري

لسنا في وارد تحليل النص او مناقشة شعريته بمعايير النقد المتداولة، ولكننا نصل الى نتيجة حتمية في تحليل سيرته الذاتية وتعريفه من جانب الباحثين والضالعين بعلم الرجال، حين يشهدون انه بحر علم لكنه لايكتمل الاحين تلتصق به بحور الشعر

الخاتمة

ومن هنا جاءت التعرفة النجفية لبضاعة الشعر وصناعته حين اطلقت عليه (بانه كمال الناقص ونقص الكامل). لكن هذا التعريف الحوزوي للشعر، لم تحل دون ارتكابه من جانب فطاحل العلماء في المدرستين النجفية والعاملية. فقد التقت هاتان الحوزتان والمدرستان على ادوات ونقاط مشتركة كثيرة جاء في مقدمتها اداة الشعر. ولا يمكن لدارس او طالب علم الا ان يمر بابن مالك يغترف من ألفيته ويحفظ قسطا منها عن ظهر قلب، او انه يلتهم الشواهد الشعرية في شرح ابن عقيل، او ياخذ من نهج البلاغة استشهادات سيد البلغاء والعظماء باشعار من سبقه من الشعراء والاستعانة بنصوصهم، حتى يكتمل البريق في ألنص العلوي. كذلك فإن رواد المنبر الحسيني لا يحسنون افتتاح منابرهم بغير القصيد الكربلائي والختم به، لانهم وجدوا الحسين ذاته في معركة الطف يرتجز بالشعر المضيء بالدم العاشورائي، ثم يستشهد بابيات الشاعر ابن فروة المسكي:

  فان نهزم فهزامون قدما

وان نغلب فغير مغلبينا

وما ان طبنا جبن ولكن 

منايانا ودولة اخرينا

فلو خلد الملوك اذا خلدنا

ولو بقي الكرام اذابقينا

اذا ما الموت رفع عن اناس

بكلكله اناخ بأخرينا

فقل للشامتين بنا افيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

من كل هذا وذاك، نبغت المدرستان العاملية والنجفية بكل حقول المعرفة والعلم والفكر، ولكنهما لم تستغنيا، عن معين الشعر، لانه يمثل الماء الذي يبعث الحياة، }وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ{.

المصادر:

موقع الشهيد الأول في تطور الفقه السياسي الشيعي

د. علي فياض (*)

لقد اختلف الباحثون والفقهاء في فهم موقف الشهيد الأول من الولاية العامة للفقيه في حين يذهب العديد منهم إلى القول بان الشهيد الأول من الذين يقولون بالولاية العامة, مثل الشيخ اذري قمي (في كتابه ولاية الفقيه عند فقهاء الإسلام) ومحسن الاراكي (في كتابه نظرية الحكم في الإسلام) بالإضافة إلى العديد من الباحثين الآخرين.[1]

وقد استدل هؤلاء على قول الشهيد الأول بالنيابة المطلقة, باستخدامه للتعبير عن الفقيه بالنائب العام عن الإمام المعصوم, كما استدل بعض هؤلاء بنظرة الشهيد الأول إلى القضاء بوصفه من صلاحيات الفقيه, حيث عرَّفه بأنه «ولاية شرعية على الحكم في المصالح العامة», ولما كان الفقيه من وجهة نظره منصوبا للقضاء, لا بد من أن يكون له ولاية ما على ميدان المصالح العامة, وبما أن إدارة البلاد وتدبير أمور الدولة من المصالح العامة, أذاً لا بد من أن تكون مثل هذه الأمور داخلة ضمن نطاق ولاية الفقيه (من بحث الشيخ محمد سروش محلاتي): النظرية العامة لفقه الغيبة عند الشهيد الأول, ص 19, المنهاج - العدد الثاني والستون - صيف 1432 هـ - 2011 م) وهو يقصد في هذا الاستدلال ما ذهب إليه الشيخ مالك مصطفى وهبي العاملي في كتابه (اتفاق الكلمة بين علماء الأمة على ولاية الفقيه العامة, ص 122).

ويبقى أقوى الاستدلالات لأصحاب هذا الرأي هو رأي الشهيد الأول في إقامة صلاة الجمعة, حيث يرى أن إقامتها من شؤون الفقيه وصلاحياته في عصر الغيبة, ولكن يستند في هذه الفتوى إلى دليل النيابة عن الإمام في جميع مهامه وصلاحياته.

أما الذين أنكروا القول بان الشهيد الأول يقول بالولاية العامة للفقيه, فقد استدلوا بدلائل ومؤشرات عدة يستعرضها الشيخ محمد سروش محلاتي في بحثه حول النظرية العامة لفقه الغيبة عند الشهيد الأول» (مصدر سابق), ويمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:

في معالجته لبحث الزكاة في اللمعة الدمشقية, حيث يقول: «ويجب دفعها إلى الإمام مع الطلب بنفسه أو بساعيه، قيل: والفقيه في الغيبة (اللمعة الدمشقية ص 54) واعتبرت عبارة» قيل تفيد عدم التبني أو التضعيف في أحسن الأحوال, علما انه ينبغي أن يكون الدفع إلى الفقيه في حال المطالبة, من الأمور المسلمة عند من يقول بالولاية العامة أو المطلقة.

في رؤيته إلى استحباب دفع الزكاة إلى الفقيه ولو لم يطالب بها, والأمر عينه يصدق في حالة المعصوم, إلا انه لا يبرر الفتوى باستحباب الدفع إلى الفقيه بدليل النيابة, بل يستند في تبريره لذلك الرأي إلى خبرة الفقيه وحسن تشخيصه لمصارف الزكاة, حيث يقول: «الدفع إلى الإمام Q أو الفقيه فهو أفضل عندنا... لمعرفته (أي الفقيه) بمصرفها». (في كتابه: البيان, ص 323).

استنادا إلى رأي الشهيد الأول في الأدلة على إقامة الفقهاء لصلاة الجمعة على دليلين آخرين:

إن الشهيد الأول يستخدم مفهوم «النائب العام» في مقابل «النائب الخاص», إذ ثمة فرق بين النيابة العامة وعموم النيابة. وهذا الخلط يقع فيه من يقول بان الشهيد الأول ذهب للقول بالنيابة العامة المطلقة, في حين أن نيابة الفقيه هي نيابة عامة عن الإمام المعصوم لكنها تقف عند ما دلَّ الدليل على عدم شمولها له.

يلاحظ عند الشهيد الأول اختلاف في المورد وتردد فيما يتصل بنيابة الفقيه عن الإمام المعصوم. فلا يطلق صلاحياته ولا يفرض على المكلفين استئذانه في كل ما يتصل بالمسائل ذات الطابع السياسي والاجتماعي. فهو إذ يرى أن القضاء والحدود من الأمور التي تدخل في صلاحيات الإمام بالدرجة الأولى وبعده في دائرة صلاحيات نائبه, لكنه في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقيَّد يد الفقيه, عندما يصل الأمر إلى الجرح والقتل, ويرهن القيام بذلك بإذن الإمام, ولا يرى كفاية إذن النائب العام, «أي الفقيه» فيقول: «أما الجرح والقتل فالأقرب تفويضهما إلى الإمام... والحدود والتعزيرات إلى الإمام ونائبه ولو عموماً فيجوز حال الغيبة» (الدروس ج 2, ص 47) وقيل انه في بعض كتبه الأخرى ذهب غير هذا المذهب. لكن في السياق نفسه هو يعلَّق جواز مواجهة الظالمين إذا ترتب عليها خطر على إذن الإمام دون أن يعطفها على إذن نائبه, مما يستفاد منه المنع في زمن الغيبة فهو يقول: «لو أدى الإنكار إلى قتل المنكر, حرم ارتكابه..»..

إن قوله «إن القضاء ولاية على المصالح العامة», يقصد به إن ولاية القاضي لا تنحصر في حل النزاعات والنظر في الدعاوى بل هو يتوسع في القضاء بحيث يطال السلطة على أموال الأيتام أو الحكم بثبوت الهلال وغير ذلك. وقد حدد في كتابه القواعد, (القواعد والفوائد ج 1 ص 405) بشكل كامل الموارد التي يرى تصرف الفقيه فيها وسردها دون أن يذكر بينها بعض التصرفات التي تقع خارج دائرة القضاء، كبعض التدبيرات الاقتصادية أو الاجتماعية التي هي من مقتضيات الولاية المطلقة ولوازمها التي يصعب أن تنفك عنها.

ليس الشهيد الأول هو أول من استخدم مصطلح «نائب الإمام» بل هو تعبير متداول في الفقه الامامي قبله, عند العلامة الحلي في «نهاية الأحكام», وعند ابن إدريس الحلي في «السرائر» وعند أبي الصلاح الحلبي في الكافي, وربما غيرهم.

في بعض أحكام الفقه السياسي ذات الدلالة:

يقول الشهيد الأول في إحدى أكثر فتاويه الفاتا للنظر: «يجوز عزل الحاكم مع كراهية الرعية وانقيادهم إلى غيره, وان لم يكن أكمل إذا كان أهلاً, لان نصبه لمصلحتهم فكلما كان الصلاح أتم كان أولى» (القواعد والفوائد ج 1, ص 406).

ويرى الشيخ محمد سروش محلاتي إن الفتوى تعالج حالة عزل الحاكم الذي عينه الإمام, حيث يمكن ذلك في بعض الحالات منها توفر من هو أكثر كفاءة منه للقيام بالدور المنوط به, ومنها حالة ما لو مال الناس إلى غيره ورغبوا عنه في إدارة أمورهم. ففي مثل هذه الحالات يصبح من يرغب به الناس أولى بالولاية عليهم, حتى ولو كان المنصوب افقه واجمع للشرائط, وذلك لان الهدف من الإمامة هو المصالح العامة, وبالتالي ينبغي مراعاة ما من شانه الحفاظ على هذه المصالح.

(محلاتي, المصدر نفسه ص 7).

قد تكون هذه الفتوى غير مسبوقة في الفقه السياسي الشيعي, وهي تشكل مدخلاً إلى اعتبار المشروعية الشعبية بوصفها تمكينا ورضا, وبوصفها من شروط الصلاح في تأدية الحاكمية لدورها, احد مرتكزات أو شروط تبوؤ الحاكم لحاكمتيه. ولا يخفى أن دور الشعب ودخالته في إنشاء سلطة الحاكم هي من الأبحاث المتأخرة في الفقه السياسي الشيعي, التي لا نقع على اثر لها قبل الميرزا النائيني في كتابه «تنبيه الأمة وتنزيه الملة», وكان النقاش قبل ذلك في الشورى ومواردها وشروط انعقادها وبمن تنعقد, لكن مع تطور الفقه السياسي الشيعي منذ منتصف القرن الماضي مع ولادة الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية. ومن ثم على نحو اخص بعد ولادة الجمهورية الإسلامية أُخذ مبحث الشورى إلى الدلالة المباشرة حول دور الشعب في إنشاء المشروعية السياسية.

يُقر الشهيد الأول بنفوذ المعاهدات التي يعقدها سلاطين الجور (من أهل الشوكة) مع أهل الكتاب, ويرى ضرورة وجودها واحترامها فيقول: «وفي زمن الغيبة يجب إقرارهم (أي نصارى تغلب مع أنهم تنصَّروا في الإسلام) على ما اقرهم عليه ذو الشوكة من المسلمين كغيرهم» (الدروس ج 2. ص 35). وفيها دلالة على اتجاه واقعي في الفقه السياسي على قاعدة التعايش مع السلطة الجائرة, ويعد هذا امتدادا لتفكير القرنين الرابع والخامس الهجري,على نحو كلي.

موقع الشهيد الأول
في تطور الفقه السياسي الشيعي:

لقد أشرنا إلى اختلاف الرأي في فهم رؤية الشهيد الأول إلى الولاية العامة للفقيه, إذ رأى فيه عدد من العلماء والباحثين قوله بالولاية العامة والمطلقة, بل منهم من ذهب إلى اعتباره أول من قال بها فعلًا بوضوح يتجاوز سابقيه, على غرار ما فعل فؤاد إبراهيم في كتابه «الفقيه والدولة», وعلى غرار ما ذهب إليه كاتب هذه السطور (في كتابه: نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي ص129) وعلى غرار ما يذهب إليه كذلك الشيخ جعفر المهاجر (في كتابه: الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي/ أسبابها التاريخية ونتائجها الثقافية والسياسية ص 124-125) عندما ذهب إلى أن أفكار زين الدين بن عبد العال الكركي المعروف بالمحقق الكركي (870-940 هـ) في الولاية العامة هي أفكار الشهيد الأول من قبل، بالإضافة إلى ما دخل عليها من تطوير, بالإضافة إلى رأي الشيخ مالك مصطفى وهبي في كتابه الذي اشرنا إليه من قبل فضلا عن رأي عدد أخر من الباحثين.

وفي الواقع, إن الاختلاف في الرأي في فهم رأي الفقهاء في الولاية العامة, لا يقتصر على الشهيد الأول, إنما يتعداه إلى من سبقه ولحق به من الفقهاء, فقد خضع إنتاج فقهاء القرنين الرابع والخامس للهجرة إلى قراءات شتى متناقضة, وكذا الأمر في حالة المتأخرين, حتى الكركي نفسه خضع لمثل هذا التفاوت في فهم موقفه الفقهي. علما أن تجربته العلمية مع السلطة الصفوية كانت الأكثر وضوحا. وهذا ما يفهم من معالجة باحثين عديدين لفقهه, بينهم «محسن كريقر» الذي يشير إلى انه ليس من الثابت أن الكركي «كان يعني تأسيس الفقهاء للحكومة الإسلامية بأنفسهم».

(كتابه: نظريات الحكم في الفقه الشيعي ص 22).

وتبقى رؤية الشيخ محمد حسن النجفي (1200- 1266 هـ) هي الأكثر دلالة في فهم هذا الالتباس والتفاوت, في كتابه» جواهر الكلام». حيث يطلق أقوى التعبير دلالة على الولاية العامة للفقيه إلا انه يعطف بها باتجاه نظم زمان الشيعة وليس إقامة السلطة والدولة, فهو يقول» لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة, فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك, بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئا, ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمرا, ولا تأمل المراد من قولهم, إني جعلته عليكم حاكما وحجة وخليفة, ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم, لذا اجزم فيما سمعته من المراسم, بتفويضه R لهم في ذلك, فهم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها, كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأمراء ونحو ذلك, مما يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك ونحوه, وإلا لظهرت دولة الحق (أي دولة الإمام المهدي |) (كتابه: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام.دار إحياء التراث العربي,بيروت 1981712293-294).

أما الميرزا» محمد حسين النائيني (1857-1936 م) صاحب كتاب» تنبيه الأمة وتنزيه الملة» فقد أدرجه الإمام الخميني كواحد من المتأخرين الذين يقولون بولاية الفقيه العامة استنادا إلى مقبولة عمر بن حنظله, وذلك في كتابه (أي الإمام الخميني) (الحكومة الإسلامية, منشورات مركز بقية الله الأعظم, بيروت 1418هـ, 1998 م, ص 159). بينما يذهب باحثون آخرون إلى معالجة أراء أخرى للنائيني, يستشف منها عدم قوله أو عدوله عن القول بالولاية العامة, كما في كتابه «منية الطالب» عندما قال «انه لا إشكال في ثبوت منصب القضاء والإفتاء للفقيه في عصر الغيبة, وإنما الإشكال في ثبوت الولاية العامة» (نقلا عن كتاب فؤاد إبراهيم: الفقيه والدولة, مصدر سابق ص 241) وكذا الأمر في تعليق «المدني التبريزي» على موقف النائيني من الولاية العامة للفقيه, بالعودة إلى ما يقوله في مقرره في تعليقه على المكاسب, حيث يحكم بعدم قوله بالولاية العامة (أية الله يوسف المدني التبريزي: الإرشاد إلى ولاية الفقيه, المطبعة العلمية قم,1406هـ, لا ط, ص 148-149).

في الحقيقة, ربما يبقى النص الفقهي عرضة للتأويل والاختلاف في الفهم, في مرحلة ما قبل «احمد النواقي» صاحب «عوائد الايام» الذي توفي في 1245 هـ, اذ معه ستتجلى النيابة العامة للفقيه بوصفه نائبا عن الامام المعصوم ومفوضا من قبله فيما يفهم من الولاية المطلقة, على صورة نظرية متكاملة لا لبس فيها.

في حين ان موقع الشهيد الاول يطرح فعلا الحاجة الى مقاربة نصوصه الفقهية كافة, بهدف فهم نسقه الفقهي وعدم الاكتفاء بموقف فقهي مُحدد, قد يبدو متعارضا من الناحية المنهجية مع نصوص فقهية اخرى صدرت عنه.

لكن في مطلق الاحوال يشكل موقعه في الفقه السياسي, مرتبة وسطى وانتقالية بين مرحلة ما قبله وما بعده, فهو قد عاش في القرن الثامن الهجري, وقد اتسعت نصوص الفقه السياسي قبله, مع الشيخ المفيد (338-413) من فقهاء القرنين الرابع والخامس الهجري بجواز «التأمر على الناس من اهل الحق بتمكين ظالم له وكان أميرا من قبله في ظاهر الحال, فانما هو امير في الحقيقة من قبل صاحب الامر الذي سوَّغه ذلك واذن له فيه دون المتغلب من أهل الضلال..».

(سلسلة الشيخ المفيد, دار المفيد, بيروت 1993 م, ط2, ص 81) ولا يبعد الشريف المرتضى (355-435 هـ) عن ذلك, في اعتباره» إنما الكلام في الولاية من قبل المتغلب, وهي على ضروب واجب, وربما تجاوز الوجوب الى الالجاء, ومباح, وقبيح ومحظور..». (رسائل الشريف المرتضى, اعداد السيد مهدي رجائي, دار القران الكريم, مدرسة آية الله العظمى الكلبيكاني, قم 1985م, المجموعة الثانية, ص 89-97) أما محمد بن الحسن الطوسي (385-460هـ) المعروف بشيخ الطائفة, فقد أجاز للفقهاء الولاية «بحكم تفويضهم من قبل الائمة... فمن تمكن من إنفاذ حكم أو اصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين, فليفعل ذلك... ما لم يخف على نفسه, ولا على احد من اهل الايمان ويأمن الضرر فيه, فإذا خاف شيئا من ذلك لم يجز له التعرض لذلك على حال..». (المبسوط في فقه الامامية, المكتبة المرتضوية, المطبعة الحيدرية, طهران 1387هـ لا ط ص283-284).

في الواقع ان النصوص الفقهية المشار إليها أعلاه, إنما لا يخفى نزوعها الى النص على صلاحيات سياسية تتصل بالإمرة للفقيه, لكنها كانت تترك على الدوام في إطار الولاية الحسبية, أي بما لا يجوز إهماله, أو في حال التمكين من قبل المتغلب, وفي كل الأحوال مع الأمن من الضرر. كذلك كان ثمة تنازعا يعاني منه النص الفقهي بين عقل الواقع وعقل الفقه,فعقل الواقع كان يصرف عن تصور إمكانية إقامة سلطة شرعية عادلة مفوّضة من قبل صاحب الامر, وعقل الفقه كان يدفع باتجاه العمل على تنظيم شؤون الشيعة بما فيها من جوانب سياسية واجتماعية شتى... وبالتالي يمكن فهم موقع الشهيد الاول محمد بن مكي الجزيني, بأنه الواسطة فقهيا للانتقال الى مرحلة بدء النص الفقهي السياسي متحررا من أثقال عقل الواقع الذي يُعبر عنه اضطهاد السلطة كما برز مع الكركي, كان ثمة نقلة نوعية حصلت مع الشهيد الاول ربما دفعت للقول من قبل البعض بأنه أول من قال بولاية الفقيه, علما ان من أشكل على هذا القول هو محق بدوره, لان الشق الفقهي السياسي عنده لم يكن متسقا ومنسجما, وإنما انطوى على ما يفيد الاحتمالين والوجهتين, لكن ثمة تطور لا يمكن إنكاره في المسار الفقهي السياسي لديه في تطوير الدور السياسي للفقيه في المنظومة الشيعية, رغم بؤس الواقع السياسي الذي كان يحيط بعصره وشدة الاضطهاد الديني في بلاد الشام.

[1](*) أستاذ جامعي ونائب في البرلمان اللبناني.

التنظير الأخلاقي عند الشهيد الثاني زين الدين العاملي الجبعي (965- 911هـ)

د. محمود شاكر عبود الخفاجي (*)

تمهيد

تتناوب مسيرة التَّاريخ الحضاريّ للإنسانيَّة بين الرقيِّ والانحطاط, وتتفاوت فترات الرقيّ والانحطاط زمنيّاً، وتختلف مفاهيم الرقيِّ والانحطاط باختلاف فلسفات مجتمعاتها وانتماءاتهم, ولكنَّها تتَّفق على أنَّ العلم والعمل هما الركيزتان الأهمّ لأسباب الرقيّ ونقيضتهما ركيزة الانحطاط. وان اختلفت تلك الآراء في صغريات مصاديق العلم أو العمل.[1]

وتُقاس مَدَيَات الرقيّ في تعدّد العلوم, ووفرة المعاهد والمؤسَّسات العلميَّة والبحثيَّة وحريَّة البحث. وتتَّبِعُ العلوم والمعاهد في رقيِّها, إبداع العلماء وأفكار الباحثين ونتاجاتهم ونشاطاتهم العلميّة. وأنَّ نتاجات السابقين تعد أصولا ومصادر للاحقين وعند ذلك يتناغم التاريخ مع الحاضر ويرتبط الإبداع مع الأصالة ويبقى الفكر حياً لا يموت. ومن الوفاء للعلم والعلماء تخليد ذكراهم, وإحياء تراثهم, وتتبّع مسيرتهم ليكونوا هدىً للأجيال وأسوة حسنة سهلة المنال.

وتاريخ الإسلام الثقافيِّ والعلميِّ مليء بأولئك. بحيث لا يكاد يخلو كلّ قرن من قرونه التي سلفت من علماء ومفكِّرين ومبدعين ومجدِّدين, أوصلوا الحضارة الإنسانيَّة إلى أرقى عصورها حتَّى في أحرج ظروف الكبت والحرمان والقهر والتسلّط والتنكيل, وخصوصاً ما وقع منها على فكر أئمّة أهل البيتR والسائرين على نهجهم.

والشهيد الثاني واحد من أولئك الذين مضوا ضحيَّة ذلك. وهو الشيخ زين الدين بن الشيخ نور الدين علي بن احمد بن محمـد بن جمال الـدين الشيـخ تقـي الديـن بن صـالح بن مشرف الطلوسي[2] الشامي العاملـي الجبـعي[3] المولود في 13 شوال سنة 911 هجرية[4] شهرته (ابن حجة) أو (إبن الحاجة). قضى عمره بين العلم والعبادة والعمل. فدرس وطالع, وصنف وراجع, وقضى ليله في العبادة والخشوع والتذلل والدعاء, وعمل بيده في تدبير أحوال معيشته. ارتحل هنا وهناك, وقرأ على هذا وذاك, حتَّى اجتمـعت عنده العلوم وأصبح ملاذ العاملين, وموئل الطلاب والدَّارسين، وتعددت مواهبه. حتّى انتهى إليه الأدب بجميع فنونه. ودار قطب الفقه حوله حتى أصبح فلك شموسه. سبر أغوار الأصول حتَّى عُدَّ من أقطابه, وله عصا السبق في الحديث وعلومه فأبدع في المعقول والمنقول وقيل إنَّه أوَّل من صنَّف من الإماميّة في دراية الحديث، لكنه نقل الإصطلاحات من كتب العامة[5]. وتدبَّـر القـرآن الكـريــم وتفـكَّـر في آياتـه فأطنـب في الوجيز, وأوضـح منـه الغـريب والعـزيـز. ومن أمَّهـات العلـوم هـذه عـرف الهيئة والحساب والعلوم الصعاب, حتَّى طرق فيها كلَّ باب. فكان موسوعيّاً بحقّ. وكان الشيخ زين الدين موضوعيّاً متجرِّداً من كلِّ هوى. فقد أصَّل للفقه فأبدع, ونظّر للأخلاق فأجاد. وقد درس فوعى, ودّرس فافهم. فتعدَّدت مداركه, وتنوَّعت مسالكه.

استند إلى العقل والنقل, وألَّف بين المختلف والمؤتلِف. نسَّق ونمَّق, وحقَّق وعلَّق، رتَّب وبـوَّب, واختصر وأطنب، فليس في إطالته مللٌ, ولا في اختصاره خللٌ. صاغ اللفظ فأصاب المعنى, وتحرَّى الدليل وبحث في المبنى. يُطلق فيصيب, ويقيِّد بلا عيب, حتَّى أصبح منارا للعلم, ومنهجيَّةً للبحث والتنقيب. ابتغى حضارة الحوار, ونظّر للحوار الحضاريّ؛ فدرس لغة الاختلاف وأسبابه، وشخَّص داء التفرقة, ووصف دواء التقارب. لذلك قرأ على الموافقين والمخالفين واستجازهم. دّرس الأفكار والرؤى والتشريعات على مختلف المذاهب وأجازهم.

منفردات الشهيد

ومن تفرَّد إبداعات حياته تلك الروح العلميَّة الوثَّابة الباحثة عن الحقيقة بموضوعيَّة متجرِّدةً عن كلِّ إنتماء.. فقد كسَر حواجز المذهبيَّة الضيَّقة، والطائفيَّة المحدودة، وانطلق في آفاق البحث والتنقيب لبحث سبل الإلتقاء وتقريب هوّة الإفتراق؛ فكان كثير الرحلات، واسع الآفاق، نبذ الفرقة، وتجاوز حدود الاختلافات. فدرس الفقه المقارن، ووازن بين النتيجة والدليل، وأجازه المخالفون لمذهبه برواية مصادرهم، إذ لا تمنح الإجازات وقتذاك اعتباطاً, وإنَّما يُنظر إلى المستوى العلميّ والأخلاقيّ والأدبيّ الذي يُعدّ عند المانحين لها الميزان لكلِّ الحقول والاختصاصات العلميَّة.

واجتهد في فقههم فكان شافعياً بين الشافعيَّة، ومالكياً مع المالكيّة، وغيره مع غيرهم. ليدلِّل على وحدة العلم، وسموّ الهدف، وسلامة النوايا، والإخلاص في العلم والعمل.

وأثبت إن تباين النتائج نتيجة حتمية لتنوع الفكر عند البشر تبعا لتنوع إنتمائاتهم.

فقد بدأ بفطرة لا تنتمي إلا لما فطرها الله عليه. وعاش مستوعبا لهذه الفطرة، وسار منقبا عن الإعتصام بحبل الله، مطبقا لوحدة الأصل والمنبع، داعيا إلى وحدة المصير والمآل.

ولذلك دعا إلى العلم والعمل به، ولكنه ميَز بين العلماء ودعاة العلم، وبين طلاب الحقيقة والباحثين عن غيرها.

فوضع نظرياته للعلم وسموه، وحذَر من إذلالــه وبـذلـه في غير أهله.ونظَّر للمعلم مهام عمله، وألقى على عاتقه أثقـل الأمانات. ورسم لطالب العلم طريقا عبده بالــورود وحذره من أشواكها. ولم يترك حلقات الدرس، فأعطاها قداسة لاترقى إليها قداسة.ليصون العلم والعلماء وطلابه. فقد اكتسب علما, وعمل بما علم وذهب ضحية لعلمه وعمله. قتله جمود الافكار المتحجرة, وبغى عليه الذين لا يرون الاعتصام بحبل الله, بعد ان ابى الا أن يكون كذلك.فصدق ما عاهد الله عليه, وانتظر حتى قضى نحبه شهيدا في عام 965 او 966 هجرية

وقد«كان لابواب الخيرات مفتاحا, وفي ظلمة عمى الامة مصباحا, منه تعلم الكرم كل كريم, وبه استسقى من الجهالة كل سقيم, واقتفى اثره في الاستقامة كل مستقيم. لم تأخذه في الله لومة لائم, ولم تثن عزمه عن المجاهدة في تحصيل العلوم الصوارم, اخلص لله اعماله، فأثرت في القلوب اقواله»[6] اما صفاته الجسدية فقد «كان ربعة من الرجال في القامة معتدل الهامة, وفي اخر امره كان الى السمن اميل, بوجه صبيح مدور, وشعر سبط الى الشقرة ما هو, مع سواد العينين والحاجبين, وكان له خال على خديه واخر على جبينه. وبياض اللون ولطافة الجسم, عبل الذراعين والساقين, كأن اصابع يديه اقلام فضة إذا نظر الناظر في وجهه وسمع لفظه العذب لم تسمح له نفسه بمفارقته وتسلى عن كل شيء بمخاطبته. تملي العيون من مهابته وتبتهج القلـوب لجـلا لـته وأيم الله أنه فوق ما وصفت، وقـد إشتمـل على خصال حميدة أكثر مما ذكرت»[7]

وما احتوى من مواهب وما اكتسب من علوم وما ترك من اثار يتعب الباحثين عنه وعن جهوده وافكاره, ولا يمكن لقاعدة تقديم الاهم على المهم ان تهديهم. لصعوبة التفريق بين مؤلفاته واثاره. وقد دعتني الى الخوض في مضمار الاخلاق عنده, حاجة الاجيال المتعاقبة الى اسس تربوية واخلاقية توضح رؤية العقائد الدينية عموما, والعقيدة الاسلامية, بوجه اخص انطلاقا من التوحيد.

فقد قال تعالى: }أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ{[8]

وقال عز من قائل }اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ{[9]

وتزيل الغموض والعتمة عن الحكمة الالهية في العبادات التي فرضتها.انطلاقا من

قوله تعالى: }إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ {[10]

التنظير الاخلاقي عند الشهيد الثاني:

لم يكن دور الاخلاق والتربية في الشريعة الاسلامية دورا ثانويا, اعتمد التوجيه والتوصيات – كما في التشريعات الوضعية الاخرى – بل كان اساسا ابتنت عليه الشريعة بدءا من عقيدتها بالتوحيد, وانتهاء الى اخر مناطات احكامها في المباح.

فقد بدأت الاخلاق من بذرة تكوين الانسان كعلقة في رحم امه فبارك الله به ولابويه ان كان من نكاح, وتوعد وهدد ان كان من سفاح.

ورافقه في مسيرته في الحياة الدنيا, حتى دخوله القبر متطهرا من الاخباث .

فوحدة الاصل تدعوه الى نبذ التعالي على بني جنسه, ووحدة النسب توقظه عند التفاخر بحسبه. وعبوديته للخالق تذلل من كبريائه, وتحد من جبروته, ونهايته كجثة هامدة تفزعه.

فمهمة الاصلاح الذي اوكلت اليه, واستخلاف الارض الذي انيط به حمّله عبءًا اعتذرت عن حمله السماوات والارض.وما تتم مهمة الاصلاح هذه الا بالاخلاق.

لم تتفرد الشريعة الإسلامية دون الشرائع الأخرى بمهمة الأخلاق،وإنما دعت إليها جميع الشرائع حتى غير السماوية منها، فهي تهدف إلى تقييم سلوك الفرد،وإن إختلفت في الوسائل الموصلة إليه. لأن الأخلاق والسلوك المنضبط هو التعقل،ودعاة الأديان يشتركون بالعقل.

وقد يرى البعض منهم نسبية الأخلاق، تبعا لنسبية الفضيلة والرذيلة،بالزمان أو المكان.

ولكن هذه النسبية ليست أصيلة في الأخلاق، وإنما مكتسبة تبعا للأعراف والتقاليد والموروثات لتلك المجتمعات.

وإلا فمفـهوم الفضيـلة واحد، ومدلول الرذيلة ثابت، وعلى هذا الأساس من الثبوت جاء مفهوميهما واحد في الشرائع السماوية.

وما يراه البعض إختلافا فإنه قادم من تقادم الزمن عليها وإبتعاد المفهوم عن مصدره الأساس، وتدخل النوازع والنوايا الإنسانية – غير المعصومة – حولت المفاهيم الإلهية إلى مفاهيم بشرية وإختلطت حقيقتاهما.

فتحول الفكر اليهودي إلى فكر اليهود، والفكر المسيحي إلى فكر المسيحيين. والفكر الإسلامي إنتابه فكر المسلمين.وبين الإثنين بون شاسع.

أما الشريعة الاسلامية فلم تترك ذلك الامر مبهما ولا مشوشا. بل اوضحت سبله وبينت مسالكه, كي لا يكون الامر على الناس غمه. فدعت الكثير من ايات القران الكريم الى ذلك، اشارة وتلميــحًا تـارة, وافصــاحًا وتوضيـــحًا تـارة أخرى.

قــال تعــالى: }وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً{[11]

}وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ{[12]

ولو استقرأنا هذا الهدف من القران الكريم لطال بنا البحث. وفي سنة المعصومين وسيرتهم اكثر منه اقوالا وافعالا وتقريرا... اذ لا تحويه صفحات بحث كهذا.

فوعى الشهيد الثاني ذلك بعد ان رأى ان الفقه الاسلامي بمؤلفاته المتعددة ورسائله العلمية وقد نحى المنحى القانوني اكثر من منحيات المقاصد, فاعتمد الدليل لاستنباط الحكم ثم اصدر الفتوى في الاركان والواجبات والشروط والموانع والمبطلات لصحة الفريضة.

بينما ابتعد الفقـــه تماما بل واهمـل الخوض فيما يتفرع من تلك الفرائض من سلوك واخلاق فردية او اجتماعية وهذا قد يفقد الفرائض مغزاها الحقيقي او الغاية والاهداف التي شرعت من اجلها. فتربية الروح الناشئة من العبادات يجب ان ينشأ منها سلوك فردي يتناغم مع الروح. فوضع منية المريد وحدد فيه آدابا للمفيد والمستفيد.

وقد «تميز به عن غيره من المفكرين التربويين القدماء, بأنه استفاد من كل التراث النظري والعلمي الذي استطاع ان يتوصل اليه, فظهر كأنه موسوعة متكاملة تتضمن اغلب ما يرتبط بالعملية التربوية من بعيد او قريب. فمن باب فضائل العلم الى المناهج, الى المناظرة والاستفتاء والاجتهاد, بوصفها مجالات علمية ونظرية لاستمرار العملية التحصيلية, الى الكتابة وتقييد العلم.

واذا شاركه غيره في معالجة الموضوعات المطروحة, فان اسلوبه في العرض ومنهجه المنطقي التبويبي المنظم جاء ليبرز عبقرية هذا الفقيه , ويضفي على مؤلفاته طابع الجدة والتجدد, فبدا كأنه اول من تطرق لهذا الموضوع»[13].

وقد قدم العلم على جميع الاخلاق, فربط الحصول عليه والتوفيق به على اخلاق المتعلم, وطلب بذلك روح العلم, فقصد المعنى وعّبر عنه بالالفاظ. فقال: «ان الله سبحانه جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم»[14]

فاستند الى القران دليلا على نظرياته, واستشهد بالكثير من اياته في معترك حديثه, ويردف الاية بالاية لتوضيح مرادها, ويعود الى اصول الفقه, فيستند على المعقول دليلا على نظرياته. فقال (على سبيل المثال) – «وقد تقرر في اصول الفقه ان ترتب الحكم على الوصف مشعرًا بكون الوصف علة»[15]

واعتمد السنة والاثر لتكون اسسًا ودلائل لمنهجه في التنظير[16].

واقتطــع فصـلا مـنها لاحــاديث ائمـة اهـل البيـت R واطلـق عليــه طـريـق الخـــاصـة[17].

ورجع الى اقوال الحكماء وكتب السماء, ليقوي دلائله, ويسند براهينه, وليجعل من الاخلاق مشتركا عاما لكل الطوائف والملل والاديان, ثم ليخاطب القــاصي والـدانـي[18].

فاستخـرج مـن بطـون الاثـار احـاديـث جمـعها ونسقـها بتـبويب تتقـارب فيه المعاني, ليضع للمستفيد منهاجا وتشريعات اخلاقية يستشف منها بغيته, ويشرح له معانيها, ويستطلع الفاظها.

ولعل من بدائع حكمه وروائع نظرياته نقله لقول بعض المحققين بأن «العلماء ثلاثة:

فصنف وفق ذلك العلماء حسب اهداف مناهجهم وغاياتهم, وترك للمتعلم حرية الاختيار بعد ان هداه الى احسن السبل.

وصنف العلوم كذلك الى ثلاثة اصناف:

الاول: علم بالله, يبحث فيه عن كنه معرفته, وحكمة وحدانيته, وصفاته وذاته, ليستفرغ جهده في طريق الوصول اليه, واطلق عليه علم المعقولات. ثم خص العاملين به بصفة الحكماء, وامر بمخالطتهم, ولم يكفرهم او يوصي باجتنابهم كما امر بعض من سبقه, ومثلهم كالقمر ينقص تارة ويزيد اخرى.

الثاني: علم بأوامر الله, ومباحث الفقه, والاحكام الشرعية, ومناطات تلك الاحكام من حلال او حرام واطلق عليه المحسوسات, ووسم العاملين به بالعلماء. ثم امر باتباعهم لتجنب الزلات والشطط. وصورهم بالسراج الذي يحرق نفسه لإضاءة طريق غيره.

الثالث: علم بالله واوامره. وهذا يشمل المعقولات والمحسوسات, فذلك العلم والعمل. معرفة الله كأنه يراه, وعامل ومنفذ لامر مولاه, ومثله كالشمس لا تزيد ولا تنقص[20].

فدعا الى الحكمة والفقه, والى العلم والعمل.

ومن هنا انطلق يفصل في الاداب, وهي مفاتيح الاخلاق فبعد ان حث على العلم والتعلم وجعله اشرف صناعة يتعاطاها الانسان. ترتفع بصاحبها وتسمو به عن مدارك هوى النفس. وضلالات الجهل, وتهديه سبل الرشاد الى سعادة الدنيا وحسن ثواب الاخرة.

ثم بدأ يملي على المعلم ادابه, وعلى المتعلم ادابه, وصنفهما بين الثابت والمتغير, او بين العام والخاص, او بين الدائم والمؤقت.

فالاول في النفس, والثاني في مجلس الدرس[21]

وراح يقسم العلم وفق آثاره على ثلاثة اصناف:

وجعل نية العمل والاخلاص في طلب العلم وبذله هو مدار قيمة ذلك العلم.

وكعادته استدل على نظريته تلك بالقرآن وآياته, وبالسنة والاحاديث المروية فيها.

ولعل من ابدعها قول الرسول P: «اشد الناس عـــذابًا يــوم القيـــامة عالــم لم ينفعــه علمــه»[22]. او قولــه P: «كـل عـلم وبـال على صاحبـه يـوم القيـامــة, الا من عمل به»[23].

او قوله: «من قال انا عالـــم فهــو الجـــاهــل»[24].

ويوصي بالاخلاص في العلم ويعده هدفه وغايته القصوى, اما العمل بالعلم فهو قبول العلم.فالقبول اذن مرتبط بنكران الذات ونبذ الهوى ومرديات النفس ونوازعها.

وبهذا قال «انما كان الغرض الذاتي من العلم مطلقا العمل»[25].

ويحول نظرياته الى تطبيق فيقول: «وهكذا الفقيه اذا احكم علم الطاعات, ولم يعمل بها. واحكم علم المعاصي الدقيقة والجليلة ولم يتجنبها, واحكم علم الاخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها, واحكم علم الاخلاق المحمودة, ولم يتصف بها, فهو مغرور في نفسه ومخدوع عن دينه, اذ قال الله تعالى } قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{[26]، ولم يقل قد افلح من تعلم كيفية تزكيتها, وكتب علمها وعلمها الناس»[27].

ومن نظرياته تحذير اهل العلم والمعرفة وطالبيها من الغرور والتعالي فهذه افة للعلم والمتعلم والغرور يؤدي الى الحسد, والحسد باب الحقد, والحقد من حبائل الشيطان, وحذر من النفس ومدارك هواها, وقد شخص الداء تشخيصا دقيقا. ووصف الدواء بقوله: «ومن احس في نفسه بهذه الصفات المهلكة فالواجب عليه طلب علاجها من ارباب القلوب, فان لم يجدهم فمن كتبــهم المصنـفة فـي ذلك, وإن كـان كلا الأمـرين قد انمحى أثره, وذهب مخبره, ولم يبق إلا خبره – نسأل الله المعونة والتوفيق – فـالـواجب عليه الانفراد, والعزلة, وطلب الخمول, والمدافعـة عما يسأل. الا ان يحصل على شريطة التعلـم والعــلم»[28].

ولكي لا يكون الامــر غمــة على العالم في تشخيصه للداء, فقد استدرج كل تساؤلات تخطر على باله, واجابـه عليها وكانه في ذاتك يحدثك عن نفسك, فيكرر القول «ربما يأتيه الشيطان – او – ربما لبس الشيطان عليه» او ما شابه ذلك من العبارات.

فيزيل الوهـم ويـوضـح الغـمة, ويـكشف الغشـاوة, ويحـذر العــالم من ذلك اكثر من الجاهل. كون الاول قدوة للثاني وافعال العالم عذر للجاهل. «لان الجـاهل يأتي يوم القيامة بذنبه, والعالم يأتي بذنبه الذي فعله, وذنب من تأسى به, واقتــدى بطــريقــته الى يوم القيامة»[29].

وما ابدع ما يستنطق النصوص القرانية, ويتعدى ظاهر الفاظها الى المراد فمن قوله تعالى: }فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ ...{[30].

ويقول: «الذي يحصل به الانذار غير هذا العلم المدون, فان مقصود هذا العلم حفظ الاموال بشروط المعاملات, وحفظ الابدان بالاموال وبدفع القتل والجراحات, والمال في طريق الله اية, والبدن مركب, وانما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق إلى الله تعالى, وقطع عقبات القلب التي هي من الصفات المذمومة, فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى, فاذا مات ملوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن الله تعالى ومن ثم كان العلم موجبا للخشية, بل هي منحصرة في العالم كما نبه عليه تعالى بقوله: }إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء{[31]، اعم من ان يكون فقيها او غير فقيه»[32].

اما التوكل على الله واخلاص النية وتفويض الامر له في توفير الرزق لطالب العلم فهذا امر مفروغ منه عنده ومن الضروريات وقد حذر من الاستعانة بغير الله بذلك مستندا في ذلك على اخبار مروية ادرجها في مضانها[33].

ولكنه اصر على حسن الخلق بزيادة على الناس (للعالم وطالب العلم) وكذلك التواضع وتمام الرفق, وبذل الوسع في تكميل النفس, وقد بدأ حديثه برواية عن الصادق Q: «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار, وتواضعوا لمن تعلمونه العلم, وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم, ولا تكونوا علماء جبارين, فيذهب باطلكم بحقكم»[34].

ونظر لعفـة النفس, وعلو الهمة, والانقباض عن الملوك واهل الدنيا وقال في ذلك «لا يدخل اليهم طمعا, ما وجد الى الفرار منهم سبيلا, صيانة للعلم عما صانه السلف, فمن فعــل ذلـك, فقــد عــرض نـفسه, وخــان امــانتــه, وكثيـرا ما يثمــر عـدم الوصــول الى البغيــة»[35].

واوصى بأظهار تلك الاخلاق الى العمل في الحفاظ على شعائر الاسلام وظواهر الكلام, كالصلاة, وافشاء السلام للخاص والعام مبتدئا ومجيبا, والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الاذى والا «اذا لم ينتفع العالم بعلمه, فغيره ابعد عن الانتفاع به, ولهذا عظمت زلة العالم لما يترتب عليها من المفاسد. ويتخلق بالمحاسن التي ورد بها الشارع وحث عليها, والخلال الحميدة والشيم المرضّية من السخاء والجود, وطلاقة الوجه من غير خروج عن الاعتدال وكظم الغيظ, وكف الاذى, واحتماله, والصبر والمروءة, والتنزه عن دني الاكتساب, والايثار, وترك الاستيثار, والاتصاف, وترك الاستنصاف, وشكر المفضل, والسعي في قضاء الحاجات, وبذل الجاه والشفاعات والتلطف بالفقراء والتحبب الى الجيران والاقرباء, والاحسان الى ما ملكت الايمان, ومجانبة الاكثار من الضحك والمزاح, والتزام الخوف والحزن, والانكسار والاطراق والصمت, بحيث يظهر اثر الخشية على هيئته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته»[36].

بعدها أدرج العادات والاخلاق الذميمة والخلق الدنيء, ونهى عن العادات والصفات، فهو يوافق من يرى بان العلم نور «لا يقذفه الله تعالى بالقلب المنجس بالكدورات النفسية, والاخلاق الذميمة, كما قال الصادق Q:ليس العلم بكثرة التعلم, وانما هو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يريد الله ان يهديه»[37].

وفي القسم الثاني

فصل نظرية الارشاد والتوجيه التربوي, فدعا الدارسين والمتعلمين إلى الاشتغال بالعلم والدرس والمطالعة وعده لهم رأس مال يقدم على كل الاهداف والغايات.

ومن نظرياته لطالب العلم:

«ان لا يسأل احدا تعنتا وتعجيزا, بل سؤال متعلم لله او معلم له, منبه للخير قاصد للارشاد او الاسترشاد».

ونهى عن المراءاة والجدال وحب الظهور وقصد الغلبة. ووضح مساوئ ذلك وحذر المعلم والمتعلم منه.

وهذا يتبع الغايات السامية للعلم والتعلم, ويبعدهما عن الغايات الرخيصة والمبتذلة, لان تحصيل العلم اسمى غايات الخلق, ولم يترك الامر عاما من دون تخصيص, ولا مطلقا من دون تقييد, فقد حدد المفهوم الى ادق مصاديقه, وما ابدع قوله عند تعريفه للمراء فيقول: «واعلم ان حقيقة المراء الاعتراض على كلام الغير باظهار خلل فيه لفظا او معنى او قصدا لغير غرض ديني امر الله به, وترك المراء يحصـل بتـرك الانكـار والاعتـراض بكل كــلام يسمعه, فإن كان حقا وجب التصديــق به بالقلب, واظهار صدقــه حيث يطلـب منه. وإن كـان باطلا, ولم يكن متعلقا بأمـور الدين, فأسكت عنه ما لم يتمـخـض النهـي عـن المنـكر بشروطه»[38]. وقــــد استنتج من قول الرسول P: «الحكمـــة ضــالة المـــؤمن» نظريته في «ان لا يستنكف من التعلم والاستفادة ممن هو دونه من منصب او سن او شهرة او دين او في علم اخر – } ا و قوله{ - الانقياد للحق بالرجوع عند الهفوة ولو ظهر على يد من هو اصغر منه»[39].

وعد الاصرار وعدم الرجوع عن الهفوة من الكبر المنهي عنه، ولعل في لقاء موسى R مع العبد الصالح ادق الاثار في ذلك وأقواها دليلا.

فإن اكبر آفات المعرفة والعلم الكبر وادعاء الاعلمية، مهما أوتي من علم فالعلم نور الهي ونفحة ربانية لا تمنح الى متكبر, لان الكبرياء ثوب الله ما لبسه احد الا واذله الله.

وقد قسم توصياته على اركان العلم الثلاثة. العلم, والمعلم, والمتعلم, واعطى لكل آدابه وأخلاقياته.

فعلى المعلم ان لا يورد العلم الا بعد التأكد من الحقيقة وازالة الاوهام والشبه عنها, والسؤال والبحث والتقصي عنها, حتى تحصل له القناعة بها كي لا يترك بابا مفتوحا للطعن للخصماء والاعداء, فيكون وصمة عليه. ومنها ان يتطهرمن الحدث والخبث ويتطيب في الثوب والبدن فأعطاه المخبر والمنظر.

وأعطاه آدابا مع نفسه وألزمه الاتصاف بها، ومنها:[40]

أن لايتصدى للتدريس إلا بعد أن يرى في نفسه الكفاءة والأهلية الكاملة. ويشهد له قرناؤه وشيوخه بها.

أن يبذل العلم لآهله، ولايبذله في غير أهله.

أن يكون عاملا بعلمه.وألا يكون ممن قال بهم الله تعالى: }أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ{[41].

وعن الامام علي Q قوله:«قصم ظهري رجلان, عالم متهتك, وجاهل متنسك, فالجاهل يغش الناس بتنسكه, والعالم ينفرهم بتهتكه»[42].

ويحترز بمخالفة فعله لقوله. فيكون ممن وصفهم الإمام الصادق Q:

«من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم»[43].

ولذلك نراه يوصي العالم والمتعلم بحسن الخلق والتواضع ويحذره من عدمها لانه «قد علق في عنقه امانة عظيمة وحمل اعباء من الدين ثقيلة, فليجتهد في الدين جهده. وليبذل في التعليم جده, عسى ان يكون من الفائزين»[44].

أوصى المعلم بزيادة حسن الخلق والتواضع،وبذل وسعه في تكميل نفسه، فعن الإمام علي Q قوله: «إن للعالم ثلاث علامات:العلم والحلم والصمت. وللمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، ويظلم من دونه بالغلبة، ويظاهــــــــر الظلمة»[45].

وأن لايمتنع من تعليم أحد بحجة أنه غير صحيح النية.

بذل العلم لمستحقيه وعدم البخل به.

والثاني ادابه واخلاقه مع العلم كبذله والعمل به وعدم اذلاله.

والثالث ادابه واخلاقه مع طلبته[46] بأن يؤدبهم على الخلق الرفيع والاداب والشيم المرضية وصيانة النفس من الهوى والاخلاص لله تعالى ويزهده في الدنيا ويصدقه عن التعلق بها.

ويرغبهم في العلم وان يحب لهم ما يحب لنفسه ويزجرهم عن سوء الخلق وينهاهم عن المعاصي.

ولعل من أهم نظرياته في هذا:أن يتواضع لطلبته، ولايتعاظم عليهم.ويسأل عن غائبهم ويتفقد أحوالهم، ويعرف كل ما يحيط بهم. ويكون سمحا معهم، سهلا متلطفا بهم بالرفق والنصيحة.

ومن وصاياه في ذلك «أن لايتأذى ممن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره أيضا، لمصلحة راجعة إلى المتعلم، فإن هذه مصيبة يبتلى بها أكثر جهلة المعلمين ومن لايريد بعلمه وجه الله تعالى، لغباوتهم وفساد نياتهم»[47]

ومن دقة تشخيصه للعلم وامراض حلقات الدرس وما يشينها، فقد اوصى المعلم والطالب على لبس ردائه وثيابه وهيبته ووقاره, حال وقوفه وجلوسه – كأن يستقبل القبلة – والتجمل والتعطير, وحتى مكان الجلوس لا في حمارة القيظ ولا قرارة الزمهرير[48].

ومن بدائع نظرياته في طرق التدريس، على المعلم «أن يتحرى تفهيم الدرس بأيسر الطرق، وأعذب ما يمكنه من الألفاظ، مترسلا، مبينا، موضحا، مرتبا من المقدمات ما يتوقف عليها تحقيق المحل، واقفا في موضع الوقف. موصلا في موضع الوصل، مكررا ما يشكل من معانيه وألفاظه مع حاجة الحاضرين، أوبعضهم إليه، وإذا فرغ من تقرير المسألة سكت قليلا حتى يتكلم من في نفسه كلام عليه»[49].

وأوصاه «أن لايشتغل بالدرس، وبه ما يزعجه ويشوش فكره، من مرض أو جوع أوعطش أو مــدافعة حدث، أوشدة فرح أو غـم، أوغضـب أونعاس أوقـلـق، أوبرد أوحر مــــــؤلمين»[50].

وأطلق العنان للعلم ورفض تقييده بعمر دون غيره معترضا على الماوردي في أدب الدين والدنيا الذي يرى بأن العلم في الكـبر كالكتـابـة على المــاء[51].

بينما يرى الشهيد الثاني بأنه «قد إشتغل جماعة من السلف في حال كبرهم، فتفقهوا وصاروا أساطين في الدين وعلماء مصنفين في الفقه وغيره»[52]. فأطــلق نظريــة العلم من المهــد إلى اللحـــد،وجعل العلــم كالهــواء لاينبــغي لأحد أن يمنعـه عن آخر.

وأوصى طالب العلم بالتنحي عن الأهداف الجانبية التي تعرقل مسيرته العلمية، كالسعي وراء الثروة والغنى والجاه والسلطة والرئاسة، وجعل العلم الغاية القصوى وتحصيله الهدف الأسمى،لأن «العلم لايعطــيك بعضــه حتى تعطيـه كــلك».

وهو يرى بأنه «لاشيء أولى ولا أفضل،ولا واجب أضيق من العلم، لا سيما في زماننا هذا، فإنه وإن وجب على الأعيان، أو الكفاية على تفصيل، فقد وجب في زماننا هذا على الأعيان مطلقا،لأن فرض الكفاية إذا لم يقم به من فيه كفاية يصير كالواجب العيني في مخاطبة الكل به وتأثيمهم بتركه، كما هو محقق في الأصول»[53].

وتعتمد اسس التربية والتعليم على ما كتبه الغربيون اليوم من دون العودة الى التراث الاسلامي وما خلفه العلماء المسلمون في هذا الباب «وان النقل الحرفي للمناهج الغربية في العلوم الانسانية خصوصا وتطبيقاتها بوصفها نماذج علمية مثالية في العالم الثالث, يلغي كل خصوصية اجتماعية ودينية وجغرافية للشعوب والامم غير الغربية, وهنا مكمن الداء العضال الذي نتخبط فيه»[54].

وعودة ومراجعة بدقة وتوضيح لكتاب الشهيد الثاني هذا نراه قد بين اسس التربية وعلم النفس التربوي ووضح طرق التدريس وكيفية تعامل المدرسين مع طلابهم والمتعلمين مع مدرسيهم بأختلاف مستوياتهم, وتباين مشاربهم, وتعدد درجات ذكائهم, وحتى تلك المفاجات التي تحدث اثناء الدرس وكيف يتعامل المعلم معها ومع الطلبة وطرق ذلك التعامل فيقول مثلا «واذا سأل الطالب عن شيء ركيك فلا يستهزئ به, ولا يحتقر السائل, فان ذلك امر لا حيلة فيه, ويذكر ان الجميع كانوا كذلك, ثم تعلموا وتفهموا».

ويعود للمعلم فيوصيه بان «من اهم الاداب اذا سئل عن شيء لا يعرفه او عرض في الدرس ما لايعرفه, فليقل لا اعرفه او لا اتحققه او لا ادري, او حتى اراجع النظر في ذلك, ولا يستنكف عن ذلك فمن علم العالم ان يقول فيما لا يعلم: لا اعلم او والله اعلم»[55]

فنظّر للعلم ادابه واخلاقياته.

و للمفيد ادابه واخلاقياته, في نفسه وفي المستفيد وفي العلم.

وللمستفيد اخلاقه في نفسه ومع شيخه وفي مجلس درسه.

وفصل القول في كل من هذه الثلاث.

وأعطى للتعلم نظريات وإلتفاتات لم تكن قد تبلورت في وقته ذاك، فرسم لطالب العلم منهجا دقيقا وطريقة علمية ينتهجها، فدعاه إلى التخصص في القراءة والمطالعة, وحدد له استغلالا أمثل لطاقته ووقته فدعاه إلى «ترتيب التعلم بما هو الأولى، والبدء فيه بالأهم فالأهم،فلا يشتغل في النتائج قبل المقدمات، ولا في اختـلاف العلماء – في العقــليات والسمعيـات – قبل إتقان الاعتقــاديات، فإن ذلك يحير الذهـن ويدهـش العقـل، وإن اشتغــل في فـن فـلا ينتقــل عنـه حتى يتـقن فيه كتابا، أو كتبا إن أمكن.وهكذا القول في كل فن»[56].

ولايقتصر الطالب على التعلم من العلماء المشهورين أو الأعلام منهم. لأن الحقيقة ليس حكرا على أحد، والمشهووين والأعلام لم يصلوا إلى العصمة حتى يكون قولهم الأصوب، وقول سواهم مرفوض، فرب مشهور لا أصل له.

ولذلك عد الشهيد الثاني التقيد بالأخذ من المشهورين وترك الأخذ من غيرهم تكبرا على العلم «وهو عين الحماقة، لآن الحكمة ضالة المؤمن، يلتقطها حيث وجدها، ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنة ممن ساقها إليه، وربما الخامل ممن ترجى بركته، فيكون النفع به أعم، والتحصيل من جهته أتم»[57].

ووضع للمتعلم مع شيخه وصايا بمثابة نظريات أوصلها إلى الأربعين[58].

وفي درسه وقراءته ومع رفقائه أخرى أوصلها إلى ثلاثين وصية[59].

وقد يضرب الأمثال ويذكر أقوال الحكماء والظرفاء واهل المعرفة والفن ليكون للتربية طريقا سالكا آخر أكثر أثرا في النفوس، وأقرب إلى التطبيق، فمن أقواله: «وقد قـيل:أربعة لا يأنف الشريف منهن، وإن كان أميرا: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، والسـؤال عمـا لايعـلم، وخدمتــه للضيـف»[60].

ومن بدائع نظرياته عندما يوصي طالب العلم أن يبتدئ بحفظ القرآن حفظا متقنا، وهذا أمر لايختلف إثنان على أهميته وخاصة في الدراسات الإسلامية، فيعوّد لسان طالب العلم على النطق الصحيح والبلاغة القرآنية، والأسلوب الأدبي الرفيع، فتكون له قابلية كبيرة على الحفظ، واسلوب قرآني في حديثه، وفصاحة وبلاغة في التأليف والتدوين.

ثم يعتمد القرآن في أحكامه الشرعية والأخلاقيـــة باستحضاره آياته.

ثم يوصي بعد ذلك بتفهم معاني القرآن ودلالات ألفاظه وملازمة قراءته.

ولم يهمل الوقت وقد أعطاه أهمية قصوى ودعا إلى الاستغلال الأمثل له، وإلى تقسيمه حسب حاجة العلم، ناظرا في هذا إلى الحالة النفسية التي تنتاب طالب العلم باختلاف ساعات اليوم، من تعب وإرهاق أو تأثيرات أخرى. ومن ذلك قوله «وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الإبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل وبقايا النهار – }أو قوله{ - إن حفظ الليل أنفع من حفظ النهار،ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، والمكان البعيد عن الملهيات كالأصوات والخضرة والنباتات والأنهار والبحيرات، وقوارع الطرق التي تكثر فيها الحركات، لأنها تمنع من خلو القلب، وتقسمه على حسب تلك الحالات»[61]. وكرر وصاياه بالتواضع في العلم للعالم والمتعلم وقال: «وليحذر كل الحذر من نظر نفسه بعين الكمال، والاستغناء عن المشايخ، فإن ذلك عين النقص، وحقيقة الجهل، وعنوان الحماقة ودليل قلة العلم والمعرفة لو تدبر»[62].

ثم خصص الباب الثاني من كتابه لآداب الفتوى والمفتي والمستفتي.

فاستقرأ آيات القرآن الكريم ليفتتح بها كلامه وأحاديث عن الرسول P وأئمة أهل البيت R ليستدل بها على قوله.وأقوال العلماء الأعلام من الفريقين، كلها تحذر من الفتوى بغير علم وبغير دليل. كقول الإمام الباقر Q «من أفتى الناس بغير علم ولاهدى لعنته ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه»[63].

وفصـــل القـول فـي شروط المفتي وآدابـه، وفي آداب الفتـوى، وفي أحكام المستفتـي وآدابه وصفته[64].

أما المناظرة وشروطها وآدابها وأوقاتها فقد خصص لها الباب الثالث من كتابه. وفصل القول في آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق. وعد منها إثنتى عشرة آفة:

الإستكبـار عن الحق وكراهيته، والرياء، والغـضب، والحقـد، والحســد، والهجــر والقطيعـة، والكـلام فيه بما لايحل من كذب أوغيبــة أو غيـرهما، والكبــر والتــرفع, والتجسس وتتبع العورات، والفرح بمساءة الناس والغم بسرورهم، وتزكية النفس والثناء عليها، والنفــــــاق[65].

ولم يترك الكتابة والتأليف دون أن يضع لها أخلاقا وآدابا وضعها المختصون بالمناهج والتأليف في ما بعد نظريات وأصول للبحث والكتابة، فلقد خصص لها الباب الرابع من سفره الخالد هذا، فاشترط إخلاص النية لله تعالى،وجمع المصادر والمعلومات من الكتب والمؤلفات التي سبقه بها الماضون، ومن ثم ختم كتابه بمطالب في أقسام العلوم الشرعية، وما تعتمد عليه من علوم عقلية أو أدبيه. ليشفعها بوضع منهجية رائعة ودقيقة للمتعلم في تلقيه هذه العلوم، والتدرج في تحصيلها من الأسهل فالأصعب، ولتستوعبه مراحل حياة المتلقي العمرية منذ الطفولة حتى الشبيبة فالمشيب، وفق خطة علمية وتربوية مدروسة منبعثة من تجربة واعية للتعلم والتعليم[66].

ولو تحولت نظرياته تلك الى التطبيق الامثل لما بقي جاهل يفسد ولا طالب علم يحسد, فالجهل طريق الافساد, والعلم منهج الاصلاح, وجاهل اليوم, عالم الغد, والعلم ورثه الانبياء, والانبياء مشاعل الحياة وسعادة الاخرى.

فلو عمل العالم بعلمه لاقتدى الجاهل بنهجه, ولو نفع القانون وحده لاغلقت السجون واكثر من نصف المستشفيات, لان القانون يأتي دوره بعد ارتكاب الخطأ ليقتص من الخاطئ او يعيد الحق من الغاصب لاصحابه.

بينما يأتي دور الاخلاق قبل ارتكاب الخطا بل يمنع وقوع الخطأ والغصب والبغي والتعدي, ولو تعاون الناس على الاخلاق والمثل العليا لتقلص عدد المحاكم وعدد القضاة.

وما احوجنا اليوم في ظل الثقافة المادية الى «احياء روح الاخلاق والصدق الباطني في اوساطنا الاسلامية, روح لا تجمد على ثنائي الحلال والحرام, بل تتجاوزه لقيم اخلاقية بدأت بالنفاذ من مجتمعنا الديني. ان العودة الى الاخلاق, والدعوة الى هذه العودة فريضة كبيرة، تقع في الدرجة الاولى على عاتق العلماء والصلحاء، لا لازدهار احوالنا, بل على الاقل لتفادي حجم اكبر من الضرر والفساد القادمين، لا سيما على الاجيال اللاحقة, وفي ذلك كله يكون اسوتنا في القـيم العليــا حبيبنــا رســول الله P }وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{[67]»[68]

ومادام مفهوم الاخلاق يعني «الالتزام بعنصر داخلي تلقائي يوجه الانسان نحو الخير ويحول بينه وبين الشر» او هو «تحـرير الطـاقــات الايجـابيــة والحقــائق الســامية المتعالية في الذات الانسانية, في سياق تحقيق الكمال والغاية العليا للحياة»[69]، فهل يرتبط هذا المفهوم بالدين ؟ وهل يتفاعل هكذا مفهوم بالتقنية العلمية وما تفرضه اليوم من حاجات مادية اصبحت ضرورية للحياة والمجتمع؟

فارتباط الاخلاق بالدين عامل اساسي, بل تمثل الاخلاق بمثلها السامية وتحولها الى تطبيق العامل الاول في رقي المجتمع, وتلك هي غاية الدين القصوى. وتفاعل الاخلاق بالتقنية العلمية, بل وتوجيه التقنية العلمية توجيها اخلاقيا يمثل الجوهر الاساس والعنصر الاول لاعطائه صفة التطور العلمي, لانها التقنية التي تؤدي الى إفساد المجتمع وتزيد من حالة الاغتراب بين افراده, مما يزيد المجتمع تحللا, وتشبع أفراده مآسي واحزانًا وتبعده عن السعادة, وذلك ديدن الافساد لا الاصلاح. وما دامت الاخلاق هي العامل المنطلق من داخل الذات الانسانية والوازع المانع من الاعتداء على الاخرين, من دون رقابة من رقيب خارجي فهي تمثل اذن جوهر الدين الاساسي, وغاية العلم الحقيقية، والا فبغيرها لا يمكن ان نطلق على الذي لا يتصف بها كونه (متدينا)، وبالوقت نفسه فهو من طبقة الجهال, مهما اوتي من قدرة على تقنية علمية بل هو اقرب الى الحيوانية منه الى الانسانية.

وصحيح ما اطلق عليه الشيخ حيدر حب الله بعنوانه «الاخلاق العلمية». فما احوج المسلمين وبخاصة المثقفين منهم الى هذا المصطلح بل وتبنيه من قبل المؤسسات البحثية والجامعات والمعاهد, فالمناهج الدراسية تحتاج الى اخلاق توضع نصب اعين الواضعين له, ولعل الموضوعية والتجرد والحرية وعدم الانحياز, تعتبر حجر الزاوية الاهم لتلك المناهج, والامانة العلمية للباحث ولدوائر الطبع والنشروقد اصبحت «الحاجة ماسة الى اشاعة ثقافة التوثيق الظاهرة, فكلما نقل الباحث شيئا عن باحث اخر, وكانت الفكرة للثاني مستمدة من الاول, فمقتضى اخلاقية الامانة العلمية توثيق المصدر بدقة تحرزًا عن التورط في منافيات اخلاقية»[70]

ومن جملة أخلاقيات الباحث «ان لا يستخلص نتائج من دون شيء من الخبرة والدراية حفاظا على النمو السليم للمعرفة»[71].

وقليلون اولئك الذين بحثوا في الاخلاق والقيم, واقل منهم الذين ربطوا بين العبادات والمعاملات وبين ما يفرضه الالتزام بها من قيم واخلاق حتى تكاد البحوث والمؤلفات والمؤتمرات والندوات التي تعنى بالاخلاق ودورها والتنظير لها وتحويل النظريات الى تطبيق, معدومة قياسا بتلك التي عنيت بالفقه والاصول والحديث, وكذلك الدروس في المعاهد والجامعات والمدارس, بينما تشكل الاخلاق الركيزة الاساسية والاهم في فلسفة العبادات والمعاملات. بل ويتوقف القبول من عدمه على منهج الاخلاق «حتى ليبدوا للناظر في تراثنا الفكري والفلسفي, اننا اسرى لمفارقة تاريخية كبرى, نحن الامة الناهضة على اتمام مكارم الاخلاق, لم نمنح الاخلاق من اشتغالاتنا ما منحناه غيرها, الا لماما او اجتزاء. وقد ظل النظر الى الاخلاق – كعلم – قاب قوسين او ادنى من ان يصبح نافلة, بل ومهجورا في اروقة الدرس الشرعي نفسه, الامر الذي ينذر بأزمة خطيرة تمس الاسس, لا سيما بعد ان اصبح الفكر العربي والاسلامي يتجرد بدل ان يتخلق»[72].

فما احوج معاهدنا اليوم وحلقات الدرس الى كتاب الشهــيد الثـاني ونظـرياته الاخلا قيـة في كتابه (منية المريد) والذي يعتبر بحق «موسوعة ومرجعا لكل ما قيل في هذا المجال, و مـــيزة الكتاب هذه لا نجــد لها مثيـلاً في كتب من سبقـه من المـؤلفين في التأديب والرياضة او التعليم»[73]

ولقد كاد الشهيد الثاني ان يحول الوصايا الاخلاقية التي تناولها القران الكريم والتي اوصى بها الرسول الكريم P وائمة اهل البيت R والسلف الصالح من فقهاء المسلمين وعلمائهم. ان يحولها الى نظريات بمستوى مواد قا نونية يعتمدها المعلم والمتعلم في الطرح والعرض, وفي الالقاء او التلقي, وفي البحث والكتابة, ليرسم منهجا تربويا, ونظاما اخلاقيا يجعل للعلم جوهرا, وللمعلم والمتعلم ذاتا مخلصة متجردة عن الانا وخصوصيات الذات, فالعلم نور والنور هداية وبصيرة.

وقد فصل القول في اخلاقيات العالم والمتعلم والعلم وحلقات الدرس والمنهج والعملية التعليمية دروسا تربوية، ولإنجاحها اركانا واخلاقيات وضوابط تتحكم بها.

ولم يكن الشهيد الثاني منظرا بعيدا عن التطبيق، ولا قائلا بغير فعل، فقد «حاز من صفات الكمال محاسنها ومآثرها، وتروى من أصنافها بأنواع مفاخرها. كانت له نفس علية تزهي بها الجوانح والضلوع، وسجية سنية يفوح منها الفضل ويضوع، كان شيخ الأمة وفتاها، ومبدأ الفضائل ومنتهاها. لم يصرف لحظة من عمره إلا في إكتساب فضيلة، ووزع أوقاته على ما يعود نفعه في اليوم والليلة»[74].

وقالــوا عنـه: بأنـــه «كاد أن يكـون في التخلـق بأخــلاق الله تبـارك وتعــالى تاليــا لتلــو المعصـــــوم»[75].

ووصفه مترجموه بالتفـــرد بالعمــل قبـل العلــم، وبالعمــل بالعلــم[76].

وقيل عنه «أنه أفضل المتأخرين، وأكمل المتبحرين، نادر الخلف، وبقية السلف»[77].

وهذا أقرب للتصديق وأوثق للتطبيق، لأن كلماته عبرت بشكل دقيق عن خلقه الرفيع. وعند ذلك تكون أوقع على النفس وأقرب للروح،لذلك جاءت ادق تعبيرا، وأكثر تأثيرا.

ولم يكن كتابه (منية المريد وبغية المستفيد) الوحيد عنده أو الفريد في هذا الباب، بل قيل أن له كتابًا في الأخلاق (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد) وما أحوجنا إليه.

وآخر (كشف الريبة عن أحكام الغيبة) وما أبعدنا عنه.

ومختصرات لها تناولت الأخلاق[78].

أما عن كتابه موضوع البحث فقد قيل عنه أنه «مشتمل على مهمات جليلة وفوائد نبيلة، تحمل على غاية الانبعاث في الترغيب في اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل والتحلي بشيم الأخيار والعلماء الأبرار»[79]

والكتاب يحتاج الى اعادة نظر دقيقة من قبل المتخصصين في التربية وعلم النفس وطرائق التدريس, ليحولوه الى مواد دقيقة في تعبيرها سهلة الفهم لكل مرحلة دراسية حسب درجة طلابها فتوضع لطلاب المدارس الابتدائية اسسا, وللثانويات دروسا, وللجامعات مناهجا تعتمدها في اكمال العــملية التعليميـــة.

وقيل أن له كتابًا «منار القاصدين في أسرار معالم أحكام الدين»، وهو الآخر متخصص في الأخلاق، والظاهر من عنوانه أنه في المقاصــد الأخلاقيــة من الأحكام الشرعية وهذا ما نبحث عنه نحن المسلمين في وقت كهذا أكثر من أي وقت مضى

أما في غير ذلك فقد ألف الشهيــدالثاني في مختلف العلوم، ما يقارب السبعين كتابا أكثرها رسائل في الفقه ومسائله وقواعده[80].

خاتمة البحث

الحمد لله الذي جعل العقل دليلا لمعرفته, والعلم هداية لدينه, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة لبريته, وعلى آله سبل النجاة لجنته.

يرتبط الفقـه بعباداته ومعاملاته ارتباطا وثيقا بالأخلاق, بل وتشكل الأخلاق الغاية الحقيقية لفلسفة الفقـــه.

وقليلون أولئك الذين بحثوا أو كتبوا في تلك الغاية إذا ما قورنوا بأولئك الذين كتبوا في الفقه ومباحثه وتفرعاته .

وقد أدرك الشيخ زين الدين الجبعي العاملي (911- 965هـ) المعروف بالشهيد الثاني, ذلك الأمر, ورأى أن يضع ذلك نصب أعين العلماء وطلاب العلم والمعرفة,كي يدركوا بأن العلم بغير أخلاق كشجرة بغير ثمر.

فجمع ثمرة جهوده, وتجارب سعيه, واستعان بالقرآن حجة, ومن سيرة المعصومين وأقوالهم دلائل، واستقصى كل ما يراه سبيلا لمسعاه, ودونها في كتابه الشهيـر (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) فوضع للعلم أخلاقا, وفصل القول بها في موارد متعددة, وأوصى المدرس بالالتزام بقواعد وسلوكيات حددها لمهمته, ودعاه إلى التمسك بها

ولم يترك طالب العلم متلقيا, من دون أن يفرض عليه أخلاقيات التلقي, لأنه أدرك أن طالب العلم اليوم, معلم الغد.

وهذه الثلاثة: العلم والمعلم والمتعلم، اسس العملية التربوية في كل مراحلها الدراسية. ولم يترك مجلس الدرس وحلقاته إلا ووضع له آدابا يتصف بها، ففصل كل ذلك عن دراية ووعي، وأوصى بها بعد أن عمل بها.

فقد أعطى للعلم فضائل وفرائض يتصف بها، وللمعلم عبرا وأمثالا يقتدي بها، وللمتعلم قواعد ومعارف يتعظ بها، ولمجلس الدرس طروحات ونظريات منهجا لحلقاته. فقدم طرحا موضوعيا موجزا أحيانا, وفيه إسهاب وإطناب أحيانا أخرى, تبعا لطبيعة المقام وحاجة العرض.

وبمنهج خصصه لطلبة الحوزات العلمية والعلوم الدينية بالدرجة الأولى .

وقد يحتاج إلى شروحات وتفصيل وعرض وتوضيح وتسهيل يتلاءم وطبيعة كل مرحلة دراسية أكاديمية ومستويات طلبتها,

ويضع منه منهجا لدورات متخصصة بأعضاء الهيئات التدريسية لتتحول نظرياته إلى تطبيق.

وقد تميزعمن سبقه ممن خاض مسالك العملية التربوية, بمراجعته لجهودهم, وإستفادته من نتاجاتهم

وإذا كان غيره قد اشترك معه في ذلك فقد تميز نتاجه هذا في عرضه ومنهجه، وبهذا جعل العلم في حركة دائبة تنعكس نظرياته على صور حية بالواقع, وتتحول إلى تجارب عملية غايتها القصوى تقدم حركة الإصلاح التي تمثل المهمة الأساسية الموكلة بالإنسان على الأرض. وما أحوج قاعات الدرس وحلقاته اليوم إلى هذا السفر الخالد, منهاجا ودليلا وسبيلا لمسيرة العلم والمعرفة. وياحبذا لو تحول إلى لغة تتناسب مع مستوى كل مرحلة, وتقتطع من الدرس بعض ساعاته ليسترشد طلبة العلم به. وفي الأمر تفصيلات أكثر وأدق تناولها البحث في مضانها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

[1](*) أستاذ في الجامعة الاسلامية / النجف الأشرف.

[2] الطلوسي: نسبه إلى قرية طلوسه. من اعمال جبل عامل في واد قريبة من فلسطين. وقيل اصل ابيه منها.

[3] الجبعي: نسبه الى قرية جبع. قرية شمال جبل عامل, وشمال النبطيه في لبنان. قيل انها مسقط رأسه.

[4] انظر ترجمته في: يوسف البحراني: لؤلؤة البحرين: 28 ومابعدها

الخوانساري: روضات الجنات: 3 /337 ومابعدها

الحر العاملي: امل الامل: 1 / 85 وما بعدهـــا

محسن الامين العاملي: اعيان الشيعة: 33 / 223 ومابعدها

عبد الحسين الأميني: شهداء الفضيلة: 138 وما بعدها

عباس القمي: الفوائد الرضوية:1 / 328

عباس القمي: الكنى والألقاب: 2 / 381 ومابعدها

الأ ردبيـــلي: جامع الرواة: 1 / 346 وما بعدها

[5] الحر العاملي: أمل الآ مل: 1 / 86.

[6] ينسب هذا القول الى تلميذه ( المولى الشيخ محمد بن علي بن حسن العودي الجزيني)

الشهيد الثاني / حقائق الايمان مع رسالتي الاقتصاد والعدالة / ص8 مخطوطة محفوظة في مكتبة اية الله المرعشي العامة برقم 26

تحقيق: السيد مهدي الرجائي

ط1/ نشر مكتبة اية الله المرعشي العامة / 1409 هـ

[7] علي بن محمد الجبعي العاملي: الدر المنثــــور: 2 /157

[8] الفرقان: 34.

[9] التوبة: 31

[10] العنكبوت:45

[11] الإســــراء / 37.

[12] لقمان / 18.

[13] محمد دكير: الفكر التربوي عند الشهيد الثاني: 275

بحث منشور في مجلة المنهاج العدد / 10 السنة الثالثة.

[14] الشهيد الثاني: منية المريد في آداب المفيد والمستفيد: 5.

[15] الشهيد الثاني: منية المريد:6, 7.

[16] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد: 9 وما بعدها.

[17] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد: 18.

[18] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد: 29, 30.

[19] الشهيد الثاني: منية المريد:33.

[20] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد: 33,34.

[21] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد: 33,34

[22] الشهيد الثاني: منية المريد: 41, نقلا عن: المنذري: الترغيب والترهيب 1/127 الحديث14.

[23] الشهيد الثاني: منية المريد:41.

[24] الشهيد الثاني: منية المريد: 43, نقلا عن:المتقي الهندي: كنز العمال:10/187 الحديث 28977.

[25] الشهيد الثاني: منية المريد: 54.

[26] الشمس / 9.

[27] الشهيد الثاني: منية المريد: 55.

[28] الشهيد الثاني: منية المريد: 49.

[29] الشهيد الثاني: منية المريد: 50.

[30] التــوبة / 122

[31] فاطر /28

[32] الشهيد الثاني: منية المريد: 60

[33] الشهيد الثاني: منية المريد:62 وما بعدها

[34] الكليني: إصول الكافي:2/53,54 الحديث,7,8.

[35] الشهيد الثاني: منية المريد: 65.

[36] الشهيد الثاني: منية المريد: 67, 68.

[37] الشهيد الثاني: منية المريد: 69.

[38] الشهيد الثاني: منية المريد: 72.

[39] الشهيد الثاني: منية المريد: 74,75.

[40] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد: 76 وما بعدها

[41] البقــــــرة /44

[42] الصدوق: الخصال: 69 الحديث 103

[43] الكلينــــي: إصول الكافي: 1/ 54 باب صفة العلماء ( الحديث: 64)

[44] الشهيد الثاني: منية المريد: 79,81

[45] الكلينــــي: إصول الكافي: 1/ 55 باب صفة العلماء ( الحديث:69)

[46] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد:84 ومابعدها

[47] الشهيد الثاني: منية المريد: 94

[48] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد: 100 ومابعدهـــا

[49] الشهيد الثاني: منية المريد:100

[50] الشهيد الثاني: منية المريد: 101

[51] المــــاوردي: أدب الدين و الدنيا: 57

[52] الشهيد الثاني: منية المريد:110

[53] الشهيد الثاني: منية المريد: 112

[54] محمد دكير: الفكر التربوي عند الشهيد الثاني: 255

[55] الشهيد الثاني: منية المريد: 103

[56] الشهيد الثاني: منية المريد: 114

[57] الشهيد الثاني: منية المريد: 119

[58] الشهيد الثاني: منية المريد: من 118 إلى 134

[59] الشهيد الثاني: منية المريد: من 136 إلى 147

[60] الشهيد الثاني: منية المريد: 134

[61] الشهيد الثاني: منية المريد: 138

[62] الشهيد الثاني: منية المريد: 140

[63] الكليني / إصول الكافي: 1 / 61 باب النهي عن القول بغير علم، الحديث (97)

[64] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد: من 155 إلى 165

[65] ظ / الشهيد الثاني: منية المريد:من 174إلى 194

[66] الشهيد الثاني: منية المريد:231 وما بعدها

[67] القلم / 4

[68] حيدر حب الله: الأخلاق الدينية بين الخطاب التواصلي والتأصيل المعرفي: 8

بحث منشور في: مجلة المنهاج: العدد / 29, السنة الثامنة

[69] مسعود اميد: الاخلاق وتحولات المعرفة الانسانية: 245

ترجمة / سرمد الطائي

بحث منشور في: مجلة المنهاج, العدد / 29, السنة الثامنة

[70] ظ / مجلة المنهاج: العدد / 29, السنة الثامنة / 291 ومابعدها

[71] حيدر حب الله: الأحلاق العلمية: 302

[72] ادريس هاني: في البدء كانت الاخلاق: 49

بحث منشور في: مجلة المنهاج: العدد /31, السنة الثامنة

[73] محمد دكير: الفكر التربوي عند الشهيد الثاني: 261

[74] علي بن محمد الجبعي: الدر المنثور: 2 / 153

[75] الخوانساري: روضات الجنات: 3 / 337

[76] ظ / علي بن محمد الجبعي: الدر المنثور: 2 / 155

[77] عبد الحسين الأميني: شهــداء الفضيلة: 140

[78] الحر العاملي: أمل الآمل: 33 / 87

[79] علي بن محمد الجبعي: الدر المنثور: 2 / 86

[80] ظ / مقدمة منية المريد

تطوّر الدراسات الفقهية عند الشهيد الأوّل

كتاب القواعد والفوائد أنموذجا

الشيخ حسن كريم الربيعي (*)

تمهيد[1]

تأتي أهميّة البحث عن تطوّر الدِّراسات الفقهيَّة من تنبّه الشهيد الأوّل إلى مثل هذه الدِّراسات القيّمة التي تبحث عن القواعد التي تلمّ الفروع الفقهيّة وتخضعها لها بشكل أيسر للباحث والطالب وإلحاق القواعد بفوائد بمثابة التطبيقات للقاعدة الكليَّة، ولم يكن عند فقهاء الإماميّة مثل هذه الدِّراسات، فكان الشهيد الأوّل وهو في مدرسة الحلّة قد عزم على تصنيف كتابٍ يحتوي على القواعد الفقهيَّة والأصوليَّة وبعض القواعد الأخرى الدَّاخلة في العمليَّة الاستنباطيّة وهي المحاولة الأولى التأصيليّة والتأسيسيّة والتطويريّة في عالم الفقه الإماميّ، ومن هنا جاءت أهميَّة إلقاء الضوء على جوانب مهمَّة من منهج الشهيد الأوَّل في هذا الكتاب المهمِّ الذي يكاد يشابه الدِّراسات الأكاديميّة في دراسة المفاهيم اللفظيَّة من حيث المعاني اللغويّة والإصطلاحيَّة، وهو ينفع طالب العلوم الدينيَّة لكي يتعرَّف على القواعد الفقهيَّة بالخصوص، كالتعرَّف على القاعدة الرياضيّة في إيجاد الحلول الحسابيَّة، هذا النوع من الدِّراسات كان من ابتكار الشهيد الأوَّل وان كان متأثِّراً بثقافته الواسعة والفضاء الذي عاشه وتعلَّم منه فهو قد درس عند ما يقرب من أربعين شيخاً من المذاهب الإسلاميَّة، وهذا الاختلاف لمثل هذا العدد من الشيوخ ولّد عنده ثقافةً من نوعٍ جديدٍ هي عبارة عن التلاقح الثقافيِّ والعلميِّ بين جميع الآراء والرؤى وهذه الرؤية المستقبليَّة نراها واضحةً ونحن نقرأ (اللمعة الدمشقيَّة) والآراء المثارة حولها منذ زمن تصنيفها إلى يومنا الحاضر وهي موضع الدِّراسة والتحاور ونقل الآراء وكتابة الحواشي وإعادة الطباعة، كلُّ هذا هو نتيجة للثقافة ومجالاتها الواعية التي حملها صدر الشهيد الأوّل ثمَّ بثَّها في مصنَّفاته العديدة ومن أجملها بياناً كتابه (القواعد والفوائد).

المبـحث الأوَّل: علم القواعد الفقهيَّة، تاريخه وتطوَّره

اهتمَّ المسلمون بهذا العلم اهتماماً بالغاً فأوَّل من دوّن فيه أبو طاهر الدبَّاس وهو من أئمَّة الحنفيَّة فقد دوّن (17) قاعدة فقهيَّة على مذهب أبي حنيفة (ت150هـ) وذلك في القرن الرابع الهجريّ، وتأخَّر تدوين القواعد عند الإماميَّة إلى القرن الثامن الهجريّ على يد الشهيد الأوَّل في كتابه (القواعد والفوائد)[2] وقيل: إنَّ الفقيه يحيى بن سعيد (ت698هـ) سبق الشهيد الأوَّل بكتابه: (نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر)[3]، ويبدو أنَّ الكتاب ليس في القواعد بل هو في فقه الخلاف أو ما يسمَّى بالفقه المقارن اليوم.

اهتمَّ علماء الإماميَّة بكتاب (القواعد والفوائد) كما اهتمّوا بكتب الشهيد الأوّل الأخرى، وقد بلغت شروحاته اثني عشر كتاباً[4].

تطوّر الكتابة في القواعد بعد الشهيد الأوّل

يعدّ الشهيد الأوَّل المؤسِّس لهذا العلم في مدرسة أهل البيت R فهو أوَّل من شرع في تأسيس منهج قاعديِّ يبيِّن كيفيَّة استخراج المعقول من المنقول واقتناص الفروع من الأصول ليسهل تناول الفروع الكثيرة الفقهيّة على ضوء القاعدة الفقهيّة والأصوليّة[5]، وبهذا التحديث الذي ابتكره تبعه جملةٌ من الفقهاء سلكوا على منواله وكانوا عيالاً عليه، فقد تتابعت الكتب في التأليف بهذا العلم المهمِّ تهذيباً واختصاراً وتطويلاً سنأتي على ذكرها ملتزمين بالتسلسل الزمنيِّ لتأليف هذه الكتب والتي توضح المراحل التطوّريَّة منذ النشأة إلى عصرنا اليوم، وهي كالآتي:

  1. ما قام به أبو عبد الله الفاضل المقداد السيوريّ (ت826هـ) وهو من أبرز تلامذة الشهيد الأوَّل فقد نظر إلى كتاب (القواعد والفوائد) وأهميَّته فذكر في مقدِّمته أنَّه: «كان شيخنا الشهيد قدَّس الله سرّه قد جمع كتاباً يشتمل على قواعد وفوائد في الفقه تأنيساً للطلبة بكيفيَّة استخراج المعقول من المنقول وتدريباً لهم في اقتناص الفروع من الأصول، لكنَّه غير مرتَّبٍ ترتيباً يحصِّله كلّ طالب وينتهز فرصه كلّ راغب فصرفت عنان العزم إلى ترتيبه وتهذيبه وتقريبه وسميّته[6] (نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الإماميَّة)»، وهو وإن ظهر بعنوانٍ آخر فهو في الحقيقة كتاب (القواعد والفوائد) بحلَّةٍ جديدةٍ وتبويبٍ آخر وليس فيه من جديد سوى الترتيب والتبويب ومسألة القسمة هي من وضع المقداد السيوريّ في آخر الكتاب[7]، وكان ترتيبه على شكل مقدِّمة وقطبين تناولت المقدِّمة الفقه وما يتعلَّق بذلك من قواعد بعد تعريف الفقه لغة واصطلاحاً.

والقطبان هما: القطب الأوَّل في القواعد العامَّة المترتِّبة على المقدِّمات السابقة وما يتفرَّع عليها من المسائل، والقطب الثاني في العبادات وغيرها من الأبواب الفقهيَّة على شكل قواعد وفوائد[8].

  1. الشيخ تقي الدين إبراهيم بن علي الحارثيّ (ت900هـ) له كتاب مختصر قواعد الشهيد.
  2. زين الدين بن علي العاملي الملقَّب بالشهيد الثاني (ت965هـ) صاحب كتابه (الروضة البهيَّة في شرح اللمعة الدمشقيّة) وهو من أهمِّ المتون الفقهيّة في جميع الحوزات الدينيّة للطلبة شرحه الشهيد الثاني شرحاً مزجيّاً وسمّاه (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقيّة) واللمعة للشهيد الأوَّل، ألَّف الشهيد الثاني في القواعد وسمّاه (تمهيد القواعد الأصوليّة والعربيّة لتفريع فوائد الأحكام الشرعيّة) وهو مطبوع متداول.
  3. الأقطاب الفقهيّة على مذهب الإماميّة للشيخ محمد بن علي بن إبراهيم الاحسائيّ (ت901هـ).
  4. القواعد الستة عشر للشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت1227هـ).
  5. الأصول الأصيلة والقواعد الشرعيّة للسيّد عبد الله شبر.
  6. عوائد الأيام من مهمّات أدلّة الأحكام للشيخ أحمد النراقيّ (ت1245هـ).
  7. المقاليد الجعفريَّة في القواعد الاثني عشريّة للشيخ محمد جعفر الاسترابادي (ت1263هـ).
  8. عناوين الأصول للسيد عبد الفتاح المراغي (ت1274هـ).
  9. خزائن الأحكام لآغا بن عابد الشيرواني (ت1285هـ).
  10. مناط الأحكام للملا نظر علي الطالقاني (ت1306هـ).
  11. بلغة الفقيه للسيّد محمد بحر العلوم (ت1326هـ).
  12. 13ـ مستقصى قواعد المدارك ومنتهى ضوابط الفوائد للملا حبيب الكاشاني (ت1340هـ).
  13. القواعد الفقهيَّة للشيخ مهدي بن حسين الخالصي (ت 1343هـ).
  14. تحرير المجلّة للشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (ت1373هـ).
  15. القواعد المحسنيّة للشيخ حسن القميّ الحائري وهو تقريرات لدرس الميرزا الشيرازي في إطار بعض القواعد الفقهيّة.
  16. القواعد الفقهيّة للسيد محمد حسن الموسوي البجنورديّ (ت1396هـ).
  17. القواعد مائة قاعدة فقهية معنى ومدركاً ومورداً للسيد محمد كاظم المصطفوي.

هذا الاستقراء الناقص لبعض المؤلَّفات في القواعد يُعطينا صورةً واضحة لمدى التطوّر في البحث عن القاعدة الفقهيّة لاستيعاب فقه النوازل أو ما يسمَّى اليوم بالمستحدثات من المسائل ومنذ ولادة كتاب (القواعد والفوائد) بدأ كما استعرضنا التوسّع في مباحث القواعد في الفقه والأصول والعربيّة مجتمعةً ثمَّ حصل الفصل بين القواعد الفقهيَّة والأصوليَّة عن العربيَّة وحذف الزيادات والتهذيب الذي قام به المقداد السيوريّ ومن ثمَّ الشهيد الثاني الذي فصل القواعد الأصوليّة عن العربيّة[9]، وبعدهما تطوَّرت الدِّراسات في هذا الحقل نحو إيراد القاعدة الفقهيّة وحدها، ثمَّ حدث أن صيغت القواعد الفقهيّة صياغة قانونيَّة كما فعل الشيخ محمَّد الحسين كاشف الغطاء (ت1373هـ)، ويعدّ كتابه من الكتب المهمّة في الدِّراسات القانونيَّة وهو محاولة لتقنين الشريعة الإسلاميَّة وصياغتها على شكل موادَّ قانونيَّة تبيِّن القانون المدنيِّ الإسلاميِّ وما سطَّره في مجال الأحوال الشخصيَّة يمكن الاعتماد عليه بإضافة موادّ الإرث وهذه المحاولة أيضاً مبتكرة من الشيخ كاشف الغطاء فهي تعد صياغات جديدة لتقنين الشريعة الإسلاميّة إلاّ أنَّ الكتاب لم يعتن بمواده[10].

وما يتعلَّق بالتطوِّر العموديّ في هذا العلم فنحن بحاجة إلى علم أصول القواعد الفقهيّة والبحث في أصل كلِّ قاعدةٍ ومنشأ تصيّد مثل هذه القواعد ومن ثمَّ دراسة هذه العلوم أي علم القاعدة وعلم أصولها ليتعلَّم الطالب كيفيَّة إيجاد القاعدة من الكتاب والسنَّة وإن كانت أغلب القواعد من السنَّة، لكن على حذرٍ منها أيّ التأكَّد من جهة الصدور حتَّى يُمكن استنتاج هذه القواعد بعد إقرار حجيّتها ولكن هذا العلم لم يلقَ أيَّ رعايةٍ وعنايةٍ من قِبَل أكثر الأساتذة بل هُجرت أغلب كتب القواعد في مجال الدِّراسات اليوم، وأصبحت مواد منهجيَّة يُعتنى بها في الدِّراسات الأكاديمية في كليَّات القانون والشريعة والفقه وممَّن يهتم في الدِّراسات العلميّة.

المبحث الثاني: أهميَّة كتاب القواعد والفوائد

اهتمَّ العلماء من الإماميَّة بهذا الكتاب بل إنَّ المصنِّف ذكره في إجازته لتلميذه زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائريّ في دمشق سنة 784هـ أي قبل شهادته بسنتين وهو أوَّل الكتب إجازةً لتلميذه فقد جاء في نصِّ الإجازة قوله: «فمِّما صنّفتهُ كتاب القواعد والفوائد في الفقه مختصر يشتمل على ضوابط كليَّة أصوليَّة وفرعيَّة، تُستنبط منها أحكام شرعيّة، لم يعمل للأصحاب مثله»[11].

من هذا النصّ يُمكن الاستدلال على أهميَّة الكتاب بالإشارة الدقيقة إلى ما جاء في إعطاء صورةٍ عامّةٍ عن المحتويات ثمَّ نتيجة وضوح الصورة التمكّن من الاستنباط، وهي الثمرة من النظر في القاعدة الأصوليَّة والفقهيَّة ومنه يُمكن التعرّف على الرؤية الدقيقة والعلميَّة في مصنَّفات الإماميَّة إلى عصره فتنبَّه إلى ضرورة التصنيف في فضاء الجو العلميّ آنذاك للتخلّص من التشتّت الذهنيّ في البحث عن الضوابط المبثوثة في الأبواب الفقهيّة بلا ترتيب أو بلا صياغة أو أصلاً غير موجودة، ولمعاناة الطلبة من إدراك ضابطةٍ لكلِّ موضوعٍ ابتكر الشهيد الأوَّل كتابه وذكر أنَّه لم يُعمل مثله من قَبْل باتِّخاذه منهجيَّةً جديدةً تحقِّق العمليَّة الاستنباطيَّة بشكلٍ أكثر علميَّة ووفق الأسس الكليِّة التي لها مصاديق خارجيّة على ضوء الرجوع إلى القاعدة الكليَّة، وهو ما يسهِّل الاستنباط في كلِّ مستحدَثٍ وجديد هل تشمله القاعدة أم يحتاج إلى النظر إلى النصوص واستخراج قاعدةٍ كليَّة جديدةٍ تشمل الحدث الجديد وهو روح الاجتهاد، وعبارتهMفي هذه الإجازة لتلميذه توحي بذلك بعد لفظ فرعيَّة: «تستنبط منها أحكام شرعيّة».

ومن كتاب (القواعد والفوائد) نستشعر الروح العلميَّة للشهيد الأوَّل في تطوير المنهج الدِّراسي للدِّراسات الدينيّة بإيجاد مناهج تواكب العصر مع ما هو موجود من مناهج كانت القمَّة في النضج العلميّ، والتي ما زالت محطَّ أنظار الفقهاء في الدِّراسات اليوم فقد تتلمذ على يد كبار فقهاء مدرسة الحلّة ورغم وجودهم ابتكر بما حمل من ثقافةٍ متنوِّعةٍ واسعةٍ كتاب القواعد والفوائد.

مكانة الكتاب العلمية وأقوال العلماء فيه

قال الشيخ محمد بن علي الحرفوشيّ العامليّ (ت1059هـ) في شرحه لقواعد الشهيد الموسومة بـ (القلائد السنيَّة على القواعد الشهيديّة): «إنَّ كتاب القواعد... كتاب لم يَنسج أحد على منواله، ولم يظفر فاضل بمثاله، انطوى على تحقيقات هي لطائف الأسرار، واحتوى على اعتبارات هي عرائس الأفكار»[12].

وذكر بعض العلماء أنّه: «من الكتب الممتعة التي دارت عليها رحى التدريس وعلقت عليه حواشٍ وشرح بشروح»[13].

والحواشي عبارة عن تعليقات وإيضاحات دالّةٍ على أهميَّة الكتاب عند الفقهاء وتدارس محتوياته بالدقَّة التي تجعل المُطالع له يصنع هذه الحواشي له أو لطلابه حين يقوم بتدريس مادّته أو هي إشكالات على المصنِّف.

ذكر محقِّق كتاب (القواعد والفوائد) الدكتور عبد الهادي الحكيم أسماء الشّارحين للكتاب وأسماء المحشِّين عليه فقال: «فمِّمن شرحه:

  1. الميرزا أبو تراب، المعروف بميرزا آغا القزويني الحائريّ المتوفّى بعد سنة 1292هـ.
  2. الشيخ علي بن علي رضا الخوئي (ت1350هـ)».

أمَّا حواشيه فكثيرة منها:

  1. حاشية الشيخ أبي القاسم علي بن طيّ العاملي (ت855هـ).
  2. حاشية الشيخ البهائي محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجبعيّ العاملي (ت1031هـ).
  3. حاشية ميرزا قاضي بن كاشف الدين محمد اليزدي (ت1056هـ).
  4. حاشية الشيخ محمد بن الحرفوشي (ت1059هـ)، في حين ذكر المختاري في كتابه (الشهيد الأوّل حياته وآثاره) أنّه شرح (كتاب القواعد والفوائد) وسمَّاه (القلائد السنيَّة على القواعد الشهيديَّة)[14] وليس هو على نحو الحاشية، ويمكن أن يكون له حاشية وشرح.
  5. حاشية المولى حسن علي بن عبد الله التستريّ (ت1075هـ).
  6. حاشية الشيخ محمد بن محمد باقر الشهير بالفاضل الأيرواني (ت1306هـ).
  7. حاشية السيد إسماعيل بن نجف المرنديِّ (ت1318هـ).
  8. حاشية السيد محمد بن محمود الحسيني اللواساني الطهراني المعروف بـ (عصار) (ت1356هـ).
  9. حاشية ميرزا محمد بن سليمان التنكابني[15].

يبيِّن لنا هذا الاستعراض أهميَّة مشروع الشهيد الأوَّل بظهور حركة تقعيد الفقه فهو أي عصره عصر الاهتمام بالقواعد الفقهيَّة المدوَّنة فالحركة الفقهيَّة المستقلِّة التي قام بها الشهيد الأوّل توجَّت نشاطها بهذا الاهتمام واستمرَّت الاهتمامات منذ عصر الشهيد حتّى عصرنا هذا[16].

موارد كتاب (القواعد والفوائد):

اعتمد الشهيد الأوَّل على عدَّة مصادر لتصنيف كتابه من فقهاء الشيعة ومدوّناتهم وعلماء المسلمين ومصنَّفاتهم فقد ذكر المحقِّق الأستاذ عبد الهادي الحكيم في مقدِّمة التحقيق جملةً من مصادر الفقه الإمامي التي اعتمدها الشهيد في كتابه ولم يسمِّ الغالب بالاسم الصريح فيظهر ممَّا ذكره أنَّ الشهيد الأوَّل اعتمد على كتب العلامة الحلي (ت726هـ) أكثر من غيره من فقهاء الإماميَّة، أمَّا مصادره من الفقه السنيّ فكان منصبَّاً على كتاب الفروق للقرافي وقواعد الأحكام لابن عبد السلام أكثر من غيرهما من مصادر الفقه عند السنة[17].

أغلب المنقولات هي تحت طاولة النقاش والتحليل والمقارنة والتضعيف وربما نُسب إلى بعض الآراء الخيال[18]، فلا يعني أنَّه ينقل من هذه المصادر فقط بدون تحليل واستنتاج ليضعه في كتابه، وهو كما يردُّ ويعلِّق على موارد من الفقه السنيِّ يفعل ذات الشيء مع الفقه الإماميّ فقد يذكر الرأي الفقهيّ ثمَّ يقول لا يخلو من إشكال وهكذا[19].

المبحث الثالث: نظرة منهجيَّة في كتاب القواعد والفوائد

أ ـ الفكر المقاصديّ

ابتعد فقهاء الإماميَّة عن بحث المقاصد خوفاً من الوقوع في القياس والإفراط العقليّ والبحث عن مناطات الأحكام؛ لذلك لم يهتمَّوا بالفكر المقاصديّ إلاّ الشهيد الأوَّل فهو لم يُغفل عن هذا البحث المهم[20] فقد ركَّز عليه في القاعدة (4) و (5) و (6) إذ ربط القواعد الشرعيَّة بالمقاصد، ولعلَّ المقداد السيوريّ أشار إلى هذا المنحى المقاصديّ في مقدِّمته[21]، ممَّا دعا بعض الباحثين إلى القول بأنَّ الاتِّجاه العام في قواعد الشهيد الأوَّل هو الاهتمام بالقواعد الفقهيَّة على أساس الاهتمام بالمقاصد الشرعيّة[22].

اهتمَّ الشهيد الأوَّل في بعض أبحاثه بمقاصد الشريعة وذكر الضروريَّات الخمس أو ما يسمِّيه بالمقاصد الخمسة وهي النفس والدِّين والعقل والنسب والمال مصرحاً بقوله: «وبهذه المقاصد والوسائل تنتظم كتب الفقه»[23]، وهي إشارة بالغة الأهميَّة فهو يُفيد التعميم بهذه المقاصد على كلِّ الأبواب الفقهيَّة وتقسيماته بل يعمِّم الحكم إلى كلِّ تشريعٍ إذ يقول بعد ذكر المقاصد الخمسة: «التي لم يأت تشريع إلاّ بحفظها»، ثمَّ يذكر أنَّ حفظ النفس بقانون القصاص أو الدية أو الدِّفاع، وحفظ الدين بالجهاد وقتل المرتد، وحفظ العقل بتحريم المسكرات والحدِّ عليها، وحفظ النسب بتحريم الزنا، وحفظ المال بتحريم الغصب والسرقة والخيانة وقطع الطريق والحد والتعزير عليها[24].

هذه النظريَّة المقاصديَّة وإن ابتعد عنها فقهاء الإماميّة إلاّ أنَّها مأخوذة من التعليلات الواضحة في القرآن والسنة فإنَّ النظر فيهما وتتبِّع سيرة المعصومين R يمكِّن الفقيه من استنباط الأحكام وفق هذه النظريَّة التي يُمكن معرفتها بأُسس الإسلام وخطوطه العريضة وأحكامه المبنيّة على المصالح والمفاسد والمتَّفق على هذا القول عند جميع المسلمين ويمكن تحديد المصالح على ضوء التزاحم بين الأهمِّ والمهم وتقديم الأهمِّ بما يُوافق النظريَّة الإسلاميَّة وبما يخالفها فالأوَّل مصلحة والثاني مفسدة ولا يمكن القول في الإفراط العقليّ في التشريع أو الإفراط في الاحتياط وذلك ليسر وسهولة الشريعة الإسلاميّة، وبساطة التشريع بالنظر إلى جملة أحكامه الميسرة، وهذا ما تنبَّه إليه الشهيد الأوَّل وأشار إليه ولكنَّه لم يتوسَّع فيه ربما لأنَّ كتابه كما صرَّح به في إجازته بأنّه مختصر.

وأشار إلى أنَّ حكم الوسائل في الأحكام الخمسة حكم المقاصد ثمَّ قال: «وتتفاوت في الفضائل بحسب المقاصد فكلَّما كان أفضل كانت الوسيلة إليه أفضل وقد مدح الله تعالى على الوسائل كما مدح على المقاصد بالذّات»[25]، ثمَّ استدلَّ بالآية الشريفة من قوله تعالى: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ{(التوبة، 120)، فمدح على الظمأ والمخمصة كما مدح على النيل من العدو وإن لم يكن الظمأ والمخمصة بقصد المكلف لأنَّه إنَّما حصل بحسب وسيلته إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى عزَّة الإسلام وإعلاء كلمة الله تعالى الذين هما وسيلتان إلى رضوانه[26]، ولأهميَّته أعاد هذا البحث في الجزء الثاني وفي القاعدة (174).

ب ـ الفقه الاجتماعيّ

جاءت تعاليم وأحكام الإسلام إلى الناس كافَّة، ونظَّمت أشكال العلاقات الاجتماعيَّة بأدقِّ التفاصيل بين الفرد نفسه والجماعة التي تُعايشه مهما كانت هذه الجماعة فالإنسان بطبعه اجتماعيٌ يُحبُّ التعايش مع غيره، فجاءت الأحكام توافق الطبع والواقع وتنظِّمه بما هو الصالح لهذا التعايش المبنيِّ على نظام الحقوق والواجبات وهي معلّلة بجلب النفع ودفع الضرر عن الإنسان في الدنيا والآخرة، فالأصل أنَّ الأحكام اجتماعيَّة لا فرديَّة وإن اهتمَّت بالفرد، فوحدة الجماعة تأخذ في الإسلام حرمة دينيّة قال تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا...{(آل عمران، 103)، وأغلب الأوامر والنواهي لا تتعلَّق بالإنسان نفسه وإنَّما تتعلَّق به والناس، فالإسلام لا يغرق في الفرديَّة[27]، وقد تنبَّه الفقهاء إلى دور الفقه الاجتماعيِّ بعد فقدان النصِّ ومحاولة تحجيمه في أغلب الأزمنة والأمكنة وحيث ما يوجد تسلَّط، ومع هذا عرضت بعض مفردات النظريَّة الاجتماعية في باب تزاحم الحقوق وتطبيقات قاعدة نفي الضرر، فقد بحث الشيخ الطوسيّ ضمان جناية البهائم التي تقف في طريق المسلمين، والشهيد الأوّل في كتابه (الدروس) حقوق وواجبات الفرد والجماعة ضمن بعض المفردات الفقهيّة الخاصة بطريق مرور المسلمين العام[28]؛ أمَّا في كتابه (القواعد والفوائد) فقد استعرض الوسائل في القاعدة السابعة فقال: «الوسيلة الخامسة: ما كان مقوياً لجلب المصلحة ودفع المفسدة وهو القضاء والدعاوى والبيّنات، وذلك لأنَّ الاجتماع من ضروريَّات المكلَّفين، وهو مظنَّة النزاع فلابدَّ من حاسمٍ لذلك وهو الشريعة ولابدَّ لها من سائس وهو الإمام ونوَّابه والسياسة بالقضاء وما يتعلَّق به»[29].

وعبارته في هذا المتن: «الاجتماع من ضروريَّات المكلَّفين» هو الابتعاد عن الفرديَّة أو إعطاء الحكم الفرديّ ما أمكن فالعبادات وإن كانت فرديّةً إلاّ أنَّ الجوانب الاجتماعيَّة هي آثارها وانعكاساتها في البُنية الاجتماعيَّة أو بناء التراصِّ الاجتماعيِّ للمجتمع المسلم، بل إنَّ قوَّته في البناء المجموعيّ على ضوء الفتوى التي لا تفرِّق بين الفرد وما يتعلَّق به من محيطٍ ولابد من التعايش معه وهي الضرورة التي يتحدَّث عنها الشهيد الأوَّل وعلى ضوء هذه النظريَّة التي تأخذ أبعادها في الوقت الحاضر يكون الشهيد الأوَّل قد أشار إليها وإن كانت إشارته مقتضبة إلاّ أنَّ ضغط هذه العبارة بهذا الشكل ممَّا يولِّد عدَّة أبحاث عنها في القرآن والسنة الشريفة للخروج بالنظريَّة الاجتماعيّة في الإسلام.

إنّ ظاهرة الاجتماع الإنسانيِّ عرضها الأنبياء R قبل غيرهم وشرَّعوا لها من الحدود والموازين ما يحفظ لها دورها في كسب المنفعة لأفراد المجتمع ودفع الضرر عنهم[30]. وتوسَّع الشهيد الأوَّل في متعلَّقات الأحكام وقسمها إلى قسمين:

أحدهما: ما هو مقصود بالذَّات وهو المتضمَّن للمصالح والمفاسد.

والثاني: ما هو وسيلة وطريق إلى المصلحة والمفسدة[31].

ج ـ مباحث الشرط والسبب والمانع في كتاب (القواعد والفوائد)

توسَّع الشهيد الأوَّل في هذه المباحث المهمَّة وأعطى قواعد مهمَّة لا غنى للفقيه عنها، فبعد أنْ عرف الشرط لغة وعرفاً (اصطلاحاً) وذكر خواصه قسّمه إلى قسمين:

  1. شرط السبب: ما يخلّ عدمه بحكمة السبب كالقدرة على التسليم بالنظر إلى صحّة البيع، فعدم القدرة يخلُّ بحكمة المصلحة وهي الانتفاع بالمبيع[32].
  2. شرط الحكم: كلُّ ما اشتمل على حكمةٍ تقتضي عدمه نقيض حكمة السبب مع بقاء حكم السبب كالطهارة للصلاة[33].

أمَّا المانع فقد قسَّمه هو الآخر إلى قسمين:

  1. مانع السبب: كلُّ وصفٍ وجوديٍّ ظاهرٍ منضبطٍ يخلُّ وجوده بحكمة السبب كالأبوَّة المانعة من القصاص في موضعه لأنَّ الحكمة التي اشتملت الأبوَّة عليها هي كون الوالد سبباً لوجود الولد، وذلك يقتضي عدم القصاص، لئلا يصير الولد سبباً لعدمه[34].
  2. مانع الحكم: كلُّ وصفٍ ظاهرٍ منضبطٍ مستلزمٍ لحكمةٍ مقتضاها نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب كالدَين المانع من وجوب الخمس في المكاسب لذا يقدَّم الدين لأنَّه أهمُّ من الخمس لكنَّ الحكمة باقيةُ في الخمس لنفع أهل البيتR[35] وذريّتهم.

وهذا المبحث أقصد الحكمة الذي تطرَّق إليه الشهيد الأوَّل ولم يذكر العلَّة والفرق بينها وبين الحكمة إلاّ إذا قصد من الحكمة هي العلَّة كما هو ظاهر كلامه فإنَّ الوصف الظاهر المنضبط للعلَّة لا للحكمة كما يذكر العلماء وكما يمثِّلون بحكمة تشريع القصر في الصلاة وهو لرفع المشقَّة وهي وصف ظاهر غير منضبطٍ فالمشقَّة متفاوتةٌ بين الناس، فالقصر تشريع حكمته رفع المشقّة لا علَّته ذلك.

وما أشار الشهيد الأوَّل في بيان حكمة الأحكام فهو بحث أصيل يحتاج إلى التوسعة فيه وأن لا تتحرَّك الحكمة من الأحكام وتعامل معاملة علَّة الأحكام وهو من أهمِّ مقاصد وأهداف الشريعة، ويبدو من الشهيد الأوَّل بكلامه في مانع السبب ومانع الحكم يؤكِّد على الحكمة وآثارها في بقاء الحكم وعدمه.

يؤكِّد الشهيد الأوَّل أنَّ مباحث الحكم الوضعيّ هي الشرط والسبب والمانع أمَّا ما يذكره العلماء زيادة كالصحَّة والبطلان والعزيمة والرخصة هي مفسَّرة في كتب الأصول فلا يقوم بشرحها لكنَّه يشرح ما يذكره القرافي في كتابه (الفروق) وهو التقدير فيشرح ذلك شرحاً مفصلاً[36].

دـ مبحث النية في كتاب (القواعد والفوائد)

وهو من المباحث المهمَّة الموسَّعة كما عنونها بـ (تبعيَّة العمل للنيّة) ثمَّ استدلَّ على ذلك بالكتاب والسنّة ومدركها قول النبيّ P: «إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى» ويعلم منه أنَّ من لم ينو لم يصحّ عمله بدلالة الحصر في الجملة الثانية فإنَّها صريحة في ذلك[37]، ثمَّ يذكر فوائد هذه القاعدة ويصل بها إلى (31) فائدة، ويتوسَّع في الفائدة الثانية وهي في معنى الإخلاص ثمَّ يذكر الإخلال به بعد تعريفه وهو من البحوث الجامعة المانعة واستدلَّ بالكتاب والسنَّة وهو من أهمِّ مداركه في الكتاب.

وعبَّر عن الركن الأعظم في النية هو الإخلاص[38]، ونقل قول أمير المؤمنين Q في صفات الجلال والإكرام التي عليها مدار علم الكلام عندما سأله ذعلب اليماني وضبط لفظ ذعلب فقال بالذال المعجمة المكسورة والعين المهملة الساكنة واللام المكسورة: «هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين؟ فقال Q: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة الأعيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين..».[39] هذا البحث عن النيّة مع الاستدلالات يُعدُّ من البحوث المهمَّة إذ يستغرق من الكتاب الصفحات من 74 إلى 123 ويعرض فيه آراء متعدَّدة لمختلف المدارس الفقهيَّة وتأثير النيَّة سلباً وإيجاباً وموقف الشريعة من ذلك والعقاب والذم على ضوء الدّوافع النفسية للفعل أو الترك.

وفي الفائدة الثانية والعشرون يناقش الآراء الواردة في النبويّ المشهور: «إنَّ نية المؤمن خيرٌ من عمله» ويقول ربما روي: «إنَّ نيَّة الكافر شرٌ من عمله» ثمَّ يذكر الإشكالات على هذه الأحاديث والأجوبة عليها تصل إلى ثمانية[40] آخرها إجابة الغزالي (ت505هـ): «بأنَّ النية سرٌ لا يطَّلع عليه إلاّ الله تعالى وعمل السرِّ أفضل من عمل الظاهر»[41].

وفي الفائدة الخامسة والعشرون يقرِّر الشهيد الأوَّل معنى العارف بقوله: «ينبغي للثاقب البصير في الخيرات أن يستحضر الوجوه الحاصلة في العمل الواحد»، ومثَّل له بالجلوس في المسجد فإنَّ له أكثر من عشرين وجهاً ثمَّ يذكر هذه الوجوه التي هي كلّها حسنات إذا قصد منها العارف ذلك أي قصدها بأجمعها إجمالاً أو تفصيلاً تعدَّد بذلك عمله وتضاعف جزاؤه فبلغ بذلك أعمال المتَّقين وتصاعد في درجات المقرَّبين وعلى ذلك تحمل أشباهه من الطاعات[42].

ثمَّ يقرِّر في الفائدة السابعة والعشرون بقوله: «لمَّا كانت الأفعال تقع على وجوه واعتبارات أمكن أن يكون الفعل الواحد واجباً وندباً وحراماً ومباحاً على البدل وإنَّما يختص ذلك بالنيّة»[43]، ومثَّل لذلك بضربة اليتيم فإنَّها تجب في تعزيره وتستحبُّ في تأديبه وتحرم لإهانته[44]، فهذه الأفعال تابعة لقصد ونيّة الفاعل ويحاسب عليها باطناً عند الله عزَّ وجل وهي على هذه الوجوه التي ذكرها الشهيد الأوَّلMثمَّ نفى التلفّظ في النيّة وأنَّه يقع لغو ولا عبرة باللفظ بل إنَّ: «المراد جمع الهمّة على ذلك وبعث النفس وتوجّهها وميلها إلى تحصيل ما فيه ثواب عاجل أو آجل تلفَّظ بذلك أو لا ولو قدر تلفظه بذلك والهمّة غيره فهو لغو»[45].

أمَّا المجالات الفقهيَّة فقد ذكر في الفائدة الحادية والثلاثون: «الأصل أنَّ النية فعل المكلَّف ولا أثر لنيَّة غيره»[46]، إلاّ في صوَرٍ منها: «إذا أخذ من المماطل قهراً فإنَّه يملك ما أخذه إذا نوى المقاصّة..».[47].

مبحث العادة في (القواعد والفوائد)

أهمُّ ما في البحث الفائدة الثانية الدَّالة على نظريَّة الزمان والمكان وتغيّر الأحكام فقد ذكر أنّه: «يجوز تغيّر الأحكام بتغيّر العادات»[48] ونظريَّة الزمان المكان ومدخليّة ذلك في الاستنباط الفقهيّ قال بها بعض الفقهاء واعتمدها في اجتهاداته الفقهيّة وهناك مجموعة من الآراء حول دور العامل الزمانيّ والمكانيّ في تغيير الأحكام وممَّن عرض نظريَّة الزمان والمكان السيد الامام الخمينيّMفهو يرى أنَّ هذه النظريَّة هي الممهِّدة لرسم هيكليَّة النظريَّات الفقهيَّة في تقويم النصِّ ودلالته في إطار الزمان والمكان وتأثيرهما الإيجابي على سعة الأفق وروح الاستنتاج التي يُضيفها عامل العصر والموقع المكانيّ[49]، ونرى أنَّ هذه النظريَّة لها جذور في الفقه الإماميّ وبالذَّات عند الشهيد الأوّل وربما قبله ولكن الشهيد الأوَّل ذكر ذلك صراحة وأجازه ثمَّ مثَّل لذلك بعدَّة أمثلة منها:

  1. النقود المتعاورة (المتداولة).
  2. الأوزان.
  3. نفقات الزوجات والأقارب فإنَّها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه[50].

كلُّ هذه الأمثلة من الفقه المتغيِّر التي تخضع للعادة والعرف وهو ما نراه اليوم من مستحدَثات في النقود والأوزان والنفقات، وهو من تأثير الزمان والمكان وعادة التغيّر والتحوّل سائرة على مدى العصور، وفي عصرنا عصر التطوّر الهائل بل المتغيِّرات السريعة وفي كافَّة المجالات أصبح الإنسان يشاهد العالم من بيته، ويعقد الصفقات التجاريّة بدون الحضور والمقابلة وأصبح للأوراق النقديّة المتداولة أسواق خاصّة فيها يجري البيع والشراء وقد يجري الاتِّصال عبر البريد الالكترونيّ أو عن طريق الاتِّصال السريع وغيرها من المعاملات التجاريّة بين البشر اليوم[51].

مبحث الحلف بالله أو بأسمائه الخاصة

وهو من البحوث الطويلة ذكره الشهيد الأوّل وأثبته تلميذه المقداد السيوريّ في (نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الإماميّة)، قال الشهيد الأوَّل: «إنَّما يجوز الحلف بالله أو بأسمائه الخاصّة»[52]، وبعد هذا يشرح الأسماء الحسنى شرحاً موجزاً مبيِّناً معانيها ويبدأ البحث من الصفحة 166 إلى 175 ويبيِّن معنى الله قائلاً: «وهو اسم للذَّات لجريان النعوت عليه، وقيل: هو اسم للذَّات مع جملةِ الصِّفات الإلهيَّة فإذا قلنا الله فمعناه: الذَّات الموصوفة بالصِّفات الخاصَّة وهي صفات الكمال ونعوت الجلال وهذا المفهوم هو الذي يعبِّد ويوحّد وينزِّه عن الشريك والنظير والضد والندّ والمثل وأمَّا سائر الأسماء فإنَّ آحادها لا يدل إلاّ على آحاد المعاني من علم وقدرة»[53].

وذكر الأسماء التي تدلّ على فعلٍ منسوبٍ إلى الذَّات وهي: الرحمن والرحيم والعليم والخالق والقدّوس والباقي والأبديّ والأزليّ مع الشرح الموجز الذي عبَّر عنه بالإشارة الخفيفة[54]، ولكنَّه استطرد في ذكر جميع الأسماء الحسنى مع بيان معانيها وأهميّتها وكلّها يقع الحلف بها ويبيِّن ذلك في فوائد ثلاثة ويقول في آخرها، ولابدَّ في الأيمَان كلها القصد عندنا وإن كانت بلفظٍ صريح[55].

خلاصة البحث

استعرضنا في عنوان هذه الدِّراسة العنوان تطوَّر الدِّراسات الفقهيَّة عند الشهيد الأوّل (ت786هـ) في كتابه: القواعد والفوائد، وتوصَّلنا إلى النتائج التالية:

  1. إنَّ الشهيد الأوَّل أوَّل من صنَّف في مثل هذه العلوم أي علم القواعد من علماء الإماميَّة.
  2. أهميَّة الدِّراسات في القواعد الفقهيَّة أنَّها تساعد الفقيه على إدراك التفريعات والمصاديق وتطبيقاتها الخارجيّة.
  3. دراسة الفكر المقاصديِّ عند الشهيد الأوّل والبحث عن مبانيه في مصنَّفات الشهيد غير (القواعد والفوائد) لتكوين رؤية واضحة عن هذا الفكر.

نأمل من الباحثين والدَّارسين الاهتمام بالجوانب المتعدّدة لفكر وتراث الشهيد الأوَّل بدراسات أكثر عمقاً وبياناً للاستفادة منها في شتَّى المجالات الفكريّة وخدمة لطلاب العلم ومريديه، والله ولي التوفيق والحمد لله أولاً وآخراً.

[1](*) باحث - العراق.

[2] البجنورديّ: محمد حسين، القواعد الفقهية، تحقيق: مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي، قم: الهادي، 1419هـ، مقدّمة التحقيق، ص9.

[3] المصدر نفسه، مقدِّمة التحقيق، ص10.

[4] المصدر نفسه، مقدِّمة التحقيق، ص10.

[5] السيوري: مقداد بن عبد الله الحلي، نضد القواعد الفقهية على مذهب الامامية، تحق: عبد اللطيف الكوهكمري، قم: مكتبة آية الله العظمى المرعشي، ص4.

[6] المصدر نفسه، ص4.

[7] المصدر نفسه: مقدمة المحقق 5.

[8] للمزيد: يُنظر كتاب نضد القواعد الفقهية للمقداد السيوري.

[9] مقدّمة محقِّق كتاب القواعد والفوائد، ج1، ص9.

[10] بحث مقدَّم إلى مؤتمر الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء الذي اقيم في الجامعة الإسلامية في النجف الأشرف بعنوان (منهج الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (ت1373هـ) في كتابه تحرير المجلة) من كاتب هذه السطور.

[11] المختاري: رضا، الشهيد الأول حياته وآثاره، قم: مكتب الإعلام الإسلامي، 1426هـ، ص231.

[12] المصدر نفسه: ص189.

[13] المصدر نفسه: ص191.

[14] المصدر نفسه: ص189.

[15] مقدمة المحقِّق عبد الهادي الحكيم، ص13.

[16] الحكيم: منذر، بحث بعنوان (دراسة الشريعة من فقه المقاصد إلى فقه القواعد) مطالعة تاريخية، مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد 4 لسنة 1427هـ/2007م، ص261.

[17] مقدمة التحقيق: ص10.

[18] القواعد والفوائد: ج1، ص136.

[19] المصدر نفسه: ج1، ص99.

[20] الحسيني: علي رضا الصدر، بحث بعنوان (مقاصد الشريعة ومصالح الأحكام في فقه الامامية)، مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد 5 لسنة 1427هـ / 2007م، ص97

[21] الحكيم: منذر، بحث بعنوان (القواعد الفقهية في التراث الفقهي الامامي تأسيساً وتطوراً)، مجلة فقه أهل البيت R، العدد 43 السنة الحادية عشرة 1427هـ/2006م، ص168.

[22] المصدر نفسه: ص169.

[23] المصدر نفسه: ج1، ص39.

[24] المصدر نفسه: ج1، ص38.

[25] المصدر نفسه: ج1، ص60.

[26] المصدر نفسه: ج1، ص60 ؛ ج2، ص81.

[27] بنت الشاطئ: عائشة عبد الرحمن، الشخصية الإسلامية دراسة قرآنية، (بيروت: دار العلم للملايين، 1977م)، ص188.

[28] الأعرجي: زهير، مباني النظرية الاجتماعية في الإسلام، (قم: المطبعة العلمية، 1417هـ)، ص92.

[29] ج1، ص138.

[30] الصدر: مجتمعنا، (بيروت: دار المرتضى، 1429هـ)، ص20.

[31] ج1، ص60.

[32] ج1، ص64.

[33] ج1، ص64.

[34] ج1، ص66.

[35] ج1، ص67.

[36] ج1، ص68.

[37] ج1، ص74.

[38] ج1، ص78.

[39] ج1، ص77.

[40] ج1، ص108.

[41] ج1، ص114.

[42] ج1، ص116.

[43] ج1، ص118.

[44] ج1، ص118.

[45] ج1، ص120.

[46] ج1، ص122.

[47] ج1، ص123.

[48] ج1، ص151.

[49]العذاري: جواد، بحث بعنوان ((فقه النظرية معرفة وتطبيق))، مجموعة مقالات مختارة من المؤتمر الدولي الخامس عشر للوحدة الإسلامية، بعنوان الاجتهاد والتجديد، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 1424هـ، ج2، ص118.

[50] ج1، ص152.

[51] الربيعي: حسن كريم ماجد، نظريات فقهية معاصرة، محاضرات لقسم الفكر والعقيدة / الجامعة الإسلامية في النجف الأشرف، ص43 غير منشورة.

[52] ج2، ص165 ؛ نضد، ص314.

[53] ج2، ص166 ؛ نضد، ص314.

[54] ج2، ص166.

[55] ج2، ص180.

أعمال جلسات المؤتمر

اليوم الأول:

الثلاثاء 31 أيار 2011 – قرية الساحة التراثية - طريق المطار - بيروت

الجلسة الثانية

برئاسة الشيخ محمود محمدي عراقي
(ممثلا الشيخ محمد حسن الأختري)

نائب الرئيس السيد حسن الموسوي التبريزي

مبادئ على طريق وحدة الأمة

الشيخ ماهر حمود (*)

الذي يلفت النظر في سيرة الشهيدين، الأول والثاني وخاصة الثاني، تلك العلاقة المميزة الواسعة مع علماء العالم الإسلامي في كل مكان من دمشق إلى بغداد إلى القاهرة، وجولاتهما في بلاد المسلمين قاطبة من دون تمييز، وحرصهما على التعرف على أحوال المسلمين واكتساب ثقافة إسلامية واسعة عن الشعوب الإسلامية، والتواصل مع فئات المجتمع كلها.[1]

إن من شأن هذه السيرة، أن تؤكد أن علماء المذهب الشيعي أو الامامي أو الجعفري، طرحوا أنفسهم كجزء لا يتجزأ من الحركة العلمية الإسلامية المنتشرة في كل مكان من العالم الإسلامي، وطرحوا أنفسهم كجزء لا يتجزأ من مجتمع المسلمين، وليس كما يصورهم البعض، أو كما يصور بعض الامامية أنفسهم كجزء منفصل عن الأمة ينتظر فشلها، مثلا، ليقول نحن على الحق وليس انتم، أو نجاحها وانتصارها ليشكك في هذا الانتصار وفي ذلك الانجاز باعتبار أن النصر والانجاز لا يأتيان إلا من أصحاب العقائد السليمة مثلا، ويحاول بذلك أن يحتكر الإسلام لنفسه أو يخيطه على قدر حجمه وكأنه ثوب خاص به.

إننا نستنتج من قراءة سيرة الشهيدين استنتاجات يجب أن نكون جميعا حريصين على قراءتها بقلوب واعية وأفهام منفتحة.

أولا: وحدة الأمة بعلمائها وقادتها وفئاتها: إذ أعطانا مفهوم الوحدة المتجذرة في عقيدة وتاريخ المسلمين معينا لا ينضب من الأفكار واسند ظهورنا إلى ركن مكين يجعلنا أقوياء على اختلاف مراحل التاريخ، وبتفاوت ملحوظ بين فترة وأخرى.

ولا تعني وحدة الأمة بالتأكيد إلغاء التنوع وإلغاء التعددية داخل الوحدة، وهذا ما تشهد به الانجازات العلمية كلها والخريطة السياسية والتاريخية للأمة بكل فروعها وأشكالها.

إن وحدة الأمة من خلال علمائها شرط للانتماء لهذا الإسلام العظيم، إذ أكد القرآن الكريم مفهوم الوحدة في القرآن بطريقة لا تحتمل أي التباس، وجعل وحدة الأمة شرطا حقيقيا من شروط النصر والتمكين، بل شرطا من شروط الانتماء إلى الإسلام، إذ يصبح التفرق والاختلاف صفة يتصف بها المشركون.

}مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{ (32) – سورة الروم.

ثانيا: تأكيد أن الاختلاف في الاجتهاد لا يخرج من الملة: لقد ثبت بالدليل القاطع وعند جميع المسلمين أن صحابة رسول الله P اختلفوا في الاجتهاد بوجود رسول الله P بينهم، وعندما احتكموا إليه اقر الاختلاف ولم يعنف من اجتهد، بل اقر كل مجتهد على اجتهاده طالما أن الاجتهاد ينطلق من دليل شرعي معتبر وطالما يقصد المجتهد أن يصل إلى الحق من خلال اجتهاده. ويختصر الأمر كلمة رسول الله P للذَيْن اختلفا في موضوع التيمم، هل يعاد أو لا عند وجود الماء ضمن وقت الصلاة: أنت أصبت السنة واجزأتك صلاتك وأنت لك الأجر مرتين، وكذلك في موضوع صلاة العصر في بني قريظة، وكذلك في موضوع القراءات، حين اقر قراءات الجميع على رغم اختلافها بقوله: «إن هذا القرآن انزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه».

بل لقد ضحك الرسولP من المجتهد المخطئ من دون نص بين يديه حتى بدت نواجذه، عندما اخبره الصحابي الذي كان أميرا على سرية، انه تمرغ بالتراب ليزيل الحدث الأكبر وصلى بمن معه إماما. ونختصر كل ذلك بقوله P: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله اجر واحد، وإذا أصاب فله أجران. وغني عن القول انه بعد رسول اللهP ظهر تباين واضح بين المسلمين في فترات متعددة، وظل المسلمون في تماسك عام وفي صلاة واحدة ولم تتفرق جماعتهم إلا بعد تفاقم الخلاف واخذ منحى آخر كما سيأتي.

ولعل الكلمة المثلى في هذا الصدد لسيدنا الإمام علي الذي وصف الخوارج بأنهم إخوانه على رغم أفعالهم، قال: إخواننا وبغوا علينا.

ولا يخفى بعد ذلك المثل الرئيسي الذي نهمله أحيانا ويعمد بعضنا إلى تفسيره بشكل خاطئ، وهو اجتماع الإمام جعفر بالإمام أبي حنيفة وتلقي الثاني العلم عن الأول، وما عبر عنه في مقولته المشهورة: لولا السنتان لهلك النعمان.

ثالثا: غلبة السياسة على الفقه: لقد أنبأ رسول الله P أن القرآن والسلطان سيفترقان، بمعنى أن سلطة الدين والدنيا تكون واحدة في أول أمر الإسلام، ثم تصبح سلطة الدنيا في مكان وسلطة الدين في مكان آخر، وهذا ما حصل بانقضاء الخلافة الراشدة، إذ يمثل الخليفة بشخصه سلطة الدين والدنيا معا.

ولكن عندما غلب على الحاكم النازع الدنيوي، فأصبح يقاتل على الكرسي فقط ويقتل من اجلها، اختلف الوضع. وبرأينا المتواضع لو أن علماء الدين استنكروا التنكيل بأهل بيت رسول الله P، وشتمهم على المنابر خاصة قبيل انقضاء المئة الأولى من تاريخ الإسلام، لكان شكل المذاهب اليوم يختلف عما هو عليه، ولكانت الفوارق اقل والآراء اقرب لبعضها البعض. بمعنى أن بعضا مما في مذاهبنا جميعا جاء كردة فعل عن ظلم مدروس في حق فئة منا، فجاء الرد مغالاة ومبالغة في الأمور التي تميز كل مذهب عن الآخر، ثم كان ردة الفعل الأخرى بالمبالغة والمغالاة من الجهة الأخرى وهكذا.

أدعو الجميع في مناسبة الحديث عن الشهيدين الجزيني والجبعي إلى التفكر بهذه الفكرة، والتي أراها رئيسية وهامة: إن بعض ما في مذاهبنا هو ردة فعل على ظلم وتماد مورس في حق فئة منا، فليعمد كل فريق إلى البحث عما يمكن أن يراه ردة الفعل، انطلاقا من أن فروع المذاهب لا يمكن أن تكون بنفس القوة من حيث الدليل مع الأصول الرئيسية التي يعتمد عليها كل منا في تأكيد مذهبه واجتهاده. لكن المشكلة اليوم أننا نقدم لجمهورنا فروع المذهب وما فيه من اختلاف بين مجتهدي المذهب أنفسهم بنفس القوة وبنفس التشدد الذي نقدم فيه أصول مذهبنا وأركانه.

ونحن في غنى عن ضرب أمثلة، ولكن أقول داعيا إلى التفكر في هذه النقطة بالذات: هل دليل المهدية بالتفاصيل التي يرويه بعض الامامية هو بنفس القوة التي يستدل بها الامامية على الوصاية، وهل ينبغي أن يكون تمسك السنة بعهد عمر بن الخطاب ونموذجه المميز في الحكم كتمسكهم بنموذج معاوية بن آبي سفيان؟

وان الخوض في هذه الفكرة قد يثير نزاعا أكثر مما يؤدي إلى وفاق بين أهل مؤتمرنا. ولكن أطلب التفكر في هذا. ولقد قدمت في مكان آخر دراسة حول كيفية التعامل بين المسلمين في قضايا الخلاف على الشكل التالي:

أن ينظر كل منا إلى مذهبه كأجزاء وليس ككتلة واحدة، فيميز بين ما هو رئيسي وقوي ويقيني وبين ما يأتي استتباعا، وسنجد أن هنالك نقاط قوة ونقاط ضعف، وليكن عندنا الجرأة لنعترف بنقاط الضعف قبل نقاط القوة، وليقدم كل منا نقاط ضعفه للآخر كدليل على حسن النية وعلى الرغبة في الحوار الذي يوصل إلى شيء، وسنجد الفارق كبيرا عن الحالة الأخرى، أي: أن يقدم كل منا نقاط قوته ويواجه بها الآخر نافيا أي إمكانية للخطأ في الاجتهاد، أو لدخول بعض المستلحقات إلى مذاهبنا أوجدتها الظروف وردات الفعل، وخاصة إزاء ظلم الحكام وانحرافهم وللبحث صلة.

رابعا: الحاكم خصم العالم الحقيقي، كائنا ما كان انتماؤه الفقهي. عندما نقرأ تاريخ المجازر في حق الشهيدين وأتباعهما وخاصة أيام المماليك، يخيل للقارئ أن حكامنا كانوا متخصصين في ظلم آل البيت وفقط، فيما النظرة الشاملة للموضوع تنبئنا عن ظلم وقع على العلماء جميعا في كل الفترات، من سعيد بن جبير أيام الحجاج ثم إلى الإمام مالك إلى أبي حنيفة ثم إلى احمد بن حنبل ثم إلى كثير من العلماء الذين لا يحصى عددهم، بحيث نستطيع أن نقول أننا لو أجرينا إحصاء على ألف عالم مثلا بين مفسر ومحدث وأصولي وفقيه وغير ذلك، من أساطين العلماء الذين أوصلوا إلينا الدين باجتهاداتهم لوجدنا أن عددا قليلا منهم لا يذكر كانوا متوافقين مع الحكام مستفيدين من أعطياتهم، فيما أن الغالبية قد تعرضوا للتنكيل أو القتل أو النفي وما إلى ذلك.

واستطيع أن أكون أجرأ من ذلك لأقول: لم أجد عالما حقيقيا له وزنه كان يتمتع بأعطيات الحكام وأمانهم غير أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وذلك في عرض سريع لتاريخ علمائنا جميعا.

وأقول كمثل صارخ لأمر نغفله أحيانا، يزيد بن معاوية الذي يضرب به المثل بالظلم والتنكيل بآل البيت لم يكتف بكربلاء وما رافقها، بل ارتكب المجزرة الأكثر عددا والتي ارتكبت بدم بارد وبقرار مسبق «مدروس»، عنيت وقعة الحرة الذي ذهب ضحيتها عشرات أو مئات من الصحابة الكرام وأهل المدينة المنورة، فيما تمتع أهل البيت وأتباعهم بالأمان في منزل الإمام علي بن الحسين، وآخرون في منزل عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

أردت من هذا أن أقول أن العلماء جميعا كائنا ما كان اجتهادهم تعرضوا للتنكيل وليس فقط الامامية وأتباع آل البيت، وأتصور أن تأكيد هذه الفكرة وإثباتها في النفوس ونشرها في مجتمعاتنا تساهم كثيرا في تقريب النفوس. وتأكيدا لذلك أيضا: سيجد الحاكم الدليل على «جواز» أفعاله من خلال علماء السوء ووعاظ السلاطين الذين يزينون له عمل الشر ويحرضونه عليه، فان وجدوا تهمة «النصب» كانت كافية وإلا فسيجدون تهمة (نفي خلق القرآن) أو ما إلى ذلك.

خامسا: التوحد على قضايا الأمة: وصولا إلى يومنا هذا فإننا لا نستطيع آن ننتظر نتائج الحوارات الفقهية لتوحيد اجتهاد المسلمين ونظرتهم للأمور، ولكن السبيل الذي لمسنا انه السبيل السليم، هو توحيد المسلمين على قضايا الأمة الرئيسية. فاجتماع المسلمين على طريق إزالة الكيان الصهيوني ونشر ثقافة الجهاد والمقاومة والممانعة والتنافس في ذلك على طريق الخير، هو طريق الوحدة والتوحيد، يضيء الطريق العملي المفضي إلى النتائج الكبرى وليس العكس، فلنضع الحصان قبل العربة، حتى تسير العربة إلى محطة انتصار أخرى قريبة بإذن الله.

[1](*) إمام مسجد القدس في صيدا - لبنان.

تعامل علماء المذاهب فيما بينهم

(مع التركيز على الشهيدين الأول والثاني)

آية الله الشيخ محمد علي التسخيري (*)

على الرغم من احتدام الخلاف الفكري بين العلماء من اتباع المذاهب نلاحظ في كثير من الأحيان علاقات صفاء ومحبة وتمازج عجيب الى حد كبير، فيدرس بعضهم على بعض، ويدرّس البعض فقه المذاهب الأخرى، وينقل مناهجهم الى مذهبه ويطلب بعضهم الإجازة من البعض الآخر. وهناك مجموعة رائعة من كتب الفقه المقارن، إذ يتم نقل رائع لآراء الآخرين.

ولقد جاء كتاب الخلاف لشيخ الطائفة الطوسي «المتوفى سنة 460هـ» أروع مثال على ذلك. وقد نقل بكل أمانة آراء المذاهب الأخرى، وبالتفصيل، ومنها آراء المذهب الشافعي الى الحد الذي ظن السبكي معه انه من علماء المذهب الشافعي وذكره في طبقاتهم، على الرغم من اعترافه بأنه فقيه الشيعة ومصنفهم ولكنه يقول عنه (كان ينتمي الى مذهب الشافعي). [1]

وهناك ظاهرة غريبة نلمحها في بعض العلماء فتعبر لنا عن امتزاج عجيب بين المذاهب، وقد عبروا عن ابن الفوطي (توفي 723) وهو صاحب (معجم الالقاب) وكان قيماً على أعظم مكتبة في عصره – عبروا عنه بأنه كان شيعياً حنبلياً. كما ذكر الشيخ وهبة الزحيلي[2] بان الطوفي المعروف بدفاعه الشديد عن أصل (المصالح المرسلة) هو من غلاة الشيعة متبعاً في ذلك ابن رجب الذي عده من علمائهم. في حين أن الطوفي كان من علماء الحنابلة في القرن الثامن.[3] ودفاعه عن هذا (الاصل) الذي يرفضه الشيعة، وعدم ذكره في فهارس علماء الشيعة يؤيدان كونه حنبلياً.

وهذا محمد ابن أبي بكر السكاكيني العالم الشيعي المعروف كان كل مشايخه من أهل السنة. وقد خرّج له ابن الفخر علاء الدين ابن تيمية (المتوفي سنة 701) ما رواه عن شيوخه وناظره وشهد له بالتفوق وقال عنه: (هو من يتشيع به السني ويتسنن به الرافضي) وقد نسخ صحيح البخاري بيده، وهو صاحب القصيدة المعروفة ومطلعها:

أيا معشر الاسلام ذمي دينكم

تحير دلّوه بأوضح حجة

وهو صاحب (الطرائف في معرفة الطوائف) الذي مزقه السبكي وأحرقه.

ولو رجعنا الى كتب طبقات الحنابلة لرأينا التقارب العجيب فهذا المحبي كبير السنة في دمشق يمدح البهاء العاملي عالم الشيعة المعروف فيقول عنه (كما في خلاصة الأثر): وهو أحق من كل حقيق بذكر أخباره ونشر مزاياه، واتحاف العالم بفضائله وبدائعه، وكان امة مستقلة في الأخذ بأطراف العلوم والتضلع بدقائق الفنون، وما أظن الزمان سمح بمثله ولا جاد بنده وبالجملة فلم تشنف الاسماع بأعجب من أخباره.

وقد ذكر الخطيب البغدادي أن سيرة سلف السنة هو الأخذ بروايات الثقات من الشيعة.[4]

ومن المعروف ان الشيخ الطوسي كان له مشايخ من أهل السنة ومنهم: ابو الحسن بن سوار المغربي، ومحمد بن سنان والقاضي ابو القاسم التنوخي[5] وعده صاحب (الرياض) من الشيعة.

والحديث في هذا الباب يطول.

وقد ذكر آية الله السبحاني [6] نماذج جيدة في هذا المجال من قبيل: أن الشيخ الكليني – وهو أحد كبار المحدثين الشيعة قد تتلمذ على يد استاذين سنيين هما: ابو الحسن السمرقندي والخفاف النيسابوري، ومنها أن الشيخ الصدوق اقام لعدة سنوات في بلخ وبخارى ونقل الحديث عن 260 شيخاً منهم بعض أهل السنة كما أن بعض مشايخ الخطيب البغدادي كمحمد بن طلحة النَعالي وغيره نقلوا الحديث عنه، وان علماء كل الطوائف كانوا يحضرون مجلس الشيخ المفيد (م: 413هـ). ومنها ان السيد المرتضى كان مفزع علماء العراق – كما يقول ابن بسام الاندلسي في اواخر كتاب (الذخيرة)، ومنها أن شيخ الطائفة الطوسي (م: 460هـ) نقل الرواية عن أبي علي بن شاذان وأبي منصور السكّري، ومنها ان الشيخ ابن إدريس الحلي كان يتعاون مع احد فقهاء الشافعية علمياً، وأن الشيخ الرافعي القزويني السني تتلمذ على الشيخ منتجب الدين الرازي الشيعي ومدحه، ومنها ان الفيروز آبادي صاحب (القاموس المحيط) يصف الشيخ فخر المحققين ابن العلامة الحلي بأنه «بحر العلوم وطود العلى فخر الدين محمد بن الشيخ الامام الاعظم برهان علماء الأمم»، وأن كتاب (تجريد الاعتقاد) للشيخ نصير الدين الطوسي الشيعي شرحه ثلاثة من علماء أهل السنة وهم: شمس الدين البيهقي وشمس الدين الاصفهاني وعلاء الدين القوشجي، ويقوم المحقق الاردبيلي بتدريس كتاب «مختصر في الأصول» لابن الحاجب لتلميذيه صاحب المدارك وصاحب المعالم، وقد شرح العلامة الحلي هذا الكتاب بشكل جميل حتى وصفه ابن حجر بأنه «في غاية الحسن في حل الفاظه وتقريب معانيه»[7]

ويمكننا أن نضيف هنا بالمناسبة أن المحقق الحلي وهو خال العلامة الحلي واستاذه ألّف كتاب (المعتبر في شرح المختصر) ويعد موسوعة موجزة للفقه المقارن[8]، ولم يستطع اتمامه. ومن الجميل فيه أنه احياناً يسترسل مع الفقه السني ويستعمل نفس أسلوبه ومنهجه من قبيل:

  1. ماجاء في مسألة عدم تنجس الكر وتقدير الكر من قوله: «لنا ما رواه الجمهور عن النبيP» [9]
  2. ما جاء في مسألة تنجس ماء البئر بملاقات النجاسة من قوله: «ويدل عليه النقل المستفيض عن الصحابة بايجاب النـزح. روى الجمهور عن علي(ع) «في الفأرة تقع في البئر تنـزح منها دلاء» وينقل ما يؤيده عن الخلال وعن الحسن البصري وأبي سعيد الخدري وابن عباس ويقول: «ولم ينكر ذلك احد من أهل ذلك العصر» [10]
  3. ماجاء في طهارة الميتة مما لا نفس له سائلة من قوله: «وقال الشافعي نجس بالموت وينجس ما يموت فيه عدا السمك. لنا ما رواه الجمهور... لا يقال: طعن الترمذي في هذا الحديث... لانا نقول: صححه جماعة ورووه عن المشاهير فزال به الطعن...) [11]
  4. وفي مسألة تعدد الغسل في الوضوء، من قوله: «لنا ما رواه البخاري عن ابن عباس... واما استحباب الثانية فلما رواه الترمذي عن أبي هريرة...) [12]

الشهيدان الاول والثاني نموذجان رائعان للانفتاح على المذاهب الاخرى:

ويعتبر الشهيد الاول وهو محمد بن جمال الدين مكي العاملي الجزيني، من علماء القرن الثامن، والشهيد الثاني وهو زين الدين بن علي العاملي الجبعي من علماء القرن العاشر، يعتبران مثلين رائعين من أمثلة الانفتاح والتمازج الفكري بين العلماء رغم أنهما كانا نموذجين بارزين من أمثلة ما يؤدي اليه التطرف المذهبي من نتائج فجيعة.

فهذا الشهيد الاول يعيش مع علماء عصره، وكان مجلسه «لا يخلو غالباً من علماء الجمهور لخلطته بهم وصحبته لهم»[13]، وقد قال في بعض اجازاته (أنه يروي عن نحو أربعين شيخاً منهم)[14] وهي إجازته لابن الخازن حيث جاء فيها (فاني أروي عن نحو اربعين شيخاً من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس، ومقام الخليل إبراهيم Q».[15]

وكان (ره) كما يقول المرحوم صاحب الرياض: «يشتغل بتدريس كتب المخالفين ويقرئهم».[16] ومما يذكر له أنه افتى بترجيح الصلاة خلف العالم السني على الجماعة التي يؤمها شيعي عندما يخير الشيعي بينهما فقال: «ويستحب حضور جماعة العامة كالخاصة بل أفضل، فقد روي: «من صلّى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله P فيه»[17]، «ويتأكد مع المجاورة»[18].

وهذا الشهيد الثاني كان يذكر الصحابة بكل احترام فهو يقول: «ورجعت الى وطني الاول بعد قضاء الواجب من الحج والعمرة والتمتع بزيارة النبي وآله واصحابه صلوات الله عليهم..». [19]، وقد اجتمع الى جملة من علماء السنة؛ ففي سفره الى مصر اجتمع مع «الشيخ الفاضل شمس الدين بن طولون الدمشقي وقرأ عليه جملة من الصحيحين في الصالحية بالمدرسة السليمية واجيز منه بروايتهما كما اشتغل بها على جماعة منهم الشيخ شهاب الدين احمد الرملي الشافعي (ت: عام 957) وقرأ عليه (منهاج النووي) في الفقه، وأكثر (مختصر الأصول) لابن الحاجب وكتباً أخرى كثيرة، ومنهم الشيخ الملا حسين الجرجاني. وقرأ عليه جملة من (شرح التجريد) للقوشجي وغيره، ومنهم الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي. وقرأ عليه وسمع منه كتباً كثيرة منها الصحيحان، واستجازه، ومنهم الشيخ زين الدين الحري المالكي وغيرهم[20].

ثم سافر الى بيت المقدس في ذي الحجة (948هـ) واجتمع بالشيخ شمس الدين بن ابي اللطيف المقدسي وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازة عامة [21] ثم رجع الى وطنه واشتغل بمطالعة العلوم ومذاكرته مستفرغا وسعه. وفي سنة 952هـ سافر الى بلاد الروم ودخل القسطنطينية في 17 ربيع الاول ولم يجتمع مع احد من الأعيان الى ثمانية عشر يوماً، وكتب في خلالها رسالة في عشرة مباحث من عشرة علوم وأوصلها الى قاضي العسكر محمد بن محمد بن قاضي زاده الرومي فوقعت منه موقعاً حسنا، وكان رجلاً فاضلاً، واتفق بينهما مباحثات في مسائل كثيرة... واجتمع فيها بالسيد عبدالرحيم العباسي صاحب معاهد التنصيص وأخذ منه شطراً... وأقام ببعلبك يدرس في المذاهب الخمسة واشتهر أمره وصار مرجع الأنام ومفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها..». [22] وذكر الأستاذ القزويني أنه M افتى في (المدرسة النورية) ببعلبك لمدة ثلاث سنوات من 953 حتى 955هـ يدرس المذاهب الخمسة[23]. ووصف الشهيد نفسه أيامه هناك بأنها كانت أياماً ميمونة واوقاتاً بهيجة ما راى أصحابنا في الأعصار مثلها[24] وذكر تلميذه ابن العودي بعض ذكرياته فقال: «كنت في خدمته تلك الأيام، ولا أنسى وهو في أعلى مقام ومرجع الأنام وملاذ الخاص والعام، ومفتي كل فرقةٍ بما يوافق مذهبها، ويدرّس في المذاهب كتبها، وكان له في المسجد الاعظم بها درس مضافًا الى ماذكر، وصار أهل البلد كلهم في انقياده، ومن وراء مراده، بقلوب مخلصة في الوداد، وحسن الإقبال والاعتقاد، وقام سوق العلم بها على طبق المراد، ورجعت إليه الفضلاء من اقاصي البلاد [25]» ورحل الى مصر وقرأ بها على ستة عشر رجلاً من أكابر علمائهم وقد ذكرهم مفصلاً، ويبدو أنه استجازهم وروى كتبهم. ويقول صاحب رياض العلماء: «ويظهر منه ومن إجازة الشيخ حسن وإجازات والده أنه قرأ على جماعة كثيرين جداً من علماء العامة، وقرأ عندهم كثيراً من كتبهم في الفقه والحديث والاصول وغير ذلك، وروى جميع كتبهم وكذلك فعل الشهيد الأول والعلامة».[26]

وذكر هو – اي الشهيد - بعض هؤلاء:

من قبيل الشيخ زين الدين الجرمي المالكي

والشيخ ناصر الدين اللقاني

والشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعي

والشيخ شمس الدين محمد بن ابي النحاس

وقال ابن العودي تلميذه: كثيراً ما كان ينعت هذا الشيخ يعني ابن ابي النحاس بالصلاح وحسن الأخلاق والتواضع. [27]

والحديث مفصل في هذا المجال ويمكن أن يشمل مسألة التركيز على المقاصد الشرعية، ومسألة النقل الروائي الكثير من كتب أهل السنة وهي ظاهرة في كتب الشهيد، وكذلك مسألة التركيز على الفقه المقارن بأسلوب موضوعي، وكذلك مسألة نقد بعض الاتجاهات الفقهية المذهبية الخاصة بكل شجاعة كما نجده في مسألة نقد من يقول بالوجوب التخييري لصلاة الجمعة، إذ يرى الشهيد الثاني أن السر في تهاون البعض فيها يكمن في أن الذين يقيمونها، أي صلاة الجمعة، في العصور السابقة كانوا منصوبين من أئمة الضلال ممن لا يصح الاقتداء بهم مما قلل الاهتمام بها لينقلب الوجوب العيني لديهم إلى التخييري (لوجه نرجو من الله أن يعذرهم فيه) ويضيف: «وما كان حق هذه الفريضة المعظمة ان يبلغ بها هذا المقدار من التهاون». ونقل هذا الرأي عن الإمام عماد الدين الطبري المعاصر للمحقق نصير الدين الطوسي[28]، وكذلك ما نشهده من التشديد على عدم تحريف القرآن.

وكأن هذا المسلك لم يرق لبعض العلماء وخصوصا للاخباريين منهم فابدوا عدم رضاهم به[29] وقد اتهمه البعض بالميل الى التسنن. [30]

وربما جاء الاتهام لأنه M قام بعمل فريد اذ اعتمد منهج اهل السنة في علم الدراية وطبقه في المجال الشيعي؛[31] يقول صاحب الرياض: «ثم اعلم أن الشيخ زين الدين هذا هو أول من نقل علم الدراية من كتب العامة وطريقتهم الى كتب الخاصة، وألف فيه الرسالة المشهورة ثم شرحها كما صرح به جماعة ممن تأخر عنه، ويلوح من كتب الأصحاب ايضاً، ثم الف بعده تلميذه الشيخ حسين بن عبدالصمد الحارثي وبعده ولده الشيخ البهائي وهكذا... [32]

وهنا يقول العلامة الامين: «والعلامة والشهيدان أجل قدراً من أن يقلدوا أحدا في مثل هذه المسائل او تقودهم قراءة كتب غيرهم الى اتباع ما فيها بدون برهان وهم رؤساء المذهب ومؤسسو قواعده وبهم اقتدى فيه أهله ومنهم أخذوه، وإنما أخذوا اصطلاحات العامة ووضعوها لأحاديثهم غيرة على المذهب لما لم يروا مانعاً من ذلك، وكذلك فعلوا في أصول الفقه وفي الإجماع وغيره كما بين في محله وكذلك في فن الدراية وغيره «وكيف يكون عدم رضا الشيخ حسن بما فعلوا لهذه العلة وهو قد تبعهم وزاد عليهم».[33]

وهكذا نجد التعامل الايجابي البناء بين القادة:

فهل يا ترى تقتضي العقلانية غير ذلك؟ وهل احتفظ اتباع الأئمة بمثل هذه الروح بعد ذلك؟!

الحالة الطائفية اللاعقلانية

اننا نجد الأمة – بكل اسف – بعد ابتعادها عن تلك العصور اتجهت نحو حالات طائفية بغيضة فسرعان ما ساد التعصب والانغلاق، وتقليد المجتهدين لغيرهم «حتى آل بهم التعصب إلى ان أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب والسنة على خلاف مذهبه يجتهد في دفعه بكل وسيلة من التأويلات البعيدة، نصرة لمذهبه ولقوله»[34].

ونقل الفخر الرازي عن اكبر شيوخه انه قال: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوها، ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون الي كالمتعجب – يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع ان الرواية عن سلفنا وردت على خلافها- ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من اهل الدنيا»[35].

وقد ذكر الشيخ أسد حيدر اقوالاً اخرى من هذا القبيل[36].وربما كان اغلاق الاجتهاد وحصر المذاهب نتيجة وعاملاً على المزيد من ذلك.

ولم يقتصر الامر على هذا الحد، وانما انتقل إلى مرحلة نقل الصراع من مرحلة (الخطأ والصواب) إلى مستوى (الكفر والايمان)، الأمر الذي نقل الخلاف إلى الجماهير العريضة، وتسبب في كوارث يشيب لها الوليد.

واشتد الهجوم على العلوم العقلية والمتعاطين بها سواء بين الشيعة[37]. او السنة[38].

وراحت التهم تطال المذاهب والآراء فتصفها بالهالكة، وانها مجوس الامة وامثال ذلك، وزاد الخلاف على الفرعيات والانشغال بها وهكذا[39].

وزاد تدخل الحكام (وكانت البلاد قد تحولت إلى اقطاعيات كبيرة) الطين بلة (ومع كل جائحة من عداوة وغضب، اسرفت تهم النبذ والتحريم والتكفير والرمي بالباطل ضد الآخر مقدمة للقتل واحراق الممتلكات واتلاف كتب أصحاب المذاهب ومؤلفات فقهائها ونشر الرعب والكراهية.

وفي تاريخ الجائحات تكررت همجية البطش مع كل سلطة جديدة مرة ضد الشيعة، ومرة ضد السنة.... [40].

ولنا أن نراجع ما ذكره ياقوت من التقاتل بين اتباع المذاهب.

كما لنا ان نتذكر ان الصراع بين الصفويين والعثمانيين - وكل منهما يتمترس خلف خلفية مذهبية – دام اربعة قرون واورث الأمة خراباً ودماراً، واضعفها امام عدوها الغربي.

وسنكتفي بذكر نص للشيخ الطوفي من أئمة الحنابلة ذكره للاستدلال على مبدأ (المصالح المرسلة) مقدماً اياه على النصوص والاجماع، لأنه راى ان النصوص متعارضة، والاجتهادات متضاربة، والاحاديث الموضوعة كثيرة. وفي هذا السياق يذكر بعض انماط الصراع في تلك العصور فيقول:

«ان المالكية استقلت في المغرب، والحنفية بالمشرق، فلا يقار احد المذهبين احداً من غيره في بلاده الا على وجه ما. وحتى بلغنا أن اهل جيلان من الحنابلة اذا دخل اليهم حنفي قتلوه، وجعلوا ماله فيئاً، حكمهم في الكفار، وحتى بلغنا أن بعض بلاد ماوراء النهر من بلاد الحنفية كان فيه مسجد واحد للشافعية، وكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق؟ فلم يزل كذلك، حتى اصبح يوماً وقد سد باب ذلك المسجد بالطين واللبن فاعجب الوالي ذلك»[41]. ولكن الأمة بوعي علمائها تخلصت من افرازات عصور النـزاع هذه.

غير أننا في الآونة الاخيرة شهدنا عودة غريبة لهذه الحركة سببها عدو الامة القديم الجديد وهو الاستعمار والاستكبار العالمي، الذي يعيش باستمرار هاجس الصحوة الإسلامية، ويخاف منها على مصالحه الاستعمارية.

فهو في هذه الفترة الزمنية، وبعد أن مني بالهزائم المتتالية في نقاط متنوعة من العالم الاسلامي كافغانستان والعراق ولبنان وفلسطين والصومال، وبعد فشل مشاريعه الواحد تلو الآخر، راح يخطط لاحياء النعرات الطائفية، ويحسس رجال كل مذهب بضرورة الدفاع وتحريك الاشكال على الآخر.

ولا ريب أنه – وكما هو الحال دائماً – استفاد من ذوي التعصب وهواة التكفير ومن الجهلاء بالمصالح، وبعد ذلك من العملاء الذين نصبهم في المنطقة، ليصونوا له نفوذه، ويحققوا له مايطمح اليه، بل واستفاد من العدو الصهيوني الغادر ليحقق تنفيذاً واسعاً للخطة الطائفية، ويعطي النـزاعات السياسية في الاصل بعداً طائفياً مقيتاً.

ويبقى أن ينتبه العلماء والعقلاء لهذا التآمر فيعملوا على افشاله والحد من آثاره، والله ولي التوفيق.

[1](*) الامين العام لمجمع التقريب بين المذاهب -ايران

طبقات الشافعية الكبرى للشيخ تاج الدين تقي الدين السبكي ج3 ص 51.

[2] في بحثه المقدم الى ندوة الفقه الاسلامي بمسقط (شعبان 1408هـ).

[3] مصادر التشريع ص 80.

[4] الكفاية في علم الرواية ص 125.

[5] راجع (الاجازة الكبيرة) للعلامة الحلي.

[6] راجع مقال سماحة الشيخ السبحاني في مجلة (نصوص معاصرة) تحت عنوان (الانسجام الإسلامي) العدد العاشر ص91.

[7] الدرر الكامنة لابن حجر ج 2 ص 71.

[8] كما يعبر آية الله مكارم شيرازي في مقدمته على الكتاب.

[9] المعتبر ج 1 ص 44 منشورات مؤسسة سيد الشهداء قم.

[10] ن.م ص 55.

[11] ن.م ص 101.

[12] ن.م ص 158.

[13] اعيان الشيعة للسيد محسن العاملي ج 10 ص 62.

[14] ن.م،وذكر ذلك في أمل الأمل ج 1 ص 103.

[15] سفينة البحار ج 1 ص 721.

[16] رياض العلماء ج 5 ص 185.

[17] وسائل الشيعة ج 15 ص 381.

[18] الدروس الشرعية ـ طبعة مشهد ـ ج 1 ص 193 ولعله يقصد بالمجاورة جوار بيت السكن.

[19] اعيان الشيعة ج 7 ص 150.

[20] وهو ما صرح هو به في ترجمة نفسه بقلمه. راجع رسائل الشهيد الثاني المطبوع بقم ص 866.

[21] ن. م ص 869.

[22] الكنى والالقاب ج 2 ص 382 383.

[23] تاريخ المؤسسة الدينية الشيعية ص 334.

[24] الدر المنثور لعلي بن محمد العاملي. ج 2 ص 182.

[25] ن.م.

[26] رياض العلماء ج، ص 365.

[27] اعيان الشيعة ج 7 ص 149.

[28] راجع رسالته في (صلاة الجمعة) المطبوعة في كتاب (رسائل الشهيد الثاني – نشر مركز الابحاث والدراسات بقم – ايران – ص 188.

[29] راجع مثلاً، أمل الأمل ج1 ص 90 ورياض العلماء ج 2 ص 365 ومعجم رجال الحديث ج 7 ص 378.

[30] كما ذكر ذلك المحدث الجزائري في كتابه (الجواهر الغوالي في شرح عوالي اللآلي) نقلاً عن بعض اولاد الشهيد الثاني «راجع مقال المحققين لكتاب (منية المريد)ص43».

[31] ومن ذلك التقسيم الرباعي للحديث الى: صحيح وحسن وموثق وضعيف. وإن أرجع البعض ذلك الى عصر جمال الدين بن طاووس أو قبله (راجع مقالاً بهذا الشأن في كتاب (مجموعة مقالات مؤتمر الشهيدين ص 419) ولكن الشهيد الثاني يعد مطورًا لمثل هذه الدراسات عند الامامية بلا ريب.

[32] رياض العلماء ج 2 ص 365.

[33] اعيان الشيعة ج 7 ص 157.

[34] مختصر المؤمل لشهاب الدين ابي شامة، ص 14.

[35] التفسير الكبير، ج 16، ص 31 في تفسير الآية 31، من سورة التوبة.

[36] الامام الصادق والمذاهب الاربعة طبعة مجمع اهل البيت، ج 3، ص 192.

[37] راجع كتاب (المعالم الجديدة لعلم الاصول) للامام السيد محمد باقر الصدر.

[38] راجع مقال الاستاذ الطويل في كتاب قضية الفلسفة، ص 211.

[39] راجع كتاب (قصة الطوائف) للدكتور الانصاري، فصل الحقبة الطائفية، ص 185.

[40] ن.م. ص 219.

[41] رسالة الطوفي، ص 116.

المنهج الاعلامي عند الشهيدين الاول والثاني

دراسة مقارنة مع مناهج اعلام اليوم

أ. عبد الله قصير(*)

مقدمة:

لن نسهب في سرد سيرة الشهيدين الاول والثاني كي لا يتكرر عرضها في نصوص الابحاث والاوراق المقدمة في اطار محاور المؤتمر، وسنكتفي بان نشيــر الى وجود 6 نقاط مشتركة بين الشهيدين تسمح بوضع البحث عنهما في سياق واحد:[1]

  1. عمرهما الشريف الذي لم يتجاوز خمسة وخمسين عامًا.
  2. قضى كل منهما 20 عامًا في الرحلات على امتداد بلدان العالم الاسلامي.
  3. تشابه شهادتهما المباركة في الاسلوب من خلال تهمة ووشاية مذهبية.
  4. تقاربهما في المشاريع الفكرية والفقهية والسياسية.
  5. نشأتهما وبيئتهما العاملية (جبل عامل).
  6. يشتركان في المنهج التقريبي الانفتاحي والتبادلي مع المذاهب الاسلامية.

وسنقوم في بحثنا بتسليط الضوء، من زاوية اعلامية، على الشعارات والقيم والمواثيق التي تتبناها المؤسسات الاعلامية اليوم، واجراء عملية مقارنة للمنهج الذي تبناه الشهيدين في حركتيهما مع مناهج هذه المؤسسات الاعلامية، مع ذكر الشواهد والقرائن لزوم مقتضى الحال.

اولاً: مــاهية المنهج الاعلامي

ان موضوعنا هذا يلزمنا بدايةً، التعريف بمعنى واصطلاح المنهج الاعلامي، فقد عرّف المعجم العربي المنهج بانه «وسيلة محددة توصل الى غاية معينة». ووردت كلمة المنهج في القرآن الكريم في قوله تعالى } لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا{ سورة المائدة/الآية 48. وقد فسرت بمعنى جعلنا لكم الطريق الواضح في السير والسلوك. وعلى ضوئها، يمكن تعريف المنهج الاعلامي بانه «الطريق الذي يوضح التوجهات والاهتمامات والاساليب والطرق التي تستخدمها شخصية او مؤسسة او قناة اعلامية في سيرتها العلمية والفكرية واصولها وقيمها العملية لايصال وعرض رسائلها وافكارها او لتسليط الضوء على قضايا ومسائل تؤمن بها، وذلك أمام الجمهور والناس اجمعين في سبيل تحقيق مجموعة من الاهداف وخدمة عدد من الغايات الفكرية والثقافية والسياسية».

واكثر ما تتمظهر المناهج الاعلامية في مجموعة من المؤشرات والخصوصيات والبصمات، وتبرز أكثر تجلياتها في الشعارات والقيم والمواثيق التي ترفعها هذه المؤسسات الاعلامية، فتصبح بمنزلة شعارها وهويتها الخاصة وبطاقتها الشخصية.

اما التكنولوجيا والوسائل والوسائط المعتمدة في ايصال الرسائل الاعلامية (اذاعة / تلفزيون / صحيفة / منشور / انترنت / هاتف...)، فليس لها دور كبير وحاسم في تحديد ماهية المنهج الاعلامي ورسم معالمه، لانها تنتمي الى فئة الادوات والآلات الصناعية والحضارية المتغيرة بين عصر ومصر، في حين ان حديثنا يدور حول المنهج الاعلامي وبالتحديد الطريقة والاسلوب الخاص في الاتصال والتواصل والتبادل المعرفي والثقافي مع الآخرين.

ثانياً: عرض وصفي لشعارات وقيم ومواثيق المؤسسات الاعلامية الراهنة

وبالاطلالة على ارض الواقع لتلمس هذا التعريف وتطبيقه على عدد من المؤسسات والقنوات الاعلامية، نجد ان كل قناة ومؤسسة تتبنى شعارات اعلامية خاصة [2] بها وقيم وسلوكيات مهنية تسير عليها، وتهدف من خلالها التعبير عن رؤيتها واهدافها ورسائلها:

فشعار قناة الجزيرة مثلاً: الرأي والرأي الآخر / منبر من لا منبر له.

وشعار قناة المنـــار: قناة العرب والمسلمين / قناة المقاومة والتحرير.

وشعار قناة الرسالة:أصالة وابداع.

وشعار قناة اقــــرأ: متعة الاعلام الهادف / نحو مجتمع اسلامي معاصر

وشعار قناة العربية:ان تعرف أكثر / تغطية مستمرة.

وشعار جريدة السفير: صوت الذين لا صوت لهم.

وشعار قناة BBC البريطانية: تمكين الناس من التعلم والترفيه.

وكذلك الامر بالنسبة الى القيم المهنية الاعلامية التي تتبناها هذه المؤسسات. فمن خلال دراسة وثائق ومواثيق هذه المؤسسات نجد ان هناك 9 قيم اساسية مشتركة بين هذه المؤسسات وغيرها من القنوات العالمية على مستوى اصولها العملية ومبادئها المهنية، وهي:

الصدق والمصداقية في نقل الاخبار وتوصيف الاحداث.

الجرأة في الموقف والتعبير.

الانصاف والتوازن في النظر الى الآراء والافكار المتنوعة.

العمق والشمولية.

الدقة في المعلومات والتحقيقات.

الشفافية والوضوح.

البحث عن الحقيقة من مصادرها ومنابعها الاصلية.

الموضوعية والتجرد.

المواكبة والمتابعة الميدانية للتطورات والمتغيرات.

وجاء في ميثاق الشرف الاعلامي العربي [3] الذي تبناه مجلس وزراء الاعلام العرب العام 2007، ما يتحدث عن موضوع التسامح وآداب الحوار وقد اقتبسنا من المواد ما يفيدنا في بحثنا، ومنها:

المادة العاشرة «تعميق روح التسامح والتآخي ونبذ كل دعاوي التحيز والتعصب ايا كانت اشكاله».

المادة الثانية عشرة «مراعاة اصول الحوار وآدابه وخاصة الذي يعرض او يذاع او يبث، لجهة حقوق ضيوف الحوار في شرح آرائهم والمتلقين في التعقيب، وعرض الآراء كافة، وصولاً الى بلورة رؤية متكاملة وشاملة وموضوعية لدى المتلقي العربي».

ثالثاً: مقارنة تطبيقية بين منهج الشهيدين وشعارات المؤسسات الاعلامية

وبغض النظر عن مستوى ونسبية الالتزام لدى هذه المؤسسات بالشعارات التي ترفعها، الا اننا لو نظرنا لهذه الشعارات والقيم والمواثيق التي تنادي بها كل القنوات والوسائل الاعلامية العربية والاسلامية البارزة وكذلك القنوات العالمية المشهورة، وحاولنا مقارنتها مع التراث الضخم الذي تركه الشهيدان، الاول والثاني، في سيرتيهما العلمية والعملية، لثبت لدينا بما لا يقبل الشك، انهما كانا من اعظم الشخصيات عملاً بالمنهجيات الاعلامية الحديثة، لا بل ندعي انهما سبقا عصريهما بقرون، ولهما الريادة والفرادة في الكثير من المبادئ والشعارات الاعلامية. فالعديد من المؤسسات الاعلامية التي ترفع شعارات ومواثيق وتتبنى قيم مهنية براقة، لا ترتقى الى مستواها عند التطبيق والعمل، ولا تستطيع الثبات والاستقامة على هذه المناهج (لعل المثل الفاقع هو في كيفية التعاطي مع الثورات العربية من جانب هذه الوسائل الاعلامية التي تعتمد سياسة الكيل بمكيالين)، في حين ان الشهيدين من الذين استقاموا على الطريقة (كما يعبر القرآن الكريم)، وهما بحق أسسا منهجا اعلاميا ناجحا وفعالاً، جمع وصهر كل هذه الشعارات والقيم والمواثيق ولم شملها.

وعلى هذا الاساس فلوا اردنا اجراء مقارنة بين منهج الشهيدين الاول والثاني، ومناهج اعلام اليوم الذي تتبناه ارقى المؤسسات الاعلامية العربية والاسلامية والعالمية، فإنها ستؤدي حتما الى الاعتراف بانهما الرائدان والسباقان رغم الفاصل الزمني الكبير.

على مستوى الشعارات الاعلامية التي
ترفعها هذه المؤسسات

1) شعار الرأي والرأي الأخر:

لقد ذهب الشهيدان الى مواقع واماكن الآخرين للدرس والمباحثة والحوار ونقلا تراث المذاهب المخالفة وعرفا بها وأخذا منها وافتيا على ضوئها، ولا يمكن قياس ذهاب الشهيدين للآخرين على انه نوع من طلب العلم كسائر الطلاب والتلاميذ، لأن الشهيدين انتقلا من الحلة وحوزات العراق الى مدارس ومشايخ اهل السنة فقيهين مجتهدين...

ثم ان الشهيدين اسسا عن ايمان واعتقاد راسخ مقولة «ان الفقيه لا يصبح فقيها حتى ينظر على قدر الاستطاعة ومع بذل الوسع والجهد في الاطلاع على الآراء الفقهية كافة محل البحث والاجتهاد سواء لدى علماء المذهب الاسلامي الشيعي او عند علماء المذاهب الاسلامية السنية». وهذه المعادلة لها دخالة في تقييم صلاحية وأهلية الفقيه وليس مسألة ترف وفضول فقهي وثقافي، وعلى هذا الاساس بذلا السنوات من عمريهما الشريفين يبحثان ويقويان قريحتيهما وذائقتيهما الفقهية، عبر الاحتكاك والتباحث مع الآخرين في اطار منهجهما في التواصل والتبادل، وهذه المقولة تعد أغنى من مبدأ الرأي والرأي الآخر، كما تطبقه اليوم بعض وسائل الاعلام كشعار للتسويق فقط.

وقد نقل صاحب الدر المنثور[4] حوارا طويلا جرى بين الشهيد الثاني والشيخ علي بن محمد، ابي الحسن البكري وكان من اعلم علماء مصر انذاك وهو استاذ الشهيد ما يؤكد ايمانهم الحقيقي بهذه المقولة التي ذهبنا اليها، حيث سأل الشهيد الثاني صاحبه البكري: «ماذا عن العلماء الاعلام والفضلاء الكرام الذين جمد كل فريق منهم على مذهب من المذاهب الاربعة ولم يدر ما قيل فيما عدا هذا المذهب الذي اختاره، مع قدرته على الاطلاع والتفحص وادراك المطالب، وقنع بالتقليد للسلف، وجزم بانهم كفوه مؤونة ذلك، ومن المعلوم ان الحق من جهة واحدة، فان قالت احدى الفرق الحق الى جانبنا، اعتماداً على فلان وفلان فكذلك الاخرى تقول، اعتمادا على محققيهم، واعيان مشايخهم، لان ما من فرقة الا ولها فضلاء ترجع اليهم وتقول عليهم؟فالشافعية تقول الامام الشافعي وفلان وفلان كفونا ذلك، وكذا الحنفية والحنبلية والمالكية، وكذلك الشيعة يقولون كفانا السيد المرتضى والشيخ الطوسي والخواجا نصير الدين والشيخ جمال الدين عناء التفحص. فكيف يكتفي مثل هؤلاء الفضلاء بالاقتصار على احد هذه المذاهب، ولم يطلع على حقيقة الآخر، بل ولا وقف على مصنفات اهلها، ولا عرف اسماءها؟ فكون الحق مع الجميع لا يمكن، ومع البعض ترجيح بلا مرجح».

فرد الشيخ البكري «اما العلماء فيكفي كون كل واحد منهم محقا بالظاهر».

فاجاب الشهيد الثاني جوابا حدد فيه هذه المقولة «كيف يكفيهم مع ما ذكرنا من تقصيرهم في النظر وتحقيق الحال؟».

وعلى هذا الاساس سافر الشهيد الثاني الى حواضر علمية عدة، تعتمد التدريس على مذاهب اهل السنة، نذكر منها انه قرأ صحيح مسلم والبخاري عند شمس الدين بن طولون الدمشقي، ودرس على 16 استاذا مصريا بارزا في علوم الفقه والمنطق والعربية والهندسة والفلك والتفسير.

شعار منبر من لا منبر له وصوت الذين لا صوت لهم:

فقد نقل عن السيد البروجردي، ان الشهيدين كانا اثنين من خمسة فقهاء شيعة، على طول التاريخ الفقهي الشيعي، اجادوا واحاطوا علما وخبرا بسائر اجتهادات واستنباطات الفقهين السني والشيعي معاً.

وكنموذج على تبني شعار «منبر من لا منبر له»، ننقل ما قاله ابن ابي جمهور في كتابه «عوالي اللآلي»، من انه احصى 198 رواية رواها الشهيد الاول، منها مائة رواية منقولة عن صحاج اهل السنة [5]، أي ما يقارب النصف.

وللشهيد الثاني نظائر وامثلة مشابهة لهذا المنهج، فقد اشترط على المجتهدين وعلماء الفقه الشيعة، وجوب الالمام باصول الفقه عند المذاهب الاسلامية كافة، كي يصح احتجاجهم واستدلالهم، ويصح تقليدهم، جاء ذلك في كتاب «الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية». واكثر من ذلك فقد حدد الشهيد الثاني مرجعين اعتبرهما كافيين لهذا الالمام وهما «تهذيب الاصول» للعلامة الحلي، و«مختصر الاصول» لابن حاجب الحنبلي[6].

ومن يطالع كتب الشهيدين يجدها زاخرة ومليئة بروايات وأحاديث منقولة عن صحاح ومراجع ومصادر لأهل السنة، كالبخاري ومسلم وكنز العمال والترمذي وابي داوود، والشافعي والزهري والرازي وغيرهم.

شعار حمل قضايا العرب والمسلمين ومقاومة الظلم والطغيان:

فمن يضاهي الشهيدين اهتماما بقضايا العرب والمسلمين، وقد جابا العالم الاسلامي في سبيل النهضة والتقريب ومواجهة التحديات التي واجهها العالم الاسلامي، وخاصة الصراعات الاقليمية ومواجهة ومقاومة الغزوات الخارجية للبلدان الاسلامية، حتى رزقا ونالا الشهادة على ايدي السلاطين في ساحات مقارعة الظلم والجهل والتعصب.

فالشهيد الاول اسس مرجعية علمية ودينية وسياسية امتدت الى قرى جبل عامل وبلاد الشام كافة، وكان له مئات الوكلاء في مختلف المناطق، وقد حارب البدع وخاصة فتنة اليالوشي (رجل من قرية برج يالوش قرب النبطية)، وهو كان من تلامذته وخرج عليه مستعينا بالسحر والشعوذة والتلبيس على الناس، ويظهر انه بدأ متصوفا، وقيل انه ادعى النبوة، وقد حاول تثبيت زعامته مثيراً الخلاف المذهبي، واستطاع ان يجمع حوله الرجال والانصار، وقد وصل الامر الى حدوث معركة مسلحة سقط خلالها العديد من القتلى والشهداء بين الجانبين، سميت بمعركة «الشهداء»، وقتل فيها اليالوشي ولكن دعوته لم تتوقف، بل استمرت مع تلامذته بدعم من قضاة السلطة كتقي الدين الجبلي الخيامي ويونس بن يحيى، اللذين وشيا بالشهيد الأول لدى بيدمر، وجمعا ما يصل الى سبعين شهادة زور ضده، سلمت الى قاضي دمشق والشام، برهان الدين ابن جماعة، الذي كان يكن العداء والحسد للشهيد الاول ايضًا، لانه سبقه في المكانة العلمية والفكرية. فاجتمع الجهل والحسد ضده. وهناك تحقيقات تقول أن امر قتل الشهيد الاول دبر على اثر تفاهم بين بيدمر حاكم دمشق وبرقوق سلطان المماليك في مصر[7]، بعد امتداد زعامة ومرجعية الشهيد الاول ونظر السلطة المملوكية الطامحة اليها كتهديد لسلطانها.

وللشهيد الثاني قصة مشابهة في محاربة التعصب والظلم والجهل، إذ اقدم على مخاطرة وذهب بنفسه الى الاستانة عاصمة السلطنة العثمانية مضحيا بمرجعيته وزعامته، لاقناعها بمشروعه التقريبيي والوحدوي وانتزع موافقتها على تدريس المذاهب الخمسة في المدرسة النورية، واختار بعلبك، مع ما في ذلك من مخاطرة ايضًا، بالنظر الى قربها من دمشق وكثرة الناس فيها على غير اهل مذهبه، وكان يستطيع السكن في احدى قرى جبل عامل والركون الى هذا المكانة، لو لم يكن صاحب مشروع جهادي وعلمي كبير وطموح، ولهذا حقد عليه بعض العلماء والامراء ودبروا له الوشايات الى ممثل هذه السلطة (يدعى رستم باشا)، فقتل الشهيدMقتلة شنيعة.

شعــار بناء مجتمع اسلامي معاصر:

فقد عمل الشهيدان للتعرف على ابرز علوم وفنون ومعارف العصر وهذا ما تشهد عليه المصنفات والموسوعات الفقهية ذات البعد الشامل والتبويب الحي باحدث فنون ذاك العصر، كي تلبي حاجات المجتمع انذاك، وتتصدى للهجمات السياسية والفكرية والثقافية الوافدة من طريق الغزوات الخارجية والتفاعلات الداخلية، فاشتملت اللمعة الدمشقية على عشرات الابواب والعناوين الفقهية، لا تزال باغلبيتها تفي باغراض ومتطلبات مجتمع اليوم.

وفي الواقع فان الشهيدين عاشا هم التصدي للتشريعات والفتاوى التي عصفت بالمجتمع الاسلامي على أثر الحملات المغولية والصليبية، فقد نقل المقريزي في خططه [8] ان القائد المغولي جنكيز خان سن شريعة حقوقية وجنائية عرفت باسم «الياسا» نشرها وطبقها في البلاد الاسلامية التي خضعت له، وهي خليط من القوانين والتشريعات المتأثرة بأصول وتقاليد آسيوية ورومية تركية وما شاكل، كما ادخل الماليك عاداتهم واهوائهم في الفقه الاسلامي تماشيا مع مصالح ممالكهم، كما انتشرت في تلك الازمان حركات وبدع صوفية ودرويشية في بلاد الشام ومصر وخراسان، وأراد الشهيدان اصلاح هذه الحال عبر تأسيس مشاريع فقهية وعلمية شاملة وكاملة، ولعل سر اختلاطهم واحتكاكهم بعلماء مصر ودمشق والقدس، واشتغالهم على تصنيف الموسوعات الفقهية ينبع من هذا الاحساس بالمسؤولية عن حفظ وصون الشريعة الاسلامية. وما ارسال الشهيد الاول لكتاب اللمعة الدمشقية، الموسوعة الفقهية والتشريعية الكاملة والشاملة، إلى السلطان علي بن مؤيد حاكم خراسان، والذي اعتمد عليها، الا بناء على هذا الاساس. وما تصدي وتدريس الشهيد الثاني الفقه على المذاهب الخمسة الا لحفظ الفقه الاسلامي، بشقيه السني والشيعي، من التخريب والعبث والتلاعب السلطاني الذي قوي خلال تلك الفترة.

شعــــار أصـــــالة وابــداع:

فمنهجهما يقوم على هضم ومعرفة علوم السابقين والاطلاع على اوسع ما في علوم الحاضرين والابداع والتجديد لبناء مستقبل الاجيال القادمين، فالشهيد الاول هو اول من صنف في قواعد الاحكام من الفقهاء الشيعة (كتاب القواعد والفوائد). وأول من أشاد نظرية ولاية الفقيه العامة واسس مبانيها الفقهية ومارس العمل على ضوئها فعليا. هذه النظرية التي تطورت مع الفقهاء اللاحقين ووصلت مع الامام الخميني (رض) الى عصرها الذهبي مع تأسيس نظام الجمهورية الاسلامية الإيرانية على هديها.

كما ان الشهيد الثاني هو اول من صنف كتاب في علم دراية الحديث، ولم يكن عند الشيعة تصنيفات في هذا العلم بالمعنى المنهجي والتخصصي الشامل، كما صنف كتابا مستقلاً متخصصا في علم التربية والاخلاق التعليمية (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد)، لم يسبقه اليه احد ولم يصنف مثله لاحقا احد. ففيه بيان تفصيلي حول قيمة العلم وتكاليف التلامذة والاساتذة والمفتي والمستفتي، وآداب المناظرة والكتابة، وآداب التعليم والتعلم، ومراتب العلوم، ويكفي ان نذكر شهادة الفيلسوف الاسلامي الكبير صدر المتآلهين الشيرازي في الكتاب، إذ يقول في شرحه لاصول الكافي بعد ذكره لمورد في آداب المتعلم: «فهذه ست وظائف من وظائف الطالب المتعلم، انما اختصرناها تعويلاً على المذكور في كتب الاخلاق، لا سيما كتاب زين الملة والدين الشهيد الثاني» [9]. وهو اول من صنف كتابًا في الاربعين حديثًا.

كما لا تزال مصنفات الشهيدين وكتبهما تدرس الى اليوم في الحوزات الدينية كمقررات دراسية تعليمية اساسية (اللمعة الدمشقية وشرحها).

شعـــــار:

ان تعرف أكثر/ تغطية مستمرة/ تمكين الناس من المعرفة والتعلم والترفيه:

فمن ينظر الى سجل أسفارهما إلى مدارس ومعاهد العالم الاسلامي، والحوارات والمناظرات والمنتديات والمناقشات التي اشتركا بها، والرحلات والاسفار العلمية التي تزيد عن 40 سفرة ورحلة، ومن اطلع على سعة العلوم التي درساها، والتي تبدأ بالفقه والاصول والعلوم الدينية مروراً بالأدب واللغة العربية والبلاغة والشعر، ولا تنتهي بالطب والفلك والهندسة، ومن احاط بحجم مصنفاتهما وانتاجهما الفكري والفقهي الذي يزيد عن 200 كتاب ورسالة في مختلف المعارف والحقول، لا يسعه الا الاعتراف بشغفهما الكبير في تحصيل وكسب المعرفة والاطلاع والتخصص، كي تأتي ثمار علميهما وعملهما خدمة للناس على افضل وجه، ولانصاف الشهيدين واعطائهما منزلتهما الصحيحة نقول، ان الكتاب والعلماء واهل الاعلام في هذه الايام يمتلكون كل الفرص لتحصيل وبث المعرفة، وتوضع بين ايديهم كل الامكانات المادية والثقافية ووسائل الاتصال والمواصلات، وهم يؤجرون ماليا على كل عمل، ساعة بساعة وعملا بعمل، في حين ان الشهيدين بذلا 20 عاما من عمريهما في الاسفار والرحالات، وقدما الغالي والنفيس لاجل العلم بدون ترجي الا رضوان الله، وخدمة وقضاء حوائج الناس في طلب المعرفة والآداب والارشاد والفتوى. فما ابعد الفارق في القياس بين الفريقين، وهل نجد لهما من نظير او شبيه.

بمقارنة منهج الشهيدين بالقيم المهنية
للمؤسسات الاعلامية

ومن جهة ثانية لو جئنا لنطبق القواعد المهنية العشرة التي تتبناها المؤسسات الاعلامية كافة على سيرة حياة الشهيدين، سنجد انهما كانا الاعلى رتبة والاشد التزاما بالمعايير والقواعد المهنية الاعلامية مع الفارق في المجالات:

على صعيد مبادئ المصداقية والشمولية والموضوعية والبحث عن الحقيقة:

فقد انتقلا الى الميدان مباشرة لاستقصاء حقائق وآراء المذاهب الاخرى وعلومها، واكتشافها من داخل منابعها، لا على سبيل الاستطلاع والاطلاع كما فعل اهل الاستشراق سابقاً، او كما يفعل اهل الصحافة والاعلام راهناً، بل عبر سبيل الاحتكاك والتدرج والتتلمذ على رجالها وشيوخها، على نحو التعلم والدراسة والتفقه والتعمق وتوسيع المدارك ونيل المطالب، وقد بذلا الجهد وافنيا العمر في هذا السبيل، فقضى كل من الشهيدين على حدا 30 عاما في الاسفار والرحلات، حتى نالا الاجازات في رواية الاخبار والاحاديث الواردة في الصحاح والاسانيد والمجاميع الروائية السنية الكبرى، ولو كان القصد مجرد الاطلاع لكان يكفي اخذ لمـــحة وافيــة وموجزة فــي بضعة اشهر، ولما كانا تركا الاهل والديار لسنوات وعقود متنقلين من جبل عامل مرورا بدمشق وغزة في فلسطين وبلاد الكنانة في مصر وارض العراق في الحلة وبغداد وكربلاء واتجها الى مكة والمدينة المنورة في الحجاز وصولا الى القسطنطينية (مدينة استنبول في تركيا الآن)..

ولو حاولنا القياس على احوال اليوم وما توفره من وسائل حديثة للنقل والاتصال، فلولا توفر هذه الوسائل، هل كان الصحافيون والاعلاميون والمثقفون والساسة والعلماء سيذهبون الى اي مكان لتقصي حقيقة ما او لتغطية ومتابعة قضية ما ويبذلون كل هذا الجهد لاجلها؟

2 ـ المصداقية والصدق في التفاعل مع الحقائق والاحداث:

فقد وصل بهما التفاعل والتاثر مع هذه الحقائق والفنون والاجتهادات الى اشده، عندما ادخلا بعض الاساليب الخاصة في علم دراية الحديث وانماط المزج والتبويب الفقهي وطرق تقعيد الاحكام التي شهدت توسعا لدى فقهاء وعلماء اهل السنة خلال هذه الفترة بفعل عوامل تاريخية ومذهبية، ادخلاها الى مدارس وحوزات الشيعة، ومزجاها في مصنفاتهم وكتبهم، ولم يمتنعا عن تبني الكثير من الاحكام الموافقة لمشهور مذاهب اهل السنة والمخالفة لمشهور فقهاء الشيعة، وذلك عندما كانا يشعران أنها تعبر عن اجتهاديهما ومبانيهما الاستدلالية، كفتوى الوجوب التعييني لصلاة الجمعة التي لم يكن معمولاً بها عند فقهاء الشيعة في عصر الغيبة، والذي قال به الشهيد الثاني.

لا بل ذهبا بعيدا في تقصي الحقائق لدرجة اتقان مذاهب الآخرين واتقان ادلتهم والتصدي للافتاء على ضوئها. فقد روى الشهيد الاول عن اربعين عالما وشيخا من علماء اهل السنة في المذاهب الاربعة، ودرّس الشهيد الثاني الفقه الاسلامي على المذاهب الخمسة في المدرسة النورية في بعلبك، حيث كان أكثر اهلها من اهل السنة وكانت تابعة للسلطنة العثمانية.

3 ـ على صعيد الجرأة والحرص على كشف الحقائق والانصاف والتوازن:

عمل الشهيدان على مجابهة التعصب والتخلف والاهواء والمغريات والضغوطات، وعلى الاخذ بالوقائع والحقائق. فهما السباقان الى ذلك، حتى افتى الشهيد الثاني بجواز الصلاة خلف امام من المذهب الآخر، وشدد على ذلك واعتبر ان ذلك افضل، قائلاً: «واما الصلاة خلف المخالف ففيها ثواب عظيم بل هي افضل واكثر ثوابا من جماعة المؤمنين» [10]. وعندما سئل عن رأيه في تحديد معنى الناصبي المعادي لأهل البيت R، قال لسائله ان كل المسلمين يحبون ويعظمون اهل البيت R حتى ولو لم يعترفوا او يؤمنوا بالامامة بالمعنى الذي نفهمه على مذهبنا، وتحدث بعبارات يفهم منها ايمانه العميق بقيم الانصاف والتوازن فقال لسائله: «وعلى هذا فالناصبي قليل الوجود في الدنيا» [11]، على الرغم من ضراوة الصراعات والحروب المذهبية انذاك.

في حين اننا نجد ان اغلب وسائل الاعلام اليوم تتحول الى منابر للتحريض المذهبي، وتعمل وفق اجندات سياسية وتخضع للضغوط والإغراءات المالية والتيارات الحزبية والشعبية.

وعلى صعيد الاستقلالية والحياد والتجرد:

فقد تميزا بالثبات والاستقامة امام القناعات التي توصلهم اليها الادلة والبراهين، ولهذا لا نستغرب اذا ما وصل الامر لحد تحمل التجريح من بعض الشيعة لاتهامهما بالميل نحو الفقه الاسلامي السني تارة، ومخالفة المشهور تارة اخرى، كما روى السيد نعمة الله الجزائري عن اولاد الشهيد الثاني [12]، وفي المقابل تلقي التهم من جانب بعض العلماء والامراء السنة بنشر التشيع ومخالفة مذهب السلطنة العثمانية. وعلى هذا السبيل استشهدا، رحمة الله عليهما.

5 ـ وعلى صعيد العمق والدقة والاصالة والابداع:

فمن مثلهما في ذلك وهما العلمان البارزان في عالم الفقه، حيث لا يزال فقههما برغم توالي القرون والعصور من المقررات الثابتة للتدريس في الحوزات العلمية الدينية في العالم الشيعي قاطبة (اللمعة الدمشقية للشهيد الاول وشرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني. وقد احصى الشيخ اقا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة ما يقرب من تسعين شرحا وحاشية على كتاب اللمعة الدمشقة ابرزها شرح للشهيد الثاني).

ونكتفي هنا بذكر شهادة المحقق الكركي في عمق ودقة واصالة وابداع الشهيد الشهيد الاول، قال فيه: «شيخنا الشيخ الامام شيخ الاسلام علامة المتقدمين، ورئيس المتأخرين، حلال المشكلات وكشاف المعضلات، صاحب التحقيقات الفائقة، والتوثيقات الرائعة، حبر العلماء وعلم الفقهاء، وشمس الملة والحق والدين، ابو عبد الله محمد بن مكي الملقب بالشهيد رفع الله درجته في عليين، وحشره في زمرة الأئمة الطاهرين R».

وهناك شهادات لا تقل قوة عن هذه الشهادة بحق الشهيد الثاني ذكرها كبار العلماء منها شهادة الحر العاملي بحق الشهيد الثاني. قال فيه: «امره في الفقه والفضل والزهد والعبادة والورع والتحقيق والتبحر وجلالة القدر وعظم الشأن وجمع الكمالات والفضائل، أشهر من ان تذكر»[13].

مقارنة بين منهج الشهيدين وميثاق
الشرف الاعلامي العربي

جاء في المادة العاشرة من الميثاق «تعميق روح التسامح والتآخي ونبذ كل دعاوي التحيز والتعصب ايا كانت اشكاله» وهذه المادة هي ملخص لسيرة حياة الشهيدين، وتشهد على ذلك مناقشاتهما مع المخالفين بكل محبة وتسامح، وقد تمكنا بفعل منهجهما التسامحي الداعي للتآخي والمحبة من تحويل الكثيرين نحوهما وذياع صيتهما في الافاق الاسلامية قاطبة، لا بل انهما تحملا من الأذى ما لا يتحمله انسان، وضحيا بنفسيهما في هذا السبيل، وهذا هو سر استشهادهما على يد دعاة التعصب والجهل.

فالمعروف ان الشهيد الاول كان مرجعية اسلامية للسنة والشيعة، وكان لا يسمح في مجلسه بعرض الخلافات والقضايا المذهبية، وكان يحضر درسه ومجلسه علماء من اهل المذاهب الاسلامية كافة.

كما يشهد على روح المحبة والتآخي والتسامح ما ذكره الشيخ قطب الدين النهروالي في كتاب الرحلة المدنية بحق الشهيد الثاني: «كان رجلاً في غاية الاستقامة، وكانت له فضيلة تامة، وحسن محاورة ولطف مكالمة».

وجاء في المادة المادة الثانية عشرة: «مراعاة اصول الحوار وآدابه وخاصة الذي يعرض او يذاع او يبث، من حيث حقوق ضيوف الحوار في شرح آرائهم والمتلقين في التعقيب، وعرض الآراء كافة وصولاً الى بلورة رؤية متكاملة وشاملة وموضوعية لدى المتلقي العربي».

وهذا الامر كان ديدن الشهيدين، فمن مثلهما بآداب الحوار، وهما الفقيهان الكبيران، وقد ذهبا الى ديار ومدارس ومجالس الآخرين، متنازلين عن كل مكانتيهما العلمية، لتلقي علوم ومعارف الآخرين مع بذل الجهود وتحمل المشقات وتقحم الصعاب، وصولا الى بلورة آراء مشتركة تجلت في تبنيهما مقولة «ضرورة تعرف الفقيه على آراء ومذاهب الآخرين كجزء من شروط ومؤهلات الفقاهة». وانتتهى الامر بهما الى تدريس مذاهب الأخرين والافتاء بها لاهلها والرواية على مصادر المذاهب الأخرى. ونحيل - كشاهد على مرعاتهما لآداب المناظرة والحوار - النص الذي نقلناه عن الحوار الذي جرى بين الشهيد الثاني والشيخ البكري منعًا للتكرار. فهل نجد لهذا نظيراً اليوم؟

خلاصة وختام:

لا يستطيع الباحث في حياة هاذين الشهيدين الكبيرين الا ان يشعر بتواضع الزاد امام ضخامة مؤونتهما وسعة افقهما وعلو شأنهما، وان يدهش من حركتيهما ونشاطهما العلمي والابداعي الفذ، على الرغم من الصعوبات والشدائد التي طبعت ظروف تلك الحقبة، وان يعترف انهما سبقا عصريهما، وفاقا اهل هذا العصر أفقا وموضوعية وموسوعية وشفافية ومصداقية واحتراما للرأي الآخر وانفتاحا على معارف الأخرين، بكل جرأة وروح وأخلاق علمية. ولا نجافي الحقيقة اذا قلنا انهما سبقا أكثر العلماء المسلمين في هذا الزمان في انفتاحهما وتسامحهما الفقهي والفكري، على الرغم من ان هذا العصر وضع امام ايدي الجميع كل ابواب الاتصال والعلم والمعرفة، في عصر مفتوح بالكامل على بعضه نتيجة الانفجار التكنولوجي والثورة الاعلامية والمعلوماتية الهائلة، وعلى الرغم من ان هذا العصر مكن الجميع من التعرف على فقه الآخرين وفكرهم ووسع آفاق ومجالات التبادل والتواصل بدون تجشم مشاق السفر والترحال، الا اننا نجد ان البعض لا يزال ينغمس في وحول المذهبية والطائفية والتعصب ويسد كل الابواب امام التقارب والتقريب بين ابناء المذاهب الاسلامية، لا بل يستخدم الأدوات والوسائل الاعلامية، لاثارة الفتن والعصبيات بين ابناء الامة الواحدة والدين الواحد والوطن الواحد.

فما احوجنا في عالم اعلام اليوم الى منهج هذين الشهيدين رحمهما الله.

[1](*) مدير عام قناة المنار - لبنان

[2] تم اعتماد الشعارات ونقلها من المواقع الرسمية للمؤسسات الاعلامية على شبكة الانترنت فضلاً عن شهرتها.

[3] منقولة عن موقع مجلس وزراء الاعلام العرب على الانترنت. www.amicat.org

[4] الدر المنثور من المأثور وغير المأثور.علي بن محمد بن الحسن ابن الشهيد الثاني. تحقيق السيد احمد الحسيني.ج 2 ص164-165.

[5] عوالي اللآلي. ابن ابي جمهور. مطبعة سيد الشهداء من ص 380 الى ص457.

[6] الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية. جزء 3 ص 65.

[7] مقالة بعنوان «المواطنة عند فقهاء الامامية». د. خضر نبها.سلسلة الدراسات الفكرية. منتدى الفكر اللبناني. ص 92 اعتمد فيها على تحقيقات عدة، لا سيما منها كتاب «ستة فقهاء ابطال» للمحقق الشيخ جعفر المهاجر.

[8] مجلة رسالة الاسلام. العدد1. السنة الاولى. ص 52.

[9]تحقيق كتاب منية المريد في آداب المفيد والمستفيد للشيخ رضا المختاري - مكتب الاعلام الاسلامي ص 56

[10] رسائل الشهيد الثاني. صادرة عن مركز الابحاث والدراسات الاسلامية. قم. ط1. سنة 1421 هـ. ج 1. ص 585.

[11] المصدر نفسه، ص 592.

[12] عوالي اللآلي. ابن ابي جمهور. حزء 1 ص 10 -11

[13] امل الأمل. الحر العاملي. جزء 1 ص 85.

المنهج التربوي والاخلاقي عند الشهيدين

السيد مجتبى الحسيني (*)

من السنن التي قد راجت في العقود الاخيرة هي إقامة مجالس التكريم لرموزالعلم والثقافة والدين من الفحول الذين كان لهم باع طويل في ترشيد الاُمّة وتثقيفها، وهذا الأمر مضافا الى انه تقدير وشكر عن عطاء وبذل لهؤلاء العباقرة، وظيفة أخلاقية انسانية، إذ نحن جالسون على مائدة هؤلاء الذين قد تحملوا مشاقاً كثيرة لانجاز ماتركوه لنا من التراث وخصوصا في تلك العصورالتي لم يكن فيها طباعة ولا آلة حاسوب ولا تسجيل، وكان البحث عن المطالب العلمية مستلزما لأسفار طويلة، قد تستغرق شهوراً بل سنين، مع مواجهة أخطاركبيرة كالقتل والنهب والامراض وغيرها، ونحن الآن نجلس في المكتبات المملوؤة بالكتب بأحسن طباعة، وعلى كراسٍ خلف الطاولات وتحت مكيفات تجعل الصيف شتاء والشتاء صيفا، بقلوب وادعة وطمأنينة وراحة، وكل هذه النعم قد نلناها بفضل جهود هؤلاء، فعلينا أن نشكرهم ونقدّرجهودهم.[1]

نعم إن الشهيدين الكريمين الذين نحن نحتفل تكريماً لعطائهما العلمي، قد أستشهدا في هذا السبيل وذاقوا حرالحديد لأنهم لم يتوانوا عن نشر العلم والمعارف الحقة حتى حُوصروا وسُجنوا وقُتلوا.

ومما يُعقّد البحث عن حياتهم، أنهم مَرُّوا على عصور وفترات، كان فيها أعداؤهم أكثر من أوليائهم، فبذلوا جهداً كبيراً في تشويه صورة هذين العبقريين، ولذلك لايمكن معرفة أبعاد حياتهما بصورة منسجمة واضحة. وما بمتناول أيدينا ماهي إلاّ مقاطع من تاريخ حياتهم وكذلك تراثهم العلمي المودع في مؤلفاتهم، وبما إني قد أخترت من المواضيع المقترحة في هذا المؤتمر، المحورالثالث، وهوالبحث حول المنهج التربوي والاخلاقي عند الشهيدين فتمهيداً لهذا البحث نطل اطلالة سريعة على إجمال من حياتهما كي نُبيّن موقعهما السامي وأهمية التعرّف على سيرتهما في المجالين التربوي والاخلاقي كمثال يقتدى به وأسوة ينبغي التاسي بها.

في هذه القراءة السريعة نحاول أولاً: ترجمة الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي العاملي وآثاره الباقية وتأثيره في التراث الإسلامي والاجتماعي و السياسي.

ولد الشهيد الأول في القرن السابع الهجري في سنة 734هـ في جبل عامل واستشهد بدمشق يوم الخميس التاسع من جمادي الأول بسنة 786هـ قتيلاً بالسيف وبذلك يكون عمره M إثنين وخمسين سنة وذكرالشيخ الحرالعاملي في أمل الآمل كانت وفاته سنة 786 التاسع من جمادى الأولى. قتل بالسيف ثم صلب ثم رجُم بدمشق في دولة بيدمر وسلطنة برقوق بفتوى القاضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة الشافعي بعد ما حبس سنة كاملة في قلعة دمشق. وكان سبب حبسه وقتله أنه وشى به رجل من أعدائه، وكتب محضراً يشتمل على مقالات شنيعة، وشهد بذلك جماعة كثيرة وكتبوا عليه شهادتهم، وثبت ذلك عند قاضي صيدا، ثم أتوا به إلى قاضي الشام، فحبس سنة كاملة إلى أن قتل.

مسيرتــه العلميــة:

هاجرالشهيد محمد مكي العاملي من جبل عامل سنة 750 هجرية وعمره آنذاك ستة عشر إلى العراق ليبدأ شوطه العلمي ويتحمل أعباء المذهب، فقرأ على فخر المحققين إبن العلامة الحلي. ويحكى عن فخر المحققين أنه قال استفدت منه كثيراً، أكثر مما إستفاد مني. وقد أجازه فخرالدين في داره بالحلة سنة 751هـ. وأجازه إبن نما بعد هذا التاريخ بسنة. وأجازه إبن معية بعد هذا التاريخ بسنتين. وأجازه المطارباذي بعد هذا التاريخ بثلاث سنين. وبقي في العراق خمس سنين. وهذا الحرص من كبارالعلماء والمحدثين في إعطائه الإجازة يدل على شدة ذكائه وسعة علمه وهوفي عنفوان شبابه.

ثم رجع إلى البلاد وهو إبن إحدى وعشرين سنة ولم يكتف بالأخذ من علماء الشيعة بل إستفاد من كبارعلماء العامة وتفنن في العلوم.. يقول الشهيد في إجازته لإبن الخازن: (وأما مصنفات العامة ومروياتهم، فإني أروي عن نحو أربعين شيخاً من علمائهم بمكة والمدينة ودارالسلام بغداد ومصرودمشق وبيت المقدس ومقام إبراهيم الخليل، فروى صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بسندهم إلى البخاري، وكذا صحيح مسلم، ومسند أبي داود، وجامع الترمذي، ومسند أحمد، وموطأ مالك ومسند الدار قُطنى، ومسند إبن ماجة، والمستدرك على الصحيحين للحاكم إبن عبد الله النيسابوري). هذا النص يُطلعنا على مدى الفائدة العلمية التي استقاها الشهيد في رحلاته إلى مختلف البلدان الإسلامية، وإطلاعه على عباقرة العلم من بقية المذاهب الأخرى. ونعلم من ذلك أنه دخل كل هذه البلدان وقرأ على علمائها واستجازهم، وهذا يدل على علو همته وعزيمته وانفتاحه على سائر المذاهب الاسلامية.

وإذا كان عمره اثنين وخمسين سنة، وله من الآثار العلمية الباقية إلى اليوم، ما يعجز عن إتيانها الفحول المعمّرون، فذلك من كرامته وفضائله التي لم يشاركه فيها أحد.

وكذلك ينقل صاحب الأعيان عن العلاقة التي ربطت الشهيد الأول مع السلطان علي بن المؤيد، ملك خراسان، وما والاها من مودة ومكاتبة على البعد إلى العراق ثم إلى الشام، وهذا يدل على أن الشهيدMكان يتحرك على إتجاهات عدة في المجتمع، منها تعلم الفقه والأصول والرجال والحديث والعقليات والأدب.

ولم يمنعه كل ذلك من أن يوطّد علاقته ببعض السياسيين والتخطيط لعمل نهضوي، من خلال مركزه العلمي والاجتماعي، وعلاقته بأهل العراق والشام والمدينة وفلسطين، مما دعى السلطة إلى اغتياله وقتله، لئلا يؤثر في انجذاب الناس الى مذهب أهل البيت R في الأوساط الاجتماعية.

أقوال العلماء فيه:

هنا نود ان نشيرالى كلمات بعض الاعلام ممن اثنى على هذا العالم الكبير توثيقا لما قلناه في شأنه:

قال الشيخ الحرالعاملي في أمل الآمل: كان فقيهاً محدثاً مدققاً متبحراً كاملاً جامعاً لفنون العقليات والنقليات زاهداً عابداً ورعاً شاعراً أديباً، فريد دهره عديم النظير في زمانه.

واثنى المحقق الكركي في إجازته لصفي الدين الوزيرعلى الشهيد الأول بقوله: شيخنا الشيخ الإمام شيخ الإسلام علّامة المتقدمين ورئيس المتأخرين حلاّل المشكلات وكشاف المعضلات صاحب التحقيقات الفائقة والتوثيقات الرائعة حبرالعلماء وعلَم الفقهاء وشمس الملة والحق والدين أبي عبد الله محمد بن مكي الملقب بالشهيد رفع الله درجته في عليين وحشره في زمرة الأئمة الطاهرينR.

وقال في حقه الشهيد الثاني في إجازته للشيخ حسين بن عبد الصمد: شيخنا الإمام الأعظم محيي ما درس من سنن المرسلين ومحقق الأولين والآخرين الإمام السعيد أبي عبد الله الشهيد.

ووصفه فخر الدين محمد إبن العلامة الحلي في إجازته التي كتبها على ظهرالقواعد عند قراءته عليه فقال: قرأ عليّ مولانا الإمام العلّامة الأعظم أفضل علماء العالم سيد فضلاء بني آدم مولانا شمس الحق والدين محمد بن مكي بن حامد أدام الله أيامه من هذا الكتاب مشكلاته وأجزت له رواية جميع كتب والدي { وجميع ما صنفه أصحابنا المتقدمون رضي الله عنهم، عني عن والدي عنهم بالطرق المذكورة لها.

وقال السيد مصطفى التفريشي في كتابه نقد الرجال: شيخ الطائفة وثقتها نقي الكلام جيد التصانيف. وقال في مستدركات الرسائل: أفقه الفقهاء عند جماعة من الأساتذة جامع فنون الفضائل وحاوي صنوف المعالي وصاحب النفس الزكية القدسية القوية.

ويقول في شأنه صاحب أعيان الشيعة: هو إمام من أئمة علماء الشيعة وعلم من أعلامهم وركن من أركانهم وفقيه عظيم من أعاظم فقهائهم يُضرب المثل بفقاهته ومفخرة من مفاخر جبل عامل بل من مفاخر الشيعة عظيم المنزلة في العلم جليل القدر عظيم الشأن عديم النظير محقق ماهر متفنن أديب شاعر تشهد بجلالة قدره وعظيم شأنه تآليفه المشهورة العظيمة الفوائد، المتنوعة المقاصد في الفقه والأصول وغيرهما كما ستقف عليه كالقواعد التي لم يؤلف مثلها في موضوعها وكالألفية والنقلية الوحيدتين في موضوعهما والدروس التي جمعت على صغر حجمها مالم يوجد في المطولات والذكرى التي امتازت على اشباهها واللمعة التي صنفها في سبعة أيام وجمعت على اختصارها فأوعت. وشرح الاربعين حديثاً.

إن شخصيةً تتمتع بمثل هذه الصفات حَريّة أن تبقى مُرتسمة المعالم في التاريخ الإسلامي إذ أنه شخصية متميزة فاق أقرانه وانبرى يدافع عن حريم الإسلام وهو في سن مبكرة مبتغياً ذلك رضى الله والدارالآخرة وسيبقى ماثلاً في أذهان الملايين من المسلمين لأنه مثال العالم الرباني الذي ينطبق عليه فحوى الحديث الشريف (مثل علماء أمتی كأنبياء بني إسرائيل) وبإخلاصه وصدقه وإيمانه وورعه وجهاده في ساحة العلم والمجتمع والذي كان ضحيته، متشبهاً بذلك بالحسين، ويحيى ابن زكريا الذي ذهب ضحية الظلم ومقارعة الفساد، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

بعض مشايخه في التدريس و الاجازة:

كان معظم قراءته عند فخرالدين إبن العلامة، والسيد عميد الدين عبد المطلب الحسيني الحلي شارح تهذيب خالِه العلاّمة في الأصول المعروف بالعميدي، وأخيه السيد ضياء الدين عبد الله الحسيني الحلي، وقطب الدين محمد بن محمد البويهي الرازي شارح الشمسية، من مشايخه في الرواية السيد تاج الدين بن معية الحسني، ومن بعده مشايخه في الإجازة السيد علاء الدين بن زهرة الحسيني، والشيخ علي رضي الدين بن طراز المطارآبادي، والشيخ علي رضي الدين علي بن احمد الشهير بالمزيدي، والشيخ جلال الدين محمد بن الشيخ شمس الدين الحارثي أحد تلامذة المحقق الحلي، والشيخ محمد بن جعفر المشهدي، وأحمد بن الحسيني الكوفي. و قال السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة: من المحتمل أنه قرأ على مشايخ عدة من جبل عامل وأجازوه ولم تصل إلينا أسماؤهم. منهم والده الذي كان من أفاضل العلماء وأجلاء مشايخ الإجازة.

أما مشايخه من علماء السنة:

فيروي عن أربعين شيخاً منهم، ومن جملتهم الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف القرشي الشافعي الكرماني الراوي عن القاضي عضد الدين الأيجي وولده زين الدين احمد بن عبد الرحمن العضدي.

تلاميــــــــــذه:

كان للشيخ تلاميذ كثر ولكن الامر الطريف الذي يدل على اهتمامه بتربية أهله ان عدد من اولاده وأهله قد درسوا عنده منهم: ولده رضي الدين أبو طالب محمد بن محمد بن مكي، وولده ضياء الدين أبو القاسم أو الحسن علي بن مكي، وولده جمال الدين أبو منصور الحسن بن محمد بن مكي، و ابنته أم الحسن فاطمة بنت محمد بن مكي ست المشايخ، وزوجته أم علي ولم يُعرف إسمها، إن مؤلفات الشهيد الأول { تجاوزت العشرين كما احصاها صاحب أعيان الشيعة في مواضيع مختلفة لا نذكرها رعاية للاختصار.

إطلالة سريعة على حياة الشهيد الثاني

بعد مرورنا السريع على حياة الشهيد الاول علينا أن نلقي الضوء على حياة الشهيد الثاني من الشخصيتين الذين نريد تكريمهما ودراسة نهجهما التربوي فنطل ايضا إطلالة على مُجمل حياته فيما يلي:

الشيخ زين الدين بن نورالدين علي بن أحمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف العاملي الجبعي الشهير بالشهيد الثاني.

ولد الشهيد الثاني في(13 شوال 911هـ)، في أسرة علمية عريقة فأبوه كان من كبار أفاضل عصره، وكان ستة من آبائه من الفضلاء المرموقين، وامتدت هذه الصفات في أبنائه فعرفت بسلسلة الذهب.

كان الشهيد يتمتع بمخايل النجابة والذكاء وحُب العِلم والمعرفة، وقد ساهمت الظروف في تأمين البيئة الصالحة له، فكان ختمه للقرآن في سنة 920هـ، وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره، وشكل ذلك انطلاقة لقراءة الفنون الأدبية والفقه، كان يرعاه والده ويدرّسه، فقرأ عليه مختصر الشرائع واللمعة الدمشقية وفي الروضات حتى وفاته سنة 925هـ.

رحلته العلمية والدينية:

بعد وفاة والده قصد ميس الجبل لطلب العلم فتتلمذ على يد الشيخ علي عبد العالي، وكان له من العمرأربعة عشرعاماً، وبقي فيها إلى أواخر سنة 933هـ، فقرأ عليه «شرائع الإسلام» و «الإرشاد» وأكثرالقواعد، وكانت المدة التي قضاها في ميس ثماني سنوات وثلاثة أشهر، وحصلت فيها بينه وبين الشيخ مودة.

ارتحل بعدها إلى كرك نوح حيث يقيم الشيخ علي الميسي زوج خالته الذي زوّجه إبنته، وقرأ بها على المرحوم السيد حسن ابن السيد جعفر صاحب كتاب المحجة البيضاء جملة من الفنون منها «قواعد ميثم البحراني» في الكلام و«التهذيب» في أصول الفقه، و«العمدة الجلية» في الأصول الفقهية و«الكافية» في النحو.

بعد سبعة أشهر راوده الحنين إلى بلده، فعاد إلى جباع، فاستقبله أهلها بالحفاوة والترحاب، وبقي فيها من عام 934إلى عام 937هـ، إستغلها في المذاكرة والمطالعة والتوجيه فكان مثالاً للرجل الرسالي المشفق على أبناء بلده والحريص عليهم، غيرأن ذلك لم يمنعه من متابعة تحصيله العلمي فانتقل إلى دمشق، واستُقبل بها من بعض أعلامها لا سيما الشيخ الفاضل المحقق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي وقرأ عليه بعض مؤلفاته في الطب والهيئة، وبعض «حكمة الإشراق» للسهروردي، ودرس «علم القراءة» على الشيخ أحمد بن جابر، عاد بعدها إلى جباع عام 938هـ.

دفعه الفضول العلمي للعودة في سنة 941هـ إلى دمشق ثانية، واجتمع بجماعة من الأفاضل في مقدمتهم الشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي وقرأ عليه جملة من الصحيحين وأجازه في الرواية.

لم يتوقف الشغف العلمي للشهيد على بلاد الشام، بل آثرالإطلاع على المناهج والمدارس الفكرية لدى المذاهب الإسلامية بمختلف تفرعاتها، فرحل إلى مصر سنة 943هـ، ولما وصل إلى غزة إجتمع بالشيخ محيي الدين عبد القادر بن أبي الخير الغزي وجرت بينهما بعض المناقشات وأجازه إجازة عامة، وتوطدت العلاقات بينهما ووصلت إلى درجة أدخَلهُ معه الشيخ الغزّي إلى خزانة كتبه فجال فيها وقلب كتبها ولما هم بالخروج طلب إليه أن يختار منها كتاباً.

ومكث في غزة مدة تابع بعدها السير إلى مصر، التي كانت في تلك الأيام حاضرة مهمة في عالم الفكر والثقافة والعلوم، فحضر فيها كثيراً من حلقات المساجد والمدارس وقرأ على كثير من شيوخ الفقه والحديث والتفسير، كالشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي، والملاّ حسين الجرجاني، والملاّ محمد الاسترابادي وغيرهم، دارساً الفقه والفنون العربية والعقلية (المعاني والبيان وأصول الفقه والنحو والهندسة والهيئة والمنطق والعروض والحديث والتفسير والقراءة والحساب).

كان يرفض أن يقف كل جماعة على مذهب واتباعه دون الاطلاع على معارف المذاهب الأخرى وعلومها. وكان يدعو إلى الحوار والمناقشة، وأن يكون الأخذ بالآراء مبني على الوضوح والبيا.، ويدل على ذلك ما كان من مناقشته للشيخ أبو الحسن البكري، حين رفض أن يجمد «كل فريق منهم على مذهب من المذاهب» ولم يدر ما قيل فيما عدا المذهب الذي اختاره مع قدرته على الاطلاع والفحص وإدراك المطالب.

وبعد أن ألم بجملة وافية من العلوم والمعارف الإسلامية، واطلع على مناهج الدراسة وتعرف على المذاهب والمدارس الفكرية المتنوعة، غادر في عام 943هـ لأداء فريضة الحج والعمرة، وعاد في عام 944 هـ إلى بلده فابتهج أهل العلم بعودته وتزاحمت على داره أفواج طلبة العلوم فشرع بالتدريس والتوجيه، ولم يكتف بذلك فبنى مسجداً وغيره من المشاريع.

ومما يجدرذكره أن الشهيد كان قد لمس في نفسه إبتداء من عام 933هـ ملامح الاجتهاد، وبانت قدرته على الإستنباط وأظهر ذلك عودة الناس إليه في التقليد وكان عمره 33 سنة.

كان مولعاً بحب السفروشغوفاً في ركوبه ومجاهدة نفسه، خاصة إذا كان المقصد الأئمة R، فترك مهوى قلبه وفؤاده، وغادر إلى العراق وكان ذلك في عام 946هـ. ومما يروى أن رفقاءه في السفر كانوا متعددي الأوطان والانتماءات الدينية، ومنهم من كان يعادي الشيعة، ولكن الشهيد استطاع أن يستميله بحكمته وتعاطيه الرصين، وأضحت بينهما إلفة ومودة وصلت إلى ملازمته والصلاة معه، محولاً بذلك العدو إلى صديق حميم.

ونظراً لما كان بيت المقدس يختزنه من حب في قلبه وفي وجدانه لما يشكله من مخزون قيمي وتراثي، وحيث كان أولى القبلتين وثاني الحرمين آثر زيارته في منتصف ذي الحجة عام 948هـ والتقى بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازة عامة ثم رجع إلى جبع وأقام بها إلى سنة 951هـ مستقلاً بالمطالعة والمذاكرة متفرغاً وسعه في ذلك.

سفره إلى القسطنطينية:

سافربعدها إلى القسطنطينية ليلتقي فيها بعض كبارالمسؤولين، وكان في العادة يتوجب على من يريد لقاء المسؤولين، أن يأخذ تعريفاً من حاكم منطقته، وكان القاضي المعروف بالشامي هو قاضي صيدا آنذاك فامتنع الشهيد أن يأخذ منه تعريفاً وآثر ان يعرّف نفسه بنفسه فعمد الى تأليف رسالة من عشرة مباحث كل منها في فن من الفنون العقلية والفقهية والتفسيروغيرذلك فقبلها قاضي العسكر دون أن يطالب بتعريف قاضي صيدا، وهذا ما يدل على أن الشهيد الثاني كان يحظى بإحترام القادة والحكام. وما يزيد في إيضاح علو مكانته أنه ترك له الحرية في اختيار ما يشاء من الوظائف والمدارس، فاختارالتدريس في المدرسة النورية في بعلبك على مختلف المذاهب بما فيها المذهب الشيعي، ويعد ذلك فتحًا، أدى إلى احترام السلطان العثماني لمكانة الشهيد العلمية من جهة، وإطلالة للشهيد على المذاهب الإسلامية الأخرى تدريساً وبحثاً من جهة أخرى، ما أكسبه وداً واحتراماً زائدين، وأصبح مجال حركته في دائرة أوسع لتشمل الساحة الإسلامية كلها، ما جعله في مكانة يحسده عليها الخصوم والمتربصون.

وقبل أن يعود إلى المدرسة النورية أبى عليه حبه للاستطلاع والسفرالذي يعتبر مدرسة حيّة ومتنقلة يزيد فيها من معارفه ويكسب تجربته قوة ومناعة، ويعمق فيها من منهجه ومراسه في ميداني الكتابة والمجتمع، وتجلى ذلك في حركة إبداعية منه، فكتب بقلم الباحث المتزن والواثقِ، فاتسمت كتابته بالدقة والموضوعية في وصف المدن والبلاد التي زارها واتصل بعلمائها من غير أن يفوته ذكر مناخها وثمارها وبعض عادات أهلها واستمرت جولته هذه تسعة أشهر.

انتقل بعدها إلى العراق وسبقته إليها شهرته، فتدفقت عليه الناس من مختلف الطبقات، وزار سامراء في عام 952ه، وحقّق قبلة مسجد الكوفة و صلّى وفق ما أدّى إليه اجتهاده فتابعه الناس.

وفي منتصف شهر صفر953هـ، عاد إلى بعلبك وأقام بها مشتغلا بالتدريس على المذاهب الخمسة و بإرشاد الناس وتوجيههم وقضاء حوائجهم والقيام بشؤونهم الدينية، فتحولت معه بعلبك إلى حاضرة علمية، وانتقل بعد ذلك إلى جباع قسراً، واشتغل بالتصنيف والتأليف.

مُعاناتــــــه:

لقد عانى الشهيد الثاني الكثير من المشاق واعترضته صعاب جمّة، انه يتحدث عن أوضاعه ويقول: «فتضطرني الحال وأنا في سن الشيخوخة إلى شراء حوائجي من السوق بنفسي وإلى غيرذلك من الأعمال البيتية ولا أزال وقد جاوزت الرابعة والخمسين من عمري أزاول ذلك وأشتغل بالتأليف والتصنيف ليلي ونهاري ولا مساعد ولا معين إلا الله».كان يقضي نهاره في التدريس وقضاء حاجات المحتاجين، وليله في الاحتطاب وحفظ الكرم.

مؤلفاتــــــه:

له مؤلفات كثيرة تربوعلى الثمانين، فتوزع على مختلف فنون العلم والمعرفة، منها:

ويوصي الشهيد الثاني المعلّم بالتدرج في إعطاء المعرفة، ويعتمد في منهاجه التعليمي نظام الوحدات في الصفوف، والتنويع في مواد التعليم واتباع الأساليب التي تجذب الطالب إليه، فيدخل إلى قلبه ويزرع المحبة فيها وينقذه من الملل بإثارته حماسه بالثناء على إحسانه وحثّه على بذل المزيد من الجهد.

كما ينصح المعلم بمراعاة الوقار وحسن الهندام لما لذلك من أثر في تقريب العِلم من الطالب وكسب احترامه، كما عليه أن لايغفل ما قد يسببه الوضع الاقتصادي من حرج للطالب من تشويش على ذهنه وأفكاره، ما يجعله في حالة قلق على حياته، فيوصي بتجاوز أزماته وتأمين حياة إقتصادية مرضية له.

إستشهــــاده:

استشهد هذا الشهيد العظيم في سنه 965 ه‍، وبقى جسده ثلاثة ايّام على ساحل البحر واخيراً القوا ذلك الجثمان الطاهرالشريف في البحر. فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد من أجل إحياء الدين ونشرالشريعة المحمدية الغرّاء ويوم يلقى ربّه مطمئناً راضياً مرضياً، هذا هو المشهور ولكن بعد الوثيقة الأخيرة، ثبتت شهادته في اسطنبول.

دراسة المنهجية العلمية والتربوية عند الشهيدين

يكفينا ان نلقي نظرةً مُعمّقة على:

أولاً، المناهج والمواد التي تعلّمها الشهيدان.

ثانياً، الأساتذة الذين اختارا لأخذ العلم منهم.

ثالثاً، الكتب التي ألّفاها من ناحية التنوع الموضوعي والتوسع في الرؤى المذهبية.

عندما ننظرالى المناهج والموارد التي تعلموها فإننا نرى نوعاً من الشمولية في الموضوعات والعلوم المتنوعة وهذا الذي يجعل الإنسان موسوعيا وهذا التوسع بدوره ينتج سعة النظر وعمق الفكر مما يساعد على الفهم العميق في كل موضوع لأن الموضوعات المختلفة مرتبطة بعضها ببعض ويكمّل بعضها البعض.

نعم الباحث الذي لا تتسع قدراته العقلية والذهنية لابد ان يخصص وقته في متابعة مواضيع محددة يقدر على استيعابها. ولكن النوابغ الذين تسمح لهم طاقاتهم الفكرية لأكثرمن موضوع فلا بد أن ينتهزوا استعدادهم لمتابعة العلوم المختلفة وعند ذلك يستفيدون من تعاطي العلوم المختلفة. كما ان في كل علم إذا تناول الباحث رؤى مختلفة فيه سوف يَجني من ذاك العلم ثماراً اكثر، مثلاً عند ما نرى ان الشهيد الثاني درس في مجال الحديث فأخذ من الاصول الأربعة الحديثية وغيرها من المتون الاصلية عند الشيعة، ولكنه لم يكتف بذلك بل أخذ أحاديث الصحاح الستة وغيرها من المتون الحديثية عند السنة مقروناً بقواعدها، من فحول علمائهم في الحديث فتعمقت رؤيته في فهم كلمات أهل البيت R أيضا، وهكذا في مجال الفقه عندما نرى أن الشهيدين تعلما الفقه في المذاهب الاربعة المشهورة عند عباقرة العصر من عُلماء السنة ففي تضارب آرائهم مع ماوصل الينا من أهل البيت R يصبح لديهما رؤية أعمق بكثير ممن لم يدرس إلاّ من جهة واحدة. وأهم من ذلك كله مجال العقيدة والكلام حيث أكثر مسائلها مستمدة من العقل فالتوسع في التطلع الى الاقوال يوجب تقوية الرأي وقوة المناقشة وإنتقاء الأحسن في ما بين الاقوال.

والمترجم لهما العلمان الشهيدان كان لهما هذه الميزة بشكل عميق، إذ يظهر ذلك من ما عدّدنا لهما من الاساتذة، خصوصاً الشهيد الثاني. فعليك بإعادة النظرالى ما سبق كي يظهر لك ما قلناه.

نظرة الى منهج الشهيد الثاني التربوي من خلال كتابه القيم (منية المريد).

أما نهجه التربوي الذي يستشف من خلال كتابه القيم الذي أصبح ملاذا للأوساط التربوية الدينية وهو كتاب منية المريد حيث ينظر فيه نظرة شاملة تربوية لجميع أبعاد الحياة فيرسم فيه إنسانا زاهدا اجتماعيا معتدلاً مقداماً ورعاً فهو رضوان الله عليه بينما كان يحذّر بشدة عن الخوض في الدنيا ولكنه بنفس الوقت لا يدعو الى الإنعزال والغفلة أوالتغافل عن الامور الاجتماعية، بل يدعوا الى الاهتمام بمصالح المجتمع، والشعور بالمسؤولية تجاه الشعب. وهو رضوان الله عليه بعدما حذّرعن الدخول في أعمال الطواغيت والسلاطين يقول:

واعلم أن القدر المذموم من ذلك ليس هو مجرد إتباع السلطان كيف اتفق بل اتباعه ليكون توطئة له ووسيلة إلى إرتفاع الشأن والترفع على الأقران وعظم الجاه و المقدار وحُب الدنيا والرئاسة ونحو ذلك. أما لو اتبعه ليجعله وصلة إلى إقامة نظام النوع وإعلاء كلمة الدين وترويج الحق وقمع أهل البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرونحو ذلك فهو من أفضل الأعمال فضلا عن كونه مرخصا وبهذا يجمع بين ما ورد من الذم وما ورد أيضا من الترخيص في ذلك. ثم يذكر لها نماذج ممن دخلوا في المسؤوليات الحكومية في دولة الطغاة باشارة من المعصومين فيذكر: علي بن يقطين وعبد الله النجاشي وأبي القاسم بن روح أحد الأبواب الشريفة و محمد بن إسماعيل بن بزيع ونوح بن دراج وغيرهم من أصحاب الأئمة ومن الفقهاء مثل السيدين الجليلين المرتضى والرضي وأبيهما والخواجة نصيرالدين الطوسي والعلاّمة بحرالعلوم جمال الدين بن المطهر وغيرهم.

ثم ياتي شاهداً على موقفه هذا فيقول: روى محمد بن إسماعيل بن بزيع وهو الثقة الصدوق عن الرضا Q أنه قال إن لله تعالى بأبواب الظالمين من نوّرالله به البرهان ومَكّن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله به أمورالمسلمين لأنه ملجأ المؤمنين من الضرر وإليه يفزع ذو الحاجة من شيعتنا بهم يؤمن الله روعة المؤمن في دارالظلمة أولئك المؤمنون حقا أولئك أمناء الله في أرضه أولئك نور الله تعالى في رعيتهم يوم القيامة ويزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهرالكواكب الزهرية لأهل الأرض أولئك من نورهُم نورالقيامة تضي‏ء منهم القيامة خُلقوا والله للجنة وخلَقت الجنة لهم فهنيئاً لهم ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله قال قلت بماذا جعلني الله فداك قال تكون معهم فتسرنا بإدخال السرورعلى المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد.

ثم لما يشعر بأن الاقتراب من هذه المسؤولية فيها خطر كبير يعود ويقول: واعلم أن هذا ثوابه كريم لكنه موضع الخطر الوخيم والغرورالعظيم فإن زهرة الدنيا وحُب الرئاسة والاستعلاء إذا نبتا في القلب غطيا عليه كثيراً من طرق الصواب والمقاصد الصحيحة الموجبة للثواب فلا بد من التيقظ في هذا الباب.

انه رضوان الله عليه في مكان آخر من كلامه يوصي على الأخلاق الاجتماعية والتوغل في أوساط المجتمع مع القيام بالدورالبنّاء فيهم فعند ما يوصي الطالب بما يجب رعايته في سيرته الفردية يقول:

السادس أن يحافظ على القيام بشعائرالإسلام وظواهرالأحكام كإقامة الصلوات في مساجد الجماعات محافظاً على شرف الأوقات وإفشاء السلام للخاصة والعامة مبتدئا ومجيبا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى بسبب ذلك صادعا بالحق باذلاً نفسه لله لا يخاف لومة لائم متأسيا في ذلك بالنبي P وغيره من الأنبياء متذكراً ما نزل بهم من المحن عند القيام بأوامرالله تعالى. ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع وهُم حجة الله تعالى على العوام وقد يراقبهم للأخذ منهم من لا ينظرون إليه و يقتدى بهم من لايعلمون به وإذا لم ينتفع العالِم بِعِلمه فغيرُه أبعد عن الانتفاع به ولهذا عظمت زلة العالم لما يترتب‏ عليها من المفاسد. ويتخلق بالمحاسن التي ورد بها الشرع وحثّ عليها، والاخلاق الحميدة والشيم المرضية من السخاء والجود وبشاشة الوجه من غير خروج عن الاعتدال وكظم الغيظ وكف الأذى وإحتماله والصبر و المروءة والتنزّه عن دني الاكتساب والإيثار وترك الاستئثار والإنصاف وترك الاستنصاف وشكر المفضل والسعي في قضاء الحاجات وبذل الجاه والشفاعات و التلطف بالفقراء والتحبب إلى الجيران والأقرباء والإحسان إلى ما ملكت الأيمان ومجانبة الإكثارمن الضحك والمزاح والتزام الخوف والحزن والانكسار والإطراق والصمت بحيث يظهر أثرالخشية على هيئته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته لا ينظرإليه ناظر إلاّ وكان نظره مذكِرا لله تعالى وصورته دليلا على علمه. و ملازمة الآداب الشرعية القولية والفعلية الظاهرة والخفية كتلاوة القرآن متفكرا في معانيه ممتثلا لأوامره منزجراً عند زواجره واقفا عند وعده ووعيده قائما بوظائفه و حدوده وذكر الله تعالى بالقلب واللسان وكذلك ما ورد من الدعوات والأذكار في آناء الليل والنهار ونوافل العبادات من الصلاة والصيام وحج البيت الحرام ولا يقتصر من العبادات على مجرد العلم فيقسو قلبه ويظلم نوره كما تقدم التنبيه عليه. وزيادة التنظيف بإزالة الأوساخ وقص الأظفار وإزالة واجتناب الروائح الكريهة وتسريح اللحية مجتهدا في الاقتداء بالسنة الشريفة والأخلاق الحميدة المنيفه ويطهّر نفسه من مساوئ الأخلاق وذميم الأوصاف من الحسد والرياء والعجب واحتقارالناس وإن كانوا دونه بدرجات والغل والبغي والغضب لغيرالله والغش والبخل والخبث والبَطر والطمع والفخر والخيلاء والتنافس في الدنيا والمباهاة بها والمداهنة والتزين للناس وحُب المدح بما لم يفعل والعمى عن عيوب النفس والاشتغال عنها بعيوب الناس والحمية والعصبية لغيرالله والرغبة والرهبة لغيره والغيبة والنميمة والبهتان والكذب والفحش في القول، ولهذه الأوصاف تفصيل وأدوية وترغيب وترهيب محررفي مواضع تخصه والغرض من ذكرها هنا تنبيه العالِم والمُتعلِم عن أصولها ليتنبه لها ارتكابا واجتنابا على الجملة وهي وإن اشتركت بين الجميع إلاّ أنها بهما أولى فلذلك جعلناها من وظائفهما لأن العلِم كما قال بعض الأكابر عبادة القلب وعمارته وصلاة السروكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح إلاّ بعد تطهيرها من الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عبادة الباطن إلا بعد تطهيره من خبائث الأخلاق.

ونورالعِلم لايقذفه الله تعالى في القلب المنجس بالكدورات النفسية و الأخلاق الذميمة.

والنقطة التي اَودّ أن اُركزعليها في سيرة الشهيدين سلوكهما الوحدوي والتقريبي سواء في مجال التعلُم أو إختيار الاساتذة أوالتعليم فكما رأينا في سيرتهما انهما،

اَوّلاً: قد درسا مناهج المذاهب المختلفة وكتبهم ولم يكتفيا بما عند مدرسة أهل البيت.

وثانياً: قد تعلما كل نحلة من خصيصيها من تلك النحلة.

ثالثاً: درّسا الفقه والكلام على المذاهب المختلفة بحيث إستطاعا أن يكتسبا ثقة أبناء كل مذهب ومضافاً الى كل ذلك أصبحا مرجعا للمذاهب المختلفة في الحُكم والقضاء خصوصا الشهيد الثاني الذي قد إحتل مكانا عظيماً عند الحكومة ويتضح ذلك من خلال ماقرأناه على مسامعكم في هذا المختصر.

[1](*) ممثل سماحة الإمام الخامنئي في سوريا.

أركيولوجيا الذات والآخر في فكر وفقه
الشهيد الأول

د. سمير سليمان (*)

I

أحد أشهر كتب الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل فوكو كتابه: «أركيولوجيا المعرفة». والأركيولوجيا كما هو معروف هي علم الحفريات الأثرية، أو علم الصفائح والشرائح المطمورة.

أما في المعرفة فهي دراسة البنية الضمنية للمعرفة (Epistimé)[1] في عصر معين أو الحفر تحت سطحها، كما يشير إلى ذلك جان لاكروا[2]. وفي رأينا أن لا معرفة حقيقية لا تتضمن بنية معرفية، ولا بنية معرفية لا تنتجها «ذات» ولا تتوجه إلى «آخر»، أو لا يحضر فيها، ولا تتكون ذات فكرية منتجة للمعرفة إلا بناءً على رؤية اعتقادية كلية لطالما سميناها «مشروعاً حضارياً» يتشكل من خلاله وعي الذات بذاتها ولذاتها، ونظرتها إلى الوجود والعالم والإنسان والقيم وعلاقات البشر وسلوكياتهم ودوافعهم، وصولاً إلى المآلات الأخيرة.

في تنزيل هذا المشروع ليُسيَّل في صيغ الحياة ومنظومات العيش وكيفياتها، وفي قراءة خبرات هذا التسييل وفي محصلاتها، تُكتسب المعارف العامة، وتتولد الأفكار وتتشكل ميادينها بتنوعاتها ما تآلف منها وما اختلف، وما تكامل منها وما تناقص... إنها التوليدية المعرفية أو الجينيالوجيا المعرفية (Généalogie) التي تتعدد ضمنها القراءات وتتطور الأفكار.

ولا تتشكل الذات المنتجة للمعرفة بطبيعة الحال إلا من خلال النسيج الاجتماعي والتاريخي، كما ينبئ بذلك تاريخ الأفكار وتطورها. وفي الاجتماع لا تكون الذات تكويناً إلا انتساباً إلى الآخر فهي «الذات» لأن ثمة «آخر»، والعكس صحيح أيضاً ولو من غير توازن أو مساواة بينهما كما سنرى. فعلائقية المشروع /الذات/ الآخر/ اللحظة الاجتماعية والتاريخية أو العصر/ المعرفة، هي جدلية وتكاملية في آن، ومن خلالها تتسوى البنية المعرفية وتستقيم.

إحدى الإشكالات المستديمة في علائقية الذات والآخر، كانت العلاقة بين الذات واللحظة، كما بين الآخر واللحظة. (لاحظ في المعادلتين هنا تتكرر «اللحظة» مع عدم تكرار «الذات والآخر»، وكأنما هذان الآخران هما الثابتان- ولو على تنوع- بينما هي أي «اللحظة» متكررة، أي متغيرة، كما هي كذلك في التاريخ). وليست الذات واحدة، فثمة ذات جمعية هي الذات الاعتقادية والحضارية الكيانية المعبَّر عنها بالهوية، وثمة ذوات متكسرة فردية أو جزئية تسبح في فضائها، ولو من موقع المفارقة أو الاعتراض أو الاختلاف. وكذلك الحال في الآخر، فثمة آخر اعتقادي وحضاري وكياني منتم إلى مشروع حضاري مغاير بالمعنى الذي سبقت إشارتنا إليه، وثمة «آخرون» متكثرون تفصيليون ينتمون إليه. لكن موقعية «الذات» و«الآخر» تتحدد من خلال نظرة كل منهما إلى مقابله. فالذات هي آخر بقياس هذا الآخر، والآخر ذات بالقياس إلى نفسه، وتلك الذات هي عنده الآخر.

بمعنى آخر، إن الأصل في كل ذلك يعود إلى أن في كل ذات آخر مختلفاً، وأن لكل ذات آخر مختلفاً، سواء كان ذلك في نطاق المشروع/ الرؤية الحضارية الكلية نفسها أو في مجال العلاقة بين مشروعين/ رؤيتين حضاريتين كليتين أو أكثر. فكل ما هو خارج الذات آخر، وكل ما ليس آخر فهو ذات في تبادل مواقع هو أحد أعقد وجوه العمران البشري وأخطرها، وأجملها في آن. ففي قلب هذا الحراك الحضاري والتدافعي التاريخي، وربما بسببه، تولدت مآس، وتولدت مقابلها مدنيات وإنجازات كبرى. وكلا الحالين في الأصل متولدان من أفكار، كما من بنى معرفية ضمنية وأنساق فكرية تتناسخ فيها أو تعلوها، وهي كلها–على ما نراه- حقل ثرٌّ لما نسميه، ليس منهج الأركيولوجيا المعرفية أو علم الحفريات المعرفية على طريقة مدرسة ميشيل فوكو، وإنما بما هو متعلق بالمشروع الحضاري والرؤية الحضارية المولدة للأفكار والمؤسِسة لبناها الضمنية المستترة أو الظاهرة الجاهرة، لتغدو الأركيولوجيا المعرفية في هذه الحال أحد أوجه تلك الرؤية/ المشروع وتعبيراً عنه، أي ما نطلق عليه تسمية «الأركيولوجيا المعرفية الحضارية»... وهذا حقل أشمل من أركيولوجيا المعرفة «الفوكوية» وأعمق غوراً، لأنه ينقب في اتجاه أعمق الصفائح المؤسسة للأفكار ونظائرها وأشباهها.

II

بمنهج «الأركيولوجيا الحضارية» هذا، لا نرى الفكر الإسلامي –كما كل فكر- إلا تاريخاً من الخبرات العقلية والمعرفية الدينامية المحصَّلة من تراكم محاولات فهم وتفسير المشروع الحضاري الإلهي للبشرية من قبل متمثليه والمنتمين إليه وسعيهم الدائب إلى تنزيل اعتقاداته وقيمه وشريعته إلى منظومات الحياة والمعيش وتسييلها فيها. وبصرف النظر عن نجاح هذه المحاولات أو فشلها كلياً أو جزئياً، وبصرف النظر عن عيوبها أو أخطائها أو تأويلاتها أو تدافعاتها، فإنها ما عَدَت كونها حالة طبيعية في مسار وصيرورة التحولات الاجتماعية والتمدنية التي عرفها الاجتماع الإنساني – (والتطور تراكم للحظات تاريخية)-، وفي تدافع العلاقات بين الجماعات وتعطشها إلى نموذج الحياة الأصلح واصطناع الوسائط والآليات المفترضة للوصول إليه. وبهذا المعنى، لا نفهم علاقة الفقه الإسلامي بالفكر الإسلامي، وكلاهما من إبداع العقل الإسلامي، إلا في ذلك التلازم بين الفقه والفكر/ العقل الصادعين من المشروع الحضاري الإلهي الذي يقرءان في كتابه الواحد ويدوران في فلكه، حتى في لحظات التباين والاختلاف فيه أو عليه. فالفقه حتى يكون، محتاجٌ إلى ركيزتين ضروريتين: النص والفكر. حتى إذا صار الفقه حُكْماً، أمسى الحُكْم فكراً في بنية جدلية وتقدمية:

نقل← فكر/ فقه/فكر

فمفتاح الوحي والدين العلم والمعرفة[3]، والفقه اجتهاد المجتهدين ومعرفة عقلية استدلالية[4] للنص المقدس ولخصائصه. والاجتهاد والمعرفة متغيران بتغير اللحظة تحقيقاً لمصالح الجماعة ومراعاةً لمقاصد الشريعة وتغير الأعراف[5]. ولا نستثني الفكر الديني بعامة من هذه الحقيقة. وإذ يتبنى بعض المفكرين الإحيائيين مقولة «إحياء الفكر الديني»، منطلقين من المصطلح القرآني الوارد في قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ {[6]، فإن أكثرية المفكرين المسلمين، وفيهم محمد إقبال ومرتضى مطهري وغيرهما، لا يقصدون إحياءً للإسلام نفسه كدين ومشروع/ رؤية حضارية، وإنما يقصدون إحياء التفكير في الدين بما يقدم الدين كمواكِب حضاري للمتطلبات المتغيرة للزمان والمكان ومطوِّر للمفاهيم، بحيث تصحح هذه المفاهيم باستمرار، وتتجدد منظومات المعيش وتتطور[7]، ويحقق المشروع الإلهي المزيد من إنجازاته المتدرجة في خدمة حاجات ومتغيرات الصيرورة الإنسانية، التي ترفض الجمود والمراوحة في حركة الحياة وتلفظ الصنمية في حراك الأفكار، وحتى في بنيتها. وهذه خصيصة هامة من خصائص الفكر/ الفقه، والفقه/ الفكر في المجال المعرفي للتشيع الإمامي الذي عانى بعض الضمور في بعض المفاصل التاريخية تحت أثقال وأعباء موضوعية كان مقيضاً لها أن تستأصله من الجذور. فلم يسجل التاريخ الإسلامي نسبة في إعدام الفقهاء أو التنكيل بهم كالتي شهدها مسار الفقه الإمامي. ولما أطبقت قبضة الاستبداد على مساحة العقل برمته، نجح الفقهاء المجتهدون في «تهريب» إضافاتهم وإبداعاتهم الفكرية والمعرفية وحكمتهم السياسية من بين أصابع مضطهديهم، ومكّنوا لها السبل المناسبة للتنفس وتخطي المحن حتى بالاستشهاد. وحياة الشهيد الأول في هذا المجال حافلة بالعبر.

III

لقد حفر الاجتهاد في الإمامية لكل فقيه مجتهد مساراً متفرداً. ومن الطبيعي، بل والموضوعي، أن ينتج تحرير الاجتهاد هذا النمط التفردي. وكأنما كل فقيه يكاد يكون حالة خاصة، بل وتجاوزية في كثير من الأحيان، ولكن على أرضية التشبث بالمشروع الإلهي والاستناد إلى دينامياته وتمكينه، وإلا ما بقيت للإمامية باقية، وما كان للفكر الإسلامي العربي هذه القدرة على الصمود والبقاء على قيد الحياة.

لقد كان عدم الموت إنجازاً.

كان الفقيه المجتهد ذاتاً/ فرداً في الشكل، أما في حراكه فإنه يستحيل ذاتاً جمعية. غير أن ذاك الحراك ليس مطلقاً ما دام منضبطاً في الفضاء العام للفقاهة الإمامية، ومنسجماً مع مؤسِّساتها ومرجعياتها البنيوية، نقلاً وعقلاً. وما دون ذلك، ومن خلال استقراء نماذج الفقهاء التاريخيين الشيعة وفي طليعتهم الشهيد الأول، فإننا نلفى الفقيه المجتهد جامعاً لفرادتين: فرادة الذات/ الشخص وفرادة التجربة. والفرادتان متكاملتان. بيد أنهما لصيقتان بالآخر بتنوعاته التصاقاً ظاهراً أحياناً ومستتراً أحياناً أخرى، لا بفعل إرادة ذاتية عند الفقيه فحسب، وإنما بفعل الواقع الموضوعي وبفعل استنباط عقلاني وتقدير لمستلزماته وأولوياته أيضاً، وفي رأسها ما يصلح عند المجتهد للحظته التاريخية والاجتماعية والسياسية القائمة.

لكن ذلك الاستنباط يبقى في المحصلة اجتهاداً قد يصيب في اجتراح الحلول للمسائل المطروحة أو تدبير أولوياتها، وقد يخطىء. وهذه ظاهرة تشمل الفقهاء كافة أنّى يكن المذهب الذي يدعون دعوته.

في هذا السياق يذكر العلامة محمد مهدي شمس الدين أن الفقهاء المسلمين والشيعة منهم بوجه خاص، قد درجوا «على مواجهة المسائل في عملية الاستنباط، بنظرة فردية جزئية، تلاحظ كل مسألة باعتبارها مستقلة بذاتها، وبمعزل عن غيرها من المسائل التي ترتبط بها، وبمعزل عن ملاحظة الحالات العامة والخاصة التي تكتنف موضوع المسألة، ودون ملاحظة الواقع الاجتماعي- السياسي- الاقتصادي الذي صدرت فيه النصوص الخاصة بالمسألة. وقد جروا على هذا النهج في كثير من المسائل»[8]. وبصرف النظر عن مدى صحة هذا التعميم الصادر عن شمس الدين والذي قد لا يصح في الكافة، فإن ذلك لا يقلل من قيمة رأيه الذي ينسجم في وجهته العامة مع رأي الإمامية القائل بعصمة النبي والأئمة من أهل البيت، دون عصمة نواب الإمام والفقهاء، وإن كنا في جانب آخر لا نوافقه نقده فردية الفقهاء لأن إسقاط هذه الفردية إسقاط لمعنى الاجتهاد نفسه ولقيمته. ويمكن في هذا الخصوص إضافة عاملين مسببين لذلك الجنوح التجزيئي في الاجتهاد. أولهما: الإرث المثقل بحكم قيمي مسبق أساسه البنى الفكرية والمعرفية السابقة أو السائدة، واحترام أو توليد منهج الأسلاف من الفقهاء. وثانيهما: تقدير الفقيه المجتهد المعني بأن الفصل بين المسائل الفقهية لا يناقض مقاصد الشريعة من جانب، ولا يتعارض ولحظة الاجتماع الشيعي ومستلزماته المختلفة في زمانه من جانب آخر. ثم إن تقويم المنهجيات الفقهية القديمة في ضوء المعايير المعاصرة والحديثة يتضمن في رأينا شيئاً أو كثيراً من القسوة.

IV

سواءً انطبق حكم شمس الدين العام على فقه الشهيد الأول كلياً أو جزئياً، أو لم ينطبق، فإن هذا الفقه، على سيرة الفقهاء الشيعة عامة، يصعب عدم قراءته قراءة سياسية، أي بمعنى الاستدخال السياسي غير المباشر، حيث يحضر الآخر بتنوعاته حضوراً موضوعياً، ولو بشكل نسبي، وبخاصة لأن هذا الفقه، حتى ولو اقتصر على العبادات وحدها، كما الحال في الرسائل الفقهية العملية، فإن له وظيفة سياسية مباشرة واستقرائية. ولطالما رد الإمام الخميني مقولته الشهيرة الواردة أصلاً في كتاب «الحكومة الإسلامية» أن الإسلام دين عبادته سياسة وسياسته عبادة[9]. فما دامت أحكامه وفقاهة فقهائه متوجهة إلى إدارة حياة المؤمن وعلاقته بربه وبالآخر، كما علاقته بالعالم، وهذه علاقات متكاملة، فهي فعل سياسي بامتياز. ونريد أن نوافق في هذه النقطة، ولو بشكل نسبي، جعفر المهاجر في كلامه على الفقهاء الشيعة وهو في صدد بحثه في فقه الشهيد الأول، إذ يقول: «... الفقيه دائماً طليعة للعمل السياسي والاجتماعي عند الشيعة، وهذه قاعدة لا أعرف استثناء واحداً لها»[10].

في هذا السياق يكاد الباحثون المحدَثون في الخزين الخصيب للإرث الفقهي والمعرفي للشهيد محمد بن مكي العاملي يجمعون على أن الفكر الشيعي يدين له باستنباطه «الخام» ولأول مرة نظرية ولاية الفقيه وذلك في كتابه التأسيسي الهام «اللمعة الدمشقية»[11] القائلة بضرورة تولي الفقيه العادل الجامع لشرائط الفتوى أمور الأمة باعتباره «نائب الإمام»، وذلك قبل أن يتولى تعميق تأصيلها وتطوير أدائها فقهاء مجددون لاحقون، والإمام الخميني في طليعتهم[12]. وهي النظرية التي ساجل فيها ويساجل فقهاء كثر من السنة والشيعة[13].

إضافة إلى الفقه السياسي المباشر في تراث الفقه الإسلامي، ونظراً إلى الاستبطان/الاستكنان السياسي القائم في العبادات ودلالاتها، فإننا لا نرى فرقاً من جهتنا بين مذهب إسلامي وآخر في هذا الجانب. وإننا لنْعجب كيف لا (ولم) يلحظ الكثير من الفقهاء المسلمين الأبعاد السياسية في صلاة الجماعة مثلاً، أو في الحج، أو في الصوم، أو في الزكاة، وكذلك في العلاقة بالآخر، وكيف أن بعضهم لم يلحظ القابليات والتمكينات الوحدوية السياسية والتقريبية التي تختزنها تلك العبادات. ولعل الأعجب في هذا المجال كيف أن أكثر اللاهوتيين المسيحيين، نأوا عن بعث هذه الروح السياسية السارية في عباداتهم بحجة أو بأخرى، مع ثقتنا بأنها غير خافية عليهم، لكنها أُلبِستْ لَبوساً آخر. وإننا لنرى في تلك التمكينات وفي مؤداها، إضافة إلى كونها عامل تقريب ووحدة بين مذاهب الدين الواحد، عامل تقريب بين الأديان أيضاً.

هذه الأركيولوجيا المعرفية والسياسية، استناداً لمؤلفات الشهيد الأول، وللبنى المعرفية والفكرية القائمة قبل زمانه وفي هذا الزمان، واستناداً إلى سيرة حياته التي لا نراها إلا النموذج العملي لسيرته العلمية النظرية ولمدى وعيه لانتمائه والتزامه بالمشروع الإلهي وبخط التوحيد والتشيع[14]اللذين بذل حياته في سبيلهما، تسمح في رأينا بالملاحظة أن الشهيد الأول- مدفوعاً بظروف عصره وبالأخطار المحدقة بوجود التشيع آنذاك- كان مسكوناً باهتمامين فقهيين ومعرفيين غير متوازيين، لكنهما متكاملان، وكلاهما يصبان بالمحصلة في السياسة:

العلوم الأصولية والفقهية ذات البعدين الفتوائي الاجتهادي والتعليمي، وقد شغلت الحيز الأكبر من مؤلفاته.

الخوض في المسائل الكلامية التي تبدأ من واجب الوجود إلى الاستدلالات العقلية والنقلية الموثقة على إثبات صحة الإمامية، وكأنما مرافعته الفلسفية الكلامية ليست سوى المقدمات الطبيعية والمنطقية المؤسِسة لمرافعته في مجال إثبات «واجب وجود الإمامة»[15].

هذان الاهتمامان، ونحن هنا نستعيد مقولتنا السابقة حول فرادة الشخص /الفقيه وفرادة التجربة، لا يفهمان بدقة إلا في إطار ما يمكن تسميته بـ»المركزية العلمية للفقيه» في تاريخ التشيع. ففي لحظة الشهيد، بل فيما قبلها وما بعدها، وحيال العسف والقهر اللذين أناخا التشيع لقرون وكادا يطيحان بهويته، كان على الفقيه أن يكون العالم والفيلسوف والمرجع الديني والزمني والمقلَّد والمتصوف والمعلم والمربي والمرشد والقدوة في الشؤون كافة.

هذه الذات الموسوعية التي تجعل من الفقيه مصدراً مركزياً لكل معرفة، دفعت الشهيد الأول إلى الاطلاع حتى على حيل السحرة والمشعوذين[16] والكيميائيين المتكَسبين بإظهار خواص الامتزاجات، وعلى مهارات السيميائيين المشتغلين بإحداث خيالات لا وجود لها في الحس بهدف التأثير والإيهام...إلخ.[17]

لقد أمست الذات الفقهية الخاصة بأوجهها المعرفية والفقهية والسلوكية متماهية في الذات الأخرى الجمعية ومسخرة لخدمتها، والعكس صحيح أيضاً، بل هي كذلك حافظة وجودها ومؤسسة لمستقبلها. وإنه لذو دلالات متعددة أن يبدأ الشهيد الأول حراكه العام، بعدما أنهى إعداد نفسه علمياً وفقهياً واستكمل أسفاره في حواضر الفكر شتى في عصره مع إبقاء تردده إلى دمشق مستمراً، وبعد عودته إلى جزين، مسقط رأسه الذي بقي طاهراً «من الاحتلال الصليبي خلافاً لأكثر مناطق جبل عامل»- على ما يقوله جعفر المهاجر[18]..، أن يكون ذلك البدء من خلال تأسيس معهد لتدريس العلوم الدينية على مستويات متفاوتة[19] وبأفق تجديدي[20]. فمع تباعد المسافات في عصره، وتعذر وجود البنى التحتية للتواصل السريع بين المرجع و»البؤر» الشيعية وانتشار الأمية، اتخذ المعهد الديني وظيفتين: إعداد الفقهاء الجدد والمبلغين والدعاة من جانب، وبثهم في تلك البؤر ليتحولوا إلى شبكة فقهية وتنويرية وسياسية مرتبطة بالمركزية العلمية للفقيه المرجع ورابط تواصل بين الشيعة وبين تلك المركزية الفقهية والقيادية جيئة وذهاباً من جانب آخر. وهذا إنجاز تنظيمي وسياسي بامتياز يسجل في خانة هذا الفقيه الاستراتيجي المؤسِّس، مُطوّراً بذلك الصيغ القديمة المعتمدة في إقامة الارتباط بين الخاصة العلمية وبين العامة، ما شظى الذات الفقهية والعلمية المركزية إلى مركزيات تفصيلية هرمية بسطت ذراع الفقيه واستحضرته إلى وسط جمهوره باستمرار.

إلى جانب هذا الإعداد ذي الأفق الاستراتيجي التجديدي، كانت الرسالة/الرسائل العملية لمحمد بن مكي الجزيني العاملي[21] مُكمِّلة وعضداً وخارطة طريق لمعيش الشيعة وسلوكياتهم ومواقفهم وحلالهم وحرامهم في ديار انتشارهم في ذلك الزمن، إذْ تُنقل إلى المقلِّدين عبر شبكة الفقهاء الذين أعدهم من تلامذته ووكلائه، وتحكم تواصله الفقهي والرعوي بهم(المقلِّدين). وهذا ما اعتبره السيد محمد باقر الصدر «أول تطبيق عملي كان الشهيد الأول قد اتبعه لإنشاء كيان شيعي مترابط لأول مرة في تاريخ الزعامة الدينية»[22]. ولم يكن ممكناً إرساء هذا الترابط في ذلك الزمان لولا المركزية العلمية للفقهاء المنتشرة عبر وكلائهم أو شبكات التواصل الناظمة لعلاقاتهم بجمهور المقلِّدين كما ذكرنا.

بمعنى آخر، شكل هذا النمط من الشبكات عاملاً بنيوياً في ترميم التهتك العلائقي الذي كان قائماً في مراحل ما قبل الشهيد الأول بين الفقيه الشيعي والناس، وهو أيضاً أحد أفعل الوسائل في التنظيم السياسي وإدارة العلاقة السياسية الهرمية بين القيادة والقاعدة، أي بين الذات الخاصة والذات الجمعية المنضويتين في مشروع واحد، والمتوجهتين إلى أهداف واحدة، في مواجهة أي «آخر» يستهدفهما هويةً ووجوداً وحضوراً. ما يعني تشكل الجماعة الشيعية وانتظامها فيما يشبه البنية الحزبية المعتمدة في التنظيم الحزبي المعاصر، ولو بشكلها «البدائي»، من غير أن يعني ذلك بالضروروة «تحزب» الشيعة أي تحولهم إلى مؤسسة حزبية كيانية بالمعنى المتداول في الأزمنة المتأخرة.

ولعل الأكثر حنكة استراتيجية في هذا التمكين الذي أحدثه الشهيد الأول يتجلى في ما يتجاوز حفظ الجماعة الشيعية في ظل معاناة الحاضر ليمتد، وفي آن معاً، إلى التأسيس لمستقبلها وإبقاء جذوتها متقدة مهما كانت الضغوط. لكن ذلك ما كان ليتم إلا بأدوات الواقع وآلياته والخبرات المستفادة من مرارات الاضطهاد في الماضي، ومن انتكساته أيضاً.

في ضوء التفاؤلية الشيعية المتأصلة في الإيديولوجيا الإمامية، قرأ محمد بن مكي الجزيني العاملي الماضي والحاضر ووعاهما بشكل طليعي، بينما كانت عاقلته تحتاط للمقبل من الأيام وتهيء له، تماماً كما كانت الحال في مدرسة الأئمة المؤسسين الأوائل. فعندما طَمَت النكبات واشتدت المحن، صبوا جهودهم الاستراتيجية في ثلاثة اتجاهات: حفظ العلم الإمامي، وحفظ «النوع الإمامي» أو الملة الإمامية في الحاضر، والتأسيس لحفظهما في المستقبل. وعلى هذا المستقبل راهنوا، ولم يكن الرهان خاطئاً.

V

لم يكن تحريك هذه البنية الفقهية والمعرفية والتنظيمية السياسية، وفيها استنباط نظرية ولاية الفقيه[23]، سواء كان ذلك داخل الفضاء الشيعي أو خارجه في المدار الإسلامي العام، ليمر بسلام على الشهيد الأول... في الأبهظ من الأثمان كان... فمن داخل الذات الشيعية صدع معارضون لخطط ومنهجية حراكه لأسباب تبدو لنا مستكنة للكثير من الغموض. فتضارب الروايات حولها يجعل تفسيرها حمّال أوجه، سواء ما تعلق منها بعداوة محمد اليالوشي العاملي، أو بوشايات تقي الدين الخيامي ويوسف بن يحيى ومؤيديهما وحركة هؤلاء الثلاثة وأتباعهم الاعتراضية[24].

أما من خارج الذات الدينية/الآخر، فالسياق السلطاني والإيديولوجي والمذهبي المحتقن بعصبية الفِرق والفرقة ما انقطع عن تربص فرص الوقيعة. وإنه لذو دلالة أن يكون من يسميه محمد مهدي الآصفي: «الملك» (ولعله يقصد السلطان المملوكي) حاضراً شخصياً مع جمع كبير من الناس في محاكمة محمد بن مكي التي انتهت بإعدامه[25]، ما يؤكد أن المحاكمة كانت سياسية بامتياز، ولو تذرع قضاتها بذرائع أخرى.

VI

في الأركيولوجيا الحضارية، ومنها وفيها تتشكل الأركيولوجيا المعرفية، كما أركيولوجيا الذات بطبقاتها، وأركيولوجيا الآخر بشرائحها، ينبئ تاريخ العمران البشري، أن علائقية الذات والآخر برغم تداخلهما وتفاعلهما المعقد، ما كانت قط متوازنة. ففي الفطرة البشرية تتقدم الأولى على الثاني، برغم كل المحسنات البيانية والبديعية، وفوقها كل المساحيق الإيديولوجية الليبرالية الديمقراطية ودعاوى المساواة في الحقوق والواجبات، وكلها لا تخرج عن كونها مسألة نسبية... وهذا في الأزمنة المتأخرة والمجتمعات الحديثة.

أما في زمان الشهيد الأول، وفي مجتمعات الملوك والسلاطين الجبابرة والإقطاعيين والعصبيات العشائرية، وقد ملكوا الأرض ومن عليها وما عليها، فأنى لذلك التوازن أن يستقيم إلا في حدوده النسبية الدنيا؟! وكيف لجينيالوجيا العسف والقهر والتمييز العصبوي إلا أن تستنبت العداوات والإحن؟! فلا يظلمن فقيه عاش في القرن الثامن الهجري بتطلب أن يكون الآخر في فقهه وفضائه المعرفي، وخاصة إذا كان الآخر دينياً، هو نفسه الآخر زمن الأعصر المتأخرة.

التمييز والتمايز ظاهرتا كل زمان.

[1](*) أستاذ في الجامعة اللبنانية ورئيس تحرير مجلة LeDebat.

ليفي، برنار- هنري، في:«ميشيل فوكو- أركيولوجيا المعرفة»- دار التنوير، بيروت 2007- ص/61.

[2] لاكروا، جان- في: (م.ن)- ص/98.

[3] أنظر: المطهري، مرتضى- «مبدأ الاجتهاد في الإسلام»- ص.ص/62-63، مؤسسة البعثة، طهران 1457 هـ.

[4] الطباطبائي، محمد حسين- «الشيعة في الإسلام»- ص/95، دار التعارف، بيروت (د.ت). أنظر أيضاً: الصدر، محمد باقر «رسالتنا فكرية انقلابية» (مقالة).-

[5]الطالبي، عمار في: «الاجتهاد والتجديد»- ج/1- ص/388، إعداد جلال الدين مير آغائي- المجمع العالمي التقريب بين المذاهب الإسلامية- طهران- 2003م.

[6]الأنفال/24.

[7]المطهري، مرتضى- «إحياء الفكر في الإسلام»- دار التيار الجديد، بيروت، 1986م.

[8] شمس الدين، محمد مهدي- «في الاجتماع السياسي الإسلامي»- ص/ 230، المؤسسة الدولية، ط/2- بيروت 1999 م.

[9] أنظر الخميني، الإمام روح الله- «الحكومة الإسلامية».

[10] أنظر: المهاجر، جعفر- «ستة فقهاء أبطال» ص.ص/80-81- المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، بيروت،1994 م، وفي: «مجموعة من المحققين:الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي في المصادر العربية»- ص.ص/ 279-305، مركز العلوم والثقافة الإسلامية، قم 2009م.

[11] (م.ن)- ص/290.

[12] رزق، رامز- «جبل عامل: تاريخ وأحداث»- ص/163، دار الهادي، بيروت 1426هـ، وفي: «الشهيد الأول محمد بن مكي..».-ص.ص/185-195.

إضافة إلى نظرية ولاية الفقيه، يرى رامز رزق أيضاً أن الشهيد الأول قد أضاف إلى الفقه الشيعي إبداعاً آخر، وذلك من خلال نظريته «الصلحية» القائمة على «استخراج النسبة بين الصحيح والمعيب في البيع والشراء» والتي تركت في رأي رزق «جدلاً لا ينتهي بين علماء الشيعة حول مدى صحتها». (م.ن).

[13]راجع: شمس الدين، محمد مهدي- (م.س) ص.ص/349- 354 تحديداً.

[14]- الرسالة القصيرة التي كتبها الشهيد والمسماة «العقيدة الكافية»، وتضم واحداً وعشرين استدلالاً مختصراً يبدأ كل منها بلفظة «استدل»، هي بمثابة عهد اعتقادي في هذا الخصوص(أنظر: «موسوعة الشهيد الأول..». الجزء/18، مجموعة من المحققين، قم، 2009م.

[15] في الرسالة المسماة «الأربعينية» (نسبة المسائل الأربعين التي تخوض فيها) يذكر الشهيد الأول أربعين مسألة كلامية فلسفية برهانية تبدأ بمسألة القدم والحدوث (المسألة الأولى في إثبات حدوث العالم على قاعدة أن كل موجود سوى الله تعالى حادث- ص/3)، وذلك صولاً إلى المسألة الأربعين، وهي في حقيقة الإيمان ومكملاته.

في المسائل الأربعين خاض الشهيد في ثلاثين مسألة فلسفية، وثلاث مسائل في وجوب النبوة وعصمة النبي وخاتميته، ثم أتبعها بأربع مسائل في الإمامة وشروطها وفي الاستدلال على إمامة علي والأئمة من بعده، لتتلو هذه المسائل كلها مسألتان: واحدة في بيان صحة حجج المؤلف وبراهينه، ثم تأتي المسألة الأربعون التي تبحث في الإيمان وما جاء به النبي P وفي المعاد. وقارئ الأربعينية لا بد له من استشعار الخلفية الحقيقية لطرح المسائل الثلاثين الأولى، وهي عندنا تأسيس للمسائل الكلامية العشر الأخيرة منها. وما الرسالة القصيرة المسماة «الطلائعية» سوى خلاصة مكثفة لـ«لأربعينية» مع بعض الإضافة. وقد تضمنت «الطلائعية» فصولاً أربعة هي: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، وكلها تصب في أهداف الأربعينية – (م.ن).

[16] في هذا السياق نذكر أن يوسف طباجة في كلامه على فقه السحر عند الشهيد الأول وقع في خطأين علميين:

أ- ذكره أن الشهيد تعلم السحر ليرد على السحرة، إذ لم نجد لهذا «التعلم» أثراً في نصوص الشهيد، بل ثمة نهي عنه لا لبس فيه.

ب- نسبته كتاب المكاسب في فقه الشهيد إلى «اللمعة الديمشقية»، وهو في غيرها. وقد أُدرج «كتاب المكاسب» في «موسوعة الشهيد الأول»- الجزء الحادي عشر، تحت عنوان «الدروس الشرعية في فقه الإمامية» رقم/3، بينما خُصَّت «اللمعة الديمشقية» بالجزء الثالث عشر من الموسوعة كاملاً. أنظر: (م.ن)- ج/11- ص.ص/149 وما بعدها.

[17] في كتاب المكاسب المنوه به في الهامش السابق (16) فوائد هامة تتعلق بالجوانب التمدنية والحضارية والعلمية في عصر الشهيد الأول، وذلك بما يشير إلى أن ذلك العصر لم يكن على ما توحي به أكثر الروايات التاريخية من تخلف وانحطاط، ما يستدعي مراجعة ابيستيمولوجية موضوعية لحقائق تلك المرحلة- (م.ن).

[18] المهاجر، جعفر- (م.س)- ص/282.

[19] الأمين، حسن- «أعيان الشيعة»- ج/28،ص.ص/87-98، وفي: «الشهيد الأول محمد بن مكي.».- ص.ص/386-394.

[20] المهاجر، جعفر- (م.س)- ص/291.

[21]يقول الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري (توفي عام 1313 ق): نقلاً عن كتاب «أمل الآمل في ذكر علماء جبل عامل» لمؤلفه محمد بن الحسن الحر العاملي (توفي سنة 1104ق): «خرج من تلك الأرض (جبل عامل)من علماء الشيعة الإمامية ما يربو عن خمس مجموعهم، مع أن بلادهم بالنسبة إلى باقي البلدان أقلّ من عشر العشر»- «موسوعة الشهيد الأول..»..(م.س).

[22]- الصدر، محمد باقر- ذكره حسن الأمين في: (م.ن).

راجع في السياق نفسه: الآصفي، محمد مهدي: «الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي في المصادر العربية»- (م.س)- ص/246.

[23]أنظر: المهاجر، جعفر- (م.س)- ص.ص/286-287.

[24]راجع: الأمين، حسن- (م.س)- ص/277.

[25] الآصفي، محمد مهدي- «موسوعة الشهيد الأول..».- (م.س)- ص/277.

الشهيد الثاني والظروف التاريخية التي أفضت إلى استشهاده

د. أحمد راسم النفيس (*)

مقدمة لازمة: لست من العشاق السياسيين للسيد رجب طيب أردوجان رئيس الوزراء التركي ولكن هذا لا يعني بحال أنني من أعدائه أو كارهيه.[1]

لا شك أن الرجل استطاع أن ينقل (العثمانية التاريخية) إلى موقع مختلف تماما عن هذا الموقع الذي كانت فيه قبل خمسة قرون من الزمان. ناقلا لهذه الحالة من موقع الهياج والعصبية المذهبية إلى موقع الوحدة الإسلامية والتقارب والتعاون بين المسلمين وهي ضرورة نحن أحوج ما نكون إليها.

إنها نقطة في غاية الأهمية يتعين الالتفات إليها قبل قراءة هذا البحث، لئلا يتصور البعض أننا نكتب هذه السطور من موقع الرغبة في إذكاء التصادم بين أبناء الأمة الواحدة.

إننا نكتب من منطلق العظة والاعتبار الذي يمنع تكرار الوقوع في هذه الحفر المهلكة المميتة.

البحث:

لا شك أن أحد أسوأ وأخطر الأمراض التي ضربت الأمة الإسلامية وقادتها إلى التفكك والتشرذم والضعف والهوان هو مرض السعار المعادي لأهل البيتR وشيعتهم الأبرار المظلومين المضطهدين حتى يأتي وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.

تمثل هذا المرض اللعين في استباحة أعراض الشيعة وكرامتهم ودمائهم لأوهى الأسباب وخلافا للوصايا الإلهية التي تؤكد على احترام حق الإنسان في الوجود الحر الكريم وتحرم استباحة عرضه ودمه من دون دليل ولا برهان.

يقول تعالى: }وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً{[2].

لم يحترم المسلمون خاصة تلك الطبقة الحاكمة تلك الوصايا القرآنية المحكمة، بل فعلوا عكسها واستباحوا الدماء لأوهى الأسباب. وكان شبقهم الدموي وعشقهم للقتل يزداد بصورة مضطردة خاصة، تجاه شيعة أهل البيت، مدعومين بتلك الطبقة المنحطة من وعاظ السلاطين حملة العمائم المزيفة الذين تفننوا في إصدار فتاوى القتل والإبادة الجماعية - من دون وازع من ضمير ولا خلق - باسم الإسلام والإسلام منهم ومن مخازيهم وجرائمهم براء.

الأسوأ من هذا أن يمتد القتل للعلماء المصلحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كما حدث مع شهيدنا الذي سنتناول في هذا المقال شيئا من الظروف التاريخية السائدة في عصره والتي أفضت لسفك دمه الطاهر، رضوان الله عليه وعلى كل شهداء الحق والحقيقة واللعنة الدائمة على أعداء أهل البيت إلى يوم الفصل.

}إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ{[3].

يقول تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ{[4].

العثمانيون والشيعة

استفاق المسلمون المعاصرون بداية القرن العشرين على واقعة سقوط الخلافة العثمانية (الإسلامية) وهي الواقعة التي شكلت قاعدة لانطلاق الحركات الإسلامية المعاصرة الداعية لإعادة هذه الخلافة تحت إمرة أي أمير للمؤمنين، حتى ولو كان هذا الأمير هو الملك فؤاد أو جعفر النميري أو حتى الملا عمر أمير إمارة أفغانستان الطالبانية!!.

في البدء ونظرا لقرشية الخليفة وحتى نهاية العهد العباسي، كان المعتمد عند القوم هو الرواية المنسوبة إلى رسول الله P والتي تزعم أن الخليفة من قريش!!.

روى البخاري قال:

باب: الأمراء من قريش.

6720 - حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزُهري قال: كان محمد بن جبير ابن مطعم يحدث: أنه بلغ معاوية، وهم عنده في وفد من قريش: أن عبد الله بن عمرو يحدِّث: أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب، فقام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمَّا بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يحدِّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله P، وأولئك جهَّالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله P يقول: (إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين).
تابعه نعيم، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزُهري، عن محمد بن جبير.
6721 - حدثنا أحمد بن يونس: حدثنا عاصم بن محمد: سمعت أبي يقول: قال ابن عمر: قال رسول اللهP: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان).
لم تكن هذه الرواية المنسوبة إلى رسول الله P سوى غطاء استفاد منه المتغلبون على رقاب المسلمين بالقوة والقهر والسيف، من بني أمية ومن بني العباس، حتى جاءهم قضاء الله الذي لا يرد عن القوم الظالمين وانتهى ملك العباسيين للزوال والضياع على يد المغول، وبقي العالم الإسلامي بعدها فترة من الزمان من دون هذا المنصب الكرتوني، إلى أن قام الأتراك العثمانيون بغزو مصر واحتلالها، حيث دخلوا القاهرة يوم 8 محرم سنة 923 هـ الموافق ل31 يناير سنة 1518 م وأزالوا دولة المماليك الجراكسة، وحيث عثروا على (الخليفة العباسي محمد المتوكل على الله) آخر ذرية الدولة العباسية الذي حضر أجداده إلى مصر بعد سقوط بغداد في قبضة هولاكو سنة 656 هـ (1091 مـ) الذي تنازل عن (حقه) في الخلافة الإسلامية إلى السلطان سليم العثماني، وسلمه الآثار النبوية الشريفة وهي البيرق والسيف والبردة، فضلا عن مفاتيح الحرمين الشريفين ومنذ ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميرا للمؤمنين وخليفة لرسول رب العالمين اسما وفعلا[5].

أما نحن فنقول أن هؤلاء الخلفاء قد تسموا بإمرة المؤمنين، أما فعال أغلبهم فكانت فعال الفاسقين المجرمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وحسبنا الله ونعم الوكيل في أناس فقدوا عقولهم وباعوا ضمائرهم، فأضحوا لا يميزون بين المؤمن والفاسق والبر والفاجر مراغمة لأنف النص القرآني: }أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ{[6].

نعود إلى تلك الحقبة التاريخية التي قتل فيها الشهيد الثاني, (الشيخ زين الدين بن نور الدين علي بن احمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف العاملي الشامي الطلوسي الجبعي المعروف بابن الحاجة النحاريري المولود في شوال سنة 911 من أعلام الشيعة والذي استشهد على يد جلاوزة العثمانيين في رجب سنة 965 هـ الموافق لشهر إبريل سنة 1558 ميلادية وهو في سن 54 سنة، في القسطنطينية، عاصمة السلطة العثمانية، والتي شهدت حملة تكفيرية شعواء شنها العثمانيون على الشيعة في المناطق الخاضعة لنفوذهم.

يحاول البعض أن يبرر ما ارتكبه هؤلاء المجرمون من مجازر بدعوى الخطر الذي شكله الصفويون على الدولة العثمانية التي منحت سلطانها لقب «خادم الحرمين الشريفين»، والتي كانت تحارب لنشر الإسلام في أوروبا، بينما يكشف لنا واقع تركيا الحديثة عن دولة براغماتية، تقيم أوثق الروابط مع الصهيونية. أما الإسلام الذي يزعم هؤلاء أنهم قاموا بنشره في أوروبا، فقد تقلص إلى بضع دويلات في ألبانيا وكوسوفو، وبقيت حالة العداء بين الأتراك وبقية الشعوب المضطهدة من جانبهم مثل الأرمن والأكراد.

بدء الحرب على الشيعة

كانت فاتحة حروب العثمانيين ضد الصفويين الشيعة هي تلك الغزوة التي شنها السلطان سليم خان بعد انقلابه على أبيه السلطان بايزيد حيث كان الشاه إسماعيل في صف الأمير أحمد شقيق سليم خان وقام بإيواء أخيه الأمير أحمد.

ولإيجاد مبرر للحرب أمر سليم بحصر الشيعة الأتراك ثم قام بإبادة أكثر من أربعين ألفا منهم، وهي المذبحة التي شبهها محمد فريد في كتابه عن الدولة العثمانية بالمذبحة التي تعرض لها البروتستانت في باريس يوم 24 أغسطس سنة 1572 المشهورة بمذبحة سانت برتليمي[7].

لم يكن لهذه الحرب التي شنها العثمانيون بقيادة سليم خان على الشيعة في إيران من مبرر إلا حالة السعار المعادي للشيعة، الذي ورثه العثمانيون عن أجدادهم التتار. ولا زلنا نسمع ونقرأ لمن يحاولون ترويج وتبرير هذه الهمجية الآن باسم التصدي للتبشير الشيعي.

يقول الدكتور محمد عبد اللطيف عوض: لقد وصل خطر الزحف الشيعي في شرق الأناضول حدا لا يمكن السكوت عليه، حيث وصلت التقارير إلى سليم خان التي تقول (إن المبتدعين من الصوفية والشيعة قد استفحل أمرهم وزاد عددهم وباتوا يمعنون في القرى سلبا ونهبا ولم يتورعوا عن قتل الرجال وسبي النساء وأتوا على الأخضر واليابس).

وما إن تولى السلطان سليم الحكم حتى بدأ تعبئة قواته للحرب ضد الشاه إسماعيل الصفوي. وكان للتعبئة المعنوية أهمية كبرى، إذ إن إعلان هذه الحرب لم يكن مقبولا لدى كثير من الأتراك حيث عارضها الكثير منهم.

انبرى علماء الدولة العثمانية للدفاع عن السنة وتوضيح منهجها وكشف أباطيل غلاة الشيعة ومروقهم عن الإسلام، فكتب ابن كمال باشا رسالة صغيرة أورد فيها رأيه مدعما بأدلة من الكتاب والسنة وقرر أن التشيع مخالفة صريحة لجماعة المسلمين وأن قتال الشيعة جهاد وحربهم غزوة.

لقد كانت الدولة الصفوية شوكة في ظهر العثمانيين، لذا كان من الضروري أن يقوم السلطان بحملة تطهير واسعة قبل أن يمضي للقتال حتى لا يطعن في الظهر، واستصدر فتوى بوجوب قتال الشاه إسماعيل كدأب العثمانيين قبل الخروج إلى أي حرب.

وفي أثناء الحرب تمرد بعض الجنود الأتراك، فخطب فيهم سليم خان مذكرا إياهم أنهم إنما جاؤوا لقتال المرتدين عن الدين حتى يفيئوا إلى أمر الله، فمن تخاذل أو ارتد فهو في حكم المرتد أيضا.

ثم التقى الجمعان في وادي جالديران، شمال شرقي آذربيجان، في رجب سنة 920 هـ / 1514 مـ وهزم الجيش الصفوي هزيمة قاسية[8].

ولأن التاريخ يعيد نفسه، فلا بأس أن ننوه إلى أن وجود الشيعة في تلك المناطق التركمانية كان أقدم من وجود الدولة الصفوية، حيث كان (هناك عدد من القبائل التركمانية الشيعية والواعدة بالتشيع)[9].

ما إن فرغ سليم خان من حربه الأولى مع الشاه إسماعيل، حتى قام بغزو مصر كما هو معلوم، وهي ملاحظة قد تكون مفيدة لبعض الحمقى المصريين الذين يطبلون ويزمرون ضد (التبشير الشيعي) في مصر، متجاهلين أن السلطة هي السلطة وأن الراغبين في الغزو والتوسع يفعلون هذا لا من أجل دين أو مذهب بل من أجل الاستيلاء على كل ما يمكن لهم الاستيلاء عليه.

ظلال صفوية!!

يقول الكاتب المدعو عبد اللطيف هريدي: أطلت الفتن الباطنية برأسها والجيوش العثمانية في خنادقها في وادي موهاج بالمجر في شهر ذي القعدة من عام 933هـ وقد بدأت الفتنة بواقعة عادية، إذ تقدم شخصان بشكوى إلى قاضي السنجق فلم يحسن القاضي استقبالهما وأساء إلى أحدهما، فاكفهر الجو وخرج رجل شيعي يعرف بذي النون فرفع يده، وإذا بحشود ضخمة تتحلق حوله وخرجت جماعات العلويين من كل مكان لتعلن تمردها على الوالي. ومن الواضح أن النية كانت مبيتة لإثارة الفتنة لأن الشاكيين وكما يبدو من اسميهما كانا من الشيعة كما كانت هناك فتن أخرى في أماكن متفرقة غطت جنوب شرق ألأناضول ولم تتمكن الحكومة من إخماد هذه الفتن إلا بشق الأنفس.

كما كانت هناك الفتنة التي أشعلها الشيخ البكتاشي العلوي اسكندر قلندر جلبي والتف حوله ما يربو على ثلاثين ألف علوي.

وكأي من الفتن كان لها عوامل داخلية، إلا أن التوقيت واتفاق كل هذه الزعامات العلوية في وقت واحد يلقي بظلال صفوية على هذه الأحداث[10].

من الطبيعي أن يرى هذا الصنف من الكتبة الذين تربوا على ثقافة عبادة السلطة، التي تدعي التسنن وتحارب التشيع، في كل ثورة أو تمرد داخلي على الظلم والقهر، وكلها من العلامات البارزة في تاريخ تلك الدول المسماة إسلامية، مؤامرة خارجية صفوية، وما أشبه الليلة بالبارحة.

أما الدليل الأكبر على التآمر الصفوي الإيراني على العثمانيين الأبرياء، فهو أن الشاكيين وكما يبدو من اسميهما كانا من الشيعة وكفى بذلك دليلا وبرهانا على وجود هذه المؤامرة!!.

مات سليم خان يوم 9 شوال سنة 926 هـ, 22 سبتمبر 1520م في السنة التاسعة من حكمه والحادية والخمسين من عمره. وكانت مدة حكمه أيام فتوحات خارجية وتنظيمات داخلية، إلا أنه كان ميالا لسفك الدماء فقتل سبعة من وزرائه لأوهى الأسباب. وكان كل وزير مهددا بالقتل لأقل هفوة، حتى صار يدعى على من يرام موته بأن يصبح وزيرا له[11].

سليمان خان الأول القانوني

حكم سليمان خان الدولة العثمانية لمدة أربعة وستين سنة قبل هلاكه عن عمر يناهز الرابعة والسبعين. وفي عهده المشؤوم، قتل الشهيد الثاني رضوان الله عليه.

لم يكن العثمانيون ممن يقيمون وزنا للحياة الإنسانية أو لكرامة الإنسان، حتى أن ذلك الوحش الضاري المسمى سليمان القانوني قام بخنق ولده مصطفى، بدسيسة من زوجته الروسية المسماة روكسلان، حتى يتولى ابنها سليم الملك من بعده.

كلفت تلك المرأة الصدر الأعظم بالقيام بتلك المهمة، فانتهز فرصة الحرب بين العثمانيين والصفويين سنة 1553 ووجود مصطفى ضمن قواد الجيش، فكتب إلى أبيه أن ولده يحرض الانكشارية على عزله وتنصيبه، كما فعل السلطان سليم الأول مع أبيه السلطان بايزيد الثاني.

فلما وصل الخبر إلى السلطان، توجه على الفور إلى بلاد العجم، متظاهرًا بأنه يريد أن يتولى قيادة الجيش بنفسه. ولما وصل إلى المعسكر استدعى ولده مصطفى وأمر بخنقه، ثم نقل جثمانه ليدفن في مدينة بورصة مع أجداده.

وبسبب ذلك، ثار الانكشارية وطلبوا من السلطان سليمان قتل الوزير رستم باشا، المسؤول عن هذه المؤامرة، فعزله السلطان من أجل تهدئة خواطرهم وولى مكانه أحمد باشا، ثم أعاده إلى منصبه بعد قتله أحمد باشا.

لم يكتف هذا الوحش بقتل ابنه مصطفى بل أعقب ذلك بقتل ابنه بايزيد وأولاده الخمسة لئلا يزاحموا سليمًا في الملك، وليصبح الوارث الوحيد للسلطنة، فكان أن دبر دهاقنة القصر مؤامرة للوقيعة بين سليمان وابنه بايزيد وانتهى الأمر لاشتعال الحرب بينهما سنة 1561 فهزم بايزيد وفر إلى بلاد العجم، والتجأ إلى الشاه طهماسب الذي سلمهم إلى رسل السلطان، فقتلوا جميعا، وهم بايزيد وأولاده الأربعة. وكان لبايزيد ابن صغير في مدينة بورصة، خُنق هو الآخر ودفن إلى جانب والده وإخوته[12].

لم يكن لسلاطين بني عثمان من همة إلا الغزو والقتل، إذ غزا سليمان الإرهابي اللاقانوني، إيران واحتل تبريز سنة 1533 مـ، ثم تحرك منها ليحتل بغداد سنة 1534 مـ. والهدف هو الهيمنة واستعراض القوة وقتل الشيعة المرتدين. وهي الحروب التي دامت قرونًا عدة، كرًا وفرًا بين العثمانيين (المخلصين للإسلام والشيعة والخونة؟!). ويكفي أن ننوه إلى واقعة الاتفاق بين الأتراك والروس على تقاسم بلاد فارس سنة 1724مـ.

فعندما تولى داماد إبراهيم باشا منصب الصدر الأعظم سنة 1718 أراد أن يستعيض عما فقدته الدولة من ولايات بفتح بلاد جديدة في آسيا، وقد أتيحت له الفرصة بسبب الاضطرابات الداخلية ببلاد العجم وتقدم القوات الروسية لاحتلال طاجيكستان وسواحل بحر الخزر الغربية كافة، في حين تقدم هو لاحتلال أرمينيا وبلاد الكرج. وكادت الحرب تشتعل بين الترك والروس، فاتفق الطرفان على أن يتملك كل طرف منهما ما احتله من البلاد. وأبرمت معاهدة بين الطرفين بذلك في يونيو سنة 1724.

لم يقبل الفرس بذلك وأعلنوا المقاومة، ولكنهم كانوا في حالة ضعف فلم يتمكنوا من إجلاء المحتلين الأتراك والروس إلى عام 1727، حين طلب الشاه طهماسب من العثمانيين استعادة ما احتل من بلاده[13].

إحراق الشيعة بالنار

يروي ابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) في أخبار سنة 944 هـ 1538 مـ: وفيها قتل القاضي شمس الدين محمد بن يوسف الدمشقي الحنفي الذي ناب في القضاء عن قاضي القضاة ابن الشحنة وعن قاضي القضاة يونس بدمشق، ثم ثبت عليه وعلى رجل يقال له حسين البقسماطي عند قاضي دمشق أنهما رافضيان فحرقا تحت قلعة دمشق بعد أن ربطت رقابهما وأيديهما وأرجلهما في أوتاد، وألقى عليهما القنب والبواري والحطب، ثم أطلقت النار عليهما حتى صارا رمادا، ثم ألقى رمادهما في بردى. وكان ذلك يوم الثلاثاء تاسع رجب. قال ابن طولون وسئل الشيخ قطب الدين بن سلطان مفتي الحنفية عن قتلهما فقال لا يجوز في الشرع بل يستتابان!!.

كما يروي ابن العماد واقعة أخرى تكشف عن حالة الجمود الفكري والفقهي التي أصابت الأمة بمذاهبها شتى، وكيف أن دور الفقيه أصبح قاصرًا على نقل المتون الفقهية التي أوردها من سبقوه وأصبح الاجتهاد جريمة يعاقب عليها القانون التركي بالقتل.

يقول ابن العماد: ومات في نفس العام نور الدين علي بن يس الطرابلسي الحنفي الشيخ الإمام شيخ الإسلام شيخ الحنفية بمصر وقاضي قضاتها اشتغل على الشمس الغزي والصلاح الطرابلسي وكان دينا متقشفا متفننا في العلوم ولي قضاء القضاة في الدولة السليمانية إلى أن جاء قاض لمصر رومي من قبل السلطان سليمان فاستمر معزولا يفتي ويدرس إلى أن مات وهو ملازم على النسك والعبادة. قال الشعراوي كان كثير الصدقة سرا وجهرا و أنكر عليه قضاة الأروام بسبب إفتائه بمذهبه الراجح عنده وكاتبوا فيه السلطان وجرحوه بما هو بريء منه فأرسل السلطان يأمر بنفيه أو قتله فوصل المرسوم يوم موته بعد أن دفناه وكانت هذه كرامة له.

قتل وإبادة هنا وتسامح هناك!!

الآن يصر بعض البلهاء والمغفلين على إلقاء عبء تراجع الدولة العثمانية ثم سقوطها على كاهل الصفويين الذين قاوموا تلك الغزوات البربرية التي شنها أحفاد المغول الذين حملوا اسم إمرة المؤمنين (اسما وفعلا) كما يقول محمد فريد.

وبينما كان الحرب والقتل هي اللغة الوحيدة التي يجيدها الترك المغول في التعامل مع غيرهم من المسلمين، كانت هناك لغة أخرى يتعامل به القوم مع القوى الاستكبارية البازغة في هذا الوقت، ومن بينهم فرنسا التي أبرم العثمانيون معها معاهدات وتحالفات عدة، ومن بينها اتفاقية الامتيازات القنصلية في فبراير سنة 1536 والتي علق عليها إحسان حقي على هامش كتاب محمد فريد عن الدولة العثمانية بقوله: من الغريب أن تعقد الدولة العثمانية وهي في أوج عظمتها وقوتها معاهدة مع دول الغرب بمثل هذا التسامح الذي بلغ حد الذل والضعف!!.

من وجهة نظرنا ليس هناك ما يثير الاستغراب من يومها إلى يومنا هذا، إذ تسود قاعدة الازدواجية الأخلاقية في التعامل بين المسلمين، فتشن حروب الإبادة في الداخل وتجري جلسات الحوار وتبادل الأنخاب في الخارج، على عكس النص القرآني (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).

قتل الشهيد الثاني

من الإطلاع على تاريخ تلك الحقبة المظلمة من تاريخ المسلمين نرى بوضوح كيف أصبح الفقهاء أسرى لدى السلطة العثمانية وقبلها السلطة المملوكية، وكيف أن هؤلاء كانوا حريصين على سد باب الاجتهاد الفقهي، ومن باب أولى باب الحرية الفكرية. فالمسلم النموذجي من وجهة نظرهم، هو الذي يسمع ويطيع ويذعن ولا يمارس جريمة التفكير.

المسلم النموذجي عندهم يسمع ويطيع ويقتل في غزوات السلطان ويهلل لفتوحاته، ولا يطالب بشيء من حقوقه.

كيف لهؤلاء الذين عزلوا فقيها سنيا من منصبه أن يقبلوا بوجود فقيه حر مجتهد مثل الشيخ زين الدين العاملي، ألف عديد الكتب، مغردا خارج سرب المعوقين ذهنيا، ومن بينها كتاب مسالك الإفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، وهو أكبر مصنفات الشيخ الشهيد قدس سره، فقد كان علق على الشرائع في بادئ الأمر، ثم استدركه وزاد عليه، وفصل ما أجمل من البحث، حتى صار كتاباً ضخماً، والذي قال عنه ابن العودي في رسالته: (ومنها شرح الشرائع الذي تفجرت منه ينابيع الفقه وأخذ بمجامع العلم، سلك فيه أولاً مسلك الاختصار على سبيل الحاشية حتى كمل منه جلد، وكان { كثيراً يقول: نريد أن نضيف إليه، تكملة لاستدراك ما فات، ثم أخذ في الإطناب حتى صار بحراً يسلك في سفن أولي الألباب، فكمل سبعة مجلدات ضخمة, قضى الشيخ الشهيد في تصنيف هذا الكتاب تسعة أشهر، ثم قال صاحب الذريعة: (إنه فرغ منه سنة 964، وفرغ من الجزء الأول يوم الأربعاء لثلاث مضت من شهر رمضان 951، فيكون قد أتم ستة أجزاء منه في ثلاثة عشر عاماً).

لم يكن قتل الشيخ أو استشهاده حدثا عرضيا بل كان حدثا في إطار السياق العام الذي أسس له المتغلبون الذين أرادوا دوما أن يبقى المسلمون في حالة أسر لا يعرفون شيئا عن دينهم ولا دنياهم خارج إطار ما يسمح به هؤلاء البرابرة الذين أوصلونا إلى حالة التخلف الراهنة التي نعيش فيها، والتي يقاتل البعض من أجل إدامتها باعتبارها الدين الصحيح الذين يسعى الأعداء للنيل منه والقضاء عليه.

عندما يدور الجدل حول ما إذا كان من المباح إحراق الرافضة بالنار أم الاكتفاء باستتابتهم كما عرضنا من قبل، فعلى الأمة ووجودها الفكري والعقلي السلام.

الأمة الإسلامية، أمة العقل والنظر والرأي، تحرق الفقهاء والمفكرين بالنار ثم تأسف بعد ذلك على سد باب الاجتهاد.

كيف يمكن لأمة تأسست عقيدتها على النظر والتفكر أن تبقى وتستمر فضلا عن أن تنهض وتتقدم إلى الأمام؟!.

لم يتأسس وجود الأمة الإسلامية على أساس العرق والقومية كما هو حال كثير من الأمم في هذا العالم، ولكنه تأسس على أساس العقيدة، أي على أساس العقل والمعتقد.

وعلى الرغم من كل هذه الظلمات والنكبات التي لحقت بالمسلمين، فمن الواضح تماما أن عصرا جديدا قد بزغ، أصبحت الحرية العقلية واحدة من أهم مكوناته ودعائمه، فلا مجال إطلاقا للعودة إلى عصر الإحراق بالنار، مهما حاول المجرمون المضللون، ومهما أنفقوا من أموال أو استخدموا من عناوين مضللة.

الآن فتح باب الجدل والنقاش حول العقائد والأفكار والمذاهب، وتقلصت تلك القبضة الحديدية، التي أعاقت نمو الفكر وشلت دور العقل وجعلت منه أسيرا وخادما لهؤلاء السلاطين المجرمين.

يقول تعالى: }وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ{[14].

وهكذا لم يضع دم شهيدنا الثاني شأنه شأن بقية الشهداء العظام الذين قرنوا القول بالفعل، بل تفجر نهرا عذبا وينبوعا يروي شجرة الحرية العقلية والفكرية، والتي، كانت ولا زالت، الأمة بأسرها أحوج ما تكون إليها.

بقي الشهيد العظيم وتلاشى السلاطين ومعهم وعاظ السلاطين واللعنة الدائمة على قتلة أهل البيتR وأعداء شيعتهم إلى يوم الدين.

[1](*) طبيب وباحث ومفكر / مصر.

[2] الإسراء 33.

[3] الدخان 40-41.

[4] آل عمران 21-22.

[5] تاريخ الدولة العثمانية العلية: محمد فريد, دار النفائس. ط 1981 مـ ص 193-194.

[6] سورة ص 28-29.

[7] محمد فريد المصدر السابق. ص 189.

[8] الحروب العثمانية الفارسية وأثرها في انحسار المد الإسلامي عن أوربا. محمد عبد اللطيف هريدي. رابطة الجامعات الإسلامية 45-53.

[9] المصدر السابق ص 45.

[10] ص 61-63 من المرجع السابق.

[11] محمد فريد. تاريخ الدولة العثمانية ص 197.

[12] محمد فريد, الدولة العثمانية. ص: 246-248.

[13] محمد فريد الدولة العثمانية 317-318.

[14] آل عمران 169-171.

آفاق التقريب
في تجربة الشهيدين الأول والثاني

الشيخ د. خنجر حمية (*)

تمهيد

لا يتسنَّى للباحث في أحوال الشهيدين الأوَّل والثاني (محمّد بن مكي الجزينيّ وزين الدين الجبعيّ) الكثير من الوثائق، ليستعين بها على إبراز الجوانب المعرفيَّة والفكريَّة لموضوعة الوحدة الإسلاميَّة في تجربتهما، وللمكانة التي احتلَّتها في سياق نضالهما الاجتماعيّ، المعرفيّ والسياسيّ. فهي قليلة للغاية لا تكاد تكشف إلا عن اليسير ممَّا يستحقّ أن يُستند إليه أو يُعتمد عليه في السياق، وهي ليست في مجموعها سوى روايات تنقصها الدقَّة ويعوزها عنصر الوثاقة، وقلَّ من عمل عليها فحصاً ودرساً وتقييماً من الباحثين، خصوصاً أنَّها تندرج في سياق التأريخ لتجربةٍ تاريخيَّة امتلأت بالأحداث، واضطربت وقائعها وتعقَّدت ظروفها غاية التعقيد، وحفلت بالكثير من الفِتَن والقلاقل، وتشابكت فيها[1] المشروعيَّة الدينيَّة لسلطات سياسيّة متغلِّبة، بنزعات مذهبيَّة حادة مقْصِيَة ومتزمِّتة، بدءاً من الحملات الصليبيَّة المدمِّرة مروراً بالسيطرة المملوكيَّة على بلاد الشام، وانتهاءً بالهيمنة الإمبراطوريَّة للسلطنة العثمانيّة على مجمل بلاد الإسلام، في ذروة صعودٍ مدوٍّ لطموحٍ غربيٍّ دينيٍّ وعسكريٍّ للسيطرة على الأماكن المقدَّسة في بلاد الشرق، بدأ مع الحركات الصليبيّة[2]، وتعاظم مع انبثاق الإمبراطوريَّات الاستعماريَّة الغربية الكبرى الباحثة عن مواطن جديدة لتفريغ نفوذها المتعاظم وحاجات تشكّلها الجديد.

ومع ذلك فإنَّ ما يُمكن استخلاصه من معلومات من المصادر، يكشف ولو بالجملة عن العناصر الجوهريَّة التي تشكَّلت على أساسها حركة الشهيدين في هذا الإطار، والظروف العامَّة التي انبثق منها نشاطهما، والعوامل التي أحاطت بتجربتهما، والمكوِّنات العامة لرؤيتهما، والمآلات التي كانا يطمحان إلى بلوغها والوصول إليها، والمقاصد التي نذرا جهودهما في سبيل تحقيقها، بغضِّ النظر عن النتائج التي انتهى إليها حراكهما في مدى قرنين من الزمان أو يزيد.

الظروف التاريخية لمسيرة الشهيد الأوّل

ورث المماليك الدولة الأيوبيّة في فترة حاسمةٍ من فترات الإسلام فلقد اندفعت جحافل المغول في قلب العالم الإسلاميّ لتدمِّر مركز الخلافة ولتُسقطها إلى غير رجعة، لتنقل عاصمة الدولة الإسلاميَّة لأوَّل مرَّةٍ إلى مصر، مفرَغةً من مضمونها، ولقد أمكن للمماليك الذين سيطروا فعليّاً على مقاليد السلطة أن يهزموا جيش المغول على مقربةٍ من بلاد الشام، وليسيطروا بشكل كليٍّ على ما تبقَّى من أرض الخلافة بعد أن أتوا على آخر الجيوب الصليبيّة في المنطقة الشاميّة سنة 692هـ.

ولقد قاد الإحساس المتعاظم بالخطر على ما تبقَّى من أرض الإسلام، في ظلِّ تحفّزٍ مغوليٍّ للسيطرة عليه، إلى انبعاث أصوليّة راديكاليّة شبه مغلَقة، سمحت للسلطة ليس فقط باحتكار المشروعيّة السياسيّة باسم الخلافة، ولكن كذلك باحتكار النطق باسم السلطة الدينيّة وتنظيم شؤونها، والتدخّل في رسم ملامحها، وتقرير أوضاعها، فأُغلقَ باب الاجتهاد بشكلٍ شاملٍ، وأُطِّرت المذاهب، كأيديولوجيَّات معرفيّة لخدمة السلطة وتحقيق أغراضها، ومنح المشروعيّة الدينيّة لأهدافها السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة، فقاد ذلك شيئاً فشيئاً إلى رسم ملامح ثقافةٍ منظمةٍ يتمُّ تظهيرها على شكل نُظمٍ اجتماعيَّة وأعراف وأنماط سلوك تمارس هيمنتها الشاملة الكليّة، ولا تفسح في المجال لأيِّ خروجٍ عليها، لا في صورة اجتهاد معرفيّ، ولا في صورة خصوصيَّةٍ ثقافيَّةٍ واجتماعيّةٍ متميّزة، ولا في صورة تكتلات بشريّة أقلَّويَّة ذات طابع مذهبي أو فكري، ولقد قضى ذلك في جملة ما قضى، بأن تُصبح مثل هذه الثقافة المفروضة ثقافة مهيمنة تتمتّع بالقداسة، لا تمسّ من قريب أو بعيد، ولا تسمح بالخروج عليها، أو القفز فوقها، وهو قضى كذلك بأن تطمح السلطة السياسيّة إلى ممارسة قمع مزدوج، فكريٍّ وسياسيٍّ، لما كان يتبدَّى كأقليّات مذهبيّة[3] دينيّة أو فكريّة في سياق هذه الشموليّة المهيمنة والطاغية، ومن هنا نفهم ببساطة، القمع الوحشيّ لمذاهب كانت تتمتّع بحضور قويٍّ وبانتشارٍ واسعٍ في المدى الجغرافيّ للسلطة المملوكيّة في بلاد الشام كالإماميّة والنصيريّة والإسماعيليّة التي كانت تتمتّع بانتشارٍ واسعٍ امتداداً من حلب وكسروان حتّى جبل لبنان، فاقتُلِع معتنقوها بالقوّة من مفازاتهم وقراهم ودساكرهم وألقي بهم في الأطراف[4]خصوصاً في جزّين ـ وجرِّدت مذاهبهم من أيّة مشروعيّة أو حصانة، وقيّد لهذه السلطة فقهاء (كابن تيميّة مثلاً) منحوا عملها المشروعيّة وشاركوا فيه تحت عنوان حماية دار الإسلام تحت مظلَّة سلطةٍ سياسيّةٍ شرعيّةٍ موحَّدة، وإيديولوجيا دينيّة شاملة، تطمح إلى سدِّ أية فجوة يمكن أن يحدثها اختلاف مذهبي، أو تعدّد ثقافي، أو تنوّع فكري، أو تحرّر اجتهادي يُفسح في المجال لعناصر قد تقود إلى تداعيات من شأنها تقويض ما تبقى لدار الإسلام من حصانةٍ ومنعة في وجه عدوِّ متربَّص متحيِّن للفرص، أعني المغول، يطمح إلى تقويض ما تبقى من سلطة الخلافة إلى غير رجعة[5].

والملفت أنَّ المذاهب الدينيّة كانت تتحوّل عندما تصبح أيديولوجيا للسلطة السياسيّة الحاكمة باسم مشروعيّة دينيّة إلى رهان استئصال، وإلى كيانات مغلقة على نفسها جامدة ومتحجِّرة، وإلى عوامل تفجير، وأنَّ الحاملين لها كانوا يتحوّلون إلى أدوات تطمح على الدوام إلى غاية مزدوجة، أعني إلى ترسيخ حضورها وهيمنتها المعرفيّة، وشموليّة تعاليمها ومضامينها الفكريّة، وإلى تأكيد مشروعيّة السلطة ومشروعيّة مصالحها، خدمةً لأهدافها في امتلاك القوّة والاستئثار والهيمنة. فتتحوّل من كونها رؤى معرفيّة وفكريّة تستلهم الإسلام في سبيل خير الإنسان، وتطلق العنان للاجتهاد الحرّ المتوقّد في سبيل اكتناه أبعاده ومراميه، إلى مؤسسة للرقابة، حارسة للتقاليد وللأعراف، رقيبة على الضمائر.

ولقد أمكن في ظلِّ مثل هذه الظروف المضطربة للسلطة المملوكيّة أن تحقّق في السياق هذا كلّ أهدافها، وتؤكِّد مشروعيّة سلطتها السياسيّة مدعومةً بجهاز دعاية دينيّة لا مثيل له[6]، حتَّى انعدم، أو كاد، أيُّ حراك سياسيّ اعتراضيّ على ممارساتها، أو أي رأيٍّ فكريٍّ يُغالب هواها، أو يَنتقص من الإيديولوجيّة الدينيّة المذهبية التي تبنّتها وسخَّرتها في خدمتها في مدى مساحة نفوذها السياسيّ والأمنيّ. ومن المفيد أن نذكر جزءاً من رسالة لوالي الشام المملوكيّ أثبتها القلقشندىّ في صبح الأعشى ليتبدَّى لنا كيف يُمكن للموقف الدِّيني الدّاعم للسلطة السياسية أن يَظهر في أكثر وجوهه ظلاميَّة يقول: وقد بلغنا أنّ جماعةً من أهل بيروت وضواحيها وصيدا وضواحيها، وأعمالها المضافة إليها وجهاتها المحسوبة عليها، ومزارع كل من الجهتين وضياعها، وأصقاعها وبقاعها، قد انتحلوا هذا المذهب الباطل وأظهروه وعملوا به وقرروه، وبثوه في العامة ونشروه..... وأردنا أن نوجِّه طائفةً من عسكر الإسلام، وفرقةً من جند الإمام تستأصل شأفة هذه العصبة الملحدة... ووجّهنا هذا الخطاب ليقرأ على كافتهم ويبلغ إلى خاصتهم وعامتهم، يعلمهم أنّ هذه الأمور التي فعلوها، والمذاهب التي انتحلوها، تبيح دماءهم وأموالهم.

وإذا كان المماليك قد اندفعوا في اتِّجاه مثل هذا النزوع بدافع سياسي خالص، وهو ما يفسّر تسامحهم الظاهري تجاه الحراك الفقهيّ العلمي[7]، فإنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة التي خلَفتهم في مناطق نفوذهم، وسيطرت على مقاليد السلطة في العالم الإسلاميّ كوريثةٍ لهم، كان يحرِّكها هاجس آخر، فلقد عُرف عن العثمانيين الأتراك شيء ليس بالقليل من التعصّب المذهبيّ[8]، فهم أحناف متزمِّتون، لم يتسامحوا في دوائر نفوذهم مع أيِّ حضور مذهبيّ متميّز أو مختلف، ولقد عانى جرّاء طموحهم الدؤوب لفرض انتمائهم المذهبي على مواطِن إمبراطوريتهم، مذاهب تنتمي تاريخياً إلى دائرة التسنّن كالمذهب الشافعيّ أو المالكيّ أو الحنبليّ، فضلاً عن ما عانته مذاهب أخرى كالمذهب الإماميّ مثلاً، ولقد فرضت الإمبراطوريّة، التي راحت تنظِّم شؤونها وفق آليّات سلطويّة بدت في ظاهرها عصريّة، وضمن مؤسَّسات دستوريَّة ونظاميّة، المذهب الحنفي في عموم أحكامها، وطبَّقته في دوائرها على رعاياها بشكل حازم لا تساهل فيه، وبشموليّة لا استثناء فيها. ولم يكن ذلك يسمح بأيِّ حالٍ من الأحوال في إمبراطوريّة متماسكة وقويّة، وتتمتّع بإمكانات كبيرة لفرض هيمنتها وسلطانها، لأيِّ حراكٍ فكريّ أو مذهبيّ متميِّز أو مختلف بأن يظهر، ولا لأيِّ نشاط لا يخدم غرض وحدة هويتها السياسيّة والمذهبيّة بأن ينتشر.

الوحدة في منظومة أهداف الشهيدين

في هذا السياق التاريخيّ يُمكن للباحث أن يفهم على وجه الدقّة الظروف الموضوعيّة التي أحاطت بحركة علَمين إمامين متميّزين، وفقيهين شيعيين بارزين، عاش الأوّل منهما في ظلِّ سلطة المماليك وعاين أحداث الزمن الذي سادوا فيه[9]، وعاش الثاني في ظلِّ سلطة العثمانيين، وانخرط في تجربة العلم والفكر في زمنهم مشاركاً فيها صانعاً لمحطاتها، مساهماً في نتاجها.

ويُمكن له كذلك أن يكشف لنا بوضوح عن وحدة النهاية التي انقادا إليها، والمأساة التي حلَّت بهما، مع اختلاف العناصر التي شكَّلت تجربتهما، وتمايز منهجيهما في العمل، واختلاف أوجه نشاطيهما، والأهداف التفصيليّة التي كان كلٌ منهما يطمح إليها. ولأنَّه لا يعنينا بدقّة (هنا) الحديث عن سيرة الشهيدين الزمنيّة، ولا عن النتاج المعرفيّ الفكريّ والفقهيّ الذي قُدِّر لهما أن يصنعاه، ولا عن المكانة التي بلغاها في العلم وفي العمل، فإنَّنا سنحصر حديثنا بوجه خاص، بالأهداف التي تتصَّل بوحدة المسلمين من جهدهما العمليّ، ومن نشاطهما، ومن حِرَاكهما الاجتماعيّ والسياسيّ والفكريّ، وهو شيء سيكون له مؤدَّاه حينما يوضَع في السياق العام لعصرهما، وفي الظروف التي أحاطت بهما من كلِّ الجوانب والجهات.

كانت بلاد عاملة قبل السيطرة المملوكيّة[10] عليها تمتدّ من مشارف طبريّة شرقاً إلى حدود البحر غرباً، ومن دساكر صيدا وضواحيها شمالاً إلى حدود صفد جنوباً، فيما كان يسمّى بهضاب الجليل، وهي المنطقة التي سكنتها قبيلة عاملة قبل الإسلام، واستوطنت فيها متَّخِذةً منها ملاذاً تؤمن لنفسها فيها الطمأنينة والاستقرار، لكن ذلك لم يدم لهذه القبيلة إلا قليلاً، فلقد كان انحيازها إلى جانب الروم في وجه فتوح المسلمين، سبباً في تشتّت شملها، وزوال حضورها عن مسرح التاريخ، ليبقى الاسم (جبل عاملة) إشارة إلى حضور لها هناك لم يدم طويلاً. لكن جغرافيّة الجبل سوف تتقلّص فيما بعد زمن الصليبيين وكذلك حينما فرض المماليك تدابير إداريّة ألحقت بموجبها الكثير من أجزائه بولايات مستقلّة فرض التنظيمُ الجديدُ للدولة وجودها، من غير أن نتبصر طبيعة العوامل التي أوجبته، كولاية عكا، وصفد، وصيدا، ليختفي فيما بعد[11] الاسم من التداول ردحاً من الزمن، وليحلّ محلّه اسم بلاد بشارة نسبةً إلى وَاليها الذي حكمها كإيالة مستقلّة ولتختفي الخصوصيّة الجغرافية التي ميّزته زمناً فيما مضى، والوحدة الثقافيّة والاجتماعيّة التي كانت تضمّ أهله في وحدةٍ لا تتجزأ.

وسوف لن نجد محاولةً لإعادة الاعتبار لمثل هذه الوحدة، أو الخصوصيّة المميّزة لهذا الجبل إلا زمن الشهيد الأوّل، وهي محاولة فرضتها ظروف ـ كما يبدو ـ سياسيّة أو دينيّة، ففي ذروة الاندفاع المملوكيّ نحو بلاد الشام، ومحاولة فرض الهيمنة باسم مشروعيّة دينيّة، واقتلاع أولئك الذين قُدِّر أنَّهم يشكِّلون عقبةً أمام نشر إيديولوجيا دينيّة موحَّدة للدولة، من مواطنهم كالإمامية مثلاً في كسروان وبيروت[12] وصيدا وحلب، شكَّل جبل عامل، الذي بقي جزء منه عصيّاً فيما مضى على الصليبيين، موطناً لمجمل النازحين الذين وجدوا فيه الملاذ الآمن والمستقرّ الحصين، لما يتمتّع به من وعورة مسالك، وتضاريس معقّدة، وجغرافية ملائمة تجعل ساكنيه في العموم بمنأى عن خطر السلطات المركزيّة في المدن الكبرى الساحليّة. وكان مثل هذا التشكّل الجديد لهذه البيئة البشريّة فرصةً سانحةً لإعادة الاعتبار لخصوصيّةٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ طواها الزمن قروناً طويلةً وعفا عليها. ولقد كان الشهيد الأوّل[13] من بين أولئك الذين أدركوا أنَّ الفرصة باتت سانحةً لإعادة تشكيل هذه الخصوصيّة وبعثها، ثمّ استثمارها في اتّجاهين، الأوّل، الحدّ من غلواء استثمار الدّين أو المعرفة الدينيّة في تأكيد احتكار المشروعيّة السياسيّة، كما صنع المماليك مع المذاهب الأربعة التي شكّلت أيديولوجيا دينيّة للسلطة الجديدة، الثاني، إعادة تفكيك الممارسة الدينيّة نفسها باعتبارها خادماً لهذه السلطة، يحقِّق مصالحها ويؤكِّد مشروعيّتها ويؤمِّن لها مبرّرات وجودها، بُغية إعادة إطلاق العنان لفهمٍ متحرِّر لنشوء المذاهب الإسلاميّة باعتبارها وجهات نظر في فهم الإسلام، لا تملك احتكار تفسيره ولا حقّ النطق باسمه على وجه الحصر، بما يُطلق العنان لتسامح لا حدود له يكفل حريَّة التعبير عن الرأي والموقف، ويضمن تحرّر الممارسة الإسلاميّة من التحجَّر والانغلاق، والتعصّب الأعمى الذي يقود إلى النبذ والإقصاء.

الشهيد الأوّل وحراك الوحدة

ولينجز الشهيد الأوّل هدفيه هذين، نشط في اتِّجاهين متوازيين، الأوّل سياسيّ والآخر معرفيّ، تمثَّل الأول في انفتاح على السلطة، بالرغم من مآخذه عليها، وما كان يعرفه من طبيعتها والعناصر التي نقوم عليها وتستند إليها، فأقام علاقات متينة مع رجالاتها في المناطق وفي مراكز القرار، في بيروت ودمشق وغيرهما من الحواضر[14]. وكان حريصاً على إظهار ممارسته السياسيّة وكأنّها تعبير عن قبول طائفته لأن تكون جزءاً لا يتجزّأ من جملة الرعايا الخاضعين للسلطة الجديدة المساهمين في ترسيخ سلطاتها بما يحقِّق الخير لكلِّ أولئك الذين يخضعون لنفوذها، ولقد أقام الشهيد مدّةً من الزمن في الشام[15]، يتردّد فيها على رجالاتها المشهورين ويتردّدون عليه، ليؤكِّد أنَّ التنوَّع المذهبيّ، في ظلِّ سلطةٍ نافذةٍ، لا يشكِّل خطراً على مشروعيّتها السياسيّة، وأنَّ التحرَّر من الإيديولوجيّة الدينيّة الصارمة التي تبنّاها المماليك بُغية تأكيد وحدة سلطانهم، ليست شرطاً لإنجاح ذلك، ولا هي تحقّقه، وإطلاق العنان لحريّة الممارسة الفكريّة في حدود دائرة الإسلام الواحد المتنوِّع في مذاهب يوفِّر لكلِّ سلطةٍ عنصرين أساسيين من عناصر نجاحها، الأوّل هو التسامح، والثاني هو العدل.

أمَّا الاتِّجاه الثاني الذي عمل عليه الشهيد، فهو معرفيّ، ولقد اقتضى منه هذا الاتّجاه أولاً إعادة بلورة تأصيلٍ راسخٍ للثقافة الشيعيّة في أبعادها الفقهيّة، فاتَّخذ من جزين مكاناً للقيام بهذه المهمّة بعد أن غدت إحدى أهمّ التجمّعات الشيعيّة في عاملة في عصر المماليك، وجمع حوله الطلاب، ومارس دوره في إعدادهم على أكمل وجه، وراح ينجز بنفسه إعادة تكوين الأصول العامة لمشروعه الفقهيّ والفكريّ، واقتضى منه ثانياً تواصلاً مع المذاهب الأخرى ليؤكِّد على ضرورة التنوّع في ظلّ الوحدة، وأنّ تنوّع المذاهب وتعدّدها في سياقاتها التاريخيّة، إنَّما هو عنصر غنىً لا بدّ منه، ليبلغ العلم الدينيّ طموح تطوّره واكتماله[16]، وأنّ تلاقح الأفكار والانفتاح على وجهات نظر متنوِّعةٍ مذهبةٌ للخصام والتنازع، ومجلبةٌ للتراحم والتوادد والتعاضد؛ ولأنَّ مثل ذلك يشجِّع المسلمين على أن يفهم البعض منهم البعض الآخر في حدود خصوصيّته فيغتني به ويتكامل معه. ولأجل ذلك كان الشهيد حريصاً كلَّ الحرص على أن يتبادل مع علماء المذاهب الإسلاميّة الأخرى وجهات النظر، ويلتقي بهم في كلِّ محفل، وينتقل من مكانٍ إلى آخر ليتّصل بهم ويحاورهم بودٍّ لافت وبانفتاح كبير، ولقد أنجز الشهيد في السياقين هذين نتائج محمودة في حدود الطاقات التي كان يملكها والظروف التي كانت تحيط به، لكن جهد فرد مهما أوتيَ من إمكانات سوف يكون قليل الأثر في ظلِّ مناخٍ شاملٍ من سيطرة نزوع التعصّب المذهبي والفكري، وفي ظلِّ هيمنةٍ سياسيّةٍ شاملة وكليّة، وفي إطار أيديولوجيا راسخة متنفِّذة ومهيمنة قائمة على الإقصاء والنبذ، وعلى الاستبعاد والقمع. ولم تكن البيئة الإسلاميّة في ظلِّ المماليك تبتعد عن ذلك أو تنأى عنه. ولقد يتبدَّى للباحث أنَّ طموحاً كطموح الشهيد كان مغامرةً أكيدة، لا يستوعبها عصرها، ولا تحتملها ظروفها الموضوعيّة، ولا تتوفَّر لها شروط نجاح يُذكر. فلقد طمح إلى تحرير الاجتهاد الدينيّ من نزوع السلفيّة المدمِّر الذي تبدّى فيما بعد في سياق فكر عنيف كفكر ابن تميمة[17]، وفي سياق ممارسات قمع منهجيّة للآخر المسلم، أدَّت إلى كوارث محقَّقة وإلى خواتيم مأساوية، وإلى صراعات مذهبيّة تركت أثرها الهائل على علاقات المسلمين في ظرفها، وفي ما تلا ذلك من أزمان. ولقد طمح كذلك إلى تحرير المذاهب من جمود الإيديولوجيّة التي يتحوّل المذهب الدينيّ معها إلى مجرَّد خادم لسلطة لا تتطلب سوى مشروعيّة نفسها، ومشروعيّة أغراضها الخاصة وأهدافها. فهو كان يواجه إذن ما لا يستطيع الفرد الواحد أو العصبة ذوو القوة مواجهته، خصوصاً أنّ ذلك كان يتطلّب إعادة تشكيل ثقافة المسلمين على ركائز من الوحدة في إطار التنوّع، وعلى التسامح بدل التعصّب، وعلى التلاقي بدل التفرّق، وعلى خدمة المجتمع بدل خدمة السلطة، وعلى الاجتهاد المتنوِّر المتحرِّك بدل الجمود والتحجّر، فكان يواجه بذلك سلطات راسخة، ومراكز قرار مستأثرة، وأصحاب نفوذ ومصالح ضيقة وعابرة، ولأجل ذلك كله انتهى مشروعه بأن كان هو نفسه ضحيّته وكبش فدائه، وشهيده الحاضر في تفاصيله، والشاهد على ما يمكن أن تحمله النفوس المتحجّرة المتعصّبة، والقابعة وراء مذاهبها، كأصنام جامدة، من عَنَتٍ وقسوة، ومن جهالة وانعدام ضمير، وعلى ما يمكن أن ينتهي إليه الإسلام المتسامح الرحب الجامع لبنيه على تعدّد مسالكهم، في ظلِّ هيمنته وجاذبيّته، من تراجع وانكسار، وما يمكن أن يُحيط بمفاهيمه من خلل والتباس وتشويه.

ولقد انتهى واقع الحال بعد استشهاد الشهيد إعداماً في دمشق من قِبَل السلطة[18]، وانتهاء مشروعه، إلى موجةٍ من القمع والعداء لبيئته الدينيّة والاجتماعيّة في جبل عامل لا مثيل لها، فانفرط عقد أولئك الذين تحلَّقوا حوله من الطلبة والعلماء، وتفرّقوا في الآفاق هروباً من اضطهادٍ عنيف، بعد أن استباح المماليك كلَّ جهاته، مستقدمين كلَّ ما يملكون من قوّةٍ عسكريّة، ومتَّكئين على مواقف دينيّة لم تُساهم فقط في التحريض وبثّ الدعاية المذهبية، بل في المشاركة الميدانيّة والإشراف على القتل والاستباحة والتدمير[19]، معيدين الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الشهيد، بل إلى ما هو أسوأ، فاستفحل التعصّب المذهبيّ، وتعاظم النتاج الفقهيّ المعرفيّ في صورته الأكثر عنفاً وتوتراً. والناظر في كتابات ابن تيمية ونتاج تلامذته يكتشف ذلك بوضوحٍ لا شائبة فيه، وهو ما زال يوحي بقوّة، بما يمكن أن يبلغه الاشتغال الشرعيّ المذهبي الخادم لأيديولوجيا السلطة من قسوة وعنف.

وسوف لن يقيّض لتجربة الشهيد الأوّل أن تُستأنف أو تُستعاد إلا بعد قرنين من الزمان على وجه التقريب، وفي زمن العثمانيين هذه المرّة، وبعد فترة من الركود والجمود والتقوقع، أصابت جبل عاملة بخمول محقَّق، وبفراغٍ معرفيّ فكريّ وسياسيّ لا مثيل له، وباضطراب أحوال أثَّر في حياة أبنائه على غير صعيد.

الشهيد الثاني واستئناف التجربة

وسوف ينهض باستئناف هذه التجربة علاّمة تأثَّر بشكلٍ أو بآخر بالمناخ الذي وفَّره الشهيد الأوّل، وبالتجربة التي خاض غمارها، ونَبَتَ في البيئة التي أنتجت الشهيد الأوّل، أعني به زين الدين الجبعي، المعروف بالشهيد الثاني[20].

وإذا كانت الأهداف التي قصد إليها هذا الرجل العلامّة، هي نفسها التي حرَّكت نشاط سلفه، فإنَّ الظروف والملابسات والأحوال التي أحاطت به لتختلف كثيراً عن سابقاتها، فالدولة العثمانية، كانت قد بلغت في زمنه ذروة نفوذها وسلطانها، كإمبراطورية لا يهتزّ لها ركن، تملك من القوّة والمِنْعة ما جعلها تتطلّع إلى البحث عن مصالح في ما هو أبعد من حدود سيطرتها الفعليّة، كما هو الحال في أوروبا الشرقيّة مثلاً، وكانت ـ مستفيدة من تراث المماليك وتجربتهم ـ تطمح إلى فرض المذهب الذي تتبنَّاه كموجِّهٍ لسياساتها، وكضامن لمشروعيّة سلطتها ـ على كلِّ رعاياها، في إطار دولة تنظّم حركتها من خلال مؤسَّسات تستند إلى الشريعة. ولقد كانت هذه الدولة تتميّز عن سابقتها بنزوع مذهبيٍّ حادٍ ـ كما مرّ ـ وبنظرةٍ ضيَّقةٍ جداً إلى طبيعة المعرفة الشرعيّة، وإلى التنوّع الفكريّ الدينيّ، الذي كان ما زال محافظاً على وجوده ولو بشكلٍ ظاهريّ زمن المماليك، فسنّوا القوانين والشرائع التي يقدَّر أن تدار الدولة من خلالها، استناداً إلى المذهب الحنفي وحده، وراحوا يرسمون السياسة الثقافية الدينيّة للجماهير ـ الرعايا على أساسه، مستبعدين أية مشاركة لمذاهب أخرى في سياق ذلك، ودافعين باتجاه إلغاء أيِّ تأثيرٍ لما يمكن أن يحدثه أي حراك مذهبي آخر في سياق الاجتماع الإسلامي[21].

ولعلّه لأجل ذلك، نفهم لماذا لم يُظْهِر الشهيد الثاني، أيَّ موقفٍ سياسيٍّ، ولم يبرز استقلاله الفقهي (الاجتهاد) أو المعرفي في أية مرحلة من مراحل حياته، ولأجله كذلك نفهم كيف نأى عن إبرازه الطابع المميّز لثقافة بيئته، في السياق العام لثقافة عصره، كما سيتبدّى فيما يأتي.

وهو كان يدرك حقيقة أنَّ الإمبراطوريَّة العثمانية تملك من الوسائل ما يُتيح لها أن تؤكِّد نفسها كوارث وحيد لخلافة المسلمين، وأن تدّعي أنّها تمثِّل مشروعيّة السلطة بلا منازع، وأنّها تملك من القوة ما يسمح لها بأن تحمي نفسها في مواجهة أية محاولة لتقويضها.

الشهيد الثاني: حركة في اتّجاهين

لأجل ذلك فلقد اندفع الشهيد الثاني كما صنع سلفه الشهيد الأوّل ـ في اتِّجاهين، الأول سياسي والثاني معرفي، وتمثَّل الأول في ابتعاده الواضح عن أيِّ موقف يمسّ السلطة في زمنه، أو يطعن في مشروعيّتها، أو يثير حفيظة القيمين عليها الممسكين بمقاليدها، وفي انفتاح على أصحاب النفوذ والقرار في دوائرها، حتّى بلغت منه الشجاعة أن يسافر إلى القسطنطينيّة ليلتقي بأعلى مركز للقرار في الدولة، أعني الباب العالي، مستفيداً من بعض معارفه وأصدقائه[22]. ولقد وصف بنفسه رحلته هذه، وما كان يقصده منها في ما بقي لنا من سيرته فقال: >وكان وصولنا إلى مدينة القسطنطينية يوم الاثنين سابع عشر من شهر ربيع الأول من السنة السابعة وهي سنة 952هـ. ووفق الله تعالى لنا منزلاً حسناً.... ثم اقتضى الحال أن كتبت في هذه الأيام رسالة جيدة، وأوصلتها إلى قاضي العسكر، وهو محمد بن قطب الدين الرومي، وهو رجل فاضل أديب عاقل لبيب، من أحسن الناس خلقاً وتهذيباً وأدباً، فوقعت منه موقعاً حسناً، وحصل لي بسبب ذلك منه حظٌ عظيم، وفي اليوم التالي أرسل إليَّ الدفتر المشتمل على الوظائف والمدارس، وبذل لي ما أختاره وأكَّد في كون ذلك في الشام أو حلب فاقتضى الحال أن اخترت منه المدرسة النورية في بعلبك لمصالح وجدتها.... إلخ[23].

أمّا الثاني فلقد تمثّل في إعادة استئناف تقليد رسخه الشهيد الأوّل قبله يختصر في تطوير العلم الشرعيّ وفق مذهب أهل البيت R، وتحصينه وتمتين قواعده، ثمّ في دفعه باتجاه أن يكون ركيزة لحوار شامل، مع باقي المذاهب، وتفاعلٍ حيٍّ متدفِّق مع أصولها وقواعدها وركائزها المعرفيّة، مما يقرِّب المسافات، ويُقيم جسور التواصل بين رؤى متنوعة متعدِّدة، ويزيل الحواجز النفسيّة التي تفصل شرائح كبيرة ممن ينتمون إلى هذه المذاهب بعضهم عن البعض الآخر، في إطار حركة ميدانيَّة، وسلوك عملي، تطلّب منه أن يقصد مصر، وفلسطين وسورية. ملتقياً علماء المذاهب آخذاً عنهم دارساً عليهم، مستفيداً من معارفهم، مشاركاً في حلقات البحث التي كانوا يقيمونها، ناسجاً شبكة كبيرة من العلاقات القائمة على الاحترام المتبادل والمعرفة الواضحة والقصد النير الخالص المنزه عن أيّة أغراض ضيقة، أو أهداف آنية، أو طموح ذاتي[24].

ولعلّ الشهيد الثاني اختار بعلبك للإقامة فيها عن سابق تصوّر وتصميم، إذ كانت البلدة حينها تتعايش فيها جملة المذاهب الإسلاميّة، ويعيش أهلها جنباً إلى جنب في وئام وتراحم، فهي إذن تناسب مشروعه الذي رسمه لنفسه ولتجربته، وتحقق له المقاصد التي كان يطمح إليها، والغاية الأساسية التي كان يبتغيها، وهي الدفع باتجاه التقارب العمليّ الواقعيِّ للمذاهب، في سلوكٍ يوميٍّ يقرِّب القلوب ويوسِّع أُفق المعرفة، وينير العقل، ويدفع إلى التسامح. ولم لم يكن هذا هو هدفه الأسمى لما أمكن أن نتصوّر أنَّه كيف يمكن لفقيهٍ شيعيٍّ في الظروف التي أحاطت به أن يقصد أرفع مراكز القرار في اسطنبول قاصداً مخاطبة فقهاء السلطة ورجالاتها... ولم لم يكن هذا هو هدفه الأرفع كذلك لما كان من الطبيعي لرجل مثله، أن يغتبط بما أسند إليه من منصب التدريس في مدرسة مغمورة... لقد كان إذاً يطمح إلى شيء جلل وإلى أمر كان قد هيّأ له أسبابه، ووطَّن عليه نفسه، وهو كان عارفاً بأبعاده، دارساً خطواته بدقّة، مرتكزاً إلى تجربة سلفه الشهيد الأوّل الفريدة والاستثنائية.

ولقد تَلفُت بشدة، المدّة التي قضاها الشهيد في البيئات السنيّة، متردِّداً عليها مقيماً فيها، ولقد يلفت كذلك إسهابه في وصف هذه المحطَّات من حياته، في هذه البيئة، وذكره لعلمائها على نحو التفصيل ولما تلقَّاه فيها من علوم أو اطَّلع عليه من معارف، في الوقت الذي لا نجد فيه أيُّ تأكيدٍ يُذكر على مراكز العلم الشيعيّة حينها كالنجف أو الحلة، اللتين لم يزرهما إلا لدواعي السياحة الدينيّة، ولم يلتق بعلمائهما إلا للمجاملة فحسب[25]، ولأنَّ الشهيد الثاني كان يملك بصيرةً نافذةً، ولأنَّه كان يعرف بدقَّة طبيعة مشروعه، ولأنَّه كان قد حدَّد لنفسه أهداف حركته، فإنّه توسَّع في الاطِّلاع على آراء المذاهب حتَّى صار خبيراً فيها، ثمَّ اشتغل بتدريسها والإفتاء على طبقها في مدينةٍ متنوٍّعة الانتماء المذهبيّ، هي بعلبك، اختار أن يستقرَّ فيها بعد أن خيرته السلطة بينها وبين حلب. فهو بوضوح أراد أن يؤكِّد أنَّ مذاهب متعدِّدة يمكن لها أن تتعايش وأن تتواصل، وأنَّ الانتماء المذهبيّ لا يقيم حدوداً مغلقةً، ولا جدارناً مقفلة، وأنَّه يُمكن أن يشكِّل عنصر غنى، وأداة تقريب، وأنّ اعتياد الناس اليومي على التنوّع يقود شيئاً فشيئاً إلى زوال التعصّب من نفوسهم، والانعزال الذي يُحيط بعلاقاتهم بمن يعيش معهم ويشاركهم اجتماعهم، وإن اختلفوا عنهم في مذهب يتبنّونه، أو قناعةٍ خاصة يؤمنون بها، أو ميزة يحملونها. وأعتقد أنَّنا وصلنا الآن مع الشهيد إلى أن تتّضح لنا صورة الغاية التي سعى للوصول إليها كأشدّ ما يكون الوضوح، مذ بدأ يخترق في إعداده لنفسه الحاجز المذهبي الصلب، حين يمّم وجهه شطر (دمشق)فـ (مصر) و (بيت المقدس) دارساً، وناسجاً شبكة من العلاقات، أهلته لتحقيق ما صبا إليه، ممّا أثار في نفسه غبطةً وشعوراً عارماً بالسرور عبر عنه بقوله: >واتَّفق وصولنا إلى البلاد منتصف شهر صفر سنة 953هـ.. ثم أقمنا ببعلبك، ودرَّسنا فيها مدة المذاهب الخمسة، وكثيراً من الفنون، وصاحبنا أهلها على اختلاف آرائهم أحسن صحبة، وعاشرناهم أحسن عشرة، وكانت أياماً ميمونة وأوقاتاً بهجة، ما رأى أصحابنا في الأعصار مثلها[26].

ويدلُّ على ذلك حوار جرى سنة 943هـ، بينه وبين الشيخ على البكري أحد أعلى شيوخ مصر مكانة في طريق الحج، وهو حوار تركّز جوهره على ضرورة إخراج الإسلام من التحيّز المذهبي، والانغلاق الفقهي الذي رسَّخته السلطة السياسيّة في مذاهب محدَّدة مغلقة معزولة بعضها عن البعض الآخر في نظامها المعرفيّ، وفي دائرة حياة أهلها، وهو حوار أثبته بدقّة ابن العودي، ونقله بحروفه في الدر المنثور[27].

ولقد كان كلامه في وضوحه يحمل هماً مقلقاً حول تقاطع مذاهب المسلمين فيما بينها، وحول تحوّل هذه المذاهب إلى كيانات مغلقة، لا تتعارف ولا تتآلف، تقاطع يرتكبه فقاؤهم، ويظهر أثره في أتباع كلِّ مذهب.

ولقد كانت تجربة الشهيد الثاني، في خلاصة حقيقتها، تجربة ممارسة لحياة تقوم على قناعةٍ راسخة بوحدة المسلمين، وبوحدة مصائرهم التي يندفعون نحوها، وبوحدة اجتماعهم السياسيّ وإن اختلفوا في الرأي، وبوحدة أصولهم المعرفيّة وإن اختلفت اجتهاداتهم. فهو وحدويٌ بالممارسة لا بالقول، وحدويٌ بالتجربة والعمل لا بالتمني والرجاء.

نتائج حراك الشهيد الثاني

ولم تكن نتائج حراك الشهيد الثاني لتختلف عن نتائج حراك سلفه الأوّل، فلقد انتهى مشروعه بأن كان ضحيةً له، وهو لم يقدِّر، كما هو حال الأوّل، أنّ الأوضاع التي كان يعيشها المسلمون في زمنه لم تكن تسمح لمشروع كهذا ببلوغ نهاياته الحميدة، فترك بعلبك بعد أن أقام فيها سنتين فقط، وعاد إلى جبع، وشيء ما يؤرِّق وجدانه، وخطرٌ محدقٌ يشعر به في قرارة نفسه يحرّك دواخله، فأقام في جبع متخفيّاً لبرهة، ثمّ ما لبثت السلطة السياسية أن تحرَّكت في إثره للقبض عليه، وبقي على هذه الحال تسع سنوات، ليقرِّر الحج فجأة إلى بيت الله ومجاورة الحرم، ليُقضى عليه بمؤامرة دبّرها أعداؤه، ولينتج عن ذلك من الآثار ما لا يقل سوءاً وخطورة عمّا ترتّب على مشروع سلفه. ولينتهي الأمر بأولئك الذين كانوا يحملون مشروعه ويحيطون به إلى التفرّق في شرق الأرض وغربها، حتّى تلميذه ابن العودي الذي كتب سيرته، هاجر إلى إيران إلى غير رجعة، وانزوى الحسين بن عبد الصمد الحارثي، والد الشيخ البهائي، الذي كان من تلامذته في بعلبك، في عزلة شبه تامّة فترة من الزمن، وليندثر ما قدِّر له أن يبنيه في موطنه جبع في لمحةِ بصر. وإذا كانت دعوة الشهيدين العمليّة إلى وحدة المسلمين، في ظلِّ تنوّع اجتهاداتهم الدينية، ومحاولتهما تحرير المعرفة الفقهية من إسار السلطة السياسيّة لم تحقق أغراضها في زمنهما، بسبب انعدام ظروف نجاحها والعوامل الضاغظة التي أحاطت بها، وطغيان التعصب الذي أفقدها قدرتها على الاستمرار، فإنّ ما تحرّكه تجربتهما من عِبَر، يفرض علينا في الزمن الراهن، مع تعاظم وعينا بالأخطار المحدقة بالإسلام، وبالمآلات المظلمة التي يندفع إليها اجتماعنا المسلم، أن نستعيد تجربتهما في جوهر ما كانت تنطوي عليه، لا بالقول فقط ولا بالشعار، إنّما بالممارسة والعمل. وإذا كانت الظروف الماضية، في ظلِّ سلطة مستغنية بنفسها ولا تقيم وزناً لخطر يلوح، لم تسمح لهما بتحقيق مشروعهما، فإنّ ظروف الراهن تسمح بذلك، وتساعد عليه، في إطار فهمنا الأكثر عمقاً للشروط الموضوعيّة التي لا يمكن بدونها استمرار الإسلام حاضراً في التاريخ موجِّهاً لبنيه، محصِّناً لهم في المآزق العولميّة التي تحيط بهم، ومن ضمن هذه الشروط تأكيد مبدأ الوحدة وممارسته، وبلورة عناصر تحقّق استمراره.

[1](*) استاذ في الحوزة العلمية - لبنان

فوشيه، تاريخ الحملة الصليبية، ترجمة زياد العلي، عمان 1990، ص81.

[2] محمد بن أحمد بن عبد الهادي، العقود الدرية، القاهرة، 1938م، ص182.

[3] صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، بيروت 1990م، ص96.

[4] العقود الدرية، ص185.

[5] العقود الدرية، ص185، «هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون مثل أهل جزين وما حواليها، وجبل عامل ونواحيه» وصف لابن عبد الهادي وهو تلميذ لابن تميمية بحق أهل جبل عامل

[6] لقد كان سلاطين المماليك على سيئاتهم الكثيرة، غير مكترثين بالنزاعات الفقهية والكلامية، بل تركوا أمور الثقافة لأهلها، لا يتدخلون فيها إلا حين تتقاطع شؤون الثقافة مع شؤون السلطة، كما جرى مع الشهيد الأول، فقد كانوا جنوداً جاهلين، أكثرهم أميون، ومنهم من لم يكن يحسن العربية إلا لماماً، لا يبغون أكثر من حياطة ملكهم، وحماية امتيازات الطبقة العسكرية التي يمثلونها. (ستة فقهاء أبطال، ص135).

[7] كان الأتراك العثمانيون مختلفين تماماً عن أسلافهم، فهم قوم طوروا نفوسهم على طموحات عالمية، وحملوا لوناً مذهبياً حاداً حتى تجاه المذاهب التي لم تعانِ من صعوبات مع كافة أشكال السلطة، فضلاً عن أنهم كانوا يحملون موقفاً عدائياً تجاه الشيعة جراء صراعهم مع الصفويين في إيران الشيعية فترة طويلة من الزمن سياسياً وعسكرياً. م.ن، ص136.

[8] جعفر المهاجر، ستة فقهاء أبطال، ص84 وبعدها.

[9] المسعودي، مروج الذهب، بيروت: الجامعة اللبنانية 1996م، ج3، ص284، والمقدسي، أحسن التقاسيم، ط. ليدن 1906م، ص9.

[10] أبو شامة، ذيل الروضتين، القاهرة، 1956م، ص103.

[11] صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، ص96.

[12] عباس القمي، فوائد الرضوية، طهران، د.ت، ص429، والأفندي، رياض العلماء، تج. أحمد الحسيني، قم، 1401هـ، ج3، ص374-375، والخوانساري روضات الجنات، قم، 1970م، ج7، ص3-4. محمد بن مكي الجزيني، ولد في جزين حوالي 720هـ. رحل إلى الحلة في العراق، ودرس على أكابر علمائها، ولقي إجازات من أعرق شيوخها، وأبرزهم الحسن بن المطهر، ويظهر من نضوجه المبكر هناك أنه كان على درجة من النضج العلمي لا تتأتى إلا عن تحصيل منظم، لكننا لا ندري إذا كان قد حصل شيئاً من دراسته في جزين، وإذا ما كان لوالده دور في ذلك، فالمعلومات في هذا الشأن معدومة كلياً ولا تمدنا المصادر بشيء يفيدنا أو يضيء لنا الموقف. ما نعرفه أنه أقام في الحلة طالباً للعلم خمس أو ست سنوات لينتقل بعدها إلى بغداد ويدرس على علمائها ويستخير فقاءها ومحدثيها (لاحظ: فوائد الرضوية، ص429. ومستدرك الوسائل، طهران، 1382هـ، ج3، ص437. وغاية النهاية في طبقات القراء، تحقيق برجستشراسر، القاهرة، 1932م، ج2، ص265. وحسن الصدر، تكملة أمل الأمل، طهران، 1382ه، ج3، ص437). ثم قصد دمشق وفلسطين والقاهرة، ومكة والمدينة، وقرأ في رحلته هذه على أربعين من علماء السنة أحصاهم في إجازته لابن الخازن الحائري (لاحظ: بحار الأنوار، ج107، ص186-192). ثم عاد إلى بلده بعد تطواف، ليحتل أسمى مكانة وأعلى درجة، ولقد كانت الرحلة في سبيل طلب العلم وتحمل الحديث تقليداً راسخاً من تقاليد تحصيل العلم في الإسلام وهو لم يفقد أهميته ويذوي إلا بعد أن استوت المذاهب على مواقعها، واكتسبت بنى نهائية مغلقة، ومذ ذاك، أخذت الحركة الفكرية خصوصاً في إطار الفقه والعلوم المساعدة، تدور في محاور منفصلة لكل منها قوانينه الخاصة به. (المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين، ص112). ومن البيّن أن الشهيد كان يتطلع من خلال إعادة إحياء مثل هذا الظاهرة إلى أمر جلل، خصوصاً أنه أول فقيه شيعي يركبها، بعد أو وصلت الحالة المذهبية إلى مستقرها، وكان ذلك منه عن منهج آمن به، كما آمن به الشهيد الثاني بعده بقرنين، كما سياتي.

[13] ستة فقهاء أبطال، ص104-107.

[14] وكان له فيها مجلس خاص مقصود. راجع: روضة البهية، القاهرة 1972م، مقدمة الشارح

[15] ستة فقهاء أبطال، ص94، وجعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين، دمشق، المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، 2005م، ص 120 وبعدها.

[16] أنظر مواقفه في: العقود الدرية، ص180 وبعدها.

[17] قبضت عليه السلطة المملوكية، بعد أن لفّقت له تهمة النصيرية واستحلال الخمر، وأودع سجن القلعة في دمشق سنة 786هـ. وضربت عنقه، ثم صلب ثم أحرق، في رحبة القلعة. (روضات الجنات، ج7، ص13). وانظر وقائع محاكمته في تاريخ ابن قاضي شبهة، ج1، ص135. وأمل الآمل، ج1، ص82، ولؤلؤة البحرين، ص146. وحول التهم المنسوبة إليه يلاحظ، العسقلاني، إنباء الغمر، ج1، ص200 والحنبلي، شذرات الذهب، ج6، ص294. والجزري، غاية النهاية، ج2، ص265.

[18] ستة فقهاء أبطال، ص98-107.

[19] رياض العلماء، ج3، ص362. وعلي بن محمد الجباعي، الدر المنثور، قم، 1398هـ، ج2، ص170، والحر العاملي، أمل الأمل، تح. أحمد الحسينيـ،بغداد، 1385هـ، ص13. هو زين الدين بن علي الجباعي، المشهور بالشهيد الثاني، ولد في جبع، وقد كانت مغمورة خاملة الذكر في قبالة مراكز عامرة بالعلم كمشغرة وكرك نوح وجزين، لكنها ستصبح بعد قليل مركز الثقل في العلم الشيعي بعد أن هاجر إليها علماء الأطراف عقب السيطرة العثمانية، ونشأ فيها في بيت معروف بالعلم والفضيلة، (والملفت أن الشهيد سجل لنا بنفسه سيرة حياته في تفاصيلها، فيما بقي لنا من ما دونه تلميذه ابن العودي) ودرس أولاً على والده في جبع ثم رحل إلى ميس مخضر عند أبرز فقهاء عاملة آنذاك علي بن عبد العال الميسي، ثم انتقل إلى كرك نوح فدرس على الأعرج الكركي، ليعود بعدها إلى جبع فيقيم بها مشتغلاً بالعلم، ثم يعاود ترحاله فيقصد هذه المرة دمشق، ويقرأ على علمائها علوماً شتى ليعود إلى جبع سنة 938هـ، وفي أول سنة 942هـ رحل إلى مصر، وحضر على علمائها فترة من الزمن، ثم قصد الحجاز حاجاً معتمراً ليعود بعدها إلى وطنه مشتغلاً بالدراسة والعلم، متخفياً تاره، ظاهراً أخرى نتيجة الظروف السياسية، ليذهب في قرار مفاجئ إلى الحج وليقيم هناك قبل أن تعتقله السلطات العثمانية قرب الحرم المكي ليقاد إلى حتفه في القسطنطينية زمن سليمان القانوني. راجع الدر المنثور، ج2، ص158-170.

[20] ستة فقهاء أبطال، ص150 وما بعدها.

[21] م، ن، ص151.

[22] الدر المنثور، ج2، ص174-177.

[23] م، ن.

[24] راجع: الدر المنثور، ج1، ص169.

[25] م، ن. ص128.

[26] م. ن، ج2، ص164-165.

[27] م، ن، ج2، ص128.

فقه الشهيدين: حلقة قوية في تاريخ الفقه الإسلامي الأصيل

د. عبد الأمير سليماني(*)

}مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله{.[1]

صدق الله العلي العظيم

حينما نتأمل في واقعنا المعاصر نجد أن وجودنا هو إمتداد راسخ في تاريخنا الطويل الذي يتألف من حلقات متتالية وصلبة بنيت علی يد رجال لولاهم لكنّا في تيه لا نعرفه لا قرار له. والواقع والعقل يؤكدان أنّه لا يمكن الانفصام عن هذا الامتداد الطويل الذي نحن نتيجته وثمرته ولولاه لما كان لنا هذا الوجود، فلا يمكن نسيان الهادي الأمين P ولا وصيه المؤتمنQ ولا العترة الطيبة المباركة التي بها عُرف الإسلام بحقيقته بعد أن تشابكت عليه أيدي الأعداء، ولا يمكن أن ننسی صحابة النبي الكريم الذين أسسوا وجاهدوا وضحوا وكانوا نموذجاً يقتدی ويحتذی به. ومن جاء بعد هؤلاء من علماء الامة الذين انتشروا في البلاد وجعلوا أنفسهم زيتاً يحترق ليضيء طريق الإنسانية ويقوي شجرة الرسالة المحمدية غير آبهين بما يصيبهم فوقعوا صرعی وشهداء علی مذبح الحرية والسلام والعلم. ومن هؤلاء الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي المتوفی عام ٧٨٦هـ والشهيد الثاني زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد العاملي المتوفی عام ٩٦٥هـ، حيث الاحتفاء بمثل هؤلاء هو عملية الالتصاق بهذه الشجرة والالتحاق بهذا التأريخ المجيد، والوقوف مع الذات ونقدها، والاعتراف بذوي الفضل. إذ يقول المولى }يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ{.

تمهيد

ويشمل:

أ- شخصيتيهما وأسرتيهما

ب- سيرتيهما وأسلوبيهما

ج- التشابه والتباين في شخصيتيهما

أ- وجود حر في الإغناء

ب- جغرافيًا وتاريخياً لاسيما جزين وجبع

أ- فقه مفتوح ومتطور

ب- وفكر قوي

تمهيد

دراسة تاريخيهما

شخصيتيهما واسرتيهما

1- دراسة تاريخيهما

الشهيد الأول: شخصيته واسرته:

اسمه: شمس الدين محمد بن مكي العاملي نسبة إلی «جبل عامل» المشهور بالشهيد الأول. ولد عام ٧٣٤هـ علی أشهر الروايات في قرية جزين التابعة لمنطقة جبل عامل في جنوب لبنان «المنطقة التي نفي فيها الصحابي الكبير أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه)، ووالده هو الفقيه الكبير «أبو محمد مكي» ولقبه جمال الدين أو شرف الدين وأمه سيدة علوية من أسرة آل معية تسكن ارض الرافدين. لم يكن الفقيد الشهيد هو الأول، فقد سبقه فقهاء قدموا انفسهم شهداء للعقيدة، كابن السكيت رضوان الله عليه وهو الفقيه واللغوي المشهور وحبيب ابن مظاهر الأسدي(رض) وغيرهم. لكن الشهيدالأول الذي نكتب عنه اتصف عصره بالأرهاب والظلم، واصبحت شهادته منفردة في عصره الذي بعد عن عصور سبقت وسلفت إذ لكثرة شهداء الفضيلة لم يرقموا بالأول والثاني، وشهيدنا انفرد بعصره أولاً مظلومية وثانياً تأثيره الفقهي الذي يعتبر وجوداً حياً جديداً ذا عمق فكري وفقهي واضح المعالم وقوي الالتصاق بأهل البيت R في وقت خلی تقريباً من ذلك، فضلاً عن التراث العلمي الثري، وشخصيته المعلومة والمشار إليها اجتماعياً وعلمياً، الأمر الذي رفعه فأصبح شخصية مشهورة.

نشأ الشهيد الأول في مسقط رأسه، جزين، في منطقة جبل عامل، وقد تتلمذ علی والده الفقيه المعروف في العلوم الإسلامية، كذلك درس العلوم الأخرى علی يد والد زوجته الشيخ أسد الدين الصائغ كعلوم الرياضيات. ولما بلغ أشده قرر الهجرة إلی الجامعة الإسلامية في العراق عام ٧٥٠هـ وتحديداً «الحوزة العلمية في الحلة» حيث كانت الجامعة هناك في غاية التألق والازدهار في القرن الهجري الثامن، ومكث فيها خمس سنوات في طلب العلم عند العلماء الأفاضل كالسيد فخار الموسوي، وابن معيّة وابن نما الحلي وأقرانهم، وقد حصل المترجم له اجازات كثيرة في الفقه والحديث لما كان يتمتع به من ذكاء ووعي كما تنقل بين مدن العلم في النجف الأشرف وكربلاء وبغداد. وقد حضر M حلقات الدرس لدی بعض مشايخ ومحدثي أهل السنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وبغداد ومصر ودمشق والقدس وروی عنهم الحديث. عاد إلی مسقط رأسه جزين عام ٧٥٥هـ وكان خلال هذه السنوات قد برز فيها عالماً وأديباً، إذ أفاد من رحلاته العلمية تلك، ولا غرابة من رجوع بعض أهل السنّة إليه في الاستفتاءات الفقهية، فكان يفتي لهم حسب مذاهبهم، الأمر الذي آثار حفيظة بعض العلماء من غير الإمامية، فوشوا به عند السلطات الحاكمة، لينتهي المطاف به إلی أن يسقط بسيفها شهيدًا.

لقد ترك الشهيد الأول مجموعة من المصنفات تدل علی عظمة شأنه وعلو قدره وعلمه:

  1. اللمعة الدمشقية في الفقه، وقد ذكر أنه M الفها في سجنه خلال أسبوع واحد وبعثها إلی الأمير علي ابن مؤيد حاكم خراسان من أجل هداية الشيعة هناك ([2]). ولم يكن عنده سوی كتاب المختصر النافع فقط، وهو دليل علی علمه وحذقه.
  2. الدروس
  3. الأربعون حديثًا
  4. القواعد
  5. الكلية الاصولية والنوعية
  6. غاية المراد
  7. ذكری الشيعة في فقه الشيعة.

لقد كان فاعلاً في حركة الفقه وقد اهتم في اعداد جيل من العلماء والفقهاء، يُشار لهم بالبنان كالعلامة الفذ جمال الدين مقداد بن عبد الله الشهير بفاضل مقداد (٨٢٦هـ) والشيخ شمس الدين محمد بن تاج الدين الكركي، وزين الدين أبو الحسن الخازن الحائري، وشمس الدين محمد بن علي، والشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن بشارة، وجمال الدين أحمد بن ابراهيم. والشيخ عزالدين حسن بن سليمان الحلي، والسيد شمس الدين أبو عبدالله محمد بن محمد وآخرين حصلوا علی اجازة الاجتهاد فضلا عن أبنائه الفقهاء الأربعة.

ولما دخل الشهيد الأول العقد السادس من عمره، وكان في قمة تألقه، الأمر الذي أثار الحسد في نفوس وعاظ السلاطين من أمثال ابن الجماعة الذي ألب عليه عوام أهل السنة فشهدوا علی هذا العالم الورع التقي والفقيه الكبير بفساد العقيدة، وبدفاعه عن مذهب النصيرية والغلاة، فسجن في قلعة دمشق لمدة عام واحد تحمل خلالها صنوف العذاب والتنكيل ثم نفذ فيه حكم الاعدام بالسيف في نفس القلعة صبح الخميس ٩ جمادى الآخرة عام ٧٨٦هـ وقد مثلوا به وعلق جسده الطاهر علی حبل المشنقة ومن ثم رجم وأحرق بنيران التعصب الأعمی وفتاوی السوء والحقد.

الشهيد الثاني: شخصيته وأسرته

هو الشيخ زين الدين بن نور الدين الشهير بالشهيد الثاني، من مشاهير فقهاء الشيعة في القرن العاشر الهجري.

ولد الشيخ زين الدين يوم الثلاثاء الثالث عشر من شوال عام ٩11هـ في قرية جبع، وهي قرية جبلية من مناطق جبل عامل في جنوب لبنان حيث سكان هذه المنطقة من اتباع أهل البيت R.

امتاز هذا العالم الجليل والشهيد الكبير بأنه من أسرة علماء وفقهاء معروفين، فهو نجل الشيخ نور الدين علي بن أحمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف العاملي الشامي الطلوسي الجبعي. عرف والده بـ «ابن الحجة» أو «ابن الحاجة» وهو من كبار عصره وأجداده من علماء ديارهم، جده الأعلی «الشيخ صالح بن مشرف» من تلامذة العلامة الحلي، وقد سميت هذه الأسرة بـ «سلسلة الذهب» لتعاقب خدماتها الجليلة في مجال العلوم الإسلامية الشيعية جيلاً بعد جيل، واستمر تواصل العطاء العلمي والروحي لهذه الشجرة المعطاء في الأجيال التي أعقبت الشهيد الثاني وقد برز من بين أبنائه وأحفاده علماء أجلاء من أمثال الشيخ حسن «صاحب المعالم»، وسبطه السيد محمد علي العاملي، صاحب «المدارك»، وهذان الكتابان يدرسان في الحوازات العلمية.

دراسته: ابتدأ الشيخ زين الدين في طفولته بتعلم القرآن الكريم، وبدأ دراساته الفقهية علی يد أبيه، فدرس «المختصر النافع» للمحقق الحلي، ثم اللمعة الدمشقية للشهيد الأول، إضافة إلی بعض الكتب الأخرى. في عام ٩٢٥هـ رحل والده من هذه الدنيا، وهو لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره، فهاجر إلی قرية «ميس الجبل» ليدرس فيها كتب: الشرائع للمحقق الحلي، والارشاد للعلامة الحلي، والقواعد للشهيد الأول، واستمر في ذلك ثماني سنوات. كذلك هاجر إلی «كرك نوح»، عام ٩٣٣ لمواصلة دراسته وتحصيله عند السيد بدر الدين حسن بن جعفر الاعرجي، ثم إلی دمشق عام ٩٣٧ حيث أدرك الشيخ شمس الدين محمد مكي (الذي يشبه اسمه اسم الشهيد الأول)، حيث درس عنده كتاب «الموجز»، و«غاية القصد في معرفة القصد»، وهو في علوم الطب، وكذلك جزءاً من حكمة الاشراق للسهروردي.

عاد إلی مسقط رأسه عام 9٣٩هـ وعمل في التدريس والتحقيق حتى عام ٩٤٥هـ، حين هاجر ثانية إلی دمشق للتعرف عن كثب علی البحوث الدينية في حوزات أهل السنة فدرس عند الشيخ شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي الحنفي أجزاءً من صحيح البخاري وصحيح مسلم فأجازه هذا الأخير في رواية احاديث الصحيحين.

سافر بعد ذلك إلی مصر وعرج في طريقه على الشيخ محي الدين عبدالقادر في مدينة غزة، حيث عقد معه مناظرات علمية في مختلف البحوث وقد حصل منه علی اجازة تامة.

كما كانت له رحلات منها لزيارة العتبات المقدسة في العراق وبلاد أخری، وكذا الاطلاع علی أحوال الناس الاجتماعية والثقافية والسياسية. وقد زار تركيا والحجاز والقسطنطينية، وهاجر إلی بعلبك في لبنان، ومكث فيها خمس سنوات تولی خلالها مسؤولية حوزتها العلمية، حتى اشتهر اسمه بين العلماء وفي أوساط الحوزات العلمية حتى حوزات السنة، إذ كان يفتي لهم طبقا لمذاهبهم. وكانوا يرجعون له للاستفسار عن التكاليف الشرعية، وليس هذا بغريب علی رجل استمر تحصيله المتوالی والجاد لمدة ثلاث وثلاثين سنة.

وقبل أن نترك ما يتعلق بسيرته العلمية، نذكر أهم اساتذته وأشهرهم، وقيل درس عند ٢٥ عالماً وفقيهاً، من مذهب أهل البيتR و من السنة:

  1. والده الشيخ علي بن أحمد العاملي الجبعي.
  2. الشيخ علي بن عبد العال الميسي.
  3. الشيخ محمد بن مكي.
  4. السيد حسن بن جعفر الكركي.
  5. الشيخ أحمد بن جابر

ب - سيرتهما واسلوبهما

تمتزج الشخصية بالسيرة. فالسيرة هي الصفات الشخصية وحركتها في الحياة بكل سكناتها وحركاتها، وعلاقاتها وهواياتها.

وسيرتا الشهيدين وان اختلفتا في جزئيات معينة، لكن سيرتيهما واحدة، نوجزها بالنقاط التالية:

  1. إن الجو العاملي والأرض العاملية والحياة والماء وحتى الطعام له أثره البالغ في نشأة الشخصية وتكوينها، ولذا فانّ العالمين الجليلين يشتركان في هذه النشأة ويحملان الكثير من العادات والسنن، لا سيما وهما يوردان من منبع واحد ويستقيان من نفس المصدر ويهدفان الى نفس الهدف.
  2. يستقيان علومهما وأحاديث نبيهما عن أئمة أهل البيت R إيماناً منهما بصحة ذلك ووثوقه، وصحة وسلامة رواته، ولذا فهما يسيران بنفس الأسلوب ونفس السيرة بالابتداء وربما حتى في الانتهاء أي النتيجة، ولعل ذلك بسبب التلاحم بين الشخصيتين، فحين يُذكر الأول، يتداعی الفكر للثاني أو بالعكس. وكذلك قيام الثاني بشرح كُتب الأول نظرا لتطابق الكثير من الآراء.
  3. التوافق والتساوی تقريباً في عمريهما، فالشهيد الأول عاش ٥٢ سنة هجرية (٧٣٤ – ٧٨٦)، والشهيد الثاني عاش ٥٤ سنة (٩11 – ٩٦٥)، وهذه ربما تكون صدفة، ولكن ربما يكون لها حسابها، إذ إن أجلهما متقارب وحياتهما واحدة وعمرهما قريب التساوي، فكانما أحدهما مكمل للآخر.
  4. لقد طرح الشهيد الأول أسلوبا فقهياً يكاد يكون جديداً، حتى قيل أنه أول من بلور فقها شيعياً مستقلاً عن الآراء الفقهية للعامة، ويبرز في بحثه آراء شيعية خالصة، وهو ما واءم سلوك الشهيد الثاني وتأثره بذلك، فدعاه إلى شرح فقه اللمعة، وسماها الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية. وللكتابين تأثيرهما العميق في الفكر والفقه الولائي.
  5. اعتمد الشهيدان أسلوب دراسة وتدريس فقه غير الشيعة،كالفقه الشافعي والحنفي ونبغا فيه، وأسسا علاقات مع علماء أهل السنّة. كذلك فإنهما طرقا ابواب علوم أخرى، يندر ان يطرقها العلماء، كالعلوم الطبيعية والرياضيات والفلك وغيرها.
  6. الارتحال والسفر صفة بينة في سلوكهما من أجل كسب العلم والمعرفة، ولعل نفس المناطق التي سافر اليها الشهيد الأول سافر اليها الشهيد الثاني.
  7. أسلوب المناظرة من أهم الأساليب التي اعتمدها الشهيدان، لما كانا يمتازان به من حنكة وعمق فقهي وعلمي، مكنهما من المناظرة. يضاف إلى ما تقدم، نهجهما الأدبي واللغوي.

ج - التشابة والتكتيك في شخصيتيهما

لقد ذكرنا في سيرتهما مدی التشابه في الشخصية والسيرة والأسلوب والميلاد، ولكن ليست الشخصيتان متطابقتين تماماً بل هناك نوع من التباين بينهما وفي شخصيتيهما. ويُمكن القول أن الشهيدين متطابقان من وجه وهو ما نسميه بلغة اليوم «الاستراتيجية»، ومتباينان من وجه آخر وهو «التكتيك».

والوجه الأول قد أشرنا إليه في الحديث عنهما (رض)، لذا سنتطرق إلى الفوارق والتكتيك، ويشمل ما يلي:

  1. لا خلاف ان الشهيدين يقتفيان طريق أئمة أهل البيتR، في وحدة الهدف وتكامل الأدوار كما أنّ الإمام الثائر الحسينQ أكمل دوره الإمام السجاد Q حتى لو اختلف الأسلوب.
  2. نال الشهيد الأول زعامة الشيعة بين ٧٧1 إلی ٧٨٦هـ، وقد امتاز بشكل واضح وجلي اجتهاده علی المذاهب الخمسة «الاثنا عشرية، الحنفية، والمالكية، الحنبلية، الشافعية»، ولم يتسنّ هذا الأمر لأحد غيره من علماء المسلمين، أما الشهيد الثاني فإنه - وإن كان رائد الفقه والاجتهاد في عصره وتولی مرجعية الشيعة من عام ٩٤٠ وحتى عام ٩٦٦هـ بل وسمی بأفضل المتأخرين وأكمل المتبحرين - لكنه لم يكن كالشهيد الأول من حيث التأصيل والظروف.
  3. هناك نوع من التكتيك في عصري الشهيدين في:

أ- الحكم والوضع السياسي

د- الوضع الاجتماعي

ه- الوضع العلمي

ولكن النتيجة واحدة: تحقيق مشروع الوحدة الاسلامية ونيل مقام الشهادة.

٢ – علماء جبل عامل

  1. الوجود الحرّ في الإغناء العلمي

جبل عامل تلك الأرض الطيبة التي ظهرت كمركز إشعاع يخرج العلماء والأساتذة والمفكرين علی نهج أهل بيت الرسول الأكرم محمد P، أهل بيت العصمة والدوحة الأحمدية. وهذا مرتبط بما أسسه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري عام ٣1 هجرية [3]، عندما نفاه عثمان بن عفان. وقد عمد أبو ذر إلی نشر فضائل النبيP وآلهR، والدفاع عن حقوقهم، فكانت الثمرة هذه الطليعة من موالي أهل البيتR. ثم مع توالي السنين تأسست المدرسة الإسلامية، «حوزة جبل عامل»، والتي توسعت فضاهت الحوزات الأخرى، في بغداد والحلة وكربلاء والنجف الاشرف، والتي نبغ فيها العلماء العظام، كالسيد المرتضی (المتوفی عام ٤٣٣هـ)، الذي طلب علماء من طرابلس وصيدا توجيه أسئلة إليه، فأجاب عليها وسماها «أجوبة المسائل الصيداوية والطرابلسية» [4].

وقد انجبت علماء فطاحل كصاحب كتاب «الزهرة في أحكام الحج والعمرة»، الشيخ ابوعبدالله محمد بن هبة الله الطرابلسي، وهو من تلامذة الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري،. وكذلك الشيخ أبو القاسم سعد الدين (المتوفی عام ٤٨1هـ) المعروف بابن البراج والذي أصبح قاضي قضاة طرابلس[5].

وقد تزعم الحوزة العلمية بعد وفاته الشيخ أبو الفضل اسعد ابن احمد بن أبي الروح الطرابلسي المتوفی عام ٥٢٠هـ، أو قبل ذلك، والذي ذكره ابن حجر يقول: «الرافضي قاضي طرابلس له تصانيف في الرفض وكان متعبداً زاهداً راهبا..». [6]. وكانت مساجد الشيعة من ارتب واحسن المساجد بناءً، وأعمرها.

وكذلك الشيخ نجم الدين (طومان) (م ٧٢٨هـ) ابن أحمد العاملي وهو من يُعدّ علماء الشيعة الإمامية في تلك الحقبة الزمنية.

إضافة إلى نخبة من علماء عائلة الشهيد الأول، كالشيخ طه (م ٦٩٠هـ) ابن محمد بن فخر الدين جد الشهيد الأول، وترأس الحوزة بعد وفاته الشيخ جمال الدين مكي (م ٧٣٤هـ) ابن حامد العاملي الجزيني جد الشهيد الأول الذي كان مدرساً في الحوزة.

إن الذي يدرس تاريخ هذه الحوزة بل منطقة جبل عامل يفهم كيف كانت تشع بعلمائها ومفكريها ومدارسها ومساجدها، حرة في وجودها، عميقة في بحوثها، ثابتة في نهجها، ومنفتحة علی الحوزات والمدارس الأخرى، الأمر الذي جعلها مركزًا ثقافيًا كبيرًا يشار له بالبنان، وقد نبغ فيها الكثير من الفقهاء والمجتهدين. وأحصی بعض الفضلاء في تشييع جنازة في إحدی قرى جبل عامل، وجود سبعين مجتهدًا في عصر الشهيد الأول.

هذا الأفق الواسع والحماس الرائع أوجد فضاء حرًا متمكنًا وقابلاً للاغناء العلمي والبحثي، وجريئاً في عرض الآراء بكل حرية وقوة من دون تردد، لما يملكه من قوة دليل وقابلية للمناظرة، وبلورة الحقيقة العلمية، حتى شهد بذلك الخصوم قبل الاصدقاء.

كذلك لو حققنا في تاريخ عظماء جبل عامل من عوائل شرف الدين والصدر والأمين والحر العاملي والجزينيين والعامليين عموماً، نشاهد السعة في العلم والجرأة في الفكر. ولا أنسی كتاب فقه الإمام الصادقQ، للشيخ محمد جواد مغنية وخصوصاً الأحكام المتعلقة بالضرائب المالية وكيفية صرفها لمستحقيها.

لقد كانت المدرسة العاملية احتياطيًا كبيرًا لمدرسة النجف الأشرف الدينية، التي تعتبر من أوائل المدارس الأربعة الكبری في العالم الإسلامي، وهي مدرسة أو جامعة القرويين في المغرب (مراكش)، ومدرسة الزيتونة المعروفة الصيت في تونس، والأزهر الشريف الواضح المعالم في مصر، والمدرسة الرابعة الكبرى، هي مدرسة النجف الاشرف في العراق. ومن ثم جاءت مدرسة قم العلمية في ايران، بعد تراجع هذه المدارس الكبری، بسب الحكام الظلمة وخوفهم من الإسلام وعلومه وثقافته، كما في العراق، حيث حكم البعثيون الحاقدون علی الإسلام والعملاء للصهيونية والامبريالية العالمية. وكذلك الأزهر تاريخيًا، وما جری عليه من جانب الأيوبيين، الذين عرفوا بالجمود والتعصب، وكذا ورثتهم المماليك الذين عاثوا فساداً وهتكوا الحرمات.

والطريف في الأمر أن هذه المدارس الخمس تأسست بنفس الصورة والغاية والهدف والمنهج والمدرسة [7].

ومدرسة جبل عامل لعلها في العمق التاريخي تعود جذورها إلی الزمن السحيق، لكنها لم تشتهر بالشكل الذي يرفعها إلی مستوی المدارس الخمس المذكورة، إلا أنها تبقی مشعلاً وهّاجًا، لا يمكن غض البصر عنه، نظرًا لآثاره الكبرى التي تشخص معالمها حتى هذه الساعة.

وعلی الرغم من حضورها القوي، فان عيون الحاقدين والجهلة، الذين يضيق صدرهم بغيرهم، لقصر كفاءاتهم وقصور عقولهم وتعصبهم الأعمی الموروث من أسلافهم، الأمر الذي جعلهم يتخبطون في ضلالهم للنيل من هذه المدرسة ورجالاتها العظام، وحاكوا ما حاكوا من أجل تحقيق مآربهم التي تمليها عليهم شياطينهم.

  1. موقع جبل عامل الجغرافي والتأريخي

من يلقی نظرة علی تاريخ جبل عامل وجغرافية هذه المنطقة، يمكن أن يفهم أن هناك الكثير من التحولات والتطورات أصابت المنطقة، وهي تعد من أقدم المناطق أهمية، فقد ذكر الشيخ الحر العاملي في كتاب «أمل الآمل في ذكر علماء جبل عامل» أن الحدود الجغرافية للمنطقة هي من أقدم المناطق زمانياً التي شملها الكثير من التحقيق والبحث لما تتميز به من تاريخ علمي وشخصيات علمية اشتهرت باجازاتها في الرواية، فضلا عن قوافل العلماء التي هاجرت إلی مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، لا سيما إلی عاصمة الدولة الصفوية الإيرانية الجديدة التي تأسست عام ٩٠٥هـ، أي أصفهان.

جبل عامل والمراكز الشيعة الأخرى: من المعلوم أنّ المراكز الشيعية المعروفة في العالم الإسلامي، والتي تأسست بعد الغيبة الكبرى الشريفة هي:

بغداد: وهي أول مدرسة كانت بادارة الشريف المرتضی وقبله الشيخ المفيد ثم الشيخ الطوسي وآخرين رحمهم الله جميعاً وجمعهم في جنانه مع النبيين.

النجف الأشرف: وهي المركز الأعظم الذي بقي منذ تأسيسه وحتى اليوم على رغم أحقاد الجهلة والظلمة والحاقدين، وهو الشمس المشرقة جوار المرقد الشريف لإمام العلم والعلماء أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. ولا ننسی أن مؤسس هذه المدرسة الصامدة شيخ الطائفة الطوسي (ت: ٤٦٠هـ).

الحلة: وهي الفيحاء التي تسلمت مرجعية مدرسة أهل البيت(ع) ايام المحقق الحلي (ت ٦٧٦) والعلامة الحلي (ت ٧٢٦هـ) ثم ابنه فخر الدين (ت ٧٧1) وآخرين كثر، وأصبحت العاصمة العلمية بحق، ففاح أريجها في الأرجاء، ومن هؤلاء العلامة ابن فهد الحلي (ت ٨٤1هـ) والفاضل المقداد السيوري (ت ٨٢٦هـ)

اصفهان: وهي مدرسة ومأوی آخر، برز بعد تأسيس الدولة الصفوية، وأنجبت الفطاحل من العلماء.

قم: وهي المدرسة التي كانت هي الأخرى الملجأ الذي نبغ فيه العلماء الكبار والفلاسفة والكلاميون وغيرهم.

جبل عامل: وهي واحدة من ابرز وأقدم الحوزات العلمية التي أشرقت أكثر من ثلاثة قرون تمد المجتمع بالعلماء. وكانت لها علاقات وثيقة مع مدرسة الحلة. فقد كان العلامة فخر الدين (ت ٧٧1هـ) وهو ابن العلامة الحلي وكذلك ابن أخت العلامة الحلي العلامة عميد الدين (ت ٧٥٤هـ)، وكذلك العلامة ضياء الدين، أساتذة للشهيد الأول M (٧٣٤- ٧٨٦هـ). أما العلامة الفاضل المقداد البدري، فكان من طلاب الشهيد الأول.

إن جبل عامل ما بين عام ٧٠٠هـ أو ٧٥٠هـ وحتى العام 1٠٠٠هـ كان من أبرز الحوزات الإسلامية الشيعية وكان خلال ثلاثة قرون نجمة بازغة في عالم الإسلام. وكان الحاقدون يضمرون لجبل عامل الحقد البالغ ويصفونه بـ (مأوی الرافضة، كما يذكر ذلك رضا بزركي في «تاريخ تشيع جبل عامل» عن مصدر آخر هو «مختصر تاريخ الإسلام للذهبي».

لقد انجبت هذه البقعة الطيبة فطاحل من العلماء نذكر منهم الشهيد الأول (ت ٧٨٦هـ)، علي بن يونس النبطي البياضي (ت ٨٧٧)، والمحقق الميسي (ت ٩٣٨)، والمحقق الكركي (ت ٩٤٠هـ)، والشهيد الثاني (ت ٩٦٥هـ)، والشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي، وسيد محمد حفيد الشهيد الثاني (ت 1٠٠٩)، والشيخ حسن ابن الشهيد الثاني (ت 1٠11).

ومن المؤسف أن العثمانيين وحكمهم الظالم المتعصب الطائفي كدر هذه البقعة المباركة بسبب تعنتهم الطائفي وتعصبهم البغيض، فتعاملهم الشرس دفع الكثير من علماء جبل عامل إلى الهجرة إلی إيران، حيث كانت الدولة الصفوية في أول تأسيسها. وفي هذه المرحلة من الزمن، بدأت وردة جبل عامل بالذبول، وأخذ ضوؤها يخفت ويقل زيته.

3 – الفقه الشيعي فقه مفتوح وفقه قوي

إن الصلابة التي يمتاز بها الفقه الشيعي علمياً، ووضوحاً في الدليل والحجة والسند، جعلته ينفتح علی كل المدارس الفقهية الأخرى، ولا يقاطعها ولا يتهيب من النقاش معها من أجل الحقيقة، سواء في عهد الأئمة المعصومين من أئمة أهل البيتR وحتى الغيبة الصغری، وهكذا كان العلماء المعاصرون لها، وكذا من جاء بعدها، إذ عرفوا بين الناسكمراجع يستفتونهم ويرجعون إليهم. وكان هؤلاء الفقهاء والمراجع دعائم قوية للفقه والفكر الإسلامي الشيعي الذي أصبح علامة للفكر الإسلامي الأصيل، وعلى رغم الظلم المتوالي من قبل الظلمة والطواغيت الذين كانوا يخافون الإسلام، الذي يمنعهم من تحقيق مآربهم، ولذا أوجدوا قواعد دينية يعتمدون عليها ومدارس يستندون إليها، تحرّف مفهوم ولي الأمر لينسب إلی الحاكم الظالم الفاسد المخترق لحدود الله والعامل بخلاف شرع الله سبحانه، وأمره موكول إلی الله تعالی. وهذا المفهوم لا يزال يحكم الغالبية العظمی، فيكون الظلمة واعداء الإسلام الآمرين بالمنكر والناهين عن المعروف، هم ولاة الأمر للمسلم، الذين لا يجوز أن يخرج عن أحكامهم. يحرمون الحجاب علی المرأة، كما في تونس وتركيا وحتى في مصر، حيث لا يوظفون المحجبة في قراءة الأخبار بالتلفزيون، ومذهب أهل البيت لا يجيز ذلك. يحكمون بالقوانين الوضعية المخالفة لأحكام الإسلام كالربا والزنا والخمور والمعاملات اللاشرعية والضرائب والعقود وغيرها.

حتى أن الكليات والمعاهد التي خطط لها الاستكبار العالمي، والذي يخاف الإسلام الأصيل، لا يسمح فيها بتدريس فقه أهل البيت بدعاوی مختلفة إلا في مجالات ضيقة. وقد سمعت من أحد الأساتذة في مكة المكرمة قوله: «يخافون من فكر الشيعة وفقههم لأنه سريع التأثير، وقد أطلق التحذير منه ومن كتبه، بحيث تدرس بعض النصوص من النصرانية المحرفة واليهودية والتلمودية البعيدة عن التوراة الحقيقية ولا يجرأوا علی تدريس فقه آل محمد P».

لقد حضرت مؤتمرات في لبنان والبحرين وقطر وأماكن أخری ودعوت إلی تدريس فقه أهل البيتR فكانوا يجيبون بأجوبة خجولة للغاية.

إن فقه الشيعة الأمامية يعمل بالكثير من أحكامه في بعض الدول، مثل: قوانين الارث والرضاعة وكذلك الطلاق. ومنذ مدة، صدرت فتوی متأخرة عن أحد علماء الأزهر بوجوب الشهادة في الطلاق. ونستطيع أن نلخص مظاهر القوة والانفتاح في فقه أهل البيتR الذي يسمی بفقه المذهب الامامي بما يلي:

  1. نظرية الابداع التي لازمت هذا الفقه الإسلامي العتيد الذي ظهر علی يد الأئمة الأطهار من آل محمدP، وكانوا المرجع الذي يرجع اليه علماء عصرهم ومن ثم من جاء بعد الغيبة من العلماء الأفذاذ الذين نهجوا سير الأئمة الأبرار بدءًا من ابن قولويه M (ت ٣٦٨هـ)، إذ ابتدأت مرجعيته عام ٣٢٨هـ.
  2. الجرأة وعدم المحاباة: لم يتردد أئمة أهل البيت R أو من جاء بعدهم من العلماء، في إظهار الحق وإبطال الباطل والتمسك بالثقلين العزيزين اللذين أوصی بهما رسول اللهP، كتاب الله وعترة أهل بيتهR، الأمر الذي عرضهم للملاحقة والقتل والنفي والسجن، فسقط كثير من العلماء قرباناً علی طريق الإسلام الحنيف، ومنهم الشهيدان الأول والثاني، فضلاً عن أئمة أهل البيتR الذي حوربوا من قبل حكام عصرهم. وفي النتيجة لم يستكن أحد منهم في سبيل إحقاق الحق، وإظهار شريعة المصطفی ناصعة.
  3. حركة الاجتهاد المتوقدة التي تعين الفقه علی نموه واستيعاب العصر الذي يعيش فيه، وعدم الجمود واجترار ما في التأريخ القديم أو القياس البعيد غير المنصوص، الأمر الذي أوجد فقهاً حياً شمولياً سالماً ومتجدداً.
  4. الانفتاح علی المدارس الفقهية الأخرى لاستنطاق حقيقتها ونقدها ومناقشتها والاحاطة بها، وهو الأمر الذي يجعل الفقه الامامي صاحب القيادة والريادة وعدم الانزواء والدوران حول نفسه، والتنفس الحر في الهواء الطلق. ولهذا وجدنا فقهاء هذه المدرسة الربانية يدرسون الفقه الآخر دون تردد أو خوف.
  5. عدم الارتباط بأي حكومة ظالمة مهما أبدت من مزايا سوی بالنصح والتعديل، وقد ظهر للواقع أن هذا الفقه فقهاً معارضاً للسلطة علی طول التاريخ، حتى قيض له الإمام روح الله الخميني{، ليضعه موضع التطبيق السياسي وفق المعايير الإسلامية.
  6. امتاز الفقه الإسلامي الشيعي بعدم العزلة، فهو يعيش وسط الامة وبين الناس، يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وما تحتاجه المصلحة الإسلامية. وكانت المرجعية الإسلامية في فقه أهل البيتR، حية في تطلعاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، ومنفتحة بشكل دائم علی كل الاوضاع والمتغيرات في الواقع الإسلامي، وبالتالي يجعل الفقيه وفقهه قادرًا علی ملأ الفراغ مهما كان حجمه.

المبحث الأول:

ميزات الطرح لدى الشهيدين الأول والثاني:

امتاز طرح الشهيدين السعيدين بمقومات حقيقية لابد من أمتثالها في كل بحث له قيمة علمية ورزانة بحثية. ومنها:

1 – القوة والرصانة العلمية

من يتصفح كتب الشهيدين، وان لم يشاهدهما، يستطيع أن يشخص ان هاتين الشخصيتين العظيمتين، حباهما الله تعالی من بدائع الذات ومن قوة ورصانة في الأسلوب العلمي المبدع الخلاق. وهذا لا يتأتی الا من وجود قلب منحه الخالق العظيم الحكمة والنور والبهاء والعقل القادر علی التوجه الحقيقي لالتقاط العلوم وتوجيهها نحو الطريق الرباني، وذلك لما كانا يشعران به من مسؤولية وأمانة الهية، في خدمة الرسالة الإسلامية.

لقد نبغ الشهيدان (رحمها الله تعالی) وأصبحا في زمانهما من أهل الريادة والإبداع في تتبعهما لفروع المعرفة والعلوم في فقه آل محمد P والعلوم المساعدة لذلك، اعتمادا علی مصدري الاجتهاد والتنظير وهما الكتاب والسنة الشريفة، حتى شهد لهما الداني والقاصي. ويكفي دليللاً على هذا، تدريس كتابهما الفقهي المتن والشرح في الحوزة العلمية لهذا اليوم [8].

وتأتي القوة والرصانة العلمية لهما من:

أ- الثورة علی الواقع الذي عايشاه وعاشاه سواء في المنهج العلمي المتبع آنذاك ونظام الدرس أو دائرة الفقه والاحكام، وعمل كل منهما ليكون فقيهًا لديه القوة في الإبداع. ولم يكن عندهما اختلاف يعتد به في الآراء الفقهية.

ب- عملا علی تأسيس منهج تدريسي مناسب لزمانهما، نظرًا للحاجة الماسة لطالب العلم بعد المستوی الابتدائي، بعيدًا عن التعقيدات أو إثارة النقاشات الفارغة، من أجل تحقيق أهداف الرسالة النبوية والمدرسة العلوية الإمامية.

ج- لقد وضع الشهيد الأول اسلوباً حفز الذين جاءوا من بعده، وأصبح أسلوب الشهيدين حلقة للانتقال بإبداع إلی صورة جديدة وأسلوب جديد، كما فعل العلامة محمد جواد مغنية والمرجع الشهيد الإمام محمد باقر الصدر وآخرون.

د- إنّ القوة والرصانة العلمية تتمثل في أهمية الموضوعات وتشخيصها، كالموضوعات الثابتة وغير القابلة للتغيير وموضوعات متطورة ذات حركة متغيرة. وكذلك المباحث التي يمكن الاعتماد عليها في معرفة المفاهيم. فمثلاً الشهيد الأول كان يعتمد «العرف» معيارا في تعيين المفاهيم العرفية واللغوية وفهم ظروف المصاديق الخارجية وأسبابها وموانعها، ولا يری ضرورة بحث المشرع عن الدليل. [9]. وقد شرح المسألة بشكل شيق.

٢ – الجرأة رغم الظروف القاهرة

لا شك أن الظروف التي عاشها الشهيدان في ظل حكم جائر ظالم آنذاك لا يسمح لأحد بالتعبير خلاف ما كان هذا السلطان الجائر يعتقده ويتبناه، وأن الخروج عن ذلك هو جرأة واضحة وشجاعة كبيرة. فقد سُجنا في سجون صدام حسين الرهيبة، حيث التعذيب الذي لا يستطيع أن يتحمله أحد، الا الذين باعوا اجسامهم لربهم جلت قدرته، وكان معنا أحد طلاب العلم، نظم قصيدة شعر للحاكم المستبد ليخلص بروحه، إذ كان مريضاْ ومتقدماً في السن ومريضاً بالسكري، وكان لشدة حاجته للتبول وعدم السماح له ولنا بالخروج، كان يبول في حذائه، فيملأ الفردتين حتى يأتي الوقت المخصص للخروج.

فالشهيد الأول وكذا الشهيد الثاني كانا يعلمان ماذا يريد الطغاة والظلمة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يؤثروا في عزيمتيهما، حتى ولو قليلاً من التأثير، وما فعله الطغاة كان لا يتجاوز رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. ولم يفلحوا امام هذا الصمود وقوة الطرح والجرأة المتناهية في بيان الحق والتعالي عن الباطل أو المهادنة.

ان العلماء هم وجدان الأمة وضميرها وهم القادة الحقيقيون لها. وكان الشهيدان يستنهضان الأمة من دون خوف أو تنازل أو خنوع.

٣- الطرح الموضوعي العام

لقد وردت تعاريف متعددة في الأعلم ومنها قول المحقق العراقي: «المراد بالأعلم من كان أحسن استنباطا من غيره، لكونه أقوی نظراً في تنقيح قواعد المسألة ومداركها وأكثر خبرة في كيفية تطبيقها علی مواردها»[10]. والسيد محمد كاظم اليزدي يعرفه بأنه «يكون اعرف بالقواعد والمدارك للمسألة، واكثر اطلاعا لنظائرها وللأخبار وأجود فهما للاخبار. والحاصل أن يكون أجود استنباطًا» [11].

والشهيدان - رحمهما الله - امتاز طرحهما بالموضوعية والواقعية الخالية من السلبيات التي لا يمكن لعالم رباني إلا أن يغرف منها.

ومن هذه السلبيات التي جافاها طرح الشهيدين:

أ- الابتعاد عن الفرقة، وقد كانا مثالاً حياً لذلك، لأنهما كانا متعاليين عن الفهم الخاطئ للدين والتاريخ. فالخلافات الفكرية عندهما هي اجتهادات خاصة لا تقود إلی الفرقة، وتعدد المدارس والمذاهب الفكرية هو تطوير للفكر الإنساني.

ب- الابتعاد عن الغرور. وهو طريق العلماء الربانيين الذين يعرفون أنهم خلقوا من التراب. والغرور مرض يجر العالم إلی اقتراف المنكر من دون ان يشعر.

ج- الابتعاد عن الانشغال بالسفاسف والفرعيات السطحية التي تجر إلی الحالة المأساوية. بل واضطهاد الآخرين.

د- الابتعاد عن الارتجال في طرح الأفكار والمفاهيم واطلاق الفتوی بعد دراسة المجتمع ومصلحة الدين وتوفر عوامل الاخوة والعزة والكرامة للاسلام ومجتمعه، الأمر الذي جعل من الطرح العلمي للشهيدين، طريقًا علميًا موضوعيًا له أهدافه الواضحة في علاج ما يحتاج إلی علاج.

٤- اللامذهبية لغير الحق

من أهم الموضوعات التي أمتازت بها مؤلفات وآثار الشهيدين (رحمهما الله)، هو الابتعاد عن التحزب المذهبي، خصوصًا وأن المحيط الحاكم لهما يتعقب كل صغيرة وكبيرة يمكن أن يتمسك بها هؤلاء الحاقدون للانقضاض علی كل ما يريدون، بل كانت الطروحات والمؤلفات داعية إلی الحق. كان الأصل في العملية هو«الإسلام»، وكان الشعار لهما هو «المستقبل للإسلام»، مثلما بشر القرآن بذلك: }وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ{.

فالذي يراجع كتابات الشهيدين لا يشم أي رائحة لطائفية أو تعصب أو تحيز لخلاف الحق، وهو ما أدی بهما إلی الاعدام ونيل درجة الشهادة العالمية، لأنهما كانا صاحبي هدف وبرنامج يضع الإسلام - والإسلام وحده - نصب عينيهما دون أن يكون للخوف أثر في نفسيهما، وبالمقابل شاهدنا الكثير ممن لبس لباس الدين وأطاع الحاكم طاعة عمياء، فقد وقع في قلب الخطأ والذنب وعلی مستويات عالية، فجامل هؤلاء الحكام، فنشرت آراؤهم علی علاتها، وهي تهدم في مسيرة الحياة الجهادية والهدف الإسلامي المشترك. بل كانا يؤمنان أن الصراع الشرعي والحقيقي هو مع اعداء الإسلام. وحتى في التعامل مع هؤلاء كان الحاكم هو أدب واخلاق الإسلام.

٥ – الثبات في المنهج

لو رجعنا إلی مبحث التمهيد الذي تحدثنا فيه عن شخصية الشهيدين، للاحظنا القوة والحذاقة في شخصيتهما، والتمييز بين الغث والسمين في اختيار علومهما، والابتعاد عن مواقع الخرافة واكاذيب الدساسين في التأريخ. وهما اتخذا القرآن الكريم الأصل الأول والأساس لمنهجهما مع العترة الطاهرة من سنة الهدی للنبي وأهل بيته الأطهار، الأمر الذي جعلهما يرسمان المنهج الاساس الذي لم يتغير لحذاقة تعيين المنهج هذا، والاصرار علی ثباتهما عليه. ويعود ذلك الی:

  1. اعتقادهما بأن الأمة تمتلك المقومات الحضارية الاصلية والقادرة علی تقدم الامة وتطورها، وافادة الإنسان أينما وجد، فضلاً عن التراث الإسلامي العظيم.
  2. الايمان بوجود القيادة الحكيمة للإسلام لقيادة الحياة، ومن ثم تحرير الإنسان المسلم مما هو فيه من تخلف وتراجع، وعدم بقائه مغلوباً.
  3. فهمهما السليم لظروف ومتغيرات الزمن الذي عاشا فيه، ولذلك كانا صلبين ثابتين في منهجهما في انتهاج طريق الحق من دون حذف او تلكؤ او تردد.
  4. ابتعادهما عن التوتر السياسي، وحرصهما على بيان الوجه السياسي الإسلامي الصحيح، وشروط الحاكم الإسلامي والسلطان الحاكم، وايمانهما بريادة الفكر الإسلامي وقدرته علی الثبات والصمود امام كل الافكار الواردة.

المبحث الثاني:

خصائص فقه الشهيدين:

على الرغم من عدم خلوه من النقد يمتاز بـ:

1 – القدرة والوعي

يعتبر فقه الشهيدين السعيدين في عصره من ابرز الحلقات الفقهية الامامية في فقه أهل البيتR للخصائص الجلية والعالية التي امتاز بها.

وحينما نقول القدرة: نقصد أن هذين العالمين أخذا بزمام الأمر بتدبر واقتدار لتحقيق بطولة رائعة قدمت ثمرة مباركة، ويرجع ذلك إلی انّ الحوزة الإسلامية بشكل عام وفي جبل عامل بشكل خاص أبرزت كلا العالمين الشهيدين لما يمتلكان من أهلية، واخلاص ومعرفة ودقة في التصرف وثبات في السلوك. وكان هذان العالمان كل في عصره قد أبديا جدارة وقدرة في طرح فقهيهما، في تلبية حاجة الناس والمجتمع لهما. لأن الاجتهاد لوحده غير كاف وانما لابد من توفر العدالة فيه وعدم الفرار من ثوب الحق، باعتباره عنوان الرسالة، وكذلك يجب ان يتوفر فيه الوعي الكامل، وهو ما كان متوفرًا لدی هذين العالمين الجليلين.

يعد الحكم المملوكي (٦٤٨هـ)، استمرارًا للعهد الايوبي الاسود، إذ اضطهد الشيعة في بلاد الشام ومصر، وضيق عليهم، وكان عهدهم من اقسى العهود، بسبب الغباء الاعمی والجهل المطبق، فكانوا يتخذون من فتاوی ابن تيمية المارقة، ذريعة للفتك بالشيعة، وإباحة دمائهم، الأمر الذي اضطر الكثير من الشيعة إلى الاحتماء في الجبال لحماية أنفسهم، وتظاهر البعض بالانتماء إلی المذاهب السنية للتخلص من بطش النظام اللاإسلامي، وهو ما جعلهم يعيشون الجهل نتيجة البعد والانقطاع.

في هذه الظروف الصعبة عمل الشهيد الاول على ان يكون بكمال الوعي ويتعامل بكامل الحذر ويطرح بقدرة متناهية أفكار الإسلام من دون التنازل والتخاذل والتراجع مع العمل بالدفاع والمحافظة علی المدرسة العاملية، ولذا عمل علی وصل جبل عامل بمدرسة الحلة في العراق، ونقل النتاج العلمي في الفقاهة والعلم والفكر إلی هناك، وكرّس مدرسة جبل عامل مدرسة للفقاهة والثقافة الإسلامية، مستفيدًا من الموقع الجغرافي الذي وهبها تحصيناً طبيعياً ليس للماليك قدرة علی اختراقه.

ولو لم تكن هذه القدرة والنباهة التي تميز بها الشهيد الاول لحدث ما حدث من مصائب، إذ إنها اقتصرت علی الشهيد الاول ليقدم نفسه ضحية لفقه رسول اللهP. بل وكان لهذا الاسلوب والتعاون مع العلماء الآخرين أهمية كبيرة، حفظت التشيع في بلاد الشام.

وكان من أبرز ملامح الوعي أن استحدث الشهيد الاول نظاماً خاصاً لجباية الخمس، وتوزيع العلماء في المناطق.

فقه الشهيدين تميز بالقدرة على البقاء والصمود لقوة السبك والمحتوی

لا شك أن المحنة تخلق الابداع والتجديد واستكشاف الحقائق، وهذا ما مكّن الشهيد الأول ومن بعده الشهيد الثاني، وتميز نتاجهما بصفة البقاء والصمود. واذا بحثنا في هذه الميزة نجد ان هناك ملاحظات مهمة انتبه اليها الشهيدان:

  1. تحديد المصلحة العامة، وهو أمر مهم يدخل في صلب وظيفة الفقيه والمتعلقة بتحديد المصلحة العامة، لا سيما حينما يواجه الفقيه تحديات مختلفة، سياسية او عسكرية او اجتماعية او ظروف طارئة. ويری الفقهاء المسؤولون ان هذا الزام علی الفقيه لما يمليه الحكم الشرعي، وهو (الفقيه) يحدد الضرورة المطلوبة من أجل مصالح المسلمين، وخصوصاً الفقهاء الذين يعيشون حركة الواقع الإسلامي، وعدم الالتفات إليها يعني تهديدًا للإسلام وهو الأمر الذي مارسه الشهيدان.
  2. معرفة الواقع المعاش. لأن موقع الفقيه يمثل الموقع المتقدم في حياة الأمة وموقفه يمثل الموقف الشرعي اللازم والمبرئ للذمة أمام الله سبحانه. وهذا ما جعل فقه الشهيدين يتناغم مع الواقع، الذي جعله فقها حيا فعالاً، فقُبل في الأوساط العلمية والأمة أحسن قبول، ليكتب له البقاء.
  3. انفتاحهما علی حاجات العصر التي تختلف عن العصور السابقة، إذ إن عصر الرسالة يختلف عما بعده لضيق الحاجة المطلوبة، فنری ان حركة الفقه اقل من عصر الشهيدين، فقام الشهيد الأول وكذا الشهيد الثاني للتجاوب مع حركية الفقه الشيعي بالذات واستجابته لحركة الواقع بكل ما يفرضه في السياسة أو الامن وحاجاتهما، والجهاد والحرب والسلم...الخ، وما تحتاجه هذه الفروع من أجوبة للتطبيق، بعد ان ساد نوع من الركود، اذا صح التعبير، كانت هذه الالتفاتة ذات اهمية بالغة في عدم تصلب الفقه بل اضفاء المرونة والحركية عليه، ليبتعد عن الجمود إلی القوة المرنة.

هذه الأمور مضافا إليها السبك التعبيري صارت صورة يمكن الاعتماد عليها لتحاكي العصر ولغة العصر المعاش آنذاك.

٣ – الابداع المحدود والنسبي في محيطهما

كان الشهيدان قادرين علی إيجاد الروح الجهادية. فالمرجع يمثل القائد للامة، ويقتضي الحال وجود عنصر الابداع، ولابد من قدرته علی التخزين للمتطلبات الثقافية، من أجل التأكيد علی سلامة الحياة الاجتماعية من كل جوانبها. ولابد من الحضور الكامل والانفتاح علی الخبرات، فيتحمل كل ما يتعلق في تفعيل الطاقات، وعليه مراجعة فقههم، فيطلق الابداع العلمي والثقافي، ويهيئ الاخلاق المستقبلة لها. وقد لمسنا وشاهدنا حقيقة الابداع، ولكنه كان في محيط العمل وكان نسبياً في محيط الافراد. وبطبيعة الحال، فإن هذا الأمر لا يضطلع به ولا يفكر فيه، الا الرياديون الذين يحملون المسؤولية من أجل تطور العمل. ولعل أبرز نقطة في هذا المضمار، هو التحديث والتطوير وتوجيه الامة وما يلائم العصر باستخلاص الحق والحكم المناسب لروح العصر. وهذا ما يسبغ علی الاحكام نظرة التجديد ومراجعة الذات، والوصول إلی الحكم الواقعي.

٤ – الاستقلالية في الطرح غير المذهبي ومدی العلاقة بين المذاهب

الذي يقرأ أو يدرس كتب الشهيدين يتراءى له أنهما أمضيا فترة من حياتيهما في دراسة علم النفس وعلم الاجتماع، وكذلك الأدب، ليكونا قادرين علی التذوق الفقهي من خلال سلامة التذوق الادبي في عرض الاسلوب الفقهي الخالي من التعرض لغيره ولمذهب أهل البيت، الا بمقدار المقايسة والمقارنة في بعض المسائل الضرورية.

فالطائفية لا تخرج عن كونها حالة لها جذور نفسية لا تنبع الا عن تخلق فكري وتعصب يعبّر عن الجهل وعدم الواقعية، بل هو أسلوب لم يتبع القرآن الكريم، لأن القرآن يطرح الحوار ودروس التربية في هذا المجال بشكل مستقل ورائع حتى مع خصومه الكفرة وغيرهم من أهل الكتاب. أما الذين يطرحون التهم الزائفة فهم لا يخرجون عن كونهم يحملون التعصب الاعمی الموروث الذي يتعارض مع العلم والحقيقة مهما كان ومن أين صدر، ومهما كانت درجة هذا الإنسان الذي يصدر عنه ذلك. وما التخرصات التي تصدر هذه الأيام وفي هذا الزمن بالذات، الا صيحات عليلة تناقض العلم وتصب في ما يريده العدو للإسلام. وعلی سبيل المثال ما طرح من فتاوی وهابية من جانب ما يسمی «علماء» - واعتذر أن يحملوا هذا اللقب الذي هو صفة الله سبحانه - في تكفير أكبر طائفة إسلامية من أتباع مذهب أهل البيتR. كذلك التخرصات التي صدرت من احد الواهمين في اتهامه لهذه الطائفة نفسها بالبدعة مرة والعمل لنشر مذهبها في بلاد سنية مرات، وكأن العالم أصم أو أبكم أو أعمی لا يسمع ولا يری. وهذا لا يصدر عمن يخاف الله سبحانه، فالعالم هو الإنسان الذي يتأمل بواجبه الرباني والشريف لأنه رمز الإنسانية.

كذلك فإن الطائفية يمكن ان تأخذ مسارات أخری، مثل الجدال الفارغ المستند علی أوهام وتخيلات لا أساس واقعي لها. بل هي صيحات اشبه ما تكون بتعصب قبلي. كالذي يتحدث عن عبد الله بن سبأ علی انه مؤسس المذهب الشيعي، وهو اسم ليس له وجود حتى في عالم الاحلام. وهو مسار يحضر له في الدوائر البعيدة، ويصل به إلی الخطيب المهيأ له، ليبثه بين الناس لتكريس الخلاف، وهو أمر لا يتورط فيه إلا من انسلخ عن حمل الهم الرسالي الإسلامي. ويعيش هؤلاء لانفسهم فقط مع رياء يجاملون به الآخرين، وحبلهم لا محال قصير وقصير جداً.

وحينما نعود إلی شهيدينا السعيدين نجد أن طرحهما امتاز بالتعالي عن كل صور المذهبية، بل نجدهما قد درسا الفقه الآخر ودرّساه لأصحابه أو لغيرهم، بل وشاهدنا الشهيد الأول يأخذ أجازة في الحديث ونقله من علماء أهل السنة.

إن أسلوبهما اسلوب اسلامي مستقل، في دائرة العلم والدليل والبرهان من دون المساس أو التعرض لأي من الاجتهادات الأخرى، بل ان الاسلوب العلمي الذي أتبعاه هو نفسه الذي يمتثله علماء أهل البيت R، والذي تعلموه من أئمة الهدی والرسالة.

إن الشهيدين اعتمدا التفسير المتفق عليه والأحاديث المقبولة في شق طريقهما. كحديث الثقلين،كوسيلة لمعالجة أي خلاف من جهة، ومن جهة أخری الطريق الاخلاقي- الإسلامي في التسامح والمحبة والمودة.

وبإيجاز يمكن تلخيص فقه الشهيدين بما يلي:

  1. استند فقه الشهيدين علی بيان الدليل والحجة التي اعتمد عليها، علی شكل فقه شبه استدلالي في المسائل المهمة التي تحتاج إلی توضيح.
  2. اعتمد فقه الشهيدين روح التقريب بين المذاهب الإسلامية، من أجل توثيق أواصر الوحدة وايجاد رابطة المحبة والمودة بين ابناء الملة الواحدة، وطرح الكثير من قضايا التقريب العملية، مع ذكر معالجات تتراوح بين التمسك بأدب الخلاف والروح الاخلاقية الإسلامية، ونبذ الجوانب النفسية السلبية التي تخالف الاسلوب الإسلامي. كذلك نبذ اطلاق الاتهامات الباطلة، وأن الدليل والحجة يجب أن تتبنی من لسان اصحابها وليس ما يشاع عن ذلك كذباً أو مشوشاً.
  3. تبنی فقه الشهيدين الجنبة العلمية في طرحه وسرده سواء بالشكل الحواري أو الدفاع عن الرأي بموجب الحقائق العلمية وبأسلوب علمي وبأسلوب محترم لا يسيء إلی المقابل. ولعلنا نذكر عن مستواهما العلمي وعظم شخصيتهما ما قاله الشيخ الانصاري حينما سئل: لماذا لم تمنح احداً درجة الاجتهاد؟ قال: لم يحصل لدی القطع باجتهاد أحد من العلماء الا باجتهاد الشهيد الأول. ويضيف صاحب موضوع «تسلسل المرجعية منذ الغيبة الكبری حتى الآن» [12] معللاً حديث الشيخ مرتضی الانصاري بقوله: «وقال بعض العلماء في تفسير كلام الشيخ الانصاري: لعله كان يری المجتهد الجامع هو الذي يجمع إلی الاجتهاد في البحوث الفقهية – الاجتهادية اجتهادا في مقدماتها، أي في الصرف والنحو والمنطق والكلام والتفسير والأصول، وإذ لم يجد أحدا بهذه المواصفات فانه لم يمنح أحدا درجة الاجتهاد».
  4. تطرق فقه الشهيدين إلی فقه المذاهب الأخرى، ولا أخفي أمرًا من أن الشهيد الأول «أحرز الاجتهاد في البحوث الفقهية وفي مقدّماتها «الصرف، النحو، المنطق، الأصول..». علی المذاهب الخمسة «الامامية الاثنی عشرية، الحنفية، المالكية، الحنبلية، الشافعية»، ولم يتسنَّ هذا الأمر لأحد غيره من علماء المسلمين»[13]. كما زار الشهيد الأول كثيرا من المراكز العلمية في العالم الإسلامي وشارك أهل السنة في محافلهم الكبرین ودرس كثيرا من كتبهم العلمية، ونقل عنهم. فهو يقول في اجازته لابن الخازن: «قابلت أربعين عالما من كبار علماء أهل السنة في مكة والمدينة ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام ابراهيم الخليل، ورويت عنهم» [14].
  5. فقه الشهيدين فقه تميز بالعمق والشمولية والسلاسة والسهولة في الاسلوب والدقة في المحتوی فكتاب اللمعة الدمشقية للشهيد الأول، وشرحها للشهيد الثاني، تجلت فيه هذه الظاهرة. وحتى كتب الشهيد الأول ومؤلفاته مثل «الذكری» و«الدروس الشرعية في فقه الامامية» و«غاية المراد في شرح نكت الارشاد» وكتاب «القواعد» وغيرها.
  6. بعض الآراء متلازمة فيما بينهما كما في ذكر المسائل ذات الاهمية والمطلوب بيان الرأي الواضح فيها. مثل مسائل الولاية، ومسألة الخمس،ومسألة صلاحيات الفقيه. وأمثال ذلك.فالشهيد الأول وكذلك الشهيد الثاني اظهرا رأيهما في ذلك وتبنيا الرأي القائل بأن للفقيه صلاحيات واسعة [15] ومعهما كثير من أعاظم الفقهاء كالشيخ المفيد في مقنعته والشيخ الطوسي في نهايته وابن البراج في «المهذب» في سلسلة الينابيع الفقهية الجزء السابع وابن حمزة في «المراسم» وآخرين كثر. كذلك الحال في حكم الحاكم في احياء الأرض حينما يهمل شخص أرضا في حيازته ولم يحيها فانه يجوز للامام أن يجبره علی أحد أمرين: اما الاحياء او رفع اليد عنها، فقول الشهيدين الاول والثاني هو الحكم باخراجه منها، معللين ذلك كما الآخرين «بقبح تعطيل العمارة التي هي منفعة الإسلام» [16].

وكذلك في كثير من الأمور الاقتصادية وايضا في التفريق بين الحكم والفتوی ومساحتهما ومواقعهما. وهل الحكم والفتوی بمعنی واحد؟ أم بمعنيين واذا كانا بمعنيين فما الفرق بينهما؟ وماهو الحل في حال تزاحم الحكم والفتوی؟، فكان البيان الذي أظهره الشهيد الأول مدعاة للفخر حينما قال M: ان الحكم من باب الإنشاء بينما الفتوی اخبار عن حكم الله وهذا هو الفرق بين الاثنين. ثم يضيف الشهيد الأول بقوله: الفتوی هي اخبار الفقيه عن الحكم الالهي في الأمور المادية والمعنوية. بينما الحكم هو الأمر الذي يصدره الحاكم بشأن من الأمور العامة للناس. ومخالفة الفتوی جائزة لذوي الخبرة، وليس لأحد أن يمنعهم منها. فعلی سبيل المثال حين يفتي فقيه بنجاسة الدم الموجود في البيضة مثلاً. يجوز لفقيه آخر أن يفتي بطهارته، بل يجوز للمقلد أن يخالف فتوی المجتهد ويرجع إلی مجتهد أعلم وأورع ولكن لا يجوز نقض الحكم، لأنه يحدث اختلالا في النظام. كما أن الشهيد الأول M لا يری مانعا من مخالفة المجتهد أو المقلد للفتوی، لأن المجتهد غير ملزم باتباع مجتهد آخر. وايضا يجوز للمقلد الرجوع إلی مرجع آخر، بينما الحكم لا يجوز نقضه لانعقاده بشأنه أمر مخصوص لرفع الاختلاف فيه. فاذا استطاع حاكم آخر نقضه، جاز لثالث أن ينقض حكم الثاني وهكذا فلا يعود ثمة استقرار للاحكام، وهو أمر يتنافی مع المصلحة التي أرادها الشارع المقدس بنصب الحاكم، وهي تنظيم شؤون المسلمين [17].

المبحث الثالث:

فقه الشهيدن يملأ الفراغ الزماني حيث:

1– الركود الفكري آنذاك

إن الفكر المتحرك والثقافة العلمية البعيدة عن الخرافة والأساطير وما لا ينفع الا للتفكه هو الذي يبني الحضارة، وان التراث السليم هو جزء من قوة البناء الحضاري المعاصر. ولكن لا يعني عدم وجود تراث حضاري اليأس من البناء الجديد للحضارة بل يمكن الاعتماد علی حضارات أخری من ملل وأمم أخری كما عملت الحضارة الأوربية باعتمادها علی الحضارة والعلوم الإسلامية وأفادت منها بعد عصر الترجمة الذي استمر أكثر من قرنين ومع الأسف لا تزال الكثير من المخطوطات الإسلامية لم تر النور والذي يعد ظلماً للتراث الإسلامي والعربي، فقد قدرت المخطوطات العربية والإسلامية في تركيا في مدينة اسطنبول بـ(مليوني) مخطوط تنتظر من يقلبها وينقذها.

وحينما نرجع إلی فكري الشهيدين الأول والثاني نجد مدی الاهتمام الكبي،. والتوجيه الرائع حتى في مباني وأصول التدريس والتعليم. فالشهيد الثاني زين الدين أحمد العاملي M ألف كتابا بعنوان «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» يبين فيها طريقة التربية والتعليم وآدابها.

الأمر الذي نريد أن نقف عنده، هو أن رقی الإسلام ونموه وصعوده علی مختلف الاوجه يخضع إلی المرجعية التي تقوده وتحنو عليه وتعصر حياتها من أجله بلا كلل ولا ملل، ويجفو اللامبالاة جانباً لأن اللامبالاة من قبل المرجع تعد خيانة إذا كان هذا المرجع متصدياً للمرجعية، وعلی الامة أن تأخذ الموقف المناسب منها لتعطی الراية إلی المؤهل الشجاع والحريص علی مدرسة أهل البيتR. فاللامبالاة والتسويف ضياع للمدرسة والحوزة وعلوم الإسلام الأصيل. وعلی رأس ذلك الدراسات الدينية وتحمل اعبائها واكتشاف المجتمع وحاجاته وارساء المجتمع علی أخلاق الإسلام في العدل والتقوی.

فمنذ الغيبة الكبری وخط أهل البيت يواجه الصعاب والمحن بقادته العلماء ويتصدی لكل الآلام بروح الصبر والمثابرة وصد ما زرع بنو أمية من أساليب المكر والكذب والسخرية والافتراء علی هذا الدين العظيم الذي لا زالت وحتى هذا اليوم على رغم التباين. لماذا يقدس بعض المسلمين حكام بني أمية وهم ملوك اسقطوا خلافة الرسولP والخلافة الراشدة. وإني أسأل أيًا من الذين يدافعون عنهم: هل يمكن أن تقيس بني أمية بالخلفاء الراشدين؟

إن المرجعية الإسلامية كانت ولا تزال الحصن الأمين والمتبع الذي يلوذ به المسلمون عند ما تقصف رياح الازمات، وكان الاهم هو وجود الحوزة مضيئة بالعلماء الواعين والعمل علی ابعاد المتحجرين منهم، الذين همهم الوحيد التقاعس وتثبيط الآخرين، لأن القائد المرجع لابد أن يتحلی بالشجاعة والقوة، وليس بالتخاذل الذي يعطي علی المتخاذل صفة التزييف ومن ثم تشويه المرجعية وابتلائها بالخلاف والشقاق الذي يسوقه الضعفاء والحساد، ويثيرون الضجة بين سواد الامة التي تجتر ما تسمع ويخيم الصراع الداخلي لأمور ونزوات شخصية يلبسونها لباس الدين والخرافة.

فالشهيدان (رحمهما الله) انتفضا في عصريهما من أجل تجنب هذه الأمور والتغلب عليها وعدم التكاسل والفتور في الحوزة بسبب الأخطار التي كانت محدقة من كل جانب، سواء في الوضع السياسي الحاكم والافتراءات ضد الشيعة وفتاوی ابن تيمية الظالمة ضد الشيعة حقداً وافتراءً وتلفيقاً وابتعاداً عن الحقيقة والواقع.

انتفض الشهيدان ليظهرا حقيقة الكيان الإسلامي الواعي والأصيل من أنه لم يكن الشهيد الأول بغاف بل حذراً ومحتاطاً من أعدائه. وكذا الشهيد الثاني، متأسيين بامامهم الإمام أمير المؤمنين Q حينما يقول:

«والله لا اكون كالضيع تنام علی طول اللدم حتى يصل اليها طالبها ويختلها راصدها..». [18]. إذ إن العدو يترصد نقطة الضعف ويستغلها حتى يظفر بعدوه.

فعلی الرغم من أن شجرة المدرسة المحمدية العلوية لم يقف نموها، لكنها ولشدة الظروف أصيبت بنوع من التلكؤ سيما بعد الغزو التتري والتضييق المملوكي ومن ثم العثماني التعيس الذي لم يحكم الا بالقوة والحقد الاعمی. إنّ الله سبحانه لم يترك هذه الطائفة المؤمنة في ساحة الاعداء، بل يأتي في كل مرة بمن ينقذ المدرسة المحمدية الاصيلة، من ذوي الفضل والقوة والشجاعة والعلم والمعرفة، أو ايجاد مأمن للثلة الصالحة من العلماء،كدول البويهيين والحمدانيين والصفويين، ونواب من أجل الحفاظ علی قوائم البناء الذي بناه ثلة صالحة.

كما صار في بعض البلاد نضوب في وجود العلماء ومدارسة الاحكام، ففي خراسان كان هناك كيان ينقصه التوجيه العقائدي السليم، فما كان الا أن تتوجه الانظار إلی محمد بن مكي ليتولى الهداية والارشاد في هذا الكيان المسمی بـ «السربداريين»، وبالضبط في زمن الحاكم علی بن المؤيد، الذي أرسل رسالة إلی الشهيد الاول محمد بن مكي يقول فيها:

*+,-

سلام كنثر العنبر المتضوع

يخلف ريح المسك في كل موضع

سلام يضاهي البدر في كل منزل

سلام يضاهي الشمس في كل مطلع

على شمس دين الحق دامت ظلاله

يجد سعيداً في نعيم ممتع

«آدام الله تعالی مجلس المولی الهمام العالم العامل الفاضل الكامل السالك الناسك رضي الاخلاق وفي الاعراق علامة الفارق بالحق، حاوي الفضائل والمعالي حائز قصب السبق في حلية الأعاظم والأعالي وارث علوم الانبياء والمرسلين محيي مراسم الأئمة الطاهرين، سر الله في الارضين مولانا شمس الملة والدين مد الله أطناب ظلاله، بمحمد وآله من دولة راسية الأوتاد ونعمة متصلة الامداد إلی يوم التناد وبعد فالمحب المشتاق، مشتاق إلی كريم لقائه، غاية الاشتياق وان يمن بعد البعد بقرب التلاق... الخ» إلی أن يقول: «وانا لانجد فينا من يوثق بعلمه في فتياه، يهتدی الناس برشده وهداه فهم يسألون الله تعالی شرف حضوره والاستضاءة بأشعة نوره والاقتداء بعلومه الشريفة والاهتداء برسومه المنيفة واليقين بكرمه العميم وفضله الجسيم ان لا يجيب رجاءهم ولا يرد دعاءهم بل يسعف مسؤولهم وينجح ما حولهم اذا كان الدعاء لخير محض علی أيدي الكريم فلا يرد. قال الله تعالی: }يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ{. ولا شك اولی الارحام بصلة الرحم الإسلامية الروحانية واحری القرابات بالرعاية القرابة الايمانية ثم الجسمانية...»، ثم يختم الرسالة بتوقيع المحب المشتاق علي بن المؤيد. لكن الشهيد الأول لم يتردد في الموضوع في عدم الاستجابة لدعوة علي بن المؤيد لان وطنه اشد حاجة اليه، فكانت كتابات هذين الشهيدين من الكتب التي أسعفت الحياة العلمية حتى اليوم. وقد نقل صاحب كتاب «تاريخ العراق بين احتلالين»، الاستاذ العزاوي «ان محمد بن مكي كان عارفاً بالاصول والعربية. فشُهد عليه بالانحلال في العقيدة واعتقاد مذهب النصيرية واستحلال الخمر الصرف فضربت عنقه بدمشق في جمادى الأولی وكان M ثابتًا علی عقيدته. لكن علماء السوء حرضوا علی القتل حسدًا لنبوغ محمد بن مكي».

وحتى في زمان الشهيد الثاني كان المجتمع العلمي بحاجة إلی قوة تدفع العلماء للاستزادة.

وكانت مؤلفات الشهيدين بحق، حلقة في تأريخ الفقه الإسلامي العريق المتمثل بأئمة أهل البيتR وخلفائهم من بعدهم من العلماء الربانيين السائرين علی خطاهم.

٣ – العصر الخانق

لقد كان العهد الذي عاش فيه الشهيد الأول عصراً خانقاً، إذ كانت دولة المماليك التي ورثت حكم الايوبيين بعد نجم الدين أيوب الذي كان زوجا لامرأة أرمنية من الماليك والتي اشتهرت فيما يعد في الـتأريخ باسم «شجرة الدر» حيث أرسلها الحاكم العباسي المستعصم من بغداد إلی نجم الدين أيوب في القاهرة وظلت في بلاطه بين العبيد إلی أن أعتقها بعد ذلك وتزوجها، وتعد مؤسسة دولة المماليك بعد موت زوجها نجم الدين أيوب وقبضت علی زمام الأمور واستدعت ابن زوجها توران شاه الذي كان غائبا عن مصر حين وفاة والده واعلنته خليفة لأبيه وكانت تتأمل أن تسيطر عليه لكنه تمرد عليها فأستعانت بزعماء المماليك البحرية وقتلوه وأعلنت نفسها ملكة مصر وتلقبت بألقاب عدة، ولكن حدثت ضجة أن تكون هي الملكة فتزوجت من الأمير عز الدين أيبك المملوكي وراحت تحكم من وراء زوجها بعد أن حكمت مباشرة ثمانين يوما واستمر حكم دولة المماليك الأولی (1٣٢) سنة أي من (٦٤٨ – ٧٨٤هـ) (1٢٥٠- 1٣٨٢م) اما دولة المماليك الثانية في مصر فبدأت من عام ٧٨٤ بالسلطان الظاهر (برقوق) الذي استشهد في عهده الشهيد محمد بن مكي (ره)، وعرفت هذه الدولة بالبرجية وبالشركسية تميز أمن الدولة الأولی المسماة بالبحرية، إذ أقدم السلطان المملوكي قلاوون ابتداء من سنة ٦٨٠هـ / 1٢٩1م على تجميع جماعات من المماليك الشراكسة واسكانهم في ايران القلعة ومن هنا أخذت الدولة اسمها. وعند موت قلاوون كان عدد المماليك الشراكسة لا يقل عن ثلاثة آلاف وسبعمائة مملوك. ثم جاء بعده ابنه الاشرف خليل وبقيت قوة الشراكسة قوة عسكرية يحسب لها الحساب. ثم استمرت سلطة المماليك علی عهد برقوق الذي عاد ثانية بقوة الشراكسة حيث استمرت له بين (٧٩1 – ٨٠1هـ)، فكانت أحداث مريرة وصعبة للغاية. وفي خضم هذه الظروف قتل الشهيد الاول بالسيف عام ٧٨٦هـ ثم صلب ثم رجم بدمشق في دولة بيدمر وسلطنة برقوق بفتوی القاضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة الشافعي بعد ما حبس سنة كاملة في قلعة دمشق. وقيل أنه M الف اللمعة في السجن في ٧ أيام وما كان يحضره من كتب الفقه الا كتاب «المختصر النافع». ان سبب حبسه وقتله أنه وشی به رجل من أعدائه وكتب محضرا يشتمل علی مقالات شنيعة، وشهد بذلك جماعة كثيرة وكتبوا عليه شهاداتهم وثبت ذلك عند قاضي صيدا ثم اتوا به إلی قاضي الشام فحبس سنة ثم أفتی الشافعي بتوبته والمالكي بقتله فتوقف في التوبة خوفا من ان يثبت عليه الذنب وانكر ما نسبوه اليه. فقالوا: قد ثبت ذلك عليك وحكم القاضي لا ينقض والانكار لا يفيد فغلب رأي المالكي لكثرة المتعصبين عليه فقتل ثم صلب ورجم ثم أحرق قدس الله روحه.

أما تأليفه لكتاب اللمعة فمنهم من انكر تصنيفه الكتاب داخل الحبس كما صرح بذلك الشهيد الثاني (ره) بقوله «وما جاء في أمل الامل من أنه صنف اللمعة في الحبس غير صحيح مما سمعت أنه صنفها بالتماس الاوي» كان تصنيفها لسلطان خراسان سنة ٧٨٢هـ.

هكذا عاش الشهيدان الأذی والألم.

٣ – الكلاسيكية في الفقه المعاصر لهما

لا شك أن العلوم وتدريسها ينبغي ان تتلائم وتتناغم مع الظروف والعصر الذي يعيش فيه الفقه. ولا اذيع سراً بأن المعارف الإسلامية مرت بمرحلة تأصيل لها قبل عصر الطوسي حين قامت علی «الاجتهاد» [19]. وكانت في مرحلة تأسيس وتتميز أنها جاءت تحت ضغط الحاجة اليها وكانت ترتفع مرة وتنخفض اخری تبعاً لضغط الحاجة اليها، التي تقرر تضييق الدائرة او توسيعها والاهتمام بها.

وكانت المدرسة الإسلامية الشيعية تحفل بالكثير من الامور لكن في دوائر غير رحبة. لكن مجيء الشهيد الاول والشهيد الثاني رفع التنظير الفقهي وتخطيطه ومنهجيته فأخذ فقه الشهيدين طابع الحياة أو الحيوية. فامتاز فقه الشهيدين (رحمهما الله):

  1. تعميق المحتوی والمضمون في الدراسات الفقهية
  2. رعاية المسائل المتعلقة بالتقريب والوحدة
  3. مواكبة مقتضيات الزمان وهي مهمة جدا في التشريع
  4. التماس الدقة في الكلام في فقه الشهيدين
  5. العمل ما أمكن للخروج من الكلاسيكية في الفقه والعلوم الأخرى
  6. تقوية عنصر التبليغ رغم كل النصابات.

وفي الحقيقة أن فضلا كبيرا افادت منه دراسات وكتابات الشهيدين ٍ(رحمهما الله).

المبحث الرابع:

1 - اثر فقه الشهيدين في عصرهما

من الطبيعي أن الحضارة والمدنية هي نتاج افراد وجماعات متعاقبة، المرحلة التالية تعتمد على سابقتها والمرحلة الأولى تكون أساساً لما بعدها. وهي سنة وبديهة في كل العلوم. فأوروبا لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم إلا بعلوم المسلمين التي ترجمت إلى لغاتها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والاسبانية وغيرها. وما الرياضيات في الوقت الحاضر والتقدم الهندسي والعمراني وعلوم الحياة والطب والصيدلة إلا اكمالاً لمسيرة العلوم الإسلامية.

وفقه الإسلام هو الآخر يقع في هذا الباب حيث أسس الفقهاء الأقدمون وصنفوا فجاء من جاء بعدهم ليكمل المسيرة ولذا سنتكلم في هذا المبحث بما يسمح به الوقت حول أثر فقه السلف وبالخصوص فقه الشهيدين السعيدين الأول والثاني على حركة الفقه المعاصر.

2 - اثر فقه الشهيدين في تاريخنا المعاصر

الذي يقرأ تأريخ الفقه الشيعي المأخوذ عن أئمة أهل البيتR والشامل رواياتهم ونقلهم عن جدهم النبيP يرى أن الفقه الامامي استمر ما يقارب ثلاثة قرون معتمداً على النقل مباشرة عن أئمة الهدىR من دون واسطة، وهكذا تأسست المدارس الإسلامية. فالإمام محمد الباقرQ أول مدرسة كانت له في بث العلوم الدينية وغيرها. وكانت المدينة المنورة الحاضنة لهذه المدرسة وكان لها الأثر البالغ بين المسلمين وطلاب العلم، علی الرغم من الاجواء العدوانية المتمثلة بالحكم الأموي الجائر. ثم جاء بعده ابنه الإمام الصادق الذي أسس بحق أول جامعة إسلامية تخصصية [20]. إذ استحدثت أقسام العلوم التجريبية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلسفة وعلم الكلام والفقه والحديث وغيرها. ثم بعد الغيبة الكبرى بدأت المرجعية الإسلامية الدينية بيد الفقهاء الأعاظم العدول الذين هم في الواقع خلفاء الإمام المعصوم الغائب أرواحنا له الفداء. وقد مر الفقه بأدوار مختلفة بدءًا بـفقه مرجعية الشيخ ابن قولوية وعصره ثم فقه الطوسي ثم فقه الشهيدين ومن ثم الفقه المعاصر.

والحقيقة نقول ان لفقه الشهيدين الأثر البالغ في تاريخ الفقه الإسلامي الأصيل، لاسيما اذا عرفنا ان دورات الفقاهة والمرجعيات كانت متباعدة في ذلك الوقت.

وهنا يمكن أن نوجز هذه الآثار بما يلي:

  1. كان لفقه الشهيدين الأثر الفعال في إعداد المنهج الفقهي بشكل فهرست واضح وإن وجد من قبل ولكن ليس كالوضوح الذي جاء به الشهيدان في التبويب والفهرسة والمنهجية. وقد أصبح هذا الطريق صورة أفادها من جاء بعدهم سواء في عصرهم وكذا طلابهم كالشيخ المقداد السيوري M في تبويبه لكنـز العرفان في فقه القرآن وآخرون غيره.

وفي العصر الحاضر بقي المنهج. ونحن نستطيع أن نقول إن فقه الشهيدين حلقة رائعة وقوية تربط الفقه الإسلامي الاصيل، وقدمه في هذا الثوب الجميل موضوعياً ومنهجياً وتصنيفاً.

  1. اعتماد التغيير المصطلحي والتأصيل لهذا المنهج: إذ إن هناك الكثير من المصطلحات التي أيدها العرف أو ما كان في المجتمع من أعراف واقعية حية فسرت بعض المصطلحات علی ضوء ذلك. كما في مثال مصطلح الولاية والحكم والفتوی وغيرها وهي آراء اتضحت بشكل رائع في فقه الشهيدين.
  2. المناقشات في طرح عناصر الفقه وطرح الأدلة القانعة التي تعتبر بحد ذاتها أمورا مهمة في البيان والتوضيح.
  3. الشمولية في الطرح الفقهي وذلك بالحديث مفصلاً عن بعض الجوانب التي تتعلق بالسياسة والحكم والاقتصاد والضرائب. إذ مرّ عليها الفقهاء السابقون بشكل سريع بسبب عدم الحاجة الماسة لها حيث لا يوجد جهاز حاكم أو حكومة إسلامية كطرح نظرية ولاية لفقيه، ومسائل الجهاد وأنواعه وحكم الأسری والحرب وغيرها. وهو ما مهد لعلماء جاؤوا بعدهما أن يقدموا البحوث المعمقة في ذلك.
  4. التوسع بالفقه التبليغي والتأسيس له سواء عن طريق التدريس والزيارات العلمية والاجازات أو عن طريق الارشاد والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وتحديد الموضوعات التبليغية وقد ذكرنا رسالة الشهيد الثاني في التربية والتعليم التي تعتبر بحق درسا لبيان الاسلوب الإسلامي في التبليغ.
  5. فقه الشهيدين يؤسس للأمل والتفاؤل للمستقبل دون بؤس أو شقاء أو يأس مادام الارتباط مع الله سبحانه جلت قدرته فلا بقاء لظالم.
  6. الانفتاح علی الحوزات العلمية الأخرى والتلاقح الفكري والعلمي والبحث في التجديد وطبقا للمصاديق المتوفرة في المجتمع. وعدم الاهتمام بالأزمات لحد الجلوس وانتظار المستقبل الأحسن بل التوكل علی الله ونشر الحقيقة بلا ريب او وجل بعنوان التحدي وهو ما أخذاه وغيرهما من سلوك أهل البيتR وتحديهم لكل العوائق والمنقصات.
  7. العمل علی تطور الفقه ضمن الموازين الشرعية والحاجة المطلوبة وهو ما أسس لغيرهم ممن جاء بعدهم من الجرأة والقوة في التجديد والنظر بالهياكل والقواعد الماضية حتى لا تصبح كما في المذاهب الإسلامية الأخرى جسورا حديدية صلبة لا يمكن مخالفتها او الاجتهاد مقابلها. ومع الأسف هو ما وقع قيد الكثير من المذاهب الإسلامية كما في مدرسة ابن تيمية الذي يؤمن اتباعها لحد اليوم بالكثير من اللاواقعيات وغير الحقيقية. فكانت مدرسة أهل البيت R قد أعطت الحرية للنصوص في عملية الاجتهاد وأصولها وتوسيعها وتأصيلها بدلا من غلقها كما فعل الآخرون. ولهذا فقد جاء فقهاء عظماء جددوا وعدلوا، كالمشروع الإصلاحي للشيخ كاشف الغطاء في النجف الاشرف عام 1٣٥٠ وما بعد الذي يعتبر بحق بداية وتخطيط رائع. وقبله مشروع الشيخ الأعظم الشيخ محمد رضا الظفر رضوان الله عليه في الدراسات الفقهية والاكاديمية وكان له صدی عميق وواسع لا يسمح الوقت للدخول فيه.

كذلك مشروع الإمام السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه)في المرجعية الرشيدة وكذلك الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وغيرهم ومن ذلك أيضا الحديث عن الفكر الاصلاحي في الحوزة.

  1. فقه الشهيدين كان حلقة متنقلة بين الحوزات العلمية في جبل عامل والنجف الاشرف والحلة وإيران وغير ذلك.

بهذا نسأله تعالی أن يوفقنا لأداء ما علينا من حق لهذين العلمين الهمامين الشهيدين، وأن يجمعنا جميعاً في الجنة وينصر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

[1](*) أستاذ جامعي وباحث إسلامي / جامعة آزاد اسلامي – طهران

[2]- راجع كتاب أعيان الشيعة كذلك كتاب أمل الآمل في ذكر علماء جبل عامل – الحر العاملي. 1/1٥، ويذكر ذلك صاحب الذريعة.

[3]- دائرة المعارف – التشيع 1٠/٤٠٤.

[4]- كتاب الذريعة ٥/٢٢٥.

[5]- دائرة المعارف - المصدر السابق ص 1/٣٠٩.

[6]- لسان الميزان. 1/ ٣٦٠ وكذلك في (سفرنامه) ناصر خسرو.

[7]- يراجع بحثنا «خمس مدارس إسلامية في التأريخ».

[8]- ولو أن الواقع يفرض أن يجدد الكتاب بما يحتاجه المجتمع والواقع المعاشر حيث أن الكتاب مضی عليه أكثر من خمسة قرون وقد تساقطت الكثير من مصاديقه في الزمن الحاضر.

[9]- القواعد والفوائد – محمد بن مكي العاملي ج 1/ 1٥٠.

[10]- وسائل الشيعة، الحر العاملي. ج 18/ ٨٤.

[11]- العروة الوثقی، السيد محمد كاظم اليزدي. مسألة 1٧.

[12]- الموضوع للشيخ محمد ابراهيم الجناتي نشر في كتاب آراء في المرجعية الشيعية لمجموعة من الباحثين صفحة٥1٠، صدر في بيروت عام 1٤1٥ - 1٩٩٤.

[13]- آراء في المرجعية الشيعية – مصدر سابق.

[14]- آراء في المرجعية الشيعية – مصدر سابق.

[15]- رأي الشهيد الأول في كتاب «الدروس» صفحة 1٦٥ ورأي الفقيه الشهيد الثاني حول المسألة في كتابه M «مسالك الافهام» ج 1 ص ٤٨ - ٥٤.

[16]- جواهر الكلام ج ٣٨، ص ٥٩ – وشرائع الإسلام ج ٣ ص ٢٧٥.

[17]- القواعد والفوائد – شمس الدين محمد بن مكي العاملي (الشهيد الاول) ج 1 ص 1٢٣- 1٣٢.

[18]- راجع نهج البلاغة خطبة رقم ٦.

[19] المعالم الجديدة للأصول – الإمام الشهيد محمد باقر الصدر ص ٣٥.

[20]- أنظر بحث الكاتب «دور الإمام الصادق (ع) الثقافي والعلمي.

المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين

التنوع المعرفي عند الشهيد الثاني

وأثره على نتاجه المعرفي

الشيخ د. علي عبد الحسين المظفر (*)

تمهيد[1]

من حقّ الأمم أن تفتخر بأعلامها العلماء الذين أسهموا في بناء أمجادها وصانوا كرامتها، والأمّة الإسلاميّة كان لها السبق على غيرها من الأمم الأخرى بالافتخار بعد أن بُعث فيها نبياً خاتماً للأنبياء ورائداً للعلم والمعلِّم الأوّل لكلّ الأجيال متَّصلا بأئمّة معصومين تفرّدوا بعلومٍ لدنيّة فاستغنوا عن غيرهم، واحتاج إليهم الغير وامتاز من تبعهم بسعة أفقهم وصفاء سرائرهم فرفعهم الله الدرجات وأكرمهم لما نهلوا من علمهم وبين رفعة مقامهم رسول اللهP بقوله: «علماء أمتي خيرٌ من أنبياء بني إسرائيل» فانتشروا في الأمصار ونهلوا من مختلف العلوم وقدَّموا أنفسهم قرابين للعقيدة وقول الحقيقة وتصديقاً للرسالة فكان الشيخ زين الدّين علي العاملي المولود عام 911 هـ والمستشهد نتيجة وشاية ظالم خشي قول الحقّ في عام 965 هـ أحد مصاديق العلماء العاملين الطالبين للمعرفة أينما وجدت دون النظر إلى الحدود المذهبيَّة الضيِّقة، وإنَّما كان همُّه الكسب العلميّ والاطِّلاع على ما أنتجته المدارس الفكريّة المختلفة فشدَّ الرِّحال إليها وأفنى عمره في التواصل مع علمائها فحاز على أعلى المراتب العلميّة وأُجيز بالإفتاء على مذاهبهم، ونقل رواية أحاديث كتبهم، وهذا ما لم يحصل لغيره من علمائنا من قبل ولا من بعد بهذه السعة من التحصيل، فأثمرت لنا هذه الجهود عن نتاجٍ علميٍّ متنوِّع الرؤى مستحدَث المنهج مؤصِّلا لكثيرٍ من المعارف فكانت موسوعة متكاملة لمختلف فنون المعرفة. تنهل منها الحوزات العلميّة والمدارس الفكريّة وروّاد العلم ما يصبون إليه في دراستهم وبحوثهم فتنطق لهم بروح التطوّر وصدق الحقيقة.

لذا جاء هذا البحث للوقوف على جوانب المعرفة عند الشهيد الثاني وبيان مدى استفادته من الآخر وما أضافه للمنظومة الفكريّة عند الإماميّة خاصّة والإسلاميّة عامّة.

المحور الأول: التحصيل المعرفي

تتموضع صور التنوِّع في تحصيل المعرفة باختلاف العامل (الزمكاني) وهذا ما تحقَّق في تحصيل المعارف عند الشهيد الثاني. فرحلة البحث التي استغرقت ثلاثين عاماً من عمره القصير جداً قضاها في التنقّل بين المدارس العلميّة والفكريّة المختلفة في الاتِّجاه المذهبيّ والرؤية المنهجيّة في التفكير كان لها الأثر الواضح في تكوين الشخصيّة العلمية للشهيد الثاني وهذا الجانب تمثّل باتّجاهين:

الأوّل: التنوّع المكاني والزماني في تحصيل المعرفة

عند النظر في السيرة العلميّة للشهيد نجدها بدأت من مسقط رأسه في بلدة (جبع)[2] التي تلقّى فيها أوّل دروسه ثمَّ سرعان ما بدأ رحلته العلميّة بعد وفاة والده (عام 925 هـ) لينتقل إلى (ميس) فتتلمذ على يد (الشيخ علي بن عبد العالي الكركي) فقرأ عليه (شرائع الإسلام) و(الإرشاد), وأكثر القواعد, ولم ينقطع عنه لمدّة ثماني سنوات[3], ثمّ رحل إلى (كرك نوح) ليتلقّى مقدِّمات العلوم الشرعيّة والعالية على كبار علمائها على (الشيخ علي الميسي), وحضر أبحاث (السيد حسن بن السيد جعفر صاحب كتاب المحجّة البيضاء)[4]. ثمّ رجع إلى وطنه (جبع عام 934 هـ)[5]، بعدها ارتحل إلى (دمشق) عام 937هـ وأقام عاماً واحداً ودرس بها على بعض أعلامها لا سيما الشيخ الفاضل المحقّق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي وقرأ عليه في الطبّ (شرح الموجز, وغاية القصد في معرفة الفصد) والهيئة كتاب (فصول الفرغاني)، وفي الفلسفة (حكمة الإشراق للسهروردي)[6]، وقرأ (الشاطبيّة) و علم القراءة على الشيخ أحمد بن جابر[7]، ليعود مجدَّدا إلى (جبع), ورحل إلى دمشق ثانيةً في أوائل عام 942هـ[8]، ليتفرَّغ لدراسة (المذاهب الإسلاميّة) دراسةً واعيةً مستفيضةً في الفقه والحديث والتقى بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسيّ، وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازةً عامّة[9]. ولم يتوقّف الشغف العلميّ للشهيد على بلاد الشام، بل آثر الاطِّلاع على المناهج والمدارس الفكريّة لدى المذاهب الإسلاميّة بمختلف تفرّعاتها، فرحل إلى مصر سنة 943هـ، وعند وصوله إلى (غزّة) اجتمع بالشيخ محيي الدين عبد القادر بن أبي الخير ألغزيّ وجرت بينهما بعض المناقشات والمطارحات، وتوطَّدت العلاقة بينهما فوصلت إلى درجةٍ أدخله الشيخ ألغزي معه إلى خزانة كتبه فجال فيها وقلَّب كتبها ولمَّا هم بالخروج طلب إليه أن يختار منها كتاباً من مؤلفات الشيعة لجمال الدّين ابن المطهّر الحلي[10] ومكث في غزّة مدّة تابع بعدها السير إلى (مصر) التي كانت في تلك الأيام حاضرةً مهمّةً في عالم الفكر والثقافة والعلوم فحضر فيها كثيراً من حلقات المساجد والمدارس وقرأ على كثيرٍ من شيوخ الفقه والحديث والتفسير كالشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي (منهاج النووي) في الفقه وغيرها، والملاّ حسين الجرجاني قرأ عليه (شرح التجريد, وشرح الشافية...)، والملا محمد الاسترآبادي المعاني والمنطق, ومنهم أبو الحسن البكريّ, والشيخ زين الدّين الجرمي المالكي وغيرهم حيث أحصى تلميذه ابن العوديّ عدد من أخذ منهم فكانوا (ستة عشر شيخاً)[11] دارساً الفقه والفنون العربيّة والعقليّة (المعاني والبيان وأصول الفقه والنحو والهندسة والهيئة والمنطق والعروض والحديث والتفسير القراءة والحساب)... وبعد أن ألمَّ بجملةٍ وافيةٍ من العلوم والمعارف الإسلاميّة، واطّلع على مناهج الدّراسة وتعرف على المذاهب والمدارس الفكريّة المتنوِّعة، غادر في عام 943هـ لأداء فريضة الحج والعمرة، وعاد في عام 944 هـ إلى بلده فابتهج أهل العلم بعودته فشرع بالتدريس والتوجيه، ولم يكتف بذلك فبنى مسجداً وغيره من المشاريع. لكن حبّه للترحال في طلب العلم ألحّ عليه بمغادرة وطنه مرةً أخرى وهذه المرّة إلى العراق، وكان ذلك في عام 946هـ، و سافر بعدها إلى القسطنطينيّة ليلتقي فيها بعض كبار المسؤولين، وألّف رسالةً من عشرة مباحث كلٌّ منها في فنٍّ من الفنون العقليّة والفقهيّة والتفسير وغير ذلك وقدَّمها إلى قاضي عسكر للتعريف به فقبلها القاضي دون أن يحتاج لتعريف قاضي صيدا، وهذا ما يدلُّ على أنّ الشهيد الثاني كان يحظى باحترام القادة والحكّام في الآستانة[12]. وانتقل من جديد إلى العراق لزيارة العتبات وتسبقه شهرته إلى هناك، فيتدفق عليه الناس من مختلف الطبقات، وزار سامراء في عام 952هـ، وحقّق في قبلة أهل العراق بصورة عامّة ومسجد الكوفة و(حرم أمير المؤمنين) خاصّة، وصلّى فيه وفق ما أدّى إليه اجتهاده فتابعه الناس على ذلك وفي منتصف شهر صفر 953هـ[13]، عاد إلى بعلبك وأقام بها ليشتغل بالتدريس على المذاهب الخمسة ويقوم بإرشاد الناس وتوجيههم وقضاء حوائجهم والقيام بشؤونهم الدينية، فتحوَّلت بوجوده بعلبك إلى حاضرة علميّة، وانتقل بعد ذلك إلى جبع، واشتغل بالتصنيف والتأليف[14]. إنّ هذا التجوال في الحواضر العلميّة المختلفة في المكان والمتنوِّعة في الحضور الزمانيّ كوَّنت عند الشهيد الثاني سعةَ تحصيلٍ وعمق إدراك في فهم الآخر والوقوف عند ما أنتجه الفكر الإسلاميّ بمختلف مدارسه الفكريّة.

ثانياً: تنوّع الرؤى الفكريّة:

إنَّ هذه الرحلة الطويلة المتنوِّعة التي وقف الشهيد الثاني في كلِّ محطّةٍ منها عند رؤيةٍ فكريّةٍ مختلفةِ المنهج والمذهب والعقيدة جعلته يملك القدرة من خلالها على أنّ يحصَل على مبتغاه في الاستفادة من المدارس العلميّة المختلف وتجسّد ذلك في حصوله على أعلى درجات المعرفة بإجازات (الاجتهاد), و(الرواية) لكتب الحديث عندهم, فحصل من الشيخ شمس الدين طولون الدمشقيّ الحنفيّ في (ربيع عام 942 هـ) الذي قرأ عليه في (المدرسة الصالحيّة) وأجازه رواية الصحيحين مع ما يجوز له روايته[15], ومن الشيخ شهاب الدّين بن النجّار الحنبلي الذي سمع منه الكثير من فنون العلم في مصر على إجازة برواية (كتابي الصحيحين)[16],ومن الشيخ محي الدّين عبد القادر بن أبي الخير, والشيخ احمد الرمليّ الشافعيّ بعد أن قرأ عليه (منهاج النوويّ) في الفقه وكثيرٍ من (مختصر الأصول) وجملةٍ من كتب النحو القراءات والحساب والفلك والفلسفة والمنطق(إجازة عامّة) بما يجوز له روايته عنهم[17]. إنّ هذه الرحلة التي قضاها في طلب العلم والتنقّل في الأمصار والتجوّل بين المدارس الفكرية المختلفة وخاصّة في مصر لم يكن الغرض منها الاستفادة من علمائها فحسب, فقد درس هذه العلوم (العربيّة والصرف والمنطق والبلاغة والفقه وأصوله) في (جبع, وميس, وكرك نوح...) وحصل فيها على مبتغاه ببلوغ درجة الاجتهاد (عام944 هـ)[18], وإنّما كان الشهيد الثاني يهدف من هذه الرحلات الاطِّلاع على ما أنتجته هذه المدارس من مناهج معرفيّة مختلفة وما أضافته من تطوّرٍ في مناهجها الدراسيّة من جهةٍ والإلمام بالمذاهب والمدارس الفقهيّة والفكريّة المختلفة[19].

المحور الثاني: طبيعة الإضافة المنهجيّة والمعرفيّة

بعد هذه الرحلة العلميّة في التنقّل بين الأمصار والمدارس الفكريّة المختلفة أحسّ الشهيد M بثمرة هذا الجهد ولابدّ أن يُثمر هذا التلاقح وينعكس في ما بعد على ما ينتجه من ثمار علميّة وصفها ابن العودي بقوله: «هو عالم الأوان ومقرظ البيان ومشنفة بتواليف كأنّها الخرائد وتصانيف أبهى من القلائد، وضعها في فنون مختلفة وأنواع وأقطعها ما شاء من الإتقان والإبداع، وسلك فيها مسالك المحقّقين وهجر طريق المتقدّمين»[20] كان لها في ما بعد الأثر الكبير في تطوّر الفكر الإماميّ بصورتين:

الأولى: المناهج الكتابيّة (الشرح المزجيّ):

وهو أن يدمج الشارح الكتاب الأصل كاملاً ويدرجه الشارح في شرحه لفظةً لفظةً، ويسبكها معه، أي مع الكتاب المشروح، فيسبك كلام الأصل مع شرحه، وهذا المنهج كتب فيه من أهل المذاهب الأخرى وأدخله الشهيد الثاني ضمن المناهج الكتابيّة لشرح المتون عند الإماميّة كما فعله في شرحه لكتاب (روض الجنان في شرح أرشاد الأذهان) للعلامة الحلّي وهو أوّل كتاب شرحه وأدخل فيه هذا المنهج[21], وكذا فعل في كتاب (اللمعة الدمشقيّة في شرح الروضة البهيّة) للشهيد الأوّل ولم يغادر من الروضة ولا كلمة واحدة فيستفيد القارئ والدارس من الأصل والشرح[22] معاً وهذا ما أتبعه في باقي شروحه للمتون في كتبه المختلفة الألفيّة والنفليّة, والرعاية إلى شرح الدراية, وغيرها[23].

الثانية: بلورة النصّ المعرفيّ في الفكر الإمامي:

استفاد الشهيد ممّا اطّلع عليه في المدارس الفكريّة من تصانيف للعلوم, ومتون الكتب، إذ وَجَدَ أنّ الفكر الشيعيّ بحاجة لها في بلورة الأفكار المتناثر في بطون كتبهم, فبعد أن رأى كتابيّ (التمهيد, والكوكب الدريّ) وكلاهما للأسنويّ الشافعيّ أحدهما في القواعد الفقهيّة والآخر في قواعد العربيّة وما يتفرّع عنهما، ولم يكن عند الإماميّة من ألّف مثلهما. صنّف لنا كتابه (القواعد الفقهيّة) وجمع فيه ما بين الكتابين في كتابٍ واحد أسقط فيه الحشو والزوائد ورتَّبه على قسمين: الأوّل في تحقيق القواعد الأصوليّة وتفريع ما يلزم من الأحكام, والثاني في تقرير المطالب العربيّة وترتيب ما يناسبها من الفروع واختار في كلِّ قسمٍ مائة قاعدة[24].

وفي الحديث (الدراية) كان أوّل من صنّف من الإماميّة في هذا الفنّ ولم يكتب أحدٌ من قبله من علمائنا في هذا العلم ورتَّب أصوله على منهجٍ بديعٍ وصار مصدراً لعلم الدراية لمن جاء من بعده[25]، «وهو أوّل من نقل علم الدراية من كتب العامّة وطريقتهم إلى كتب الخاصّة»[26].

وذهب السيّد الأمين إلى أنَّه: «تفرَّد بالتأليف في مواضيع لم يطرقها غيره أو طرقها ولم يستوف الكلام فيها مثل آداب المعلّم والمتعلّم فقد سبقه إلى ذلك المحقّق الطوسي فصنف لنا رسالةً صغيرةً في (آداب المعلِّم والمتعلِّم) وألّف الشهيد (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) فلم يبق بعدها منيةٌ لمريدٍ ومثل (أسرار الصلاة والزكاة والصوم والحج, وأسرار معالم الدّين والصبر على فقد الأحبّة والأولاد, والولاية, ووظائف الصلاة القلبيّة لم يسبق إليه من المتقدِّمين أحد»[27].

المحور الثالث: الإضافات المنهجيّة والمعرفيّة

ولم تقتصر إضافات الشهيد للمعرفة على إيجاد المتون وتطوير المنهج الكتابيّ بل أقام دراسات في فنون المعرفة لم يتناولها أحدٌ من قبل وهذا تجسَّد عندنا في صورتين:

الأولى: الدِّراسات الحديثية المقارنة

فبعد أن أوجد متن (الدراية) كنصٍّ في علوم الحديث لم يكن معروفاً من قبل عند الإماميّة, عمل على شرح هذا النصّ بأسلوبه الجديد (الشرح المزجيّ) في الوقت ذاته أضاف مع الشرح دراسةً مقارنةً بين مصطلحات (الدراية) عند الإماميَّة وما ذهب إليه علماء المذاهب الإسلاميّة الأخرى في كتابه (الرعاية لحال البداية في علم الدراية) فبعد أن قسَّم الكتاب إلى مقدِّمة اشتملت على تعريف علم الدراية وموضوعه وغايته ثمَّ أصوله واصطلاحاته وزّع الكتاب إلى أربع أبواب, تناول في الباب الأوّل أقسام الحديث, وفي الباب الثاني في من تُقبَل روايته وتردّ, والباب الثالث في تحمّل الحديث وطرق نقله, أمّا الباب الرابع فتناول فيه أسماء الرجال وطبقاتهم[28]. تناول الشهيد هذه المطالب بعرضه لها ثمَّ بيان آرائهم مصرحاً بأسمائهم كقوله في مبحث العمل بخبر الواحد: >فأنّ الطريق الضعيف قد يثبت به الخبر مع اشتهار مضمونه كما تعلم مذاهب الفرق الإسلاميّة, كقول أبي حنيفة, والشافعي, ومالك, وأحمد..)[29]، وفي بعض الأحيان لا يصرِّح بأسمائهم ويكتفي بالإشارة كما في مبحث (الأجازة) بقوله: «فاعلم أنّ المشهور بين المحدِّثين والأصوليّين أنّه يجوز العمل بها)»[30], وقوله في (المرسل): «على خلاف إجماع الجمهور, حيث قبلوا المرسل مطلقاً..».[31]، وينقل في مواضعَ أُخرى من مصنّفاتهم مشيراً إليهم بأسمائهم بقوله: «وحكى القرطبي في المفهم عن بعض أهل الرأي: أنّ ما وافق القياس الجليّ جاز أن يُعزى إلى النبي P»[32]، ويتعرّض لبعض كتبهم بالتقييم والنقد مبيِّنا أسباب ذلك[33].

الثانية: الدِّراسات الأخلاقيّة والتربويّة

وقد أبدع في هذا الحقل المعرفيّ من خلال كتابيه (منية المريد, ومسكن الفؤاد) فكان الأوّل كتاباً تربوياً أخلاقياً تضمّن مقدِّمةً وأربع أبواب وخاتمةً تشمل عدّة مطالب. ذكر فيه كلَّ ما يلزم العالم والمتعلِّم من المواظبة والأخلاق الفاضلة، وما يجب على القاضي والمفتي حين الإفتاء، وآداب الكتابة والكاتب، وكيفية التعامل مع النص وإخراجه بأحسن صورة، ثمّ تناول في الخاتمة أقسام العلوم وما يتوقَّف عليها[34]. فيما جاء تصنيف الكتاب الثاني لحاجةٍ في نفسه إذ كان لا يعيش له أولاد فمات له أولاد ذكور كثيرون قبل الشيخ حسن, فتضمّن الكتاب ما يجب على الإنسان فعله من الصبر والسلوان عند مواجهة المصائب والشدائد وفقد الأحبّة والأقارب والأولاد[35].

الخاتمة:

بعد هذا العرض السريع لحياة هذا العلم الشهيد والوقوف عند الجانب العلميّ من حياته الشريفة يمكن لنا أن نخرج بمجموعةٍ من الروئ المعرفيّة تتمثّل بما يلي:

  1. تفرَّد الشهيد الثاني عن علماء عصره ومن سبقه بطبيعة حياته العلميّة ونوعيّة كسبه المعرفيّ بما ناله من اطِّلاع على مدارس فكريّة وعلميّة مختلفة وترحالٍ في طلب العلم.
  2. تفرّد في تنوّع مصنّفاته فشملت كلّ صنوف المعرفة ومتناولا فنوناً لم يسبقه إليها أحدٌ من قبله.
  3. أضاف للفكر الإماميّ معارف ومناهج كتابيّة بلور فيها أفكار متناثرة في بطون كتب من سبقوه وأدخل مصطلحات من غيرهم وجد فيها نفع لتطوّر الفكر عندهم.
  4. يعدّ الشهيد الثاني رائداً في مجال إدخال المناهج الجديدة في شروحالكتب لمن جاءوا من بعده.

    [1](*) باحث إسلامي/ كلية الفقه - جامعة الكوفة - العراق.

    [2] ترجم لحياته تلميذه ابن العودي في كتابه (بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد), ونقل عنها كلُّ من ترجم لحياته (M), أنظر: شرح الدراية في علم البداية (للشهيد الثاني)، تحقيق لطيف ملا فرج، ص18؛ الحرّ العاملي، أمل الأمل، ج1، ص 89 وما بعدها، تحقيق: السيد أحمد الحسيني, مكتبة الأندلس، بغداد، ط1، 1385 هـ ؛ الأصفهاني، رياض العلماء وحياض الفضلاء, ج2، ص 365 ـ 376، تحقيق أحمد الحسيني, منشورات مكتبة المرعشي، قم -1403 هـ.؛ التفريشي، السيد مصطفى بن الحسين الحسيني، نقد الرجال، ج2، ص 285؛ الأمين، أعيان الشيعة، ج7، ص 144 ـ 156؛ الخوئي، معجم رجال الحديث، ج 7، ص 380 ـ382، مطبعة الآداب, النجف الأشرف،1970. وغيرهم.

    [3] أنظر: الأمين، أعيان الشيعة، 1/144، تحقيق: حسن الأمين، دار التعارف بيروت؛ كلانتر، مقدّمة اللمعة، 1 /154.

    [4] الحر العاملي، أمل الأمل، 1/ 89.

    [5] أنظر: الأمين، أعيان الشيعة، 1/145؛ كلانتر، مقدمة اللمعة، 1 / 155، منشورات جامعة النجف الدينية,ط1، 1386 هـ.

    [6] كلانتر، مقدمة اللمعة، 1 /156.

    [7] الحر العاملي، أمل الأمل، 1/90.

    [8] انظر: تاريخ ابن العودي، (مقدمة شرح البداية في علم الدراية)، ص 30.

    [9] المصدر نفسه، ص 31.

    [10] أنظر: الأمين، أعيان الشيعة، 1/148.

    [11] أنظر: المصدر نفسه، 1/148.

    [12] المصدر نفسه، 1 /150.

    [13] كلانتر، مقدمة اللمعة، 1 /170.

    [14] الحر العاملي، أمل الآمل، 2 / 88 -89.

    [15] أنظر: تاريخ ابن العودي، (مقدمة شرح البداية في علم الدراية) – ص29.

    [16] المصدر نفسه.

    [17] أنظر:الأمين: أعيان الشيعة – 7/148.

    [18] بحر العلوم، جعفر الطباطبائي، تحفة العالم، 1 /139.

    [19] أنظر: الأمين، أعيان الشيعة، 7 /145.

    [20] كلانتر، مقدمة اللمعة، 1 /176.

    [21] الأمين، أعيان الشيعة، 7 /145.

    [22] انظر: أعيان الشيعة، 7 /145155.

    [23] انظر، الحر العاملي، أمل الأمل، 1/ 85 ؛ الأمين، أعيان الشيعة، 7 /155؛ الخوئي، معجم رجال الحديث، 7/372.

    [24] الأصفهاني، رياض العلماء، 2 /368.

    [25] أعيان الشيعة، 7 /156.

    [26] للنظر في تفاصيل منهجه ومطالب الكتاب ينظر ذات الكتاب طبعة مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، ط 1 / 1423 هـ.

    [27] الشهيد الثاني، الرعاية لحال البداية في علم الدراية, ص7488173, 176 وغيرها، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، ط1، قم,1423 هـ.

    [28] المصدر نفسه، ص 83.

    [29] المصدر نفسه، ص 96.

    [30] المصدر نفسه، ص 106.

    [31] المصدر نفسه، ص 90, ص 106.

    [32] أنظر: كلانتر، مقدمة اللمعة، 1 /178.

    [33] أنظر: الأمين، أعيان الشيعة، 7 /149؛ كلانتر، مقدمة اللمعة، 1 /178.

أعمال جلسات المؤتمر

اليوم الأول:

الثلاثاء 31 أيار 2011 – قرية الساحة التراثية - طريق المطار - بيروت

الجلسة الثالثة

برئاسة الشيخ احمد مبلغي

نائب الرئيس الشيخ أحمد القطان

  • السيد عبد الكريم فضل الله
  • الشيخ محمد مهدي التسخيري
  • السيد عبد الله نظام
  • الشيخ عبد الكريم حبيل
  • الشيخ حسنعلي علي أكبريان
  • الشيخ مصطفى جعفر پيشه
  • الشيخ عبد الكريم بي آزار شيرازي
  • الشيخ محمد سروش محلاتي

في رحاب كتاب «مسالك الأفهام»
للشهيد الثاني

السيد عبد الكريم فضل الله (*)

لقد أفنى علماؤنا الأبرار أعمارهم الشريفة ليكونوا حملة الفقه الى العالم وألفوا كتبًا كانت عابرة للزمن لما فيها من أهمية ولما اختزنته من مضامين.[1]

من هؤلاء الأساطين الشهيد السعيد زين الدين بن علي العاملي الملقب بالشهيد الثاني{، ومن نتاجه الغزير هذا السفر العظيم الموسوم بـ»مسالك الافهام الى تنقيح شرائع الاسلام».

إنه من أهم الكتب الفقهية في تاريخ المسلمين, فيه من الفوائد و الالتفاتات والميزات ما جعل له هذه المرتبة بين الكتب, فالمؤلف عالم من الدرجة الاولى, والمؤلَّف كتاب من الدرجة الاولى.

ولعل هذا الكتاب من أكثر الكتب الفقهية التي استفدت منها في مباني العلمية لما فيه من الصفات والميزات. وإنك تستطيع ان تلاحظها بمجرد قراءة صفحات عدة، ولا تحتاج الى سبرها جميعًا. وستلاحظ:

إنه من اوسع الكتب الفقهية الاستدلالية. ويمكن القول انه اوسعها الى زمنه استدلالاً. وبهذا يفترق عن كتابه الموسوم بـ«الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية».

كل هذه السعة مع سهولة في البيان ووضوح وطلاوة في التعبير, لا تتنافى مع العمق في معالجة المسائل. وإنك لتجده يتكلم, فتنساب الافكار معه انسيابا. ولسهولة ألفاظه تخاله يتكلم كلاما عاديًا, لكنه يفيض علما ً وأدبا ً,من دون اي تكلف ومشقة, وهذا من الفروق الرئيسية بين الكاتب العالم والكاتب غير العالم.

واذا قرأت صفحات من كتاب النكاح مثلا كنموذج وعينة للكتاب، فسوف تجد فوائد كثيرة مهمة جليلة نذكر منها:

الفائدة الاولى: محاولة إيجاد الملكة الاستنباطية، من جهة ما يختزنه اللفظ من المعاني أو محاولة تطوير هذه الملكة.

مثال على ذلك من خارج كتاب النكاح في كتاب الطهارة, في كراهة السؤر. ولبيان معنى السؤر يقول: في الآسار وهو لغة ما يبقى بعد الشرب, وشرعا ماء قليل باشره جسم حيوان. فهو يلفت النظر الى ما تختزنه الكلمة من القلة,فنخرج بذلك مياه البرك والانهار.

ومنها تنمية ما يسمى في علم الاصول: الانصراف من حاق اللفظ.

إن الفرق بين الانصراف والتبادر، هو ان التبادر هو انسباق المعنى الموضوع من اللفظ, والانصراف هو انسباق بعض أفراده من اللفظ عند إطلاقه. فكلاهما انسباق عند الاطلاق. والانسباق الى بعض الافراد قد يكون من حاق اللفظ ومعناه الانسباق بسبب قرينة عامة مستمرة ملازمة للفظ, لا تنفك عنه. ومن هنا جاءت التسمية, لأن معنى حاق أحاط, وليس معنى الانصراف من حاق اللفظ هو ذاته, إذ لا معنى ان يكون لنفس اللفظ مدخلية في المعاني, ولا نقول بالدلالة الذاتية, بل معناه انسباق بعض أفراد المعنى الموضوع له بسبب قرينة عامة تحيط به.

وإدراك هذه القرائن العامة تحتاج الى ذوق رفيع في استيعاب أدبيات الالفاظ.

مثال آخر في استنباط أحكام من أدبيات الالفاظ ما ذكره في صفحة 86 من المجلد السابع:

يقول المحقق الحلي {: فالنكاح يفتقر الى إيجاب وقبول دالّين على العقد الرافع للاحتمال. والعبارة عن الايجاب لفظان: زوجتك وأنكحتك, وفي متعتك تردد وجوازه أرجح.

يقول في المسالك تعليقا ً على المحقق:... وقد ظهر من ذلك دليل القول الآخر, وهو أنه لا ينعقد به كما ذهب اليه الأكثر, لأن حقيقته في المنقطع, فيكون مجازا ً في الدائم, والعقود اللازمة لا تقع بالالفاظ المجازية, خصوصا النكاح, فإنه مبني على الاحتياط وفيه شوب من العبادات المتلقاة من الشارع, ولأصالة تحريم الفروج فيستصحب الى ان يثبت سبب الحل شرعا ً. ولا ريب ان هذا أولى على قواعد الفقهاء, حيث عينوا للعقود اللازمة ألفاظ صريحة, وبنوا أمرها على المضايقة, بخلاف العقود الجائزة. والذي يظهر من النصوص أن الامر أوسع من ذلك كله, وقد أشرنا الى بعضها فيما تقدم. انتهى.

والشاهد هو في الجملة الاخيرة, فهو بعدما رجّح القول بعدم وقوع النكاح بلفظ متعتك, عاد وقال: «والذي يظهر من النصوص ان الامر اوسع من ذلك كله» إشارة الى بعض الروايات منها ما في الوسائل ج 14 ص 196 ب 1 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ح7: عن محمد بن يحيى, عن احمد بن محمد, عن الحسن بن علي بن فضال, عن علي بن يعقوب, عن هارون مسلم, عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله Q عن التزويج بغير خطبة؟ فقال: أوليس عامة ما نزوج فتياننا فتياتنا ونحن نتعرق الطعام على الخوان نقول: يا فلان زوّج فلانا فلانة, فيقول نعم قد فعلت.

وكذلك الحديث الثامن الذي يليه.

فهو يعلمنا الاستفادة من أجواء مجموع الروايات, فيقول إنه الظاهر منها التوسع في كيفية إجراء العقد وليس المضايقة. لاحظ كلمة «ونحن نتعرق الطعام على الخوان»فيكون من استظهار واحد أجاب عن كل أدلتهم في بطلان العقد بلفظ متعتك وهذه الادلة هي:

الاصل عدم وقوع العقود اللازمة بالالفاظ المجازية, والزواج عقد لازم. والجواب: هذا ظهور لفظي مقدم عليه.

الاصل العملي هو فساد المعاملة.

والجواب: هذا ظهور لفظي, ونعلم ان الظهور اللفظي مقدم على الاصل العملي لأن الاصل العملي يأتي في آخر سلـّم الاستدلالات. ومع وجود الاصل اللفظي لا مجال لجريان الاصل العملي (راجع كتابنا منهجية الاستنباط).

أأأأأصالة التحريم في الفروج, وهو ما عُبِّر عنه في الروايات وعند الفقهاء بأصالة الاحتياط في الفروج.

والجواب: لو سلمنا بتمامية هذه الاصالة, إلا انها أعم من العقد فهي تشمل كل ما يشمل شروط المرأة المزوجة وشؤونها. واستظهارنا من النصوص خاص بكيفية إجراء العقد, فيقدم على الاصالة من باب تقديم الخاص على العام. وهذا التقديم يمنع من جريان أصالة الاحتياط او التحريم في الفروج التي ذكرها الفقهاء في خصوص العقد دون بقية شؤون المرأة الا ما خرج بدليل.

وهذا الأمر يؤدي الى توسيع مدارك الطالب, وذهنيته, بل وتصويب استنباطه. لأننا نعلم أن الأصول اللفظية مثل أصالة العموم وأصالة الاطلاق وأصالة الحقيقة ليست تعبدية - كما هو مشهور المتأخرين - بل تعود الى اصالة الظهور. ولذا من المهم صفاء عملية الاستظهار من النصوص.

ومثال آخر: في المجلد السابع ص 93: في كفاية لفظ «نعم» في الايجاب او القبول: وأما ما قيل من أنه يلزم من صحة العقد بهذا اللفظ صحته بدون إيجاب, لأن «نعم» في جواب القبول لا يكون ايجابا, وذلك باطل قطعا ً. ففيه أنه مصادرة, لأن القائل بذلك يجعل «نعم» إيجابا لتضمنها مجموع الجملة التي هي «زوجتك.. الخ لقيامها مقامها». انتهى.

الفائدة الثالثة: سرد آراء أبناء العامة وبيانها والإجابة عليها: وهذا ديدن فقهائنا بشكل عام, فإن التذكرة مثلا تكاد تكون كالتعليق على كتاب المغني لابن قدامة.

مثلا ً: ص20 في مسألة وجوب الخطبة قبل العقد:

«ولو ترك الخطبة صحّ العقد عند جميع العلماء إلا داوود الظاهري.وقد رووا -السنن الكبرى للبيهقي في 7: 144 - في قصة سهل الساعدي ان النبي P زوّجه بغير خطبة.... انتهى.

مثال آخر: ص 19 في مسألة وجوب الإشهاد والإعلان:

وذهب ابن ابي عقيل منا, وجماعة من العامة الى اشتراطه فيه,فلا ينعقد بدونه, لما رووه عن النبي P بطرق متعددة - اشارة الى السنن الكبرى للبيهقي 7: 125, والحاوي الكبير 9: 57 - تدلّ على نفي النكاح بدون شاهدين, وقد اعتبرها جهابذة النقاد من أهل الحديث فوجدوها بأسرها ضعيفة السند...». انتهى.

مثال آخر: ص26 في الوليمة:

«وللشافعي قول بوجوبها, لأن النبي P قال لعبد الرحمن بن عوف «أولم ولو بشاة» والأمر للوجوب. وأجيب بحمله على الاستحباب, لأنه لو كان واجبا لأمر غيره بفعله وفعله في باقي أزواجه, ولم ينقل ذلك, مع أصالة البراءة.

مثال آخر: ص 31 في مسألة نثار الأعراس:

وهل يوصف بأصل الجواز بالمعنى الأعم بشيء من الاحكام الخمسة؟

لا ريب في انتفاء الوجوب, لعدم دليل يدلّ عليه, وأما الاستحباب فأثبته بعض العامة - انظر الحاوي الكبير - لنحو ما ذكرناه, وحكم آخرون –انظر حلية العلماء- بالكراهة لأنه يؤخذ باختلاس وانتهاب, وهو يؤدي الى الوحشة والعداوة, ولأنه قد يأخذه غير من يحب صاحبه, وفي إثبات الكراهة بمثل ذلك نظر, والثابت أصل الجواز, وغيره من الأحكام يحتاج الى دليل صالح.

أمر

الفائدة الرابعة: الاعتماد على كتب أبناء العامة في الإفتاء.

مثلا ً: ص 21 في استحباب إيقاع العقد ليلاً:

«لقول النبي P: أمسوا بالإملاك فإنه أعظم للبركة «انتهى.

وهذه الرواية غير موجودة في مصادرنا, ومع ذلك اتكل عليها. وإن كان يمكن أن يقال انه من باب التسامح في أدلة السنن.

الفائدة الخامسة: كثرة الاشارات العقائدية والتاريخية رغم انه كتاب فقهي:

مثلاً: ص 80 في مسألة حرمة زوجات النبي P على غيره:

«وروى الكليني في الحسن عن عمر بن أذينة في حديث طويل:

أن النبي P فارق المستعيذة وامرأة أخرى من كندة قالت لما مات ولده ابراهيم: لو كان نبيا ً ما مات ابنه. فتزوجتا بعده P باذن الأوّلين, وأن أبا جعفر Q قال: ما نهى الله عز وجل عن شيء الا وقد عصي فيه, لقد نكحوا ازواج رسول الله P من بعده, وذكر هاتين العامرية والكندية.......... وإن أزواج النبي P في الحرمة مثل أمهاتهم إن كانوا مؤمنين.

الفائدة السادسة: كثرة البحوث الحديثية والرجالية...

مثلاً: ص60 وذلك عند نقد السند في روايتي ابن ابي يعفور وصفوان، ومخالفته للعلامة في المختلف والتذكرة:

«أقول: في صحة السند فيهما نظر, لأن معاوية بن حكيم وإن كان ثقة جليلا روى عن الرضا Q, كما نقله النجاشي, إلا ان الكشي قال: انه فطحي, وابن داوود ذكره في قسم الضعفاء والشيخ لم يتعرض له بمدح ولا قدح, والحق أنه لا منافاة بين القولين, فإن الحكم بكونه ثقة جليلا يروي عن الرضا Q لا ينافي كونه فطحيا ً, لأن الفطحية يزيدون في الائمة R عبدالله بن جعفر الصادق, ويجعلون الامامة بعده لأخيه موسى, ثم للرضا Q ولا ينافي ذلك روايته عنه, واما كونه ثقة جليلا فظاهر مجامعته للفطحية لان كثيرا منهم بهذا الوصف سيما بني فضال. فعلى هذا ما انفرد به الكشي من الحكم بكونه فطحيا لا معارض له حتى يطلب الترجيح.

وأما الرواية الثانية فإن علي بن الحكم مشترك بين ثلاثة رجال: أحدهم علي بن الحكم الكوفي وهو ثقة, والثاني علي بن الحكم تلميذ ابن ابي عمير, ذكره الكشي ولم يذكر له مدحا ولا ذما وتبعه على ذلك جماعة. والثالث: علي بن الحكم بن الزبير النخعي, ذكره الشيخ في كتاب الرجال ولم يتعرض له بمدح ولا ذم ٍ ايضا.

والرجل المذكور في الرواية يحتمل كونه كل واحد من هؤلاء فلا تكون الرواية صحيحة خصوصا الاولين, فإن طبقتهما واحدة, وروايتهما كثيرة, ومجرد الظن بأنه الاول – من حيث إن أحمد بن محمد يروي عنه كثيرا ً – غير كاف ٍ في الحكم به. «انتهى.

لاحظ كثرة الفوائد الموجودة في هذا النص, فمنها:

فائدة عقائدية عندما بيّن معنى الفطحية.

فائدة رجالية عندما بيّن إمكان اجتماع الوثاقة مع الفطحية.

فائدة حديثية عندما بيّن قيمة الحديثيين وان مجرد الظن بسبب كثرة الرواية ليس كافيا ً لتعيين الراوي.

الفائدة السابعة: تجميع الاحكام كلما سنحت الفرصة, وهو يؤدي الى توضيح الأبواب فإن التفريق بين المتقاربات بعد تجميعها له ثمرة بيانية.

الفائدة الثامنة: ذكر الأمور البلاغية الموجودة في علم البيان والتي يستفيد منها الفقيه في مقام الاستظهار في الرواية:

مثلاً: ص 13 في مقام فضل الزواج:

«قول الصادق Q: «ركعتان يصليهما متزوج افضل من سبعين ركعة يصليها أعزب»...إن قيل:.... والمتزوج وقع في الخبر نكرة في مقام الإثبات, فلا يفيد العموم...... وأما المتزوج الواقع في الخبر الآخر نكرة فعموميته من حيث الوصف المشعر بالعلية, ولولا إفادته العموم لذلك او لغيره لما كان له فائدة, لأن إفادة كون متزوج في الجملة أفضل من أعزب في الجملة لا طائل تحته, وقد نص الاصوليون على ان النكرة المثبتة في مقام الامتنان تفيد العموم لهذه العلة».

الفائدة التاسعة: كثرة التفريعات. ولعل السبب هو كونه تعليقة على الشرائع فيشرحها, ويناقش الاقوال المتعددة.

الفائدة العاشرة: سرد الأدلة باختصار مفيد نافع:

مثلاً: ص 95:

«لما كان اللفظان – وهما زوجتك وانكحتك – متعينين في الايجاب, وهما عربيان قد ثبت شرعا التعبير بهما عن هذا المعنى وكونهما سببا في عقده, لم يجز العدول عنهما الى غيرهما من الالفاظ الدالة عليهما بغير العربية, وقوفا على ما حدّه الشارع ونصبه سببا. ولاصالة بقاء الفروج على التحريم الى ان يثبت المزيل, ولأن غير العربية وإن أدّت معناهما كالكنايات الدالة عليهما بالعربية, ولأن العقود المتلقاة من الشارع كلها عربية, فالعدول عنها عدول الى ما لم يثبت شرعا كونه سببا لترتب الأحكام الخاصة. هذا هو المشهور بين علمائنا حتى كاد يكون إجماعا.

الفائدة الحادية عشرة: كثرة بيان المشتركات اللفظية أو المعنوية أو المتقاربة, استطرادا:

مثلاً: ص 25 عند الكلام على استحباب الوليمة:

ويقال للطعام المتّخذ عند الولادة: الخُرس والخرسة, وعند الختان: العذيرة والاعذار, وعند إحداث البناء: الوكيرة, وعند قدوم الغائب: النقيعة, وللذبح يوم سابع المولود: العقيقة, وعند حذاف الصبي: والحذاف وهو -بفتح أوله وكسره – تعلم الصبي القرآن أو العمل, والمأدبة اسم لما يتخذ من غير سبب ويطلق على كل طعام, والزفاف – بكسر اوله – إهداء العروس الى زوجها.

[1](*) أستاذ في الحوزة العلمية - لبنان.

الفهرس

مقتطفات من الصحف

Untitled-1.psd

المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين

مقتطفات من الصحف

Untitled-2.psd

افتتاح المؤتمر

_U2T0692.JPG
_U2T0525.jpg

راعي المؤتمر دولة الاستاذ نبيه بري

سماحة آية الله الشيخ

محمد علي التسخيري

_U2T0568.jpg
_U2T0648.JPG

سعادة سفير الجمهورية الاسلامية الايرانية في لبنان د. غضنفر ركن ابادي

نائب أمين عام حزب الله

سماحة الشيخ نعيم قاسم

المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين

افتتاح المؤتمر

_U2T0630.JPG
_U2T0605.jpg

الأب الدكتور عبدو أبو كسم

سماحة الشيخ محمد مسلماني

_U2T0590.JPG
_U2T0550.jpg

سماحة الشيخ أحمد قبلان

المفتي الجعفري الممتاز

سماحة الشيخ حسن البغدادي

عضو المجلس المركزي في حزب الله

المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين

الجلسة الأولى، فندق الساحة

DSCN1802.JPG
DSCN1790.JPG

الجلسة الأولى، فندق الساحة

DSCF7514.jpg
DSCN1795.JPG

الجلسة الأولى، فندق الساحة

DSCN1808.JPG
_X3X7398.JPG

الجلسة الثانية، فندق الساحة

DSCN1861.jpg
DSCF7533.JPG

الجلسة الثانية، فندق الساحة

DSCF7523.JPG
DSCN1922.JPG

الجلسة الثالثة،فندق الساحة

DSCN1968.JPG
DSCN1956.JPG

الجلسة الثالثة،فندق الساحة

DSCF7509.JPG
_U2T1004.JPG

الجلسة الرابعة،فندق الساحة

_U2T0914.JPG
DSCN2050.JPG

الجلسة الرابعة،فندق الساحة

_U2T0904.JPG
_U2T0999.JPG

الجلسة الخامسة،بلدة الشهيد الثاني جباع

DSCN2100.JPG
DSCN2190.JPG

الجلسة الخامسة،بلدة الشهيد الثاني جباع

DSCN2097.JPG
DSCN2109.JPG

الجلسة الخامسة،بلدة الشهيد الثاني جباع

DSCN2209.JPG
DSCN2144.jpg

الجلسة الختامية السادسة، في مدينة بعلبك

DSCN2642.JPG
DSCN2476.JPG

الجلسة الختامية السادسة، في مدينة بعلبك

DSCN2490.JPG
DSCN2479.JPG

الجلسة الختامية السادسة، في مدينة بعلبك

DSCN2487.jpg
DSCN2537.jpg

زيارة وفد المؤتمر إلى معلم مليتا في محور المقاومة الإسلامية

DSCN2281.JPG
DSCN2307.JPG

زيارة وفد المؤتمر إلى معلم مليتا في محور المقاومة الإسلامية

DSCN2277.JPG
DSCN2294.JPG

زيارة وفد المؤتمر إلى معلم مليتا في محور المقاومة الإسلامية

DSCN2400.jpg
DSCN2287.jpg

زيارة وفد المؤتمر إلى معلم مليتا في محور المقاومة الإسلامية

DSCN2291.jpg
DSCN2350.jpg

زيارة الوفد إلى المدرسة النورية في بعلبك ورفع الستار عن الآثار

DSCN2717.JPG
DSCN2741.JPG

زيارة الوفد إلى المدرسة النورية في بعلبك ورفع الستار عن الآثار

DSCN2716.jpg
DSCN2703.jpg

زيارة الوفد إلى المدرسة النورية في بعلبك ورفع الستار عن الآثار

DSCN2743.jpg
DSCN2663.jpg