جمعية الإمام الصادق Q
لإحياء التراث العلمائي
جمعية الإمام الصادق Q
لإحياء التراث العلمائي
الكتاب: |
جبل عامل وعهد الجزار بين النكبة والنهضة |
إصدار: |
جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي إتحاد بلديات جبل عامل |
تاريخ الإصدار: |
2014م - 1435 هـ |
المقدمة
أردنا في هذا المؤتمر السابع الذي نظمته جمعية الإمام الصادق Q لإحياء التراث العلمائي، وبالتعاون مع اتحاد بلديات جبل عامل، أن نسلّط الضوء على تلك المحطة المظلمة في سماء العالم الإسلامي، حيث قاد العثمانيون المنطقة لعدّة قرون، قدّموا خلالها أبشع أنواع التعصّب المذهبي، وكانوا من الجهل والخفّة ما جعلهم غير مأسوف على نهايتهم وجلائهم عن المنطقة. فقد مارسوا كلّ أنواع الظلم، فلم يحفظوا كرامة لأحد ولم يقيموا وزناً لعلم ومعرفة، وكان الجهلاء من وعاظ السلاطين أقرب إليهم من العلماء من أصحاب العقول النيّرة والوزن الإجتماعي، هذا، ناهيك عمّا حدث في نهاية القرن الثاني عشر هـ عندما ولّوا فيه زنيمهم ذلك الوحش الأجنبي اللقيط والذي أطلقوا عليه إسم (أحمد باشا الجزار).
نحن عندما نستعيد هذه الذاكرة، ليس المقصود أن نتذكّر تلك الآلام أو نريد الإنتقام من الورثة، أو أن نتّهم أحداً زوراً وبهتاناً، إنّما الهدف هو استعراض التاريخ بكل صدق وأمانة، والإستفادة ممّا جرى كي نتوخّى الدقة والحذر من الأدوات والجهات المشابهة، وخصوصاً ما يجري اليوم على ساحتنا المحلية والإقليمية، وكما قيل:(ما أشبه اليوم بالبارحة).
لا أدّعي أننا في هذا المؤتمر سلّطنا الضوء على كل الأحداث والتفاصيل التي جرت في أواخر القرن الثاني عشر هـ وإلى نهاية حكم الجزار 1219 هـ ، أو الحقبة التي سبقت قيام حكم الجزار والتي أوصلت هذا الطاغية إلى السلطة، وما زاد في حقدهم تلك الخسائر التي مُنيوا بها على يد أمير جبل عامل الشيخ ناصيف النصّار، ولولا خيانة أبو الذهب من مصر لكانت المنطقة نالت استقلالها التام عن العثمانيين في سنة 1185هـ، عندما دخل حلف ناصيف النصار والظاهر عمر مع أبي الذهب إلى سوريا وهروب الوالي العثماني (عثمان باشا)، والذي آلمهم أكثر هو بطش الشيخ ناصيف بقوات هذا الوالي التي فاقت العشرة آلاف جندي المجهّزين بأحدث العدّة، عندما جاؤوا للإنتقام من أهالي جبل عامل ونزلوا إلى (بحيرة الحولا)، وتمكّن الأمير ناصيف بعدّة مئات من جنوده البواسل من قتل الكثير منهم وهروب الباقي من دون أن يسقط له شهيد واحد.
هذه الأحداث وغيرها بات معها العثمانيون يزداد حقدهم على جبل عامل، وأنه صار يشكّل خطراً جدّياً على نفوذهم. وبطبيعة الحال، هذا الرفض في جبل عامل لوجودهم بسبب سياستهم الرّعناء وجهل وحقد الولاة، ولو كانوا غير ذلك لاختلف الأمر.
شاكراً لاتحاد بلديات جبل عامل مشاركتها معنا في نجاح هذا المؤتمر، ولراعي مؤتمرنا الأستاذ الحاج محمد رعد رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، وهو موصول بشخص رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله سماحة السيد هاشم صفي الدين المسؤول المباشر على ملفنا (إحياء تراث علماء الشيعة).
مسؤول إحياء تراث علماء الشيعة في حزب الله
حسن بغدادي
الافتتاحية
كلمة الشيخ حسن بغدادي[1]
راعي مؤتمرنا رئيس كتلة الوفاء للمقاومة سعادة النائب الحاج محمد رعد
أيها الحفل الكريم
لا يسع أي باحث في التاريخ وبالأخصّ المراحل التي مرّ بها جبل عامل إلّا وأن يبحث حول تلك المحطة المظلمة التي مرّ بها هذا الجبل، والذي لم يكن بمنئ عن المحطات الكبرى التي مرّت بها المنطقة، فإذا ما قسنا كل ما حدث من تداعيات نجد أنّ المرحلة التي مرّ بها هذا الجبل في أواخر القرن الثاني عشر هـ، على يد العثمانيّين عبر زنيمهم السفّاح أحمد باشا الجزّار، هي لا تقاس بأيّة محطة ولم يمرّ على أهالي جبل عامل شبيهاً لها. لقد تصرّف هذا الوحش المجرم وأعوانه الشياطين بدعم من أسياده الذين أوكلوا إليه هذه المهمّة، من إذلال أهالي جبل عامل وإطلاق يده في إستباحة ما يشاء ضدّ شعبنا الطيب المؤمن والوديع الذي لم يبق على موبقة إلّا وارتكبها، فعذّب العلماء والنساء والأطفال ولم يرحم كبيراً أو مريضاً وزجّ بهم في السجون، ومارس بحقهم أبشع أنواع الظلم والتنكيل، والذي لاحظناه أنه لم يستعمل الرصاص أو الشنق في الذي يصدر بحقه حكم الإعدام، وإنمّا يلقى حتفه تحت التعذيب، لرأينا أن مرحلة حكم الجزار هي من أشدّ المراحل قسوة على الإطلاق.
وبينما كنت أقرأ في الأحداث التي مرّت على أهلنا في تلك المرحلة وما لاقوه من إذلال وقهر وتعذيب دمعت عيني وتمنيّت لو أنّنا في ذلك الزمن ونمتلك هذه القوة والحجم، حتّى نؤدّبه ونجعله عبرةً لمن اعتبر.
صحيح أن جبل عامل وقبل النكبة كان يمتلك من القدرة والشجاعة والإمكانيات الإقتصادية ما يؤهلّه للدفاع عن نفسه، وكانت المقاطعات الثلاث في جبل عامل التي يحكمها الأمراء، بإمكان كل أمير أن يستنفر ألفي مقاتل كحدّ أدنى إذ يُشكّل مجموع ما تستنفره المقاطعات الثلاث ستة آلاف مقاتل من خيرة الفرسان الشجعان، الذي يجعلهم في مصاف الجيوش الأساسية وهذا ما نقله الدبلوماسي الفرنسي (باراديس) بقوله: شاهدناهم يُقاتلون بترتيب ونظام مما جعلهم ينتصرون على أعدائهم الذين يفوقونهم عدداً.
ومع كل هذه القوّة إلّا أنّ الظروف التي عاشتها المنطقة جعلت العثمانيّين يعملون على الإنتقام من أهالي جبل عامل، حيث باتوا يتمرّدون على الولاة العثمانيّين ولا يدفعون الضرائب الزائدة وليس للولاة مهابة في قلوبهم، ونتيجة الشعور بالعزّة والقوّة جعلت التفكير دائماً يذهب إلى الإستقلال والحرية التامة، وهذا الذي دعا أمير جبل عامل الشيخ ناصيف النصّار أن يتّفق مع الأمير ظاهر العمر في فلسطين وأبو الذهب من مصر على تحرير سوريا وإخراجها عن سيطرة العثمانيّين والتي أدّى بالفعل إلى هروب الوالي (عثمان باشا)، ولولا خيانة أبو الذهب لكانت المنطقة حازت على الإستقلال التام عن العثمانيّين، وعندما رجع أبو الذهب بقواته إلى مصر، اضطر الشيخ ناصيف والأمير ظاهر العمر أن يعودا إلى جبل عامل وفلسطين، وبعد رجوع الوالي العثماني إلى دمشق قرّر أن ينتقم من أهالي جبل عامل كونهم الأساس في معركة دمشق، ومع ذلك لم يجرأ أن يأتِ وجهاً لوجه فجاء بقواته التي تجاوزت العشرة آلاف مقاتل والمجهّزة بأحدث العدّة، ونزلوا على (بحيرة الحولة) وعندما عرف الشيخ ناصيف بالأمر زحف إليهم بعدة مئات من الفرسان البواسل فسحق جيشهم وقتل الكثير منهم وهرب البقيّة يجرّون أذيال الخيبة والهزيمة، وهذا ما زاد من حقد العثمانيّين أكثر على أهالي جبل عامل، وهذا حدث سنة 1185 هـ، واستمرّ هذا الحضور القويّ لجبل عامل حتى كانت الإنتكاسة التي لحقت به جرّاء مقتل الشيخ ناصيف النصّار في معركة (يارون) سنة 1195 هـ الموافق سنة 1781 م مع جيش الجزّار، ولولا أن زلّت به قدم فرسه لما تمكنوا من النيل منه مع أن قواته لم تتجاوز سبعمائة مقاتل، وخسر الجزّار في تلك المعركة ما يقرب من ثلث جيشه، إلا أنّ مقتل القائد ناصيف أشاع الوهن والضعف ممّا كان مدخلّا لبسط الجزّار سيطرته على جبل عامل وبالأخصّ بعد نكبة شحور سنة 1198 هـ والتي كانت محاولة مستميتة لإعادة المجد والعزة مجدداً إلى جبل عامل، لكن العوامل الخارجية والداخلية لم تكن لتسمح بهذا الإنتصار، ولا أعرف إذا كانت هذه الأعمال الذي تُنبئ بلا شكّ عن عزّة وكرامة وشجاعة أصحابها في تقديري بشكل دقيق إلّا أنّ هذا شيء، والتقدير الصحيح شيء آخر، وهذا يحتاج إلى نقاش ليس فيه إلّا فائدة واحدة هي أن نستفيد نحن من طريقة التعاطي مع أوضاع مشابهة لها، لكن شرط أن لا يؤثر هذا النقاش على المُسلّم بمظلومية أهالي جبل عامل وعلى إجرام العثمانيّين ومن معهم.
المهمّ أن المجرم أحمد باشا الجزّار استطاع أن يُدمّر جبل عامل وأن يُعيده إلى نقطة الصفر فهجّر العلماء وأحرق آلاف المكتبات وهجّر الناس وعذّبهم.
إن شاء الله في بحثي في هذا المؤتمر سوف أسلّط الضوء على النهضة العلمية الثانية التي إنطلقت بعد نهاية حكم الجزّار سنة 1219 هـ من كوثرية السيّاد بعدما كان جبل عامل محطة مضيئة في سماء المنطقة، عندما استطاع ذلك القائد الفذّ الشيخ محمد بن مكي الجزيني المعروف (بالشهيد الأول) في أواسط القرن الثامن هـ من إيجاد هذه الحاضرة العلمية التي استمرّت حتى نهاية القرن الثاني عشر هـ، حيث كانت تلك المدرسة الجامعة في بلدة شقراء برئاسة العلامة السيد أبو الحسن موسى الحسيني الذي توفي سنة 1194 هـ الموافق 1780 م.
أيّها الأعزاء
إنّ الإطلالة على تاريخ جبل عامل ومعرفة ما حدث مع أهلنا في المراحل المختلفة سوف نستخلص منه العبر والتجارب، فنبتعد عن نقاط الوهن، ونبقى يقظين لمواجهة أمثالها، وندرس الحيثيّات التي أدّت إلى تلك الأوضاع التي نحتاج معها إلى فهم دقيق للحيثيات التي نجهلها نتيجة بُعد المسافة وعدم الإعتماد على دقّة النقل التاريخي الذي يروي الأحداث كما هي من دون فهم الحيثيات التي لها دخالة في صناعة الحدث.
لهذا ومن باب الأمانة لا بد للباحث من إيجاد العذر مهما أمكن وعدم الحكم على أحداث هو بعيد كل البُعد عنها، وخصوصاً عندما تكون تلك الأحداث على خلاف السياق العام والمعروف. نعم لا بُدّ من قراءة دقيقة لتلك المرحلة فالحوادث التاريخية تتكرّر دائماً، وان كانت بجهات وأساليب مختلفة، والذي جعلنا نفكّر بما حدث في عهد السفّاح أحمد باشا الجزّار هو ما تعيشه منطقتنا من باكستان وافغانستان مروراً بمصر واليمن وصولاً إلى العراق وسوريا ولبنان، حيث تتشابه ظاهرة أحمد باشا الجزّار وتتقاطع مع كثير من هذه الحوادث التي حصلت وقد تحصل في منطقتنا، إذاً الهدف من البحث في تلك الحقبة هو بالضبط لمعرفة ماذا حدث في نهاية القرن الثاني عشر هـ، والشيء الثاني لمعرفة مكامن القدرة والهمّة عند أهلنا في إستعادة المبادرة وإعادة الحياة العلمية والإجتماعية والإقتصادية إلى جبل عامل وعدم الإستسلام، هذا بالإضافة لإستخلاص العِبر لمواجهة أوضاع مشابهة، وخصوصاً ما نشهده من دعمِ قوى الإستكبار لقطعان المنهج التكفيري الخارجة عن الإنسانية قبل الإسلام، قيقتلون النفس التي حرّمها الله ويهتكون الأعراض ويسلبون الأموال ويمزّقون وحدة المسلمين، ويعملون بالكامل لمصلحة العدو كي تتاح له فرصة نهب الثروات والنيل من هذا الإسلام العزيز، لذا كان من الواجب ان نتصدّى لهذه الفئة الباغية والمفسدة في الأرض، وعلى أسيادهم أن يدركوا (أنّ على الباغي تدور الدوائر) وانهم سوف يدفعون ضريبة دعمهم لشر خلق الله كما ورد في الخبر الشريف (من أعان ظالماً إبتلي به)
في الختام:
أسأله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير والصلاح وأن يُمكّننا من رقابهم وأن يفتح بصيرتنا على قراءة دقيقة لتاريخنا الذي يحتاج إلى الكثير من العناية والتوثيق، وعلى قاعدة من لا يشكر المخلوق لا يشكر الخالق لا بدّ من شكر خاص للسادة الباحثين على جهدهم في سبيل نجاح هذا المؤتمر.
كما لا بدّ أن أشكر اتحاد بلديات جبل عامل بشخص رئيسها الأخ العزيز الحاج علي الزين على تعاونه معنا في إقامة هذا المؤتمر، وهو موصول بشكر راعي المؤتمر الصديق الحاج محمد رعد، والشكر للسادة العلماء والإخوة في المنطقة الأولى بشخص رئيسها العزيز السيد أحمد صفي الدين على مساهمتهم في نجاح مؤتمرنا هذا، كما لا بدّ أن أشكر ممثّل سعادة سفير الجمهورية الإسلامية الدكتور غضنفر ركن آبادي، ومسؤول حركة أمل في اقليم جبل عامل الحاج محمد غزال، وسعادة النائب قاسم هاشم وبلدية مجدل سلم ورئيسها الأخ علي ياسين الذي قدم الخطباء وسماحة رئيس مجلس الأمناء في تجمع علماء المسلمين الشيخ أحمد الزين وأمام البلدة سماحة الشيخ علي ياسين والأخوة والأخوات جميعاً.
[1] عضو المجلس المركزي في حزب الله والمشرف على أعمال المؤتمر
كلمة راعي المؤتمر النائب الحاج محمد رعد[1]
إن العنوان الذي اختير لأعمال هذا المؤتمر اليوم: «جبل عامل وعهد الجزّار بين النكبة والنهضة» دفعني للتأمل واستحضار العديد من المحطات التاريخية التي عبرتها هذه المنطقة وما تخلل ذلك من ظلمٍ وقهرٍ واضطهادٍ واستبداد قابله أهلنا وأجدادنا بالصبر أولاً ثم بالانتفاضات والمواجهات والمقاومة انتصاراً للحق ودفعاً للعدوان وطلباً للحرية وتحقيقاً للكرامة وذوداً عن الوجود والهوية والانتماء.
فعهد أحمد باشا الجزّار كان قد سبقته عهود كثيرة أذكر على سبيل المثال لا الحصر، عهد الصليبيين ثم المماليك وصولاً إلى العثمانيين، ثم تلا ذلك كله الإنتداب الفرنسي فالاحتلال الصهيوني والمظلة الدولية الاستكبارية التي لا تزال ترعاه وتحميه.
وفي كل هذه المحطات التاريخية كان جبل عامل محل استهداف مباشر وغير مباشر سواء على مستوى الوجود السكاني فيه أو على مستوى الهوية والانتماء والموقع والدور.
وعلى الدوام كانت مظاهر الاستهداف ظلم ومحاولات اخضاع وفرض اجراءات تعيق بناء الوحدة والقوة فضلاً عن الجهود الماكرة لتذويب الشخصية الحضارية لأبناء هذا الجبل العاملي الذين ينتمون إلى مدرسة ونهج أهل بيت رسول الله محمدP وما يجسِّدونه من أصالة انتماء إلى الاسلام ومعيار صحة التطبيق لقيم الدين الحنيف وأحكامه، وأصولٍ وقواعدَ فهمٍ دقيق تتفتح منها مفاهيم وأفكار متجددة عبر اختلاف الظروف والأمكنة والأزمان، ويمكن من خلالها معالجة مختلف مستجدات العصر والتفاعل معها اقراراً أو انكاراً، تطويراً أو اهمالاً، تكيّفاً أو مواجهة، بروح لا تنفصم عن النص والجذور وبأداء لا تتحكم فيه رياح الميول والأهواء ولا يتكلس أو يتحجر لتعبره الأحداث دون أن يؤثر فيها أو يضبط مساراتها وإيقاعها.
وينبغي أن نسجّل أن تنامي فاعلية ودور جبل عامل مردّه إلى هذا الانتماء الأصيل والثابت لهذه الهوية الاسلامية العريقة التي تمنح حامليها المخلصين وضوح رؤيةٍ وقوة منطقٍ وقدرة صمود وحيوية هائلة على مواجهة الأعاصير أو احتوائها.
أردت من هذا المدخل أن أؤكد على الخصائص التي بالاستناد إليها استطاع ويستطيع أهلنا في جبل عامل أن يحوّلوا كل استهداف أو تهديد لوجودهم أو دورهم، إلى فرصةٍ لإثبات الوجود وتعزيز الدور.
وهذه الخصائص هي التي تفسِّر الثبات والنضج والفاعلية المذهلة للعامليين عبر التاريخ وفي زمننا الحاضر والمقبل.
ويسعدني أن أشير في هذا المؤتمر إلى جملة نقاطٍ للإضاءة عليها:
أولاً: إن ظلماً كبيراً طاول تاريخ جبل عامل وهو الوجه الآخر للظلم الذي كابده أهله طوال العهود الماضية.. ولعلّ أبشع الأمور أن تغيّب صفحات العزّ والبطولة وشواهد العلم ومآثر الأجيال السابقة بهدف أن تولد أجيال بدون ذاكرة، فتترعرع في أحضان بيئة الأمر الواقع الوافد مستنسخة ثقافته وأعرافه وأنماط سلوكه ومناهج حياته..
ولولا بعض رذاذ وبضع رشحات تنسمها الأجداد والآباء عن تاريخنا العاملي وحكاياه التي نقلها إلينا وحققها ثلة من المخلصين من علمائنا وأعلامنا ورجالات الفكر والتاريخ منا، لما بقي للذاكرة ما نستهدي به في حاضرنا..
لذلك ننظر بتقديرٍ كبيرٍ إلى كل جهد معاصر يهدف إلى تأريخ وتقييم الوقائع والأحداث والأدوار التي تزخر بها مرحلتنا الراهنة وحفظها والإكثار من تداولها والإحاطة بها من مختلف الجوانب من أجل أن تصل إلى أجيالنا المقبلة عن طريقنا، بدل أن تصل إليهم مزوّرة ومشوّهة عن طريق خصومنا وأعدائنا.
ومما لا شك فيه أن العمل المؤسساتي هو أكثر فاعلية وأنمىٍ إنجازاً في هذا المجال من العمل الفردي المطلوب أيضاً..
بناءً عليه، نثمّن عالياً الدور المسؤول الذي تنهض به جمعية الإمام الصادق Q في هذا السياق، وكل المراكز والهيئات المماثلة، ونؤكّد على دور الأساتذة الجامعيين في الإهتمام والحض والتشجيع لطلابهم على إعداد الرسائل والأبحاث الجامعية التي تتناول معالجة القضايا والأحداث والأدوار الفاعلة في مرحلتنا الحاضرة والماضية، كما نؤكّد على وجوب التنسيق وتوزيع الأدوار بين المهتمين لتزخيم النتاج المطلوب وتسويقه عبر مختلف وسائل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع وعبر تسجيل الندوات والمؤتمرات والمحاضرات وعبر طباعة الكتب واستحداث مواقع إلكترونية متخصصة بهذا المجال.
ثانياً:إن ما ارتكبه أحمد باشا الجزّار في أواخر القرن الثامن عشر ميلادي، من فظائع وجرائم وانتهاكات وتصفيات وحملات تشريد ليس إلا نموذجاً لما كابده جبل عامل على أيدي الظالمين والطامعين والمستبدين قبله.. إلّا أن المؤكّد أن الجزّار تعمّد مصادرة جميع الكتب والمؤلفات والمخطوطات من المكتبات التي كانت حافلة بمختلف أنواع الكتب القيمة والثمينة، ونقلها على ظهور الجمال إلى عكا حيث وزّع الكثير منها على الأفران لحرقها رغم أن بعضها احتفظ به وأهدى بعضاً آخر منها إلى عدد من الزعامات والسلاطين آنذاك، فيما سرق العكاويون بعضاً آخر وباعوه مجدداً لبعض العامليين، وتمكن بعض آخر من العامليين أن يهرّبوا بعض الكتب إلى العراق وإيران والهند.
إن هذه الحملة التي نفذها أحمد باشا الجزّار ضيعت من تاريخنا مآثر ثلاثة قرون للعامليين زاخرة بالعلوم والذاكرة والإبداعات.
ثالثاً:إن النكبة التي تسبب بها الجزّار في جبل عامل، أدّت إلى تشرّد عائلات وأبناء قرى وبلدات وعلماء إلى بعلبك والبقاع وإلى العراق وإيران.. وما إن أذنت الأوضاع بالتغيّر وخصوصاً بعد هلاك الجزّار في العام 1804 م حتى عاد معظم هؤلاء إلى قراهم وبلداتهم لإعمارها من جديد ونشط العلماء في إنشاء الحوزات العلمية في ميس الجبل وبنت جبيل وحناوية والنبطية وجزين وجباع والكوثرية وغيرها، ثم تناسلت هذه الحوزات في قرى وبلدات أخرى وأحدثت نهضة فكرية وثقافية استعاد العامليون فيها حضورهم وظهر فيهم مقاومون أبطال تمرسوا على حرب العصابات ضد الولاة المستبدين ومن بعد ضد الإنتداب الفرنسي الذي ابتليت به البلاد.
إن هذا الأمر يدلل أولاً على مدى تعلق العامليين بأرضهم ووطنهم وعلى مدى توقهم للعيش فيه والعودة إليه بعد التشرّد..
ويدلّل أيضاً على مواكبة العمل المقاوم للنهوض الثقافي وانتشار الوعي بين العامليين.
وبناءً عليه نؤكّد أن حب العامليين لأرضهم هو أصلٌ يبنى عليه سلوكهم الوطني دائماً، وأن وعيهم الديني والثقافي يشحذ روحهم الوطنية للتصدي والمقاومة ضد الغزاة أو الطامعين.
وهاتان ميزتان ثابتتان لا يمكن لمنصفٍ أن يشكك فيهما ولا يمكن لمدققٍ أن يتجاوزهما في تحليل سياسات ومواقف وتحركات الجمهور في جبل عامل فضلاً عن قياداته.
رابعاً:إن أحداثاً حصلت ضد أبناء جبل عامل تورط فيها أمير جبل لبنان يوسف الشهابي لمساعدة والي دمشق آنذاك عثمان باشا، كانت قد سبقت تسلّم أحمد باشا الجزّار ولاية عكا، وهذه الأحداث لا شك أنها رغم انتصار العامليين فيها إلا أنها استنزفت قدراتهم وبعض قياداتهم، الأمر الذي استفاد منه الجزّار لتوقيت حملته وتحشيد قواته ضدهم واستباحة قراهم وتدمير منازلهم وفي هذا ندرك مدى التأثير السلبي للشخصيات والقوى المحلية المتواطئة والتي يستخدمها الخصم القوي لتسهيل مهمته والتمهيد لها باستنزاف قوى النهوض وتشتيت قدراتهم.
أيها الأعزاء،
إن الحاضر هو امتداد للماضي، وما نواجهه اليوم من تهديدات ينبغي أن نحوّله إلى فرصٍ للإنتصار والتقدّم.
إذ لا مجال للتردد والتهاون في التصدّي للغزاة والمتآمرين على بلدنا لبنان وبالإستناد إلى الخصائص العاملية تمكنّا وسنتمكن بإذن الله من مواجهة الإستهدافات الراهنة ومن يقف وراءها ومن يستخدم فيها.
وفي الوقت الذي تستنزف فيه قدرات أمتنا العربية بنزاعات جانبية خارج دائرة المواجهة للعدوّ الحقيقي للأمّة يبقى المقاومون من أبناء جبل عامل ونظرائهم في كل لبنان، الدرع الحصين الذي يقي البلد والمنطقة من شرور الإعتداءات والحروب الإسرائيلية، وستبقى معادلة الشعب والمقاومة والجيش هي الأقدر على مواجهة كل التهديدات، خصوصاً بعدما أثبتت هذه المعادلة جدواها في الصراع وحفظت لبنان ودحرت مشروع الغزو الصهيوني المدعوم من قوى الإستكبار الغربي والنظام العربي المتواطئ.
إن بلداً يمتلك مثل هذه المعادلة لمقاومة العدوّ، لا شك أن أبناءه الوطنيين يزدرون المشهد الرسمي للنظام العربي الذي ظهر مؤخرًا في الدوحة حيث انعقد هناك مؤتمر للذل والعار والبؤس والهزيمة وحيث لوّث الزيف والتآمر نضالات شعوب المنطقة وأحرارها.
إن هذا المشهد يكشف حجم الوهن الذي أصاب أنظمة الخنوع فيما أكّد ضرورة حفظ المقاومة لصون الروح الوطنية وإذكاء الأمل في نفوس الشرفاء من العرب والمسلمين.
إن استنزاف سوريا ومحاولة إسقاط موقعها، سيرتد سلباً على كل بلدان التواطئ في المنطقة.
وإن اللبنانيين، خصوصاً بعد مستجدات الوضع الحكومي، وغياب التوافق على قانون الإنتخاب، مدعوون للترفع إلى مستوى المسؤولية التاريخية الوطنية والقومية ومواجهة هذه المرحلة بمزيد من الحرص على التفاهم والتماسك وتجاوز الشأنيات والطموحات والمكتسبات الخاصة والفئوية والتشبث بأسباب الانتصارات التي حققها لبنان في السنوات الأخيرة الماضية ضد العدو الصهيوني وأسياده..
إن أية حكومة مقبلة أيّاً يكن رئيسها المكلّف تشكيلها، مطلوبٌ منها أن تعيد ترسيم الثوابت الوطنية التالية:
- الحفاظ على معادلة القوة التي تقوم على ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة.
- اعتماد قانون انتخاب يؤمنّ تمثيلاً عادلاً ويضمن مناصفة فعلية بين المسلمين والمسيحيين.
- تحقيق مشاركة واقعية تسهم في تعزيز الإستقرار الداخلي وتسقط ادعاءات الإستهداف عند البعض وتحفظ الأوزان الحقيقية للقوى الأخرى.
- التأكيد على أن اسرائيل هي العدوّ الأساسي للبنان واللبنانيين، وترجمة ذلك عملياً وبشكل جدّي وواضح في السياسات الداخلية والخارجية.
- حماية السيادة والكرامة الوطنية ورفض الخضوع لأي ابتزاز إقليمي ودولي يمس لبنان في سيادته الوطنية وخياراته السياسية وكرامة أبنائه.
ختاماً..
أتوجه بالشكر لكل المشاركين في هذا المؤتمر ولكل المساهمين في إدارته وتنظيم جلساته.. والشكر موصول لجمعية الإمام الصادق Q ولرئيسها الأخ العزيز والمجاهد سماحة الشيخ حسن بغدادي وأملنا بالله كبير أن يكلل جهوده وجهودكم جميعاً بنجاح هذا المؤتمر الذي كان هناك حرص شديد على إقامته في مجدل سلم عرين العلماء والمقاومة والله من وراء القصد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1] رئيس كتلة الوفاء للمقاومة.
الجلسة الأولى
ترأس الجلسة الأولى
الشيخ علي ياسين[1]
وممّا قاله:
هذه النكبة التي حلّت بجبل عامل لم تكن الأولى ولا الأخيرة، وإن كانت بقيّة النكبات التي أصابته من المماليك وغيرهم لا تقاس بما حصل في عهد السفّاح أحمد باشا الجزّار سنة 1219 هـ، الذي دمّر جبل عامل من خلال حرق المكتبات التي كانت تضم كل منها آلاف الكتب والمخطوطات الثمينة.
[1] رئيس اللقاء العلمائي في صور.
الظروف التي عاشها جبل عامل إبان محنة الجزار
د. محمد كوراني[1]
ما أن خضعت البلاد الشامية ومصر لحكم السلطان العثماني سليم الأول سنة 1517م حتى يمّم وجهه شرقاً برفقة علماء الأتراك لاستحضار الفتاوى بقتل الشاه إسماعيل الصفوي شاه بلاد إيران آنذاك، ولم يقل إبن إياس الدمشقي، لماذا أفتى العلماء بقتل ذلك الشاه شرعا، لكن صاحب كتاب تاريخ جبل عامل، محمد جابر آل صفا يقول، ونحن نقول: «لأنه على مذهب الشيعة الإمامية». وقد أصابت شروره مدينة حلب، وكان معظم أهلها من الشيعة الإمامية فقتل منهم مقتلة عظيمة... وامتد بغيّه إلى شيعة سوريا الجنوبية فاشتد الإضطهاد والضغط عليهم، وأضرم الأتراك العداوة بينهم وبين أهل السنة كما جرت عادتهم (فرّق تسد).. فاستصدر الفتاوى من بعض علماء دمشق باستحلال قتالهم وهدر دمائهم، ومحو آثارهم، واستعباد ذراريهم، وأن لاتُقبل لهم توبة إلى آخرما ورد من فتاوى الشيخ نوح الحنفي[2].
وقد أجمع المؤرخون أنّ الإدارة التركية العثمانية طيلة أربعمائة عام كانت شرّ إدارة منيت بها الأمصارالتي دخلت تحت حكمهم... سادت الفوضى، واختل الأمن، وانتشر الفساد، وخربت القرى وهجرها السكان، وتلفت النفوس وبارت الزراعة وداهم البلاد الفقر وعمّ البؤس والشقاء[3]. وكان من عظيم الرزايا وأفظع النكبات على السكان، أن «معظم الولاة من ذوي الأخلاق الفاسدة لا همّ لهم إلاجمع الأموال، ومصادرة أغنياء الشعب، والتضييق عليهم حتى أتى زمن وبعض الناس يحمد الله على الفقر»[4] وكانت سياستهم في بلاد العرب تدور على إضعاف قوى الأمة وإذلالها، وتعرية مدنها من ذخائرالعلم والبضاعة ومحو مجد العرب من سجل التاريخ[5].
..وجبل عامل قطر من الأقطار التي خضعت لظلم الدولة العثمانية كباقي بلاد الشام ومصر، وما العامليين في عهودهم من البلاء والمحن لم يكفهم جور الترك واضطهادهم، وانعكاس الحروب الدامية بين الترك والصفويين على أهالي جبل عامل، لا لسبب إنما لأنّ سكان جبل عامل هم على نفس المذهب الذي كانت تدين به الدولة الصفوية في إيران(التشيع)، فاستعانوا على العامليين بأهل المقاطعات المجاورة من أنصارهم. فأصبحت بلاد عاملة عرضة لغارات االشمال والجنوب والشرق، «فاشتبكوا معهم في حروب دامية رخصت فيها النفوس واستهينت الأرواح»[6].
..من أجل ذلك استمات العامليون في الدفاع عن موطنهم، لحفظ كيانهم. «وقد خلق منهم هذا الإرهاق الشديد... شعبا حربيا يهزأ بالمنايا ويرى الموت حياة خالدة تحت شفار السيوف... وكانوا لا همّ لهم سوى شحذ السيوف وتسديد المرمى والكر على ظهور الخيول يعلمونها أولادهم منذ الصغر. لايأبهون بمال يُجمع أو قصرٍ يبنى أوغرس يجنى. ولم يكن فخرهم إلا بعدوٍ يُغلب[7].
«يبدو من خلال هذا السياق وما أورده المؤرخون أنّ حكام المناطق المجاورة وبأمر من الولاة العثمانيين لم يتركوا للعامليين بارقة هدوء واستقرارمن أجل إضعافهم والقضاء عليهم وإرغامهم على ترك مناطقهم كما جرى لمناطق كثيرة في بلاد الشام منذ بدايات العهد العثماني. وتأكيداً على ذلك ما قام به المعنيون أيام فخر الدين من غزواتٍ متتاليةٍ ومنسّقةٍ في غالب الأحيان بتأييد أو تأليب الباشا وان الذين أظهروا عداءً وحقداً دفيناً على أهل الجبل(جبل عامل)... حيث استهدف فخرالدين هذا قرية الكوثرية في إقليم الشومر»[8] ويبدو أنّ الأسرة الشهابية قد تمتعت أيضاً بتأييد متعاظم من الباشاوات حيث تمكّن أمراء هذه الأسرة من التصرّف بعد بشير الأول في كثير من الأحيان كما يحلو لهم... وفي مرحلة تالية أي منذ تسلّم الأمير ملحم بن حيدر شهاب تحول الإضطهاد ليطال الأهالي العاديين إضافة إلى المشايخ[9] فكانت أولى المواجهات بينه وبين العامليين في قرية أنصار سنة1731م ثم هاجم جويا[10]ثم هاجم أنصار ثانية سنة 1734م وفي عام1743م هاجم الأمير ملحم الشهابي أنصار أيضاً، واستبسل العامليون وانسحب ملحم الشهابي دون الحصول على مكاسبٍ وفيما كان العامليون يلملمون جراح معركة أنصارالثالثة فاجأهم جيش باشا دمشق بقيادة سليمان باشا وقد أقسم أن يُحرق بلاد بشارة، وزحف بجيشه ونزل في مرج قدس أقصى جنوب شرق جبل عامل لكنه مرض هناك عدّة أيام وتوفي بعدها وتراجع جيشه ونجا جبل عامل من الحريق.[11]
..وبعد مرور سنة واحدة على معركة أنصارالثالثة بادر العامليون للهجوم متحدّين الوجود الشهابي في وادي التيم مقر الشهابيين الأصلي وجرت المعركة في شمالي مرجعيون وتمكّن العامليون من تحقيق انتصارهم الميداني الأول.. وقد أدى انتصار مرجعيون إلى يقظة شاملة في جبل عامل.. وكانت القيادة التي فتحت هذا الفتح المبين هي القيادة الفذّة للقائد التاريخي ناصيف النصار[12].
وعلى ما يبدو أن سياسة الأمراء الشهابيين كانت تخضع لعوامل خارجية ومخططات أجنبية وطائفية لها أهدافها ولها مؤثراتها في توجيه سياسةالأمراء وفي إشعال نار الحروب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد[13]. وعلى المقلب الآخر تشابهت حركات القوى الشعبية في المنطقة، وكانت واحدة لدى الجميع وهي أن تتحالف وتستعد لمواجهة الظروف والأخطارالمتوقعة وخصوصاً بعداحتمال تلاقي المصريين والفلسطينيين والمتاولة في جبهة واحدة[14].
ولقد أورد المعلم ميخائيل نقولا الصباغ مايؤكد بأس الشيعة وهيبتهم في أعين الجيران وأهمية التحالف معهم، ومما قاله: «إن الشيخ ظاهر العمر إلتفت إلى المتاولة وهم قومٌ من ذوي البأس والجسارة والنجدة وكبيرهم - يوم ذاك - الشيخ ناصيف النصار... وبلادهم بلاد بشارة بين جبل الدروز وبلاد صفد[15].ولما تطاول بعض حكام الجوارعلى أطراف جبل عامل قاصدين ضمّ بعض قراه إلى إقطاعهم، ردّ الشيخ ناصيف جواباً يرفض فيه هذا التطاول مغلظا بالقول: «لاتظن أننا نظير سوانا فوالله إنّ عندنا مقابل سيفك سيوفا أحدّ منه وبإزاء كيدك مكائد كثيرة، فالأولى بك أن تدعنا غافلين عنك باعتدائك على جيراننا والآن والله العظيم إنك تندم لأننا نحن طالما بغي علينا فانتصفنا من الباغي، وعاهدنا فقمنا بعهدنا وكنّا من أنصار أصحابك فدونك الأمرين، أنت ورأيك ونحن نرى فيما يبدو منك والسلام»[16].
..ولعل إسم الشيخ ناصيف النصار الذي يتكررمعنا في هذه الحقبة هو الإسم البارز الذي سبق حملة الجزار، حيث لم يسبق أن مرّ في تاريخ جبل عامل أيام الحقبة العثمانية رجلٌ بتلك الصفات القيادية. وهذا «بازيلي» القنصل الروسي في صيدا يصف العامليين وشيخهم ناصيف النصار بشيء من الدهشة حيث يقول: أنهم كانوا بقواههم الجامحة يرفضون التعايش مع الباشاوات كما يرفضون ذلك مع أمراء جبل لبنان... والمتاولة هؤلاء يقودهم الشيخ القوي ناصيف النصار الذي كان يستطيع أن يُرسل إلى الميدان عدّة آلاف من الفرسان الممتازين، وكان يملك أراضي غنية والعديد من الحصون[17]. هذه القوّة العاملية الهامة أغرت الشيخ ظاهر العمر بالتقرب منهم وليس بمعاداتهم، وأقام الشيخ ظاهر حلفاً مع الشيخ ناصيف تعود فوائده على سكان المنطقتين المتجاورتين، الجليل وجبل عامل[18]. وبالمقابل كان الشيخ ناصيف في ذلك الوقت يحاول توحيد كلمة العامليين والفلسطينيين والدروز والبعلبكيين، وأن يكوّن من الجميع وحدة واسعة الأطراف، وأن يجعل من هذه الوحدة سوراً منيعاً لا يجد الأتراك فيه منفذاً يدخلون فيه لتفرقتهم ثم الإستعانة ببعضهم على الآخر[19]. حاول الشيخ ناصيف تكوين وحدة واسعة النطاق وكأنه وحده المعني بهذه المهمّة دون من عداه من الزعماء آنذاك.
ربما أضمر الجزار السوء والكراهية للشيخ ناصيف والعامليين منذ أعان ناصيف وحليفه ظاهر العمر الأمير يوسف الشهابي على انتزاع بيروت من يد الجزار[20].. وأما أحقاد الأتراك ضد العامليين، فما مرّ في هذا البحث وزيادة على ذلك دليل على صحّة الخطط الموضوعة والمدبّرة مسبقاً لإضعاف وإبادة الشيعة في جبل عامل وهذا ما سينذر بالعاقبة الوخيمة عند الفرض بذلك. ولعل والي دمشق العثماني، عثمان باشا كان أكثر الولاة تعصّباً وإساءةً ضد العامليين، وكان المشايخ العامليون متنبهين لكل ما يُحاك ضدهم من دسائس وعلى رأسهم شيخ مشايخ الجبل العاملي الشيخ ناصيف النصار، وها هو الشيخ المذكور يعيّن الأمير يوسف الشهابي في حربه ضد عثمان باشا والي الشام في واقعة «المغيْثة» (البقاع) وكان الباشا قد جرّد حملة مؤلفة من خمسة عشر ألف مقاتل، ولما تدخّل الشيخ ناصيف إلتجأ عثمان باشا إلى الفرار والنجاة تاركا مخيّمه وذخائره الحربية غنيمة باردة [21].
كان علي بك الكبير حاكم مصر طموحاً، وحاول توحيد مصر والشام وتحالف مع الشيخ ظاهر العمر حاكم فلسطين، وبدوره تحالف الشيخ ظاهر العمر مع العامليين، ولما توجه محمد أبو الذّهب قائد المصريين وصهر علي بك الكبير نحو الشام لطرد الأتراك، حصل ما لم يكن بالحسبان فقد انثنى أبو الذّهب وعاد أدراجه نحو مصر بعد وعد سرّي تلقّاه من باشاوات الأتراك في الشام، ليصبح سيد مصر بدل علي بك الكبير، وهذا ماجعل عثمان باشا والي الشام يغتنم الفرصة للإنتقام من الذين ساندوا أبا الذّهب (الشيخ ظاهر العمر والشيخ ناصيف النصار) «فتحرك الباشا بجيشٍ قوامه عشرة آلاف مقاتل نحو بحيرة الحولة وعسكرعلى ضفّتها الغربية واثقاً بأن النصر سيكون حليفه...وما أن خيّم الليل حتى هاجمه الشيخ ظاهر العمر والشيخ ناصيف النصار والشيخ علي الفارس الصّعبي والشيخ حمد العباس والشيخ حمزة النصار بثلاثماية من الفرسان لاغير في 15 آب 1771م، وانهار عثمان باشا وانهزم ومات أكثر جنوده غرقاً في البحيرة وتركوا أسلحتهم وأمتعتهم وقُتل منهم ثمانية آلاف ولم يُقتل من فرسان العامليين إلاّ رجلٌ واحد اسمه الشيخ جبر من قرية الحمادية [22]. وكان من نتائج هذه المعركة فرار والي صيدا درويش باشا إبن عثمان باشا المهزوم. اعتُبرت هذه المعركة بحق أقصى ما وصل إليه العامليون في تاريخهم الحربي في العهد العثماني، بحيث استطاعوا أن يثبتوا القدرة على هزيمة من حولهم، لا بل تغيير الواقع السياسي الذي رسمته الدولة العثمانية[23].
مهّدت معركة البحرة لمعركة ثانية هي معركة كفر رمان. وسببها أن درويش باشا والي صيدا لجأ إلى أمير الشوف يوسف الشهابي بعد هزيمة أبيه في معركة البحرة ليكون وسيلته المادية في الهجوم المباشر على العامليين... بعد أن قدّم مغريات كثيرة للأمير يوسف بما في ذلك السلاح والعتاد. وسبب المعركة كما يرويها الشيخ الفقيه(جبل عامل في التاريخ) ومحمد جابر آل صفا (تاريخ جبل عامل) وبقية المؤرخين العامليين: أنّ مكاريين من كفررمان كانا يحملان عنبا في قرية نيحا الشوفية فاعتدي عليهما بالضرب وسلبا ولم يلبثا أن ماتا.. وهذا مادفع الشيخ علي الفارس حاكم منطقة النبطية أن يطلب من الأمير يوسف تسليمه القتلة. فكان رد الأمير يوسف تسويفاً. وبعد مدة وُجد أربعة رجال قتلى من أبناء نيحا الشوف في المكان الذي قُتل فيه المكاريان. فاتهم الأمير يوسف المتاولة بقتلهم وسار إلى جبل عامل بثلاثين ألفا [24]. وبدأ بإحراق القرى في إقليم التفاح حتى وصل إلى مشارف النبطية وكان الشيخ علي الفارس قد احتشد من أجل الدّفاع بعدد من الفرسان لا يتجاوز الخمسماية فارس وأتت النجدة من قلعة تبنين بقيادة الشيخ ناصيف النصار وكان ذلك يوم 21 تشرين الأول 1771م وما كاد العامليون يشتبكون معهم حتى وجدوا فيهم ضعفاً، وزاد الطين بلّة عندما اندفع الشيخ ناصيف النصار إلى ميدان المعركة يقتل ويمزق يشتت ويأسر الأمير يوسف نفسه ثم يعفو عنه ويُهزم المهاجمون ويغنم العامليون أسلحةً وذخائروعتاد [25].
تركت معركة كفر رمان في الوجدان العاملي أثراً بيّنا، وتحولت إلى ملحمة مجّدها الشعراء الزجليون بقصائدهم... إن هذه المعركة اختصرت تاريخ جبل عامل العسكري وأظهرت قدرة الشعب العاملي الصغير والمحاصر بالأعداء من كل صوب، هؤلاء الأعداء الذين كانوا يستمدون قوّتهم من عداء الدولة العثمانية للعامليين.
كانت هزيمة الأمير يوسف وجيشه في كفر رمان إضعافاً لعثمان باشا الذي ما لبث أن توفي وأضعف ولده درويش باشا والي صيدا وهذا ما دفع الدولة العثمانية أن تولّي عثمانياً آخرهو عثمان باشا المصري وكان يحمل تكليفا بإحلال السلام في سوريا مهما كلف الأمر سواء بالسلاح أو بالمفاوضات [26].كان على باشا دمشق الجديد أن يسترجع مدينة صيدا ويعيد إليها واليها درويش باشا وبرز منسق للإتصالات بين الأمير يوسف الشهابي وباشا دمشق هو أحمد باشا الجزار الذي سيبدأ بالظهور على مسرح الأحداث في ولايتي صيدا ودمشق حيث يتبع جبل عامل.
كان الأمير يوسف لايزال يعيش تحت وطأة الخسارة العسكرية الفادحة التي حلّت في كفر رمان. لكن أحمد باشا الجزار حاول إقناعه بالدور العسكري الذي سيناط به وذلك بإغرائه بالمشاركة في الحرب ضد العامليين والصفديين بصفة حماية لمؤخرة الجيش العثماني فاقتنع بذلك مكرهاً. وفي نفس الوقت كان الجزار ينسق مع والي حلب خليل باشا وقد أصبح الجزار هذا منسقاً للجيش العثماني الزّاحف على صيدا. وفي نقس الوقت كان جيش العامليين والصفديين بقيادة الشيخ ظاهرالعمر والشيخ ناصيف النصار, وفي شهر حزيران 1772م بدأ الجيش العثماني بالهجوم لكن مماليك علي بك الكبير الذين كانوا عند ظاهر العمر في عكا وجيش ظاهر العمر وجيش العامليين استبسلوا واستولوا على المدافع العثمانية ووجهوها باتجاه أصحابها وتراجع الجيش العثماني مهزوماً وانهزم معه جيش الأمير يوسف وتراجعوا نحو إقليم الخروب وراح جيش الأمير يوسف يفتك بحلفائه الهاربين من الجيش العثماني ويسلبونهم أمتعتهم وعدّتهم[27] وتصبح صيدا بأيدي الشيخ ظاهر العمر والعامليين. بعد هذه المعركة تمكّن الجزار من الإنسحاب ومعه عدد من الجنود الخاصين به وبعض أعوانه وتوجهوا إلى بيروت حيث تعهد لباشا دمشق بحمايتها وبتأييد من الباشا راح يحصّنها لحمايتها[28]...وبعد أن بدت علائم الصلح بين الدولة العثمانية والروس وانسحاب أسطولهم من المتوسط، وبعد انقلاب أبي الذهب مع الدولة على ظاهر وحلفائه، بعد كل هذه المفاجآت شعر العامليون بعجزهم وعجز ظاهر عن مجابهة الأحداث التي بدأوا يترقبونها والتي كان ظاهر نفسه يشعر بخطرها... وترك عكا وسار إلى قلعة هونين ليجتمع مع مشايخ العامليين وليتدبر معهم فيما يجب عمله ليدفعوا عن نفوسهم وعن البلاد شر أبي الذهب بالمال والمهادنة أو بالحرب والقتال [29]. ولكنه قتل غدراً بالطريق برصاص بعض الخونة من أتباع الدّنكزلي [30] وهو أحد قادته وشاءت الأقدار الغاشمة أن تلقي زمام الإيالة إلى أحمد باشا الجزارفعُيّن والياً على صيدا سنة 1776م وفي 1785م ضُمّت إليه ولاية دمشق... استفحل أمر الجزار ودانت له فلسطين وألقى الخلاف بين أمراء جبل لبنان فأصبح بعضهم يناوئ الآخر. كان تعيين الجزار والياً على صيدا يعني بالنسبة للعامليين نقل مشكلة الميري المتأخرة إلى الباشا الجديد وبالتالي يعني المواجهة المباشرة معه، لكن الجزار أجّل هذا الأمر إلى حين انتهاء مشاكله الكثيرة المحيطة به، لبث الجزار في عكا وجعلها مركزاً لولايته بعد تمكنه من جمع الرجال والمال شعر بأنه بلغ من القوة ما يكفي لمواجهة الأخطار المحدقة به وكان هدفه الأول القضاء على أولاد الشيخ ظاهر العمر.. فلجأ إلى المخادعة وسمح لهم بالدخول والخروج إلى عكا ساعة يشاؤون، ثم أوقع ثلاثة منهم.. ولم ينج من فخ الجزار إلا علي ظاهر العمر حيث استطاع الجزار أخيراً أن يرسل إليه مجموعة من رجاله تمكنوا من الغدر به والقضاء عليه في عملية سريعة[31] (تشبه العمليات الأمنية الخاطفة والسريعة في أيامنا ). وقد أمر الشيخ ناصيف النصار بحمل جثمانه ودفنه في بلدة عيناثا.
كان لمقتل الشيخ علي ظاهر العمر غدراً أثرٌ سيء على العلاقة بين الجزار وبين العامليين وكان قائد الأسطول العثماني في المتوسط حسن باشا قد اتفق مع الجزار على القيام بحملة على جبل عامل لتحصيل الأموال الأميرية المتأخرة المستحقة للدولة. وعندما أحسّ مشايخ جبل عامل بالخطر يتهددهم... أرسلوا الشيخ قبلان الحسن الوائلي ليفاوض الباشا باسمهم فقابل القبطان حسن باشا في عكا واتفق معه على شرطين:
1 ــ أن يقف زعماء جبل عامل على الحياد بين المتنازعين على النفوذ في المنطقة.
2 ــ أن يدفعوا الميري بصورة منتظمة وتقسيط المتأخر منها [32].
تمكن القائد الفذ الشيخ ناصيف النصارمن إنقاذ الأوضاع في جبل عامل أطول مدة ممكنة.. لكن الجزار لم يكن يريد أحراراً أو أبناء بلاد في ولايته ذوي شأن، كان الجزار في الأصل عبداً يحب العبيد وجزارا يعشق سفك الدماء، وكل من حوله من أنصاره هم من فصيلته وصنفه، لذلك لن يستمر متعايشاً مع العامليين وشيخهم ناصيف النصار... ولما حانت الفرصة للجزار وأيقن أنه أقنع الباب العالي بأهمية عمل عسكري ضد جبل عامل، فوصله بعد حين فرمان من الآستانة يأمره بالسير على جبل عامل لتأديبه[33].
وفي سنة 1781 تحرك جيش الجزار من عكا بأعدادٍ كثيفة متظاهراً أنه يريد اجتياز جبل عامل لجهة وادي التّيم فأدرك الشيخ ناصيف قصده فأسرع بشرذمة من خيلهِ لاتزيد عن سبعماية فارس كانت ترابط معه بشكل دائم في قلعة تبنين.. وكان الشيخ ناصيف بطلاً مقداماً تعوّد خوض المعارك وممارسة الحروب يهزأ بالمنايا ولا يبالي بالموت. فحملته الجرأة على منازلة ذلك الجيش اللجب بخيله القليلة... وزلّت قدم جواده على بلاطة يارون وعاجله بعض الجنود بإطلاق الرصاص فخر شهيداً وتشتت جنوده.. ثم اكتسح جنود الجزار البلاد وأحرقت القرى ودمّرت المنازل وشحنت الكتب والمخطوطات النادرة حيث أحرقت في عكا.. وأسرف رجاله في الشعب ذبحاً وتقتيلاً وقبض على فريق من العلماء والوجهاء فأماتهم خنقاً في سجون عكا وشرّد من بقي منهم إلى البلاد المجاورة، وهاجر العلماء وأهل الفضل للبلاد الإسلامية النائية كالهند وإيران والعراق والأفغان وخدموا الإسلام[34]. وتمكن الجزارمن الإستيلاء على قلعة الشقيف بالخديعة والمكر بعد إعطاء الأمان ثم غدر بهم، وتسلمت قواته العسكرية طول البلاد العاملية وعرضها وعاملوا الناس بالقسوة، وقد عبّر السلطان عن ارتياحه ورضاه لعملية الجزار في جبل عامل وأرسل له الهدايا[35]. يقول العلامة السبيتي في العقد المنضد: «..وكان بطش الجزار شديداً بعد حملة بونابرت على أهالي جبل عامل وبلاد صفد وولّى رجلا على المذهب اليزيدي اسمه الشيخ طه الكردي وأعوانه من النسطوريين فراح يستصفي أموال الناس ويأخذهم بالعذاب ويضرب بالجنازير ويحمي الطشوات للرجال ويستعمل لهم المكاوي ويسلط عليهم الكلاب في الحبوس فينهشونهم، والنساء يضع في سراويلهن السنانير(القطط) ويضغطها حتى تعض أفخاذهن وسوقهن. واشتد البلاء على الناس اشتداداً عظيماً وطال الأمر حتى هلك العالِم وخربت القرى واستصفيت الأموال ونُهب جميع ما في عاملة من كتب وأثاث وعقار. وأعظم بلاء كان بلاء الشيخ علي خاتون الذي حبس مرتين ثم أُعدم... وهكذا كان أمره فى البلاد كلها وأعظم ماوقع منه البلاء على بلاد عاملة، ماعليه أهلها من التمذهب بمذهب الشيعة الإمامية.. فبنى ما هدّم من أسوار عكا بعد حملة بونابرت برجال عاملة. وكان يأخذ الرجل منهم بالضرب حتى يموت وهو في الشغل وربما دفعوا الرجل بالتون وهدموا عليه الأساس[36]. ولم ينفرج الوضع إلا بعد هلاك الجزار سنة 1804م وتركت تلك النّكبة بصمة سوداء قاتمة أرخت بظلالها على جبل عامل ولم يتعافى الوضع بعد هذه النكبات إلا بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزمن على سكان هذا الجبل العاملي الصّبر الصّامد».
[1] باحث ومؤرّخ.
[2] تاريخ جبل عامل ــ محمد جابر آل صفا ص77 ــ دار النهار ــ ط2 ـ بيروت 1983
[3] م.ن.ص78.
[4] م.ن.ص79.
[5] م.ن.ص79.
[6] م.ن.ص81.
[7] م.ن.ص83 ــ84.
[8] جبل عامل تاريخ و احداث ــ رامز رزق ــ ص238 ــ دار الهادي ــ بيروت ــ2005.
[9] م.ن. ص245 ــ 246.
[10] تاريخ الأمير حيدر الشهابي المعروف بالغرر الحسان ــ حيدرأحمد شهاب ــ ط2 ــ دار الآثارــ بيروت سنة 1980
[11] تكملة أمل الآمل ــ حسن الصدر ــ ص450 ــ دار الأضواء ــ بيروت 1986.
[12] جبل عامل تارخ...م.س. ص248.
[13] للبحث عن تاريخنا ــ الشيخ علي الزين ــ ص 486 ــ ط1 ــ 1973.
[14] م.ن ــ ص491.
[15] م.ن.ص493.
[16] م.ن.ص491.
[17] سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني ــ قسطنطين بازيلي ــ ص52ــ دار التقدم ــ موسكو1989.
[18] جبل عامل تاريخ...م.س. ص256.
[19] جبل عامل في التاريخ ــ الشيخ محمد تقي الفقيه ــ ص398 ــ399 ــ دار الأضواء ــ ط2 ـ بيروت1986.
[20] العرفان ــ م27 ــ ص194.
[21] م.ن. ص 194.
[22] جبل عامل في التاريخ ــ م.س.ص215 ــ 216.
[23] جبل عامل تاريخ...م.س.ص262.
[24] جبل عامل في التاريخ ــ م.س.ص219 ــ تاريخ جبل عامل ــ م.س.ص130.
[25] باختصار وتصرّف عما ورد في تاريخي الشيخ الفقيه ومحمد جابر حول المعركة.
[26] بازيلي ــ م.س.ص58.
[27] تاريخ جبل عامل ــ م.س.ص132.
[28] بازيلي ــ م.س ــ ص62.
[29] للبحث عن تاريخنا ــ م.س.ص549.
[30] تاريخ جبل عامل ــ م.س.ص116.
[31] جبل عامل تاريخ...م.س.ص284.
[32] جبل عامل في التاريخ ــ م.س.ص261.
[33] م.ن.ص264.
[34] تاريخ جبل عامل ــ م.س.ص137 ــ 138.
[35] جبل عامل في التاريخ ــ م.س.ص265.
[36] العلامة الشيخ علي السبيتي ــ آثاره ــ المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ـ ص374 ـ 375ــ دار الأقلام ـ بيروت 2010.
العوامل التي أدّت الى سقوط جبل عامل بيد الجزار
الأستاذ علي الزين[1]
الأخوة في جمعية الإمام الصادق لإحياء التراث العلمائي
الأخوة الأفاضل الباحثون والعلماء المحترمون
الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بدايةً أشكر سماحة الشيخ حسن بغدادي أعزه الله على هذه الدعوة، وعلى كل مبادراته وبرامجه النشيطة والممنهجة باتجاه إحياء تراث وذاكرة جبل عامل الغنية بالأحداث والدروس والعبر.
وأحب لفت النظر بدايةً، أن التنقيب في حفريات التراث والذاكرة الجماعية التاريخية ليس عملاً ثقافياً وأدبياً بحتاً، بقدر ما هو تحليل سياسي لتفسير بعض الوقائع الراهنة، وصناعة استشرافية للمستقبل، لأنّ الدارس للوقائع التاريخية يشعر بقوةٍ أنه يعايش شريط الأحداث الحاضرة والراهنة، ويستشرف أثناء تنقيبه في سيرة رجالها، والقوى والدول المشاركة في معاركها وأحداثها، عناصر تحليلية جدية لتفسير الحاضر وقراءة المستقبل، فالتاريخ يعيد نفسه، وهذه ليست عبارة أدبية مجازية، بقدر ما قد تكشف عن قانون علمي مطرد، يمكن بشروط معينة القياس عليه لاستخلاص نتائج حقيقية وواقعية. وليس حنين بعض الزعماء الأتراك اليوم إلى دولة السلاجقة وأيام السلطنة العثمانية عملاً رومنسياً خيالياً، بقدر ما هو تعبير عن سلوك سلطوي أصيل، وما إستعادة سيرة السلطان سليم ومحمد الفاتح في الأفلام والمسلسلات التركية من قبيل الصناعة السينمائية، بقدر ما هو تعبير عن نزعاتٍ ورغباتٍ تركية دفينة وباطنية تعكس الشخصية التركية الطامحة إلى زعامة المنطقة (هذا الرأي والإستنتاج يوافق عليه الدكتور محمد نور الدين المتخصص بالشؤون التركية) وهذا يعني إستعادة الدول لإنتاج طموحاتها السياسية في سلوكيات زعمائها ورموزها، الذي قد يمثل ذروة عقلها الجمعي القومي، وهكذا لا يبقى من اختلاف سوى بالأسماء والألقاب بين «سلجوق» و«أردوغان».
سنتحدث أولاً في المنهج الذي سلكناه لبحث موضوعنا «العوامل التي أدت إلى سقوط جبل عامل بيد الجزار (1776م - 1804م)».
لقراءة الوقائع التاريخية أكثر من طريقة ومنهج، فهناك من يقرأ الوقائع والجزئيات التاريخية كما هي على نحو السـرد والتفصيل، ربطاً بالسنوات والقرون والعهود، وهذا منهج المؤرخين القدامى، وأغلب المعاصرين.
وهناك من يحاول استكشاف العلاقات السببية التي تربط الوقائع بأصول حاكمة ليستنتج منها معادلات سياسية وثقافية واجتماعية توجه سير هذه الوقائع وتضفي عليها المعانى، وتعطيها القيمة الفعلية، خصوصاً أنّ هناك فراغات ونواقص وتناقضات في سرد الوقائع، قد لا يسدها ولا يردمها إلا إعمال العقل في ربط الوقائع بشبكة المصالح والقوى التي أنتجتها، وهذا هو منهج علماء الإجتماع، ويأتي على رأس هؤلاء العلامة إبن خلدون مبتكر ومؤسّس علم العمران أو علم الإجتماع بلغتنا المعاصرة.
ونحن، سلكنا طريقة المنهج الوصفي التحليلي، وهو منهج توفيقي يجمع بين حسنات العملية السردية التاريخية رغم تفكيكه للجزئيات والوقائع، وهو مسلك ومنهج المؤرخين، وحسنات الربط والبناء المنظومي للجزئيات والوقائع، وهو منهج علماء الإجتماع، سعياً لتحقيق فائدة مضاعفة في تفسير بعض أوضاعنا الراهنة، خصوصاً أنّ الإتجاه السائد لدى أوساط الباحثين وعلماء الإجتماع اليوم، هو أنه مهما كانت الوقائع والمعطيات صحيحة وموثوقة بحد ذاتها، لكنها تفقد قيمتها الفكرية والسياسية إذا ما فصلت عن المعاني والمباني والتفسيرات التي يتم إنتزاعها وإلباسها وإضفائها عليها من قبل قارئ الوقائع والباحث نفسه، وهنا يمتزج الذاتي بالموضوعي في عملية إنتاج خلاصات مفيدة للراهن، واستشرافية للمستقبل.
أما في المصادر، فإضافة إلى المصادر التراثية التي وثقت تاريخ جبل عامل، من محمد جابر آل صفا والشيخ علي الزين وغيرهما، حاولت إغناء البحث عبر بعض المعطيات الجديدة المحفوظة بالأرشيف الفرنسي، وبعض الدراسات الفلسطينية، والدراسات التاريخية اللبنانية غير الشيعية.
وبالعودة إلى وقائع البحث، وبما أننا حددنا موضوعنا بـ «العوامل التي أدت إلى سقوط جبل عامل بيد الجزار» فسنكتفي بحدود المساحة التاريخية والجغرافية المتصلة بموضوعنا بصورة مباشرة، أو الوقائع التاريخية الخارجة عن حدود جغرافيا جبل عامل، لكنها تركت تأثيرها عليه بصورة غير مباشرة. ومن هنا سنضيف لبحثنا العامل الإقليمي (الدور المصري مع أسرة علي باشا) والدولي (كالحملة الفرنسية على المنطقة العربية).
وتاريخياً تمتد فترة بحثنا لقرن كامل هو القرن الثامن عشر بأكمله أي منذ سقوط الإمارة المعنية، وتولي الإمارة الشهابية لحكم جبيل لبنان عام 1697م ولغاية هلاك أحمد باشا الجزار عام 1804.
وبناء عليه، تنقسم العوامل المؤثرة في سقوط جبل عامل بيد الجزار إلى ثلاثة عوامل: محلية، وإقليمية، ودولية.
في وقائع العامل المحلي العاملي:
أولاً: سمي جبل عامل آنذاك ببلاد بشارة، نسبة إلى الزعيم العاملي حسام الدين بشارة على أرجح الأقوال، كما درج إسم بلاد «المتاولة» نسبة إلى تولي أهل المنطقة وانتسابهم لأهل البيت R، أو على قول البعض لإطلاق أهل جبل عامل أنفسهم جملة «مت ولياً لعلي» واتخاذها نشيداً وشعاراً ورايةً سياسية وإعلامية، أو لإطلاق الدول الأيوبية والمملوكية إسم المتاولة على الشيعة من مفردة «التأويل» على بعض الأقوال.
ثانياً: ينقسم جبل عامل إدارياً إلى ثمان نواح (جبل هونين ومركزه بنت جبيل، جبل تبنين ومركزه تبنين، ساحل قانا ومركزه قانا، ساحل بلدة معركة ومركزها مدينة صور، ناحية الشقيف ومركزها النبطية، وناحية الشومر ومركزها أنصار، وناحية التفاح ومركزها جبع، وناحية جزين ومركزها جزين) وكانت تتبع إما لإمارة جبل لبنان، بترخيص من الدولة العثمانية، أو كان يتبع لسنجق أو إيالة (ولاية) القدس أو عكا أو دمشق، تبعاً لاختلاف التشكيلات والترتيبات العثمانية.
ثالثاً: إقطاعياً وسياسياً وإجتماعياً كانت تسيطر عدة عائلات وأسر على جبل عامل، وكانت تتقاسم مساحات من الأراضي، وتستثمرها في الزراعة، وتلتزم بتقديم ضرائبها للدولة العثمانية، مع تمتعها بنوع من الإستقلال الذاتي، ومن أبرز هذه الأسر: آل صعب، وآل الصغير، وآل منكر.
في عام 1697م سقطت الإمارة المعنية، وحلّت الإمارة الشهابية، فقام الأمير بشير أول حاكم لجبل لبنان بعد سقوط الإمارة المعنية بالعمل على إخضاع جبل عامل لسلطته ونفوذه المباشر، فتوافق مع إرسلان باشا والي صيدا العثماني لمهاجمة جبل عامل، وجهّز جيشاً من 8 آلاف مقاتل، هاجم فيه معاقل مشرف بن علي الصغير أحد مشايخ جبل عامل، تحت ذريعة خروجه عن ولاية الدولة العثمانية، ورفضه دفع «ضرائب الميري» وقتل بعض أعوان آل الصغير، ونشبت معركة قرب مزرعة مشرف (القرية لا تزال موجودة الآن) قتل فيها عدد كبير من أنصاره، وألقي القبض على مشرف وتم سوقه إلى الوالي ووضع في السجن.
بعدها أطلقت يد الأمير بشير في جبل عامل، وبقي يهيمن عليه حتى وفاته.
في عام 1706م إستلم الأمير حيدر الشهابي الحكم بعده، فهاله إطلاق سراح مشرف آل الصغير من قبل الوالي العثماني إرسلان باشا وذهب إلى خلفه بشير باشا والتمس لديه حكم جبل عامل مقابل مبلغ من المال، فأجازه على ذلك، وكان أول عمل قام به الأمير حيدر الشهابي أيضاً هو محاولة إخضاع جبل عامل، فزحف على النبطية التي تجمع فيها أنصار آل الصغير وحلفائهم من آل منكر حكام إقليم الشومر والتفاح وآل صعب حكام إقليم الشقيف بجيش من 12 ألف مقاتل على تقدير بعض المؤرخين [2] ودارت معركة إنتصر فيها الأمير حيدر الشهابي ودانت له المنطقة لعدة عقود.
في عام 1732م تولى حكم الإمارة الشهابية الأمير ملحم، ولم يكن الحال مع الأمير ملحم بأحسن منه مع غيره، وكان أول طلب رفعه إلى سليمان باشا الوالي العثماني على صيدا بسط نفوذه على جبل عامل، فنزل الوالي عند طلبه، فجهز جيشاً لمحاربة آل الصغير حكام المنطقة، وهزمهم في معركة دارت رحاها عند يارون، وفرّ آل الصغير إلى القنيطرة (الشام).
ويذكر (دي لان) القنصل الفرنسي في صيدا هذه الواقعة بوثيقة مؤرخة في 20 آب من عام 1734م أرسلها إلى الكونت «موريباس» وزير الدولة الفرنسية، قائلاً «إن الصدر الأعظم حانق بسبب رفض مشايخ المتاولة دفع الضرائب وبعض الأموال المترتبة عليهم له ولحكامه، وقد كلف سليمان باشا والي صيدا وأمير الدروز (يقصد الأمير ملحم الشهابي) مهمة حصار قلاعهم وتصفيتهم جميعاً، وهكذا دخل الأمير عند تلقيه هذا الأمر بلاد المتاولة، بجيش مقادره خمسة عشر ألف مقاتل، حيث نشر النار والدماء في كل مكان حل فيه».
في عام 1743م خرج آل منكر وآل صعب مجدداً على الوالي العثماني سعد الدين باشا، والي صيدا، فأرسل الوالي الأمير ملحم لتأديبهم، فدارت معركة في خراج بلدة أنصار إنتهت بتراجع العامليين ولجوئهم الى بلدة أنصار، فأقدم الأمير ملحم على إقتحامها وإحراقها، ثم عاد إلى دير القمر، بعد أن قتل في المعارك آلاف الرجال، وأسر أربعة من مشايخ جبل عامل.
وفي عام 1950م حصلت معركة في جزين بين بعض العامليين وأتباع بشير جنبلاط حليف الشهابيين، حيث جهز هؤلاء جيشاً لمقاتلة العامليين في قرية جباع، وقتل في المعركة مئات الأشخاص.
ومن عام 1754م لغاية العام 1763م تولى الإمارة الشهابية حاكمين على نحو الشراكة في الحكم هما منصور وأحمد الشهابي، دون أن تحدث أي مواجهات مع مشايخ جبل عامل، وساد بعض الهدوء، وتولى من عام 1763م لغاية عام 1770م الأمير منصور منفرداً حكم الإمارة الشهابية.
وسبب هذا الهدوء يعود إلى انشغال الشهابيين بصراعاتهم الداخلية، وبالأحداث الإقليمية، وليس رغبةً بالإستقلال السياسي لجبل عامل.
العامل الإقليمي:
في عام 1706م خرج بأرض فلسطين (عكا وصفد خاصة) زعيم طامح هو الشيخ ظاهر بن عمر بن أبي زيدان الملقب بـ «ظاهر العمر» فعمل على توطيد أركان حكمه، فاستلم من بشير باشا والي صيدا حكم عكا وصفد، وتطلع بداية إلى جبل عامل، فحاول بأكثر من مناسبة التحرش بالعامليين.
في عام 1750م دارت معركة في بلدة تربيخا بين جيش ظاهر العمر وأنصار شيخ مشايخ جبل عامل ناصيف النصار، هزم فيها ظاهر العمر، واستمرت التحرشات والمناوشات عقداً وبضع سنوات.
في عام 1767م وقّع الشيخ ظاهر العمر والشيخ ناصيف النصار إتفاقاً وتحالفاً تلاه قسم يمين على السيف والمصحف «إن يكونا وشعبهما متضامنين متصافيين ما دامت الأرض والسماء».
ولم يكن هذا التحالف بمعزل عن تأثير اللاعبين والفاعلين المحليين كالشهابيين وحلفائهم الجنبلاطيين، فقد لعبوا دوراً في الوساطة بين ناصيف النصار وظاهر العمر لأجل استتباب الأمن والإستقرار في المنطقة، رغبة في استمرار المصالح الإقتصادية والمالية، وإلى هذا يشير القنصل الفرنسي آنذاك «كـليـرمبولت» في وثيقته مؤرخة في 23 نيسان من عام 1767م أرسلها إلى وزير الدولة الفرنسي الدوق «براسلان» قائلاً «الشيخ ناصيف النصار هو اليوم شيخ مشايخ المتاولة الذين يقيمون من صيدا حتى أرض عكا، وهو يحمي الشيخ عثمان ظاهر العمر - إبن ظاهر العمر الذي لجأ إلى الشيخ ناصيف النصار هرباً من أبيه - وبما أنّ الحرب في هذه البلاد تهدأ ثم تتجدد كل ثلاثة أشهر، فإنها تنتهي بخراب أحوال الفلاحين، وبإعطاء المبرر لمشايخهم لتأجيل دفع الضرائب والأموال للوالي العثماني، وقد وصل إلى صيدا الأمير إسماعيل أمير وادي التيم، وثلاثة من المشايخ الدروز هم الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد والشيخ كليب النكدي، وهؤلاء يعاضدون الشيخ ناصيف النصار، فعملوا على إحلال الوفاق بينه وبين الشيخ ظاهر العمر». هذا الوفاق تمّ برعاية وموافقة الأمير منصور الشهابي، الذي كان ميالاً للهدوء والإستقرار والمهادنة مع العامليين خلال فترة حكمه، وهو كان «لين العريكة ولا يخلو من الجبن» كما تصفه الروايات التاريخية..
وما أن تمّ الوفاق بين الشيخ ظاهر العمر والشيخ ناصيف النصار، حتى انقلب إلى تحالف سياسي، بمواجهة العثمانيين والشهابيين، خاصة بعد وفاة الأمير منصور الشهابي الذي خلفه إبن أخيه الأمير يوسف الشهابي.
إستفاد ظاهر العمر من عوامل وظروف محلية وإقليمية تمثلت بتوثب علي باشا الكبير حاكم مصر للتمدد في الأقاليم العربية خاصة المحاذية لدولته المصرية، والخروج عن سيطرة وهيمنة السلطنة العثمانية، وعاونه في هذا الطموح قائده العسكري محمد بك أبو الذهب.
وكان لدى العامليين بطبيعة الحال ميل وتوق قوي للخروج من الهيمنة العثمانية والشهابية معاً، فعملوا على إقامة تحالف سياسي وعسكري لإخراج العثمانيين وحلفائهم من المنطقة.
هذا التحالف تحدث عنه «دراغون» النائب التجاري الفرنسي بصيدا في إحدى الوثائق بأنه تحالف «كونفدرالي» بين مصر والشيخ ظاهر العمر والمتاولة - حسب الوثيقة - ضد السلطان العثماني، وذلك في رسالة بعث بها إلى الدوق «ديويغويون» وزير الدولة الفرنسية بتاريخ 2 أيار من عام 1771م.
في عام 1771م إنتفـضت المناطق العاملية مجدداً ضد الوالي درويش باشا، ورفضت دفع الميري، وطردت عمال الوالي من جبل عامل، فجهز الأمير يوسف جيشاً لقتال العامليين، قدر بعشرين ألفاً، وأرسل إلى خاله إسماعيل حاكم بلاد التيم لملاقاته، واقترب من جباع، لكن العامليين من آل الصغير وآل صعب وآل النمر لم يستطيعوا حشد قوة عسكرية كافية لمواجهة هذا الجيش الجرار، فقرروا الإنسحاب التكتيكي من المعركة، واتصلوا بحليفهم ظاهر العمر لمساندتهم، خاصة أنهم ساندوه عن قريب - أي في نفس العام 1771م - في معركة بحيرة الحولة ضد قوات عثمان باشا والي دمشق عام 1771م التي إنتهت بسحق جيش الوالي العثماني وانتصار ظاهر العمر وحلفائه العامليين.
إتصل ظاهر العمر أولاً بالأمير إسماعيل أمير وادي التيم، طالباً وساطته وتدخله لوقف القتال، فطلب الأمير إسماعيل من إبن أخته الأمير يوسف التوقف عن القتال بانتظار قدومه، لكن الأخير لم يلبي طلبه، واستمر بالزحف، مستغلاً إنسحاب العامليين خارج المنطقة، فدخل بلدة جباع وعربصاليم والنبطية وقرى أقليم التفاح وعاث فيها فساداً وحرقاً وتدميراً.
عندها تجمّع الآلاف من أنصار ظاهر العمر وآلاف العامليين وهجموا على جيش الأمير يوسف على تخوم النبطية، فأوقعوا في جيشه مجزرة كبيرة، قدر عدد القتلى فيها من جيش الأمير يوسف ألف وخمسمائة مقاتل، وساعد في تضعضع جيش الأمير يوسف خروج الأمير علي جنبلاط من المعركة، حيث كان ميالاً لرغبة الأمير إسماعيل بضرورة الصلح وقبول الوساطة. ولم ينقذ الأمير يوسف من الإبادة إلا وصول الأمير إسماعيل بجيشه، ففرّ الأمير يوسف إلى إمارته، وتوغّلت قوات ظاهر العمر، فدخلت صيدا، وطردت الوالي العثماني منها، وعين ظاهر العمر عليها والياً من طرفه هو أحمد أغا الدنكزلي، وغادر إلى فلسطين، وسيطر الشيخ ظاهر العمر وحلفاؤه من العامليين على ولاية صيدا، ووصل نفوذهم إلى جبل لبنان.
بداية توثب الجزار على جبل عامل:
بعد هزيمة العثمانيين في ولايات صيدا وعكا، وانحسار نفوذهم في دمشق، إهتز عرش السلطنة العثمانية، فأرسلت إلى والي دمشق عثمان باشا بتجهيز جيش، بمساندة خليل باشا والي القدس، الذي اصطحب معه في الحملة أحمد باشا الجزار، ووضعوا خطة عسكرية بالتنسيق مع الأمير يوسف الشهابي، وتجمع لدى الطرفين أكثر من عشرين ألف مقاتل، ضربوا حصاراً حول صيدا لمدة أسبوع، وكاد أحمد أغا الدنكزلي المعين من الشيخ ظاهر العمر يستسلم، لولا أن أنجده الشيخ ظاهر بسفن «مسكوبية» تحمل مدافع حربية - حسب وصف الروايات - فقامت بدك الجيش المهاجم لصيدا بالمدفعية، ما اضطر الجيش للتراجع وفك الحصار عن المدينة.
في عام 1772م حاول الشيخ ظاهر العمر وقف القتال فاتصل بالأمير يوسف طالباً منه الإنسحاب إلى ما بعد جسر الأولي شمالي صيدا، لكنه أبى ذلك، فهجم عندها ظاهر العمر وحلفائه من العامليين، وسانده جيش من المقاتليين المصريين أرسلهم علي باشا حاكم مصر آنذاك، فالتقى الجيشان في موقعة الغازية جنوب شرق صيدا، وانتهت المعركة بهزيمة جيش الأمير يوسف وحليفه والي القدس خليل باشا، وطاردوهم حتى وصلوا إلى حدود جغرافيا الإمارة الشهابية. وفرّ خليل باشا إلى دمشق بعد أن خسر خمساية رجل، وخسر ظاهر العمر ألف رجل، لكنه استمر بالزحف، ووصل إلى مدينة بيروت، فحاصرها بالسفن المسكوبية، ودمّر بعض أبراج المدينة، ودخل أنصاره إلى بيروت، فصالحه أهلها، ودفعوا له الأموال، وقفل جيشه عائداً إلى عكا.
حتى عام 1774م إستمر التحالف بين ظاهر العمر والعامليين، لكن الخلاف نشب بين محمد بك أبو الذهب الذي حلّ مكان علي باشا حاكم مصر الذي توفي آنذاك، وبين ظاهر العمر حليف العامليين، وساعد هذا المتغير على تعديل خارطة القوى في المنطقة. وقد جهّز أبو الذهب جيشاً من ستين ألف رجل وهاجم صفد وعكا في محاولة للسيطرة على فلسطين، وجبل عامل، وسواحل لبنان، فانسحب الشيخ ظاهر العمر من المعركة، ودخل أبو الذهب إلى عكا وصفد وقرى جبل عامل واحتل مدن صور وصيدا، لكنه توفي بعد فترة وجيزة، فعاد الشيخ ظاهر العمر إلى عكا.
في عام 1776م أغتيل ظاهر العمر على يد أحد رجال أحمد أغا الدنكزلي والي صيدا المعين من قبل العمر نفسه. وقد يكون للسلطنة العثمانية دوراً في الإغتيال عن طريق شراء ذمة أحد رجال ظاهر العمر، فاستغلوا هذا الإغتيال لصالحهم، وقام أحمد باشا الجزار بالتنكيل بأنصار العمر وأولاده في فلسطين، وسيطروا على ولاية عكا وصفد.
وبمقتل ظاهر العمر إنتهى الحلف السياسي والعسكري الذي كان بينه وبين العامليين، واستعد الشيخ ناصيف النصار والعامليون للمعركة المحتمة مع أحمد باشا الجزار، وجهزوا أنفسهم للقتال.
عام 1781م إلتقى الجزار والشيخ ناصيف النصار عند موقعة يارون، لكن المعركة لم تدوم طويلاً بسبب اختلال موازين القوى بين الطريفن، وسقوط الشيخ ناصيف النصار صريعاً من على فرسه على بلاطة يارون، التي ما تزال قائمة إلى اليوم، وقتل معه المئات من رجاله.
وبمقتل ناصيف النصار إستتب الأمر للجزار، فدخل جبل عامل وأحرق المكتبات، وأسر المشايخ والعلماء، وقتل المئات من الرجال والنساء، واستمر بحكمه ما يقارب الخمسة وعشرين عاماً.
العامل الدولي:
في عام 1773م قتل علي بك الكبير حاكم مصر، وقيل أنّ مقتله حدث بفعل إنقلاب دبره قائده العسكري محمد بك أبو «الذهب».
في عام 1774م وقعت روسيا وتركيا معاهدة صلح عرفت باسم معاهدة «كوتشك قينارجيه». وكانت روسيا قد بدأت أيضاً بإرسال بوارجها وسفنها إلى المتوسط، وبدأت بنسج العلاقات مع بعض القوى اللبنانية، والعربية.
وفي هذه الفترة كانت فرنسا ترصد الأوضاع في مصر وبلاد الشام، وتدرس موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية للسيطرة على هذه المنطقة الحيوية، وقطع الطريق على بريطانيا وروسيا وتركيا.
وبدأت فرنسا إبتداءاً من الثمانينات بتوجيه سفنها نحو المتوسط، وبإعداد العدة للحملة على مصر وفلسطين والشام، وهذا العامل لعب دوراً في حسابات الأتراك، وفي حسابات أحمد باشا الجزار خاصة، حيث أعطيت الأولوية على ما عداها من الحسابات المحلية.
أحمد باشا الجزار في تقرير سريع:
هو أحمد باشا البوشناقي الملقب بـ«الجزار»، من أسرة مسيحية، تعود أصولها إلى بلاد البوسنة والهرسك، وتذكر الروايات أن لأحمد باشا سوابق جرمية في فترة شبابه، حيث كان مطلوباً للسلطات البوسنية أنذاك بتهمة الإعتداء على زوجة أخيه، فهرب من قبضة السلطات، والتجأ إلى تاجر رقيق يهودي، باعه للولاة العثمانيين، أما لقب «الجزار» فحازه من قبل بدو الحجاز في شبه الجزيرة العربية، الذين قمعهم بشدة تقرباً من السلطان علي باشا الكبير حاكم مصر أنذاك، حيث كان يعمل بين يديه، ويقال أنه أحضر معه من المعركة عدداً من روؤس زعماء البدو.
والجزار من القادة العسكريين الذين أمضوا خمسين عاماً في المعارك، وعرف عنه القمع الوحشي لكل معارضي السلطنة العثمانية، في حين رفعته السلطنة العثمانية إلى رتبة وزير نظير خدماته لها، خاصة بعد استبساله في الدفاع عن عكا بوجه حملة نابليون بونابرت، ولهذا أعطيت له ولاية عكا وصفد والجليل أولاً، ومن ثم ضمت إليه لاحقاً ولاية صيدا وولاية دمشق، ما يعني حكمه لأهم ولايات بلاد الشام، خاصة بعد مقتل الزعيم ظاهر العمر عام 1776م وتنكيله بأولاده وأنصاره في فلسطين.
ويعد الجزار من الشخصيات التي تركت بصماتها الإجرامية المريرة في تاريخ جبل عامل وبلاد الشام بالنظر إلى وحشية جرائمه التي فاقت كل جرائم الولاة العثمانيين، فهو لم يكتفِ بالتنكيل بخصوم الدولة العثمانية، بل انقلب على الأمير يوسف الشهابي حليفه الوثيق، لأهداف سلطانية ومالية، عندما سلمه الأمير يوسف ولاية مدينة بيروت لحمايتها وبناء أسوارها، وقد امتدت فترة حكمه لما يقرب من خمسة وعشرين عاماً (1776م - 1804م) وهي فترة طويلة ومديدة قياساً على فترات حكم الولاة العثمانيين.
تزامن تولّي الجزار لحكم الشام وجبل عامل مع ثلاثة أوضاع مستجدة:
1ـ حدوث موجة وباء وجفاف أصابت المنطقة، واستمرت عدة سنوات (1780م- 1787م) قتل فيها عشرات الآلآف حسب ما تشير الوثائق الفرنسية.
2ـ سلسلة من الفتن الداخلية التي أصابت جبل لبنان، بفعل صراعات إقطاعية وطائفية بين الأمير بشير الثاني حاكم الجبل وخصومه في الولايات والإقطاعيات المناوئة له.
3ـ الحملة الفرنسية على فلسطين نهاية القرن الثامن عشر على تخوم عام 1795م، ما أدى إلى اضطراب الأوضاع السياسية والثقافية والإقتصادية في مدن فلسطين إبتداءاً من ولايات عكا وصفد وصولاً إلى ولاية غزة.
تداعيات حكم الجزار لجبل عامل:
أدت الهزيمة العسكرية والسياسية التي مُني بها ثوار وأهل جبل عامل على يد الجزار بعد مقتل شيخ مشايخهم ناصيف النصار في بلدة يارون عام 1781م إلى نكبة سياسية وثقافية وعلمية نجمت عن إحراق مكتبات جبل عامل في أفران عكا، التي بقيت تشتعل نيرانها لأسبوع على ما يقول بعض الرواة والمؤرخين، وسببت تدهوراً في الإنتاج العلمي والفكري.
لكن ثوار جبل عامل لم يهدأوا بعد مقتل ناصيف النصار، فنظموا خلايا ثورية قتالية إنتحارية بقيادة فارس النصار، كانت تهاجم المراكز العثمانية، وعمال الإدارة العثمانية، وكانت تسمى بـ «الطياح»، ولكن الجزار قمعها بوحشية وشدة، فهدأت الجبهة ريثما هلك الجزار عام 1804م. وهكذا بقيت الشعلة والراية العاملية تعتمل وتثور رغم الجراح والالآم الكثيرة.
تدهور الحياة الثقافية والفكرية في جبل عامل خلال حكم الجزار:
يشير إلى هذا الدكتور أسامة أبو نحل رئيس قسم التاريخ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الأزهر في غزة بفلسطين، في بحثه تحت عنوان «الحياة الثقافية في فلسطين ولبنان في عهد أحمد باشا الجزار» وهو صاحب أطروحة دكتوراة بعنوان «أحمد باشا الجزار، إدارته وعلاقاته السياسية والإقتصادية بالقوى الإقليمية والدولية». ويقول الدكتور أبو نحل «في منطقة جبل عامل بالجنوب اللبناني كانت السيادة للشيعة - المتاولة - المسلمين المضطهدين من جانب ولاة الدولة العثمانية، ورغم هذا الإضطهاد فإنّ منطقة جبل عامل أخرجت عدداً وافراً من أهل العلم والفضل وذوي الثقافة العالية لا يتناسب مع ضيق رقعتها وقلة ساكنيها».
ويضيف الدكتور أبو نحل «ويبدو أنّ الحياة العلمية والفكرية في جبل عامل واجهت العديد من الصعوبات في عهد الجزار، خاصة السياسية منها، بسبب حروب الجزار في تلك المنطقة، منذ سنة 1781م ميلادية، التي أدت إلى هزيمة مدوية للمتاولة الذين تزعمهم ناصيف النصار، بعد مقتله في معركة يارون، وما ترتّب على ذلك من فقدان المتاولة لاستقلالهم السياسي طيلة فترة حكم الجزار، بعدما تمكّنت قواته من الإستيلاء على عدد كبير من القلاع الحصينة مثل هونين وتبنين، إضافة إلى مدينة صور الساحلية. فانتشرت الفوضى ونشبت الثورة ضد حكم الجزار في غير مكان، فأغلقت المدارس وأقفلت معاهد العلم، وانقطعت سلسلة التدريس بعد أن احتلت منزلة رفيعة ومرموقة وأحرزت شهرة واسعة، وصلت إلى موطن الشيعة في الهند وإيران وروسيا، وغيرها من البلدان التي تواجدوا فيها».
وتاريخ جبل عامل، هو بالضرورة تأريخ العائلات الدينية، التي أنجبت وخرجت العلماء، وبنت المدراس العلمية، ومن نماذج نكبة الجزار على إحدى المدارس العاملية، وربطاً إحدى العائلات الدينية، نكبة آل الأمين الكرام، فقد خرب الجزار مدرسة شقراء الدينية العلمية، التي كانت تضم 400 طالب وتلميذ، والتي أسسها العلامة السيد أبو الحسن موسى بن حيدر الحسيني العاملي في القرن الثاني عشر هجري. وتسلمها من بعده نجله السيد محمد الأمين الملقب بالأول، وكان يستلم منصب إفتاء «بلاد بشارة» من الوالي العثماني أنذاك، لكن فترة حكم الجزار قضت على هذه النهضة الثقافية والعلمية. فقد قتل الكثير من العلماء والطلاب، وخربت المدرسة والمكتبة، وتعطلت دروسها، ما اضطر السيد محمد الأمين إلى ترك شقراء والتوجه نحو بعلبك، بعد أن هجم الجيش العثماني على داره، وعقروا جماله، وقتلوا أحد رجاله في المسجد، ومن ثم توسّط البعض لدى الجزار لاستعادة السيد محمد الأمين، فأحضره إلى مركز إقامته، وطلب إليه تهدئة الأمراء في المناطق العاملية مقابل إعطائهم الأمان، واستبقى ولده السيد علي الأمين رهينة عنده، ثم حبسه في سجن عكا، وسجنه لاحقاً لسنتين في سجن دمشق.
ومن ثم استلم السيد علي الأمين مدرسة شقراء ومنصب الإفتاء بعد موت الجزار عام 1804م، فأعاد إليها ازدهارها ومكانتها، لكن الولاة العثمانين إستمروا بعد الجزار على سيرته وسنّته الإجرامية، فجاء عبد الله باشا والياً على عكا وجبل عامل، وكان يقيم المناظرات العلمية، حتى إذا ما شعر بضعف حجج علمائه ومشايخه أمام العلماء العامليين دسّ لهم السم، وهذا ما حصل مع السيد علي الأمين وستة من أصحابه عام 1834م. وحصل نفس الأمر مع السيد محمد الأمين الملقب بالثاني، فاستلم منصب الإفتاء وإدارة الحوزة العلمية، وخالط العلماء والأمراء، فما كان من الوالي العثماني إلا أن نفاه إلى طرابلس ثلاثة سنوات، لأنه اتهم بالتواصل مع جهة عربية يقودها الزعيم العربي عبد القادر الجزائري في دمشق وبالسعي لإقامة حكومة عربية مناهضة للدولة العثمانية، وقد شارك السيد محمد الأمين الثاني في مؤتمر سرّي عقد للنظر في استقلال سوريا عام 1878م. وجاء من بعده السيد محمد حسن مهدي الأمين، الذي كان يتنقل بين شقراء وحاريص وحولا ومشغرة، ومن بعده جاء المرجع المجدد السيد محسن الأمين العاملي، صاحب المشاريع الإصلاحية ومؤسس حوزة دمشق.
إذاً، هذه نماذج عن الظروف والأحداث التي تركت تداعياتها على الحراك السياسي والثقافي في جبل عامل، والتي استمرت من آواخر القرن الثامن عشر وصولاً إلى مطلع القرن العشرين، لحظة سقوط الخلافة العثمانية، وبدأ الإنتداب الفرنسي على لبنان.
وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى هجرة عشرات العلماء والفضلاء من جبل عامل إلى العراق وإيران والهند هرباً من الظلم والقتل والإبادة. وتأثرت المدارس الدينية في جبل عامل، فانكمشت الحركة الأدبية، وما بقي منها إصطبغ بالطابع السياسي لذاك العصر.
فالباحث يجد جدلية وديناميكية بين الوضع السياسي والإنتاج الثقافي، فالإضطراب والصراع السياسي سواء المحلي أو الإقليمي والدولي للسيطرة على جبل عامل، والحملات العثمانية، ولاحقاً المصرية مع محمد علي باشا، وأخيراً الفرنسية أنتجت مشاريع أدبية وفقهية وثقافية متشابهة مع لون وجنس الحالة السياسية أنذاك، ولهذا يمكن للمراقب أن يجد تأثيراً الأمر لهذا في اللون الأدبي الذي اتخذته دواوين وقصائد الشعر الصادرة ما بين سقوط ناصيف النصار وما بعده، فذهبت نحو الطابعين السياسي المقاوم والثوري، والفخر الذي يتغنى بالأمجاد ويثير كل عناصر الهوية العاملية. ومن نماذج هذه الجدلية الثقافية السياسية، صوت الشيخ إبراهيم بن يحيى العاملي الذي سكن دمشق، وألقى قصائد تناولت الكوارث التي نزلت بجبل عامل زمن الجزار، جاء في مطلعها:
من لي بردّ مواسم اللذات |
والعيش بين فتــى وفتـــاة |
ورجوع أيام مضين بعاملٍ |
بين الجبال الشم والهضبات |
وقال في قصيدة أخرى:
ديار شفى قلبي عليل نسيمها |
وطابت لديها غدوتي وأصائلي |
وما كان هجري عاملاً عن قلي لها |
ولكن نبت بي في رباه منازلي |
وقال مؤرخاً لمقتل إبن النصار:
قتل ابن نصار فيا لله من |
مولى شهيد بالدماءِ مضرج |
وتداولتنا بعده أيادي العدى |
من فاجر أو غادر أو أهوج |
هي دولة عم البلاد الظلم في |
تاريخها الله خير مفرج |
وكتب الشيخ سليمان الضاهر قصيدة قال فيها:
آلا تربت من الجزار كف |
بها للفخر كم ظهر أجب |
وكم غرست بأرض الشام غرساً |
ألد جناة خطان وخطب |
وكم دكت بعاملة حصوناً |
لها الأسوار بيض ظبي وغلب |
كذلك تعمقت دراسات الفقه السياسي وطبعت أيضاً بلون المرحلة، فأخذت بعداً محلياً هدفه الحفاظ على وجود الكيان الشيعي الذي تعرض للإصابة والتهديد بالإبادة في الصميم، وليس لنزعة مذهبية لدى أهل جبل عامل، بدليل أنّ العلماء والوجهاء الشيعة كانوا يدفعون دائماً ثمناً لتمسكهم بالوحدة الإٍسلامية أولاً، وبالوحدة العربية ثانياً، وبالوحدة المشرقية ثالثاً، والقاسم المشترك للتمسك بمجموع هذه الهويات هو الطبيعة الأهلية والإجتماعية والوطنية لأهل جبل عامل، لناحية تمسّكهم بهذه الأرض وانتمائهم لثقافة وقيم أهل المنطقة والأقليم، وعدم إيمانهم بأي كيان ذاتي إنفصالي، خلافاً للكثير من للجماعات الدينية والسياسية اللبنانية.
وتشير النظرة الفاحصة للواقع الثقافي والتعليمي بعد محنة الجزار إلى سعي المرجعيات الدينية والعلماء لاستعادة تأسيس المدارس الدينية العاملية. فكانت مدرسة وحوزة الكوثرية العالية، ويشهد هنا للعلامة الشيخ حسن قاسم قبيسي العاملي الذي عاد من النجف عام 1798م بالدور الكبير في إعادة النهضة العلمية لجبل عامل بطلب من مرجعيات النجف الأشرف أنذاك، ومنهم آل الطبطبائي وآل كاشف الغطاء، وفي هذا يقول المؤرخ محمد جابر آل صفا في كتابه تاريخ جبل عامل (ص241) «أسس في الكوثرية العلامة الشيخ حسن قبيسي بإيعاز من علماء الشيعة وأساطينها في النجف، أول مدرسة في العهد الثاني من حياة جبل عامل العلمية، تدرس فيها العلوم العربية والدينية وآداب اللغة، وكان الناس في ظمأ لارتشاف مناهل العلم بعد تلك الصدمة التي دهمت البلاد، فتهافت عليها الطلاب من كل حدب وصوب، وحفلت بالمشتغلين والمدرسين، وكان في عداد تلامذته فريق صالح أصبحوا بعدها من كبار المجتهدين ومراجع الفتاوى في جبل بني عاملة، وما جاورها من البلدان».
ولعل بناء وازدهار هذه المدرسة يعود لسبب يتصل بقرب موت وهلاك الطاغية الجزار عام 1804م، ولعدالة الحاكم العثماني سليمان باشا أنذاك، الذي آثر إعادة الإستقرار إلى جبل عامل، فأوفد رسولاً من طرفه، وأوعز إلى الأمير بشير الشهابي بالتوسط للمساعدة في نشر الإستقرار، ولبّى طلب بناء المدرسة الكوثرية على ما يقول المؤرخ آل صفا. ويؤيد هذه الرواية كاتب «أعيان الشيعة» العلامة السيد محسن الأمين العاملي، والشيخ علي الزين صاحب كتاب «فصول من تاريخ الشعية من لبنان».
وكانت المدرسة مؤلفة من 2900 متر مربع، وفيها عشرة صفوف دراسية، وعشرة غرف للنوم، وعلية خاصة بالمؤسّس الشيخ حسن قبيسي. وكانت تموّل من ريع بيع الحرير الذي ينسجه دود القز، حيث كان تحت يد الشيخ حسن مرج لزراعة التوت، وبقيت عامرة حتى سنة 1967 م.
وقد تخرّج الكثير من العلماء من هذه المدرسة، نذكر منهم العلامة الشريف السيد إبراهيم بن أحمد آل إبراهيم الحسيني، الذي أسند إليه منصب الإفتاء على المذهب الجعفري، وكان ممّن تولّى التدريس أيضاً في هذه المرحلة، والعلامة الأكبر الشيخ عبد الله بن علي نعمة الجبعي الحبوشي، مؤسسة مدرسة جباع، والعلامة الشيخ محمد علي عز الدين مؤسسة مدرسة حناويه الشهيرة، التي زارها عدد من الرحالة الألمان والفرنسيين، ووصفوها بأنها مدرسة علمية عالية، والعلامة اللغوي الأديب الشاعر الشيخ علي بن محمد السبيتي، والشاعر البليغ الشيخ علي بن ناصر بن زيدان، والشيخ إبراهيم صادق، وحمد البك بن محمود النصار الوائلي الذي أصبح بعدها زعيم جبل عامل وشيخ مشايخ بلاد بشارة، كما كانت تطلق عليه هذا الإسم المراسلات الحكومية العثمانية.
وبعد وفاة العلامة الشيخ حسن قبيسي تابع صهره العلامة السيد علي آل إبراهيم السير على خطاه، ولكنه لم يعمّر طويلاً، وتوفي عام 1840م، وانتقلت بعدها الحوزة العلمية على يد العلامة الشيخ عبد الله نعمة الجبعي الحبوشي، صاحب مدرسة جباع الشهيرة.
وفي عام 1880م أسّس العلامة الشيخ موسى شرارة مدرسة دينية علمية في بنت جبيل بعد عودته من النجف الأشرف في العراق.
وتخرّج من هذه المدرسة عشرات العلماء من أبناء بنت جبيل، أبرزهم علماء آل فضل الله الكرام، الذين أسس بعضهم حوزات دينية بارزة في بلدة عيناثا الجنوبية ومنهم السيد نجيب فضل الله العاملي، الذي درس على يد الشيخ موسى شرارة، وهاجر إلى النجف الأشرف للدراسة، وعاد منها سنة 1895م ليجدد مدرسة عيناثا الدينية القديمة، وهذه المدرسة خرّجت عشرات العلماء والأدباء والشعراء، من آل فضل الله وبزي وشرارة وجعفر والأمين، وعلى رأسهم السيد محسن الأمين العاملي المرجع الديني.
وفي عام 1890م وبعد رجوعه من العراق أسس العلامة السيد حسن يوسف مكي في النبطية المدرسة الحميدية تيمناً بالسلطان العثماني عبد الحميد، ولأنها كانت تعفي طلابها من التجنيد الإجباري، وأصبحت تسمى بعد سقوط السلطنة العثمانية بالمدرسة الدينية العاملية، وقد خرجت عشرات العلماء والأدباء، من أبرزهم أحمد عارف الزين.
ومع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وبروز علامات إنحلال وارتخاء قبضة السلطنة العثمانية عن جبل عامل نتيجة ضعفها وشيخوختها وانشغالها بالحروب، وتعرّضها للهزائم، توثب عدد من المثقفين والعلماء العامليين الناشطين للإتصال بالشخصيات والجهات العربية الطامحة للإستقلال عن الدولة العثمانية، فضلاً عن الدور الفاعل للإنفتاح والتفاعل الثقافي بين المنتديات العاملية والمجاميع الثقافية العربية، ومساهمة بعض الصحف المسيحية التي كانت في أوج عطائها وازدهارها، خاصة بعد انتشار المطابع ودور النشر اللبنانية، أسهمت جميعها في إشاعة نهضة ثقافية وسياسية عاملية لافتة ومؤثرة، فبدأت تظهر شخصيات علمية عاملية مرموقة، نذكر منها الشيخ سليمان الظاهر، الذي انتخب عضواً في المجمع العلمي الثقافي في دمشق، والشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلة «العرفان» الأدبية الشهيرة.
وبعد سقوط الدولة العثمانية، دخل جبل عامل مرحلة ثقافية وعلمية جديدة، تمثلت بانتشار عشرات المدارس والإرساليات الفرنسية والأوروبية والأميركية في مدن وقرى جبل لبنان وصيدا وصولاً إلى جبل عامل، وخاصة النبطية وجزين ومرجعيون، وكان هذا العامل المستجد حافزاً لعلماء الدين العامليين للتمسك بتأسيس وتفعيل المدارس الدينية لمواجهة الغزو الثقافي الغربي أنذاك. وهكذا أسس العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين الكلية الجعفرية في مدينة صور إثر عودته من النجف الأشرف عام 1938م. ولا يمكن إغفال دور العلامة شرف الدين في الإنفتاح على الأزهر الشريف والمراسلات العلمية التي دوّنت في كتاب المراجعات الذي ساهم في تأسيس مداميك التقارب المذهبي السني - الشيعي.
وبرز في هذه الفترة العلامة الكبير الشيخ محمد جواد مغنية، الذي أغنى المكتبة العاملية بتراثه الثقافي والأدبي الضخم، والعلامة السيد هاشم معروف الحسني صاحب المؤلفات الكثيرة.
وفي عام 1960م برز دور الإمام المغيب السيد موسى الصدر، الذي له الفضل والدور الكبر في إحداث إحدى أكبر النهضات الثقافية والسياسية العاملية التي لا تزال بارزة إلى اليوم.
وفي عام 1970م برز العلامة المجتهد آية الله السيد محمد حسين فضل الله، ودوره في بناء المؤسات التربوية الإسلامية، وإحداث نهضة ثقافية وعلمية كبرى، وأيضاً برز دور المفكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. رحم الله علماءنا جميعاً.
خلاصة:
لو حذفنا بعض أسماء وتواريخ الوقائع والحوادث التي سردناها، ووضعنا مكانها أسماء وتواريخ وحوادث جديدة، مع اختلاف الصورة الإخراجية طبعاً، لما اشتبه الأمر كثيراً على القارئ، على نحو القصد الإجمالي وليس القصد التفصيلي - كما يقال في علم الأصول – لأنّ المشاريع والسياسات هي نفسها، وصراعات وطموحات القوى المحلية والإقليمية والدولية هي نفسها، تختلف فقط الأسماء والأدوات.
فما الفارق بين أحمد باشا الجزار أنذاك وبين أحمد داوود أوغلو اليوم سوى أنّ تركيا اليوم حاولت أولاً استعمال قوتها الناعمة التي اكتسبتها من إتصالها بالحضارة الغربية، ولما فشلت، عادت سريعاً إلى جوهرها الأصلي، ولجأت إلى قوتها الخشنة والصلبة في سياسات الإنقلابات والتحالفات الظرفية، والإغتيالات، ودعم وتجنيد المرتزقة من دول المغرب العربي، وبالمناسبة كان الجزار يجنّد أنذاك المرتزقة من دول المغرب العربي، واليوم تجنّد تركيا المرتزقة من دول المغرب العربي، ويا للصدفة، وليس في طبائع الدول والشعوب صدفة، وكل هذه الأساليب الإحتيالية الملتوية في سبيل السيطرة السياسية والإقتصادية على بلاد الشام ومصر والمشرق العربي، تحت شعارات سياسية دينية إسلامية، لا تعرف من الإسلام إلا إسمه ورسمه، تكشف عن خصائص ثابته في العقلية والنفسية التركية، ليس على نحو الإتهام العنصري لا سمح الله، بل على نحو الكشف الواقعي لخاصية طبعية تتجلى في السياسات التركية اليوم.
ولو نظرنا إلى أنماط عمل بعض القوى اللبنانية، وقارنّا بينها وبين سلوكيات وتصرفات حكام الإمارات المعنية والشهابية للهيمنة على جبل عامل سياسياً، لما وجدنا فارقاً جوهرياً سوى اختلاف الأسماء والألقاب.
وعلى المحور الفلسطيني، تنطبق المقارنة والمقايسة على تصرفات ظاهر العمر لناحية تذبذب تصرفاته وطموحاته وتحالفاته، وسوء تقديره للمواقف العسكرية والسياسية، وبين تصرفات بعض القوى الفلسطينية اليوم.
وهذا ينطبق على فرنسا، ورصدها الدبلوماسي والمخابراتي للمنطقة عبر قناصلها وسفرائها، وبحثها عن اللحظة المناسبة للإنقضاض العسكري والسياسي على أخصامها، وهي التي كانت تمثل القوة الدولية العظمى أنذاك، وسعيها لنسج شبكة علاقات سياسية مع مختلف القوى المحلية والإقليمية لتمرير مشاريعها ومصالحها السياسية والإقتصادية.
ويبقى جبل عامل، جبل العلماء، وجبل الثوار، جبل الرجال الأفذاذ، وجبل المدارس والحوزات الدينية، ورغم ضيق مساحته الجغرافية، لم تُفت من عضده لا مجازر أحمد باشا الجزار بالأمس، ولا المجازر الصهيونية اليوم. كل ذلك بفضل همة أبنائه ورجالاته وطموحهم التي لا تعرف الحدود، ما جعل مساحته الثقافية والعلمية والسياسية تفوق عشرات المرات مساحته الجغرافية، هذا الجبل الذي ترك بصماته ليس في بلاد الشام فحسب، بل في بلاد العرب، ووصل تأثير علمائه إلى بلاد العجم، وإنجازات علماء جبل عامل شاهدة على ذلك، من الشهيدين الأول والثاني والعلامة الكركي وغيرهم من العلماء.
يبقى أنّ هذا التراث بحاجة إلى حفظه في أرشيف موحّد بالإستفادة من أفضل التقنيات الحديثة، ووضعه في متناول الجميع، خاصة في عصر الشبكات المعلوماتية والإعلامية، ليكون شاهداً على دور جبل عامل في نهضة العرب والمسلمين، وليكون ثروة وحافزاً لأبناء هذا الجبل، والعالم أجمع، ليتعرفوا على الخدمات الكبرى التي أسداها علماؤهم للعرب والمسلمين، فضلاً عن الخدمات التي أسداها مجاهدوهم أبناء المقاومة الإسلامية للبنان والعرب والعالم الإسلامي، والمساهمات العلمية والتقنية للنوابغ العامليين في المهاجر والمغتربات، أمثال حسن كامل الصباح، ورمال رمال، وغيرهم، ولن ننسى دور رجال الأعمال والتجار العامليين المنتشرين في معظم مدن العالم، ودورهم التفاعلي الداعم مادياً ومعنوياً لنهضة جبل عامل ولبنان، ونهضة الأماكن التي حلوا فيها بطبيعة الحال.
وهكذا يقترن تاريخ هذا الجبل دائماً بأعلى درجات الشهادة والجهاد والعلم في خط سيــر قافلة الوجود المتشرفة بحمل الراية والخلافة الربانية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
جبل عامل في العهد العثماني
مرحلة أحمد باشا الجزار نموذجاً
د.محمد نورالدين[1]
تجمعني بجبل عامل في عهد الجزار عناصر كثيرة منها أن هذه العلاقة في تلك الحقبة كانت أحد فصول أطروحتى للدكتوراه في العام 1982 حول الادارة العثمانية في بلاد الشام في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ومن ذلك أيضا، أنّ الحديث عن جبل عامل في ظلّ الجزار في نهاية القرن الثامن عشر يستدرج، كوني متخصصاً في الشأن التركي الحديث، الكلام عن جبل عامل في مطلع القرن الواحد والعشرين حيث الخطر لا يزال هو نفسه ومن المكان نفسه،حيث يستمر التحالف الاسرائيلي مع الباب العالي الجديد في اسطنبول، لم تخفف منه «إسلامية» زائفة وشعارات فارغة لحزب العدالة والتنمية الذي وضع نصب عينيه استعادة الهيمنة العثمانية - السلجوقية المذهبية على المنطقة ولم ينظر الى حدود تركيا مع محيطها سوى أنها «حدود أطلسية». ومن تلك العناصر أنني، كواحد من أبناء جبل عامل، يثق ثقة مطلقة، أنّ ذلك الخيط من الشهادة الممتد من ناصيف النصار في مواجهة الباب العالي وصولا إلى مرحلة مقاومة العدو الاسرائيلي وتحرير الأرض، سيبقى الشعلة التي لا تنطفىء والقبضة التي تحمي تراب جبل عامل وناسه.
هنا نص استذكاري لما بات معروفاً لدى الجميع من تفاصيل وخطوط أساسية لعلاقة جبل عامل بالحكم العثماني ولا سيما في حقبة والي عكا وصيدا أحمد باشا الجزار. وإذا كانت معظم المعلومات عن تلك الفترة قد جاءتنا من كتابات أبناء جبل عامل ومن التقارير القنصلية والمراسلات الديبلوماسية الفرنسية التي نشرها السفير السابق المرحوم عادل اسماعيل ومن مؤرخين معاصرين لها في جبل لبنان، فإنّ الدعوة أكثر من ضرورية للعمل على أرشيف الفترة العثمانية وأرشيفات دول أخرى وللكشف عمّا يمكن أن يكون لا يزال محفوظاً لدى البعض من وثائق عن تلك الحقبة.
لم تتأسس الدولة العثمانية في العام 1299م على أساس مذهبي حاد. رغم أن قبيلة آل عثمان كانوا محاطين بمجموعات يغلب عليها الطابع الصوفي واتسم سلوكهم بالمرونة والتسامح في بدايات الدولة وكان تأثير الطريقة البكاشية بزعامة (حاجي ولي بكتاش) الأبرز في هذا الخصوص. غير أنّ بروز الدولة الصفوية في نهاية القرن الخامس عشر، وبدء مرحلة من الشكوك بأنّ الصفويين يريدون ضرب العثمانيين، ودخول الشك لدى هؤلاء بأنّ القبائل التركمانية ذات الانتماء العلوي في الأناضول تساعد الصفويين، كان محطة التحول الحاسمة لتنتقل الدولة العثمانية من دولة مرنة دينياً ومذهبياً إلى دولة شديدة التعصب لتفتح بذلك مرحلة، امتدت حتى سقوطها، من العداء للمذهب الشيعي وكل المذاهب غير الحنفية ومنها المذهب الوهابي.
تزامن الصراع العثماني - الصفوي ولا سيما في موقعة تشالديران الحاسمة لصالح السلطان سليم الأول في العام 1514م مع بدء استعداد السلطان سليم الأول لغزو بلاد الشام وشمال أفريقيا الواقعتين في قسمهما الغالب تحت السيطرة المملوكية.
وبعد السيطرة العثمانية على المنطقتين وإنهاء دولة المماليك، لم يغير العثمانيون من سلوكهم اتجاه المجموعات الدينية والمذهبية المخالفة لهم لذلك كانت العلاقة بين الدولة العثمانية والشيعة، مثلاً ــ استمراراً للعداء العثماني ــ الصفوي رغم أنّ هؤلاء اتفقوا على عدم الاعتداء في العام 1639م في معاهدة قصر شيرين.
لذلك نجد أن الصبغة العامة للعلاقة بين الدولة العثمانية والشيعة في الدولة العثمانية وفي لبنان تحديداً وفي جبل عامل على وجه الأخص كانت محكومة بالقمع والتنكيل والتهجير وقتل العلماء والزعماء السياسيين.
ومن أشهر هذه الحالات مقتل العالم الشيعي زين الدين بن نورالدين علي بن أحمد العاملي الجبعي المعروف بالشهيد الثاني في العام 965 هجرية بعد اعتقاله من المسجد الحرام في مكة المكرمة، حيث تمّ قتله في اسطنبول.
ومع أنّ السيد محسن الأمين والشيخ محمد جواد مغنية يردان العداء العثماني للشيعة إلى أسباب سياسية لا مذهبية لكن المحصّلة في النهاية أن الشيعة كانوا مقصداً دائما لتنكيل الولاة والقضاة العثمانيين.
جبل عامل في حقبة الجزار
لم يكن لجبل عامل خصوصية كيانية محددة منذ أن دخله العثمانيون عام 1516م، واستمر في ما يشبه الحكم الذاتي يؤدي الضريبة للدولة العثمانية من دون هيمنة عليه للمعنيين في جبل لبنان إلا نادرا. أما الشهابيون فقد كثفوا حملاتهم على جبل عامل لحساب ولاة دمشق وصيدا مذ جاؤوا إلى السلطة في جبل لبنان عام 1697م وتمكنوا من احتلاله في بعض الفترات إلى أن جاءت مرحلة الزعيم الشيخ ناصيف النصار والتي بدأت في مطلع الأربعينيات من القرن الثامن عشر والتي تمثلت بانتصار الشيخ نصار على الأمير ملحم الشهابي عام 1744م ثم في معركتي جباع ومرجعيون عام 1749م. وهذه الفترة هي نفسها فترة ظهور زعامة ظاهر العمر الزيداني في شمال فلسطين وفي صفد تحديداً على الحدود الجنوبية لبلاد بشارة. فكان انسجام سياسي بين الطرفين في معاداة الدولة العثمانية ومحاولة العيش في استقلالية معينة. ووصل الأمر الى عقد معاهدة تحالف بين ظاهر العمر وناصيف النصار في العام 1767م.
واستأنف الشيعة في جبل عامل مع ظاهر العمر تحالفهم بتأييد حملة قائد مصر علي بك الكبير بزعامة محمد بك أبي الذهب إلى بلاد الشام ومحاربتهما معه ضد القوات العثمانية عامي 1770م -1771م متمثلة بعثمان باشا والي دمشق وابنه درويش باشا والي صيدا ومعهما الأمير يوسف الشهابي وانتهت المعارك إلى دخول أبي الذهب دمشق محاطاً بقوات الشيعة العامليين وظاهر العمر.
لكن مقتل ظاهر العمر في العام 1775م كان محطة تحول في علاقة جبل عامل بالدولة. إذ بعد مقتل العمر عيّنت الدولة أحمد باشا الجزار والياً على صيدا لتبدأ مرحلة مروعة من التاريخ العاملي.
كان ناصيف النصار، من آل الصغير، الأعلى رتبة في جبل عامل لذا لُقب بشيخ المشايخ ومقره تبنين.
وفور تعيينه اتخذ الجزار عكا بدلاً من صيدا مقراً له نظرا لمناعتها وتحضيراً لمغامرات كان يفكر بها. وأول ما استذكره الجزار كان تحالف العامليين مع ظاهر العمر فقرر أن يُخضع المتاولة مهما كان الثمن. لكن انشغاله بالتعامل أولاً مع التمرد الدرزي أجّل التنفيذ إلى مرحلة لاحقة لم تطل كثيراً إذ قرر الجزار في العام 1781م غزو جبل عامل بناء على أوامر من السلطان العثماني عبدالحميد الأول مباشرة وذلك للأسباب التالية:
1- تأديبهم على دعم ظاهر العمر.
2- معاقبتهم على غاراتهم المتكررة على جنود الدولة.
3- تمنّعهم عن دفع الضرائب.
4- التخلص من بؤر انفصالية خصوصا بعدما قضت الدولة على «دولة» ظاهر العمر.
5- الإستفادة من ثروات جبل عامل.
وعلى هذا قرّر الجزار إرسال قائده العسكري سليم باشا على رأس 3 آلاف مقاتل ليقضوا على حكم ناصيف النصار الذي على ما يبدو فوجىء بالهجوم العثماني فقرر تحضير ألف فارس على عجل. والتقى الفريقان في يارون في 23 أيلول 1781م حيث نجحت قوات الجزار في كسر شوكة المقاومة الباسلة لناصيف النصار وقد قتل النصار والعديد من المشايخ وحوالي 300 فارساً في المعركة واستولى في إثرها الجزار على معظم حصون جبل عامل مثل هونين وتبنين وصور وميس وجباع وشمع فضلا عن صور. ولم تسقط قلعة الشقيف بسبب صمود الشيخ حيدر الفارس فيها وانتهت إلى اتفاق بضمان أرواح الفارس ومن معه وتمكينهم في البلاد ليعيدوا تأهيلها وزرعها لكي يستفيد منها والي صيدا ليس إلا.
ولا شك أنّ معركة يارون كانت ضربة قاسية جدا للعامليين وكيانهم حيث فرّ معظم زعمائهم وعلماء الدين إلى أربع رياح الأرض مثل العراق والهند وإيران وأفغانستان وحلب والأناضول، كما إلى مناطق لبنانية مثل عكار وبعلبك.
وأظهر السلطان العثماني سروراً كبيراً بنجاح حملة الجزار فكافأه بهدية من سيف وخلعة.
واستأنف الجزار حملته على المتاولة بعدما اكتشف في أيار 1782 مؤامرة من شيخ مدينة صور للإنقضاض على الدولة بالتعاون مع الفرنسيين فأعمل الجزار قتلاً وتهجيراً بمن تبقّى من متاولة في جبل عامل.
ولم يستكن العامليون بعد هزيمة النصار فقادهم إبنه الشيخ فارس ناصيف النصار في فرق عرفت باسم (الطيّاح) أو (الطواح) تعترض قوافل جنود الجزار والدولة مستفيدين أحياناً من الخلاف بين الجزار وأمراء جبل الدروز، ونجحوا أحيانا في هزيمة قوات الجزار ومنها طرد حامية الجزار من قلعة تبنين في حزيران 1784، إلى أن توفي الجزار في العام 1804.
وهنا يمكن التوقف عند الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر، ومن ثم بلاد الشام حيث وقفت عكا بقيادة الجزار عائقاً أمام نجاح الحملة وبالتالي تراجعها عن أسوار عكا حيث عاد بونابرت إلى مصر ومنها غادر مسرعاً عائداً إلى فرنسا. لكن الملفت أثناء حصار بونابرت لعكا أنّ الأقليات الدينية المسيحية رحبت به أيضا. كان العامليون من بين المرحّبين به للتخلص من ظلم الجزار. يقول الشيخ علي السبيتي في «جبل عامل في قرنين» أنّ زعماء جبل عامل حضروا إلى عكا الذين أعادهم بونابرت الى حكم بلادهم ويقول سبيتي أنّ زعماء عاملة حملوا الى بونابرت «الحطب والدجاج والبيض وسائر الأمتعة للإفرنج». كما يذكر (إدوار لو كروا) مؤرخ الجزار(عام 1888م) أنّ أحد قادة بونابرت «زحف الى صور ببعض الجيوش وببعض سكان بلاد بشارة الذين عبّأهم».
وفي عودة إلى هجرة العامليين بعد موقعة يارون ومصرع ناصيف النصّار، فإنّ الجزار قبض على من لم يستطع الفرار من العلماء والرؤساء، وقتل جماعة، منهم العالم السيد هبة الدين الموسى، والسيد محمد آل شكر، والشيخ محمد العسيلي. ومنهم الشيخ علي خاتون الفقيه الطبيب، وقد جاء في سيرته أنه «كان عالماً فاضلاً فقيهاً جليلاً متبحراً في علم الطب القديم وهو من علماء عصر الشيخ ناصيف، قبض عليه أحمد باشا الجزار فيمن قبض عليهم من علماء ووجوه جبل عامل وحبسه في عكا وعذّبه ثم قتله، وكان يحمي له الساج حتى يحمر ثم يضعه على رأسه. كما نقل من أحوال أحمد باشا أنه انتهب أموال العامليين ومكتباتهم ومنها مكتبة آل خاتون وكانت تضم خمسة آلاف مجلد. وبقيت أفران عكا تعمل بنار الكتب العاملية أسبوعا كاملا. وفي عهد الجزار هاجر عدد كبير من علماء جبل عامل مشرّدين في الأقطار ومن هؤلاء العالم الشاعر الشيخ إبراهيم يحيى، وله قصيدة يصوّر فيها أوضاع الشيعة في ظل ولاية الجزار يقول فيها:
وعاثت يد الأيام فينا ومجدنا |
وبالرغم مني أن أقول مهدم |
ولست ترى إلا قتيلاً وهارباً |
سليباً ومكبولاً يغل ويزغم |
وكم عالم في عامل طوحت به |
طوائح خطب جرحها ليس يلأم |
وأصبح في قيد الهوان مكبلاً |
وأعظم شيء عالم لا يعظم |
وكم عزيز ناله الضيم فاغتدى |
في جيده حبل من الذل محكم |
وكم هائم في الأرض تهفو بلبه |
قوادم أفكار تغور وتتهم |
ولما رأيت الظلم طال ظلامه |
وأنّ صباح العدل لا يتبسم |
ترحّلت عن دار الهوان وقلما |
يطيب الثوى في الدار والجار أرقم |
تملكها والملك لله فاجر ٌ |
سواء لديه ما يحل ويحرم |
عتل زنيم يظهر الدين كاذباً |
وهيهات أن يخفى على الله مجرم |
وقد قصد الشيخ إبراهيم دمشق فسكن فيها، وفيها كتب قصيدة تناولت الكوارث التي نزلت بجبل عامل زمن الجزار، جاء في مطلعها:
من لي بردِّ مواسم اللذاتِ |
والعيش بين فتى وبين فتـاةِ |
ورجوع أيام مضينَ بعاملٍ |
بين الجبال الشُمِّ والهضباتِ |
وقال في قصيدةٍ أخرى:
ديـار شفـى قلبـي عليـل نسيمها |
وطابت لديها غدوتي وأصائلي |
وما كان هجري «عاملاً» عن قلي لها |
ولكن نبت بي في رُباه منازلي |
وكان الشيخ إبراهيم يحيى العاملي قد أرَّخَ لمقتل الشيخ ناصيف النصار بهذه الأبيات:
قُتِلَ ابـن نصار فيا لله مـن |
مولى شهيدٍ بالدماءِ مُضرجِ |
وتداولتنا بعـده أيـدي العِدىَ |
من فاجرٍ أو غادرٍ أو أهوجِ |
هي دولةٌ عمَّ البلاد الظُلم في |
تاريخهـا الله خيرُ مُفـرجِ |
وممن غادر جبل عامل وكتب شعراً في الحنين إليها، الشيخ سليمان ظاهر الذي قال:
ألا تـربت مـن الجـزار كف |
بها للفخـرِ كـم ظـهر أجب |
وكم غُرِست بأرضِ الشامِ غرساً |
ألـذ جنـاهُ خـطانِ وخـطب |
وكـم دُكـت بعـاملةٍ حصونـاً |
لها الأسوار بيض ظبي وغلب |
لكن الحياة العلمية والفكرية في جبل عامل واجهت العديد من الصعوبات في عهد الجزار إذ انتشرت الفوضى بعد مقتل النصار في غير مكان، فأُغلقت المدارس وأُقفلت معاهد العلم وانقطعت سلسلة التدريس بعد أن احتلت منزلة رفيعة ومرموقة وأحرزت شهرة واسعة، وصلت إلى مواطن الشيعة في الهند وإيران وروسيا وغيرها من البلدان التي تواجدوا فيها.
وفي رسم المشهد العلمي والثقافي بعد نهاية الجزار، نجد محاولة جديدة لإعادة الحياة العلمية إلى جبل عامل فكانت مدرسة الكوثرية شمالي جبل عامل على مقربةٍ من النبطية، التي أسسها الشيخ حسن قُبيسي بإيعازٍ من مدينة النجف الأشرف ومن أبرز من تخرّج من هذه المدرسة السيد علي ابن السيد إبراهيم الحسيني الذي تولى الإفتاء في القسم الشمالي من جبل عامل في عهد ولاية سليمان باشا العادل وعبد الله باشا، اللذين توليا الحكم بعد الجزار مباشرةً.
بعد الجزار: هدنات وثورات
بعد وفاة الجزار حكم لمدة قصيرة إسماعيل باشا كوالٍ على صيدا وعكا ثم تم تعيين سليمان باشا الذي عرف بالعادل حاكماً على ولاية صيدا وعكا عام 1805م.
وقد بادر سليمان باشا إلى عقد صلح مع زعماء جبل عامل الهاربين والذين كانوا لا يزالون في الجبل وفي مقدمهم فارس ناصيف النصار وآل الصغير وآل صعب وآل منكر.
وتتمثل شروط الصلح فيما يلي:
أولاً: العفو العام عن الثوار كافة.
ثانياً: أن يشارك المتاولة لاحقاً في حروب الوزير متى لزم ذلك والحضور دون تردد.
ثالثاً: يُعطى مشايخ المتاولة إقليم الشومر ملكاً لهم ولذريتهم مقسوماً بالتساوي بدلاً عن أملاكهم التي ضبطتها الدولة، ويستثنى منها قرى الصرفند، وأنصار، وميس، مفروزة القلم مرفوعة القدم (أي معفاة من الضرائب والأموال الأميرية). وأن يوقّع الجميع في دفتر خاص بذلك للتأكيد على أن عملية التوزيع قد تمت برضاهم واتفاقهم حتى لا يحدث في المستقبل أي خلاف.
رابعاً: ألا يكون لموظفي الدولة أي تدخل في حكم البلاد ولا سلطة على مشايخها. وإنما يرجع المشايخ في أمورهم وفصل الخلاف الذي يقع بينهم إلى شيخ المشايخ فارس الناصيف، الذي يمثلهم أمام الحكومة، وعليه تعود المسؤولية.
ومهما يكن الأمر، فإن الشيخ فارس الناصيف وصل إلى عكا مترئساً وفد العشائر العاملية ولاقى من الوالي سليمان باشا كل إكرام ورعاية وحفاوة بالغة، وتم توقيع الاتفاق في مجلس حافل، حضره قاضي عكا ومفتيها وراغب أفندي وكبار رجال الحكم في عكا والشيخ جرجس باز وكيلاً عن الأمير بشير. ولكي يُظهر سليمان باشا رضاه عن الشيخ فارس الناصيف أهداه خلعة فاخرة من فرو السمور إضافة إلى خمسة آلاف قرش وعشرة غراير من الحنطة وعشرين من الشعير.
ومن مفاعيل هذا الصلح، مشاركة العامليين في حملة سليمان باشا لرد الوهابيين عن دمشق في العام 1810م وهو العام الذي عُيّن فيه سليمان باشا والياً على دمشق وطرابلس بعد فشل الوالي السابق يوسف باشا في ردّ غزوات الوهابيين وتأمين قافلة الحج.
وبعد موت سليمان باشا عام 1819م تمّ تعيين عبد الله باشا أحد مماليك الجزار والياً على عكا وكان قاسياً جداً بحق المتاولة.
مع ذلك استمرت حياة العامليين معقولة حتى العام 1831 عندما غزا إبراهيم باشا بلاد الشام. ولم يساعد العامليون إبراهيم باشا في حصار عكا فغضب عليهم وضمّ بلادهم إلى جبل الدروز حيث نكّل بهم الأمير بشير الشهابي الكبير الذي كان يكنّ الحقد لزعماء المتاولة في جبل عامل. وقد انعكس الموقف العاملي من المصريين تنكيلا لهم على امتداد الحضور المصري أي حتى العام 1840 وانتشروا في العالم كما كان الحال بعد موقعة يارون أيام الجزار. وربما يكون تغيير موقف العامليين من الدولة العثمانية ودعمهم لها ضد المصريين ناتج عن سببين أساسيين: تنكيل الشهابيين المتعاونين مع المصريين بهم، وإلغاء المصريين لحكم العامليين على بلادهم لعدم دعمهم حصار عكا. وقد شارك العامليون في الثورة الكبرى ضد المصريين عام 1834 بقيادة حسين شبيب ابن الشيخ فارس الناصيف وأخيه محمد علي بك. وفي العام 1840 قاد أحمد داغر ثورة ثانية ضد المصريين في جبل عامل. ومن بعدها كانت أكبر ثورة عاملية بقيادة حمد البك المحمد ضد المصريين في العام نفسه حيث عينه القائد العام للجيش العثماني عزت باشا حاكما على جبل عامل بلقب «شيخ مشايخ بلاد بشارة». بل بات حمد البك معتمداً من قبل العثمانيين لتأديب المتمردين على الدولة في أكثر من مكان.
وبعد وفاة حمد البك عام 1852، ولم يكن له ولد، كانت السلطة لعلي بك الأسعد، ابن أخيه، حتى العام 1865، وكان عهد أمان وازدهار واستقرار. كما استمرت الدولة في الاستعانة بالعامليين لإخماد انتفاضات في أماكن أخرى وقد اتبع العامليون القوة أحيانا وأحيانا الرويّة والمفاوضات لقمع هذه الإنتفاضات. وكان عهد علي بك الأسعد أيضا عهد حماية المسيحيين الفارين من بطش الدروز بعد حوادث 1860 في جبل لبنان بل حاول محمد بك الأسعد، شقيق علي بك، أن يمدّ يد العون العسكري للمسيحيين ومنع الدروز من مهاجمتهم ولا سيما في جباع. وبوفاة علي بك الأسعد وأخيه محمد بالكوليرا عام 1865 إنتهى الحكم الوطني في جبل عامل وانتقلت إدارة الجبل العاملي إلى الدولة العثمانية مباشرة بعد ضم الجبل الى ولاية بيروت إلى أن انهارت الدولة في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918.
ويمكن ختاما تسجيل الملاحظات التالية:
1- إنّ تعاطي العثمانيين عموما مع العامليين كان إلى حدّ كبير على أساس مذهبي.
2- لكنه لم يكن الأساس الوحيد، فالبنية العثمانية إقطاعية ولم تفرّق سياسة فرض الضرائب والصراع السياسي بين الولاة بين مذهب وآخر فطال البطش كل فئات الناس بمعزل عن دينهم ومذهبهم وعرقهم ومكان إقامتهم.
3- لقد عاش العامليون فترات طويلة في ظل ما يشبه الحكم الذاتي، ولم تخضع بلاد عاملة للحكم المباشر للعثمانيين وولاتهم أو لأمراء جبل الدروز إلا لفترات قليلة واستثنائية، سرعان ما كانت تليها عودة الحكم الوطني.
4- ومع اعتداد العامليين بهويتهم فلم يكونوا في الوقت نفسه غير واعين لحجمهم الأقلوي وسط الأكثرية الساحقة من الأعداء. لذا لم يكن عندهم من مانع لتسويات ترضي الدولة وتحمي الوجود المادي للعامليين من التنكيل والتهجير.
بعض مراجع النص:
- الإدارة العثمانية في بلاد الشام، أحمد باشا الجزار نموذجا، محمد نورالدين رسالة دكتوراه غير منشورة،1982.
- المراسلات الديبلوماسية والقنصلية لعادل اسماعيل المجلدان الأول والثاني.
- تاريخ جبل عامل في قرنين، حيدر الركيني، حلقات في مجلة العرفان.
- الكيان السياسي لجبل عامل قبل 1920، منذر جابر، 1979،محاضرة في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.
- المسألتان القومية والدينية في سياسة بونابرت في المشرق العربي، محمد نور الدين، مجلة المنطلق، العدد 80/81 تموز / آب 1991
- الجزار ونابليون والمسألة الشرقية، محمد نورالدين، مجلة الفكر العربي، العدد 28، صيف 1982. صفحات مطوية من تاريخ جبل عامل النضالي: مقاومة سياسة الجزارالتدميرية، حسين سلمان سليمان،مجلة تاريخ العرب والعالم العدد 55، أيار 1983.
- الحكم الإقطاعي لمتاولة جبل عامل في العهد العثماني1219 – 1282هـ/1804-1865م، أسامة محمد أبو النحل، دراسة، جامعة الأزهر – غزة 2001.
- الحياة الثقافية في فلسطين ولبنان في عهد أحمد باشا الجزار، أسامة أبو النحل، دراسة، جامعة الأزهر في غزة، 2005.
[1] أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة اللبنانية.
الجلسة الثانية
ترأس الجلسة الثانية
السيد حسين حجازي[1]
نحن في جبل عامل حيث يشكِّل كل يوم منه تاريخاً مستقلاً يحتاج إلى جملة من الكتّاب في مختلف الإختصاصات في هذا التاريخ العريق الذي اقترن فيه القلم بالدم، وجميلٌ في تاريخ الشعوب أن يقترن القلم بالدم والجهاد في سبيل الله تعالى، ويا حبّذا لو أنَّنا استبقنا الظلم والتزوير والتحريف المتوقع حصوله في هذا الزمان وبدأنا بالكتابة عن إنجازات حرب تموز حتى لا نقع في المحظور أكثر من مرَّة على كلٍّ في التاريخ و المخصص عقده اليوم في هذا الؤتمر عن مرحلة الجزَّار نستشرف روح (الشيخ إبراهيم إبن الشيخ يحي إبن الشيخ محمد بن سليمان العاملي الطيبي)، حيث يقول:
يَعِزُّ علينا أن نروحَ و مِصرُنا |
لِفرعَوْنَ مَغناً يَصتَفيهِ و مَغنَمُ |
و عَهدِ بها مؤهولَةٌ و ربيعُها |
على كُلِّ مُرتادِ العِنادِ مُحَرَّمُ |
وكانَ لها من آلِ نصَّارِمٌ |
ثقيلٌ وسهم ٌ لايَطيشُ و لَهذَموا |
قضى في ظِلاَلِ المُرهَفاتِ مُطَهَراً |
وأيُّ شهيدٍ لا يُطَهِّرُهُ الدَمُ |
و لَستَ تَرَ و عاثَتْ يَدُ الأيَامِ فينا |
فمَجدُنا و بالرَغمِ مني أن أكونَ مُهَدَّمُ |
ولستَ ترى إلاَّ قتيلاً و هارباً |
سَليباً و مكبولاً يُغَلُ و يُرغَمُ |
إلى أن يقول في مكان آخر: |
|
أُكَفْكِفُ دمعَ العينِ و هو غَزيرُ |
و أكتِمُ نارَ القلبِ و هي تَفورُ |
وأنتَشِقُ الأرواحَ من نحوِ عاملً |
وفيها لِمثلِ سَلوَةٌ و سُرورُ |
[1] إمام بلدة قبريخا.
الخسائر التي مُني بها جبل عامل
جراّء حكم الجزار
أ. د. مصطفى بزي[1]
مقدمة
كان النظام المتّبع في جبل عامل في ظل السيطرة العثمانية نظام المقاطعجية, أي الإلتزام, حيث كان المقاطعجيون يلتزمون البلديات والقرى من الولاة العثمانيين (في دمشق, أوعكا, أوصيدا أو غيرها), مقابل مبالغ سنوية، تزيد او تنقص وفقاً للعلاقة التي كانت تربط المقاطعجي بالوالي, والإلتزام يستمر أو يتوقف, أو يتغير ثمنه تبعاً لتلك العلاقة.
المقاطعجيون بدورهم, كانوا يجمعون الأموال من الرعايا التابعين لهم, على شكل ضرائب, وذلك عن طريق وكلاء لهم, في البلدات والقرى, وعادة يكون هؤلاء الوكلاء من المقربين للمتنفذين, أومن أقاربهم, وعادة هم من العائلات الرئيسية المتنفذة. ومن المعروف أن «المبلغ المالي المتفق عليه, لم يكن يدفع كله مرة واحدة, فبعضه يدفع مقدماً, والبعض الأخر آجلاً[2].
هذا وكانت الدولة العثمانية تطرح المقاطعات «الريفية للولاية, للمزايدة بين الراغبين فيها من أعيان البلاد وأغنيائها, مقابل مبالغ محدودة يدفعها الراغب في الإلتزام، وفي مقابل ذلك، كان الملتزم حرّ التصرف في أن يجبي ما يشاء من الأهالي, بدلاً من قيمة الإلتزام التي كان يدفعها كل عام»[3].
المقاطعجيون كان عليهم مقابل الالتزام, تلبية رغبات الولاة والحكام, في تقديم الخدمات العسكرية, خاصة حين ترى السلطنة أنّ الواجب يستدعي النفير(أي حشد القوات العسكرية من الولايات للمشاركة في الحروب والدفاع عن السلطنة).
جبل عامل كان يشكل قسماً من ولاية صيدا, وامتدت حدوده من نهر الأولي شمالاً, حتى الرأس الأبيض جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً حتى بحيرة الحولة, بعرض ثمانين كلم شرقاً. وكان لموقع هذا الجبل, من الناحية الجغرافية, الأثر الهام في تطور حياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية, لقد كان يحتل نقطة مركزية، وسطاً, بين سوريا وفلسطين وجبل الدروز, وتبعاً لتطور الظروف العسكرية والأمنية والسياسية في هذه الاماكن، فإنّ جبل عامل كان حكماً يتأثر إلى حد كبير بتقلّبات موازين القوى في المحيط والجوار.
إن السلطة العثمانية في بعض المناطق، ومنها منطقة جبل عامل، لم تطبق ولم تفرض الحكم المباشر, فيكفي أن يكون الحاكم العثماني متواجداً في مركز الولاية، صيدا، أو عكا، ويرتبط به زعماء محليون متنفذون, أبناء عائلات كبيرة, قادرون على تنفيذ الأوامر التي تصدر من السلطان أو الولاة أو الحكام, لجمع الضرائب أو الخدمة العسكرية أو السخرة, ويذكر بعض المؤرخين في هذا الخصوص, أن «الحكم العثماني في هكذا أقاليم كأنه إسمياً أو سطحياً، بمعنى أنها (أي السلطة العثمانية) لم تكن ترسل إلى إقاليمها (البعيدة والجبلية والوعرة) حكاماً عثمانيين, وإنما فقط تعترف بوجود زعيم قبلي أو عسكري, أو إقطاعي يحكم باسم السلطان, ويدفع في كل سنة الميري والجزية المقررة عليها، ويحافظ على النظام بين السكان»[4].
المشكلة بالنسبة للولاة والحكام كانت تتمثل بأنه «إذا بلغ أحد الزعماء درجة من القوة والنفوذ, ونزع إلى الإستقلال، وشكلّ خطراً على جيرانه، كانت السلطة المركزية في الاستانة, أو في الولايات, تتذرع بالصبر, وتنتظر الفرصة المناسبة للإيقاع به، وذلك لاقتناع أولئك المسؤولين، بأن القضاء على جميع المتمردين في وقت واحد أمر صعب، ولا نهاية له، ويتطلب أموالاً وفيرة وقوات غفيرة ... لذلك كانت السلطات العثمانية تشير على هؤلاء جيرانهم أو أقرباءهم أو ابناءهم أنفسهم»[5].
الواقع، أن الدولة العثمانية كانت تعتمد سياسة «فرّق تسُدْ»، حيث كانت تؤلّب الزعماء المحليين على بعضهم البعض, فتكتسب ولاء زعيم على حساب زعيم آخر، وتترك هؤلاء يتخاصمون ويتقاتلون نيابةً عنها, فيضعف الجانبان, ويكون ذلك في مصلحة السلطة المركزية, ويعمل المتخاصمون إلى التقرّب من الوالي لنيل رضاه.
كذلك فإنّ الأمر نفسه كان يحصل في موضوع الإلتزام, فطالما كان الملتزم مؤدياً للشروط المطلوبة منه، من تقديم أموال وهدايا وأعطيات وخدمات وغير ذلك, فإنّ الإلتزام يبقى قائماً, والعكس صحيح. منطقة جبل عامل, كان يتولى إدارتها مجموعة من المشايخ، يقيم كل منهم في إحدى المقاطعات مع أتباعه المزارعين, الذين يتعهدون أرض المقاطعة لحسابه[6]، وهؤلاء المشايخ[7]، كانوا قادرين على تجنيد أعداد كبيرة من المقاتلين والفرسان, الذين كانوا يدافعون عن منطقتهم، والوقوف في وجه أعدائهم، وتلبية رغبة الزعيم، إذا ما أراد مساعدة أحد الولاة أو الأنصار.
إستقلال عاملي ذاتي
«قيّض للعاملين نوع من الإستقلال الذاتي, والتصرّف الحر, فبعد أن بنى العامليون القلاع, ورمّموا الموجود منها، قسّموا مقاطعاتهم بين زعمائهم سنة 1163هـ , إلى ثمان, خمس منها تحت سلطة آل علي الصغير وهي: تبنين وهونين وساحل معركة وساحل قانا ومرجعيون, ومقاطعة واحدة تحت سلطة آل أبي صعب, وهي مقاطعة الشقيف, ومقاطعتان تحت سلطة آل منكر، وهي إقليم الشومر وجباع، وكان الحاكم يؤدي عنها ستين ألف قرشاً سنوياً, مقسطة على اثني عشر شهراً، وكانت تبنين لناصيف وصور لعباس العلي, وهونين لقبلان»[8] .
ورغم وجود الأُسر العديدة المتنافسة في جبل عامل, على زعامته، والسيطرة على مقاطعاته، إلا أنه يمكن القول أن «آل علي الصغير ظلوا الأقوى نفوذاً في المنطقة, حيث حصلوا من الولاة العثمانيين على معظم التزامات الإقطاعيات التي كانوا يلزّمونهم إياها، وذلك لجباية الرسوم والضرائب المترتبة عليها»[9].
ويظهر أنّ خلافات كانت موجودة بين زعماء عاملة في تلك الفترة, حيث أنّ بعضهم لم يرضَ عن التقسيم الذي حدث للمقاطعات، ويذكر الشيخ محمد تقي آل فقيه, في هذا الصدد, أنّ «آل منكر وآل الصعبي لم يعترفوا بحكومة آل علي الصغير»[10].
بروز نجم ناصيف النصّار
يؤكد المؤرخ الشيخ علي الزين, أنه «لم يكن يوجد شيخ مشايخ في جبل عامل قبل نصّار النصار، عم الشيخ قبلان, وكان نصّار مقدّم آل الصغير في حوادث سنة 1144هـ، وان إبنه ناصيف كان شيخ مشايخ في حوادث كفر رمان والنبطية سنة1185هـ, وحوادث الغازية وحارة صيدا سنة 1186هـ، وما تلاهما من الحوادث»[11].
وكان الشيخ ناصيف النصار يحمل لقب شيخ مشايخ جبل عامل، ويذكر أنه في عهده, أرسل علي بك الكبير حاكم مصر جيشاً لفتح سوريا بقيادة محمد بك أبو الذهب, وأثناء مروره بفلسطين، إنضم إليه ناصيف النصار وظاهر العمر في جبل عامل. «وزاد جيش علي بك الكبير بجيش ظاهر العمر المؤلف من 1500 عربي من وطنه صفد, وخيّالة من المتاولة بقيادة ناصيف, ومركزه - أي ناصيف - على بعد بضعة فراسخ من صور»[12].
هذا ويذكر أنّ جيش أبي الذهب دخل دمشق منتصراً, ثم انسحبوا منها لغير سبب ظاهر، وذهبوا إلى مصر، ولما علم بذلك الشيخ ظاهر العمر, إنسحب إلى جسر بنات يعقوب مع المتاولة والصفديين، وفي موسوعة أعيان الشيعة أنّ «المتاولة في تلك الفترة كانوا ينقسمون إلى قسمين: الأول يسكن شمال سهل البقاع في ضواحي بعلبك, فيميلون تارةً إلى الأمير يوسف - حاكم الشوف - وطوراً إلى عثمان باشا والي دمشق, من قبل الدولة العثمانية, والثاني أكثر عدداً من الأول، وأكثر أهمية، ويسكن القمم من الجبال الواقعة شرقي صور, ويسير مع ظاهر العمر, ومنذ زمن بعيد, رفض المتاولة دفع الميرة وتشاجروا هم وباشا صيدا، مع أنهم كانوا ضمن حكومته»[13].
وحول أهمية ناصيف النصار, يجمع معظم المؤرخين أنه «إلى جانب ظاهر العمر, كان يقيم أمير جبل عامل ناصيف النصار, وكان أول الأمر في خصام مع ظاهر، ثم تحالفاً على أعدائهم المشتركين، وناصيف نفسه يتمتع باستقلال في جبله، لايقلّ عن مثيليه في القاهرة وعكا»[14]، أي علي بك الكبير وظاهر العمر. هذا ومن الواضح، من تسلسل الأحداث، أن التفاهم بين ظاهر العمر وحليفه ناصيف النصار كان واضحاً, ويهدف إلى توحيد قواهما, و «مساهمة جبل عامل في قيام الدولة الجديدة»[15].
إنّ التحالف بين ظاهر العمر وناصيف النصار، كانت له محاذير لدى خصومهما, لكن بالمقابل كانت له آثار إيجابية على المقاطعات العاملية, التي كانت تتطلع أكثر فأكثر إلى نوع من الإستقلال عن الدولة العثمانية, والتوقف عن دفع الضرائب.
يُلاحظ أنها المرة الأولى التي يتمّ فيها تحالف الشيخ ناصيف النصار مع قوى أخرى غير عاملية، متجاوزاً السلطة العثمانية، وهي المرة الأولى أيضاً, التي يبدو فيها الشيخ ناصيف النصار عاملاً وهادفاً بجدية في سبيل الإستقلال الفعلي عن الدولة، وهذا الأمر كان دونه عقبات كبيرة جداً، فالتحالفات مبدئياً لم تكن ثابتة، لأنّ المصالح الخاصة كانت تفرض نفسها وتغيّر السياسات، كما أنّ «الدولة العثمانية لم تكن تسمح بأية حركة استقلالية، لأنّ التغاضي عن مثل هذا الأمر، أو التساهل به، فإنه يؤدي إلى إتساع حركة الإستقلال عن الدولة»[16].
المعركة ضد عثمان باشا الصادق (معركة الحولة)
أوعزت الدولة العثمانية إلى عثمان باشا الصادق, والي دمشق، وإلى والي صيدا, بتسيير حملة كبيرة مؤلفة من ثلاثين ألف مقاتل لمهاجمة منطقة جبل عامل، ومقاطعة صفد في فلسطين، بهدف إخضاع هذه المنطقة للسلطة المركزية، والحؤول دون أيّة محاولة للإستقلال عنها.
علم ناصيف النصار بشأن الحملة, فاستعدّ لها، واستنفر عساكره وفرسانه، ويقال أنه «عسكر قرب النبي يوشع، ونذر ناصيف لله تبارك وتعالى إذا انتصر في المعركة، سوف يقوم بتجديد بناء مقام النبي يوشع، ونصره الله، وأوفى نذره ببناء قمة شامخة، أرّخ لها الشيخ إبراهيم العاملي بقوله: [17]
مقام شريف أطلع اليوم شمسه |
خليفة نصار المؤيد بالنصر |
فلذْ بحماه طالباً للذي بنى |
من الله طول العمر مع وافر الأجر |
وقلْ عند إهداء السلام مؤرخاً |
عليك سلام الله يا ثاوي القبر»(1). |
نتج عن المعركة فرار عثمان باشا، «وقُتل من رجاله خمسمئة فارس، ولم ينجُ إلا من رمى نفسه في البحيرة»[18]، وبعد هذه المعركة أصبحت ثقة العامليين بأنفسهم كبيرة، ويتناقل المؤرخون مروية عن ألسنة ممن شارك في المعركة قولهم: «لما بدأ ناصيف بالزحف برجاله ليلاً بعد الصلاة والدعاء، شاهدوا ظبياً يقفز أمامهم بين تلك الروابي، وخلفه رجل معمّم ينشد أبياتاً اولها:
أيحلُّ لساكنةِ العلمِ |
تفتي بالحب بسفك دمي. |
وسرى الخبر بين المهاجمين، ونشّطهم رؤساؤهم، أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب دعاءهم ببركة النبي يوشع، وأن روحه الشريفة تجسدت هذا الغزال، وأنّ الفوز بجانبهم, وكان ما أملوا»[19]
وبعد هذا الإنتصار الذي حققه العامليون بقيادة ناصيف النصار، والذي تمثل بهزيمة الباشا العثماني، والي سوريا، «شوهد والي صيدا درويش باشا (أب عثمان باشا والي الشام نفسه)، يفرّْ من المعركة خوفاً على نفسه»[20].
ومن الجدير بالذكر أن عدداً من زعماء عاملة شاركوا في هذه المعركة, وفي مقدمتهم: «الشيخ حمزة المحمد, والشيخ حمد العباس، والشيخ علي الفارس الصعبي»[21].
لا شك أنّ الدور الذي لعبه شيخ المشايخ ناصيف النصار في تلك الفترة, جعله محطّ أنظار الجميع، وموضع اهتمامهم، فالكلّ يطلب ودّه والتقرب منه، والتحالف معه، فلقد قال عنه «شيفالييه دي توليس» قنصل فرنسا في صيدا سنة 1772 بأنه «الشيخ الكبير الذي اشتهر في كل سوريا بشجاعته»[22].
إنّ هذا الأمر سوف يكون في وقت لاحق، أحد الاسباب الرئيسية التي جعلت أحمد باشا الجزار، يضع نصب عينيه هدفاً أساسياً، ألا وهو مهاجمة جبل عامل، وضرب قيادته، وإنهاء دورها، والقضاء على تطلع العامليين وزعمائهم في تلك الفترة باتجاه أي نوع من الإستقلال الذاتي.
العامليون في مواجهة والي صيدا والأمير يوسف الشهابي 1185هـ 1771م (12 رجب)
يبدو أنّ المتاولة نبذوا طاعة درويش باشا والي صيدا، وتقووا على حدود إمارة الأمير يوسف، ويقول طنوس الشدياق أنهم «جعلوا يخرقون في قرى مرج عيون والحولاتين، وأظهروا الشحناء للأمير بسب توليه مكان عمه الأمير منصور، (وكانت الدولة العثمانية قد غضبت على الأمير منصور أخ الأمير ملحم وعمّ الأمير يوسف, لترحيبه باحتلال دمشق من قبل الحلفاء الثلاثة, محمد ابو الذهب والشيخ ظاهر العمر, والشيخ ناصيف النصار) لأنهم كانوا يميلون إليه، وكان أكثرهم هياجاً الصغيرية والصعبة, فبلغ الأمير خبرهم، فدخله الغيظ منهم لتحرشهم بالديار المذكورة، فجمع الأمير الجموع في لبنان، وكتب إلى خاله (أمير حاصبيا) أن يجمع رجاله ويلاقيه بهم إلى جبل عامل لقتال الشيعة».
ويضيف الشدياق قائلاً حول المعركة, التي سار اليها الأمير من دير القمر بجحفل زهاء عشرين ألفاً, فرساناً ومشاة, أن هذا الأخير قام بعسكره قاصداً قرية جباع الحلاوة، فأحرق جميع قرى إقليم التفاح، إلى أن بلغ جباع، فهرب منها بنو منكر، أصحابه وتعصّبوا للصغيرية والصعبية، فخافوا جميعاً واستدعوا اليهم الشيخ ظاهر العمر الزيداني صاحب عكا، وكان عمل الأمير يوسف مكيدة مع الشيخ عبد السلام العماد (أشار الشيخ عبد السلام العماد على الأمير بأذى بني منكر المتاولة، أصحاب الشيخ علي جنبلاط، وبعث هذا الأخير إلى أحزابه سرّاً، أنه متى صارت المصارف، ينفضوا بلا قتال ففعلوا), ثم إن الأمير، بعد أن نهب جباع وقطع أشجارها وأحرقها, وهدم أماكنها, وبات فيها ليلتين ... ثم أدرك قرية كفرمان 29 آب سنة 1771 ، فأحرقها, وبقي سائراً حتى أدرك أطلال قرية النبطية, وهناك إلتقت قوادم جيشه بعيون المتاولة وطلائعهم، فلما رأت المتاولة ذلك, وتأكدوا عدم إجابته للصلح، عزموا على القتال، فتجمعوا نحو أربعة ألاف، وانضم اليهم الشيخ ظاهر، حنقاً على الأمير يوسف، ولما التقى الجيشان, وتصادمت الفرسان، انفضت الرجال الجنبلاطية، وولّوا الأدبار, حسب إرادة زعيمهم الشيخ علي, ولما انفصلوا عن العسكر تقلقلت الصفوف, وخافوا, فجمعت عليهم المتاولة والزيادنة فانكسروا, وقتل منهم نحو ألف وخمسمئة رجل[23].
هذا ويذكر بعض المؤرخين أن الشيعة «هجموا بالسلاح الأبيض، فانهزم الجيش كله انهزاماً تاماً، يصعدون في جبل العرقوب، وروابي سجد المطلة على سهل الميذنة وعقبة جرجوع, وحراب الشيعة تعمل في اقفيتهم وتذبحهم ذبح النعاج، ومات أكثرهم خوفاً وتعباً»[24].
أما المؤرخ العاملي الشيخ علي رضا، فيقول بدوره حول هذه المعركة الفاصلة أنّ «الشيخ ناصيف النصار تعقب بنفسه الأمير يوسف الشهابي، فأدركه في عقبة جرجوع، وأنزله عن ضهر بغلته إلى الأرض وألبسه الفرو مقلوباً، وقال له: «عفوت عنك رأفة بشبابك، واحتراماً لأسرتك وأنا ابن نصّار»[25]
وهناك من المؤرخين، من يرفعون عدد قتلى عسكر الأمير يوسف بثلاثة ألاف[26]. «يبدو أنّ أموراً عديدة، ونتائج، كثيرة، أسفرت عنها هذه المعركة، وقيل فيها الكثير، ويقول البعض، أن نجدة ظاهر العمر، بقيادة ولديه الشيخ علي والشيخ عثمان وصلت بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وقيل أنها تباطأت قصداً، ولما انجلت المعركة عن انتصار الشيعيين، قال علي لعثمان: سودّ الله وجهك، كسب أولاد أم علي (أي الشيعة) الحرب، وكسبنا العار»[27]
بالمقابل فإنّ بعض المصادر الأجنبية[28] أكدت أن علي ظاهر العمر كان يقاتل مع العامليين وبعضهم الأخر[29] لم يشر إلى مقاتلة الزيادنة مع العامليين في هذه المعركة.
المهم أنّ يوسف الشهابي هزم في هذه المعركة شرّ هزيمة[30]، وكان لها الوقع القوي، والصدى المهم، كما كانت لها تداعيات خلال الفترة التالية. ويذكر الأمير حيدر الشهابي أنه «لما رجع الأمير يوسف، ومن سلك معه إلى البلاد ضجّت الأرض بالبكاء، وتسرلبت النساء بالسواد»[31]. أنّ ما يلفت النظر خلال هذه المعركة هو النسحاب الجنبلاطيين من المعركة، وعدم مؤازتهم للأمير يوسف في وجه المتاولة، ويعزو البعض ذلك «إلى تحالفات سرية سابقة حصلت بين الشيخ ناصيف النصار والشيخ علي جنبلاط»[32].
للشيخ علي الزين رأي مهمّ ومتميز في هذه الواقعة التي حصلت، والتي يقول عنها أنها «لم تكن في الحقيقة معركة مستقلة بين المتاولة والدروز, كما هو مشهور بين الناس, وإنما كانت بينهم وبين الدولة العثمانية أولاً، ثم بينهم وبين اللبنانيين جميعاً، من دروز ونصارى ثانياً، إذ لم يكن اللبنانيون فيها سوى (مخلب قط) تابعين لأوامر الدولة وبشواتها، وان هذه الواقعة لم تكن سوى تصفية حساب مع المتاولة، «الذين اعتبروا السبب في تلك الأحوال» وأنهم «السبب في ذلك التشويش، وفي الهزائم التي لحقت بالدولة في معارك داريا ودمشق...»[33].
قبيل بروز أحمد باشا الجزّار
واقعة صيدا
حصلت هذه الواقعة في التاسع من ربيع الأول سنة 1186هـ, العاشر من حزيران 1772، أي بعد عام واحد من المعركة التي حصلت في النبطية وجوارها، فقد حارب المتاولة بقيادة الشيخ ناصيف النصار مع ظاهر العمر، وذلك في معارك صيدا والحارة والغازية، ضد الأمير يوسف، وضد اللبنانيين جميعاً، دروزاً ونصارى، وفي مقدمتهم عسكر الدول[34].
وقد تمّ خلال هذه الواقعة، إحتلال صيدا، وكان لذلك تداعيات أهمها أنّ «عملية احتلال صيدا من قبل الشيخ ناصيف النّصار والشيخ ظاهر العمر, كان بنظر الدولة العلية تجاوزاً للخطوط الحمر، وتطاولاً على هيبة الدولة»[35]، ويقول بعض المؤرخين، أن الدولة العثمانية، لأنها «كانت منشغلة بحربها ضد روسيا القيصرية، فأنها أوعزت للأمير يوسف الشهابي القيام بهذه المهمة، وأغدقت عليه الهدايا مع بعض الأموال»[36].
المهم أن «عسكر الدروز انكسر في هذه المعركة»[37]، مع العلم أن «عدد أفراد الأمير يوسف مع والي الشام كان ثلاثمئة الف مقاتل، في مواجهة جيش المتاولة المدعوم بعشرة آلاف مقاتل من قوات ظاهر العمر[38].
إذا صحّت أعداد المقاتلين في هذه المعركة، فإنها تدلّ أولاً على قدرة الدولة في تلك الفترة, على إشراك مئات الألوف من الجنود فيها، كما تبرز ثانيا, أنّ المتاولة كانوا قادرين, مع مساعدة عشرة آلاف جندي من ظاهرالعمر، على هزيمة جيش جرّار، وهذه مفارقة جديرة بالملاحظة والإهتمام، لكن ما تجدر ملاحظته أيضاً من خلال ما ذكره إدوارد لاكروا، هو وجود أحمد باشا الجزار في المعركة حيث يقول: فرّ من المعركة أحمد باشا الجزار(والي عكا فيما بعد) فأعجب به الأمير يوسف، فعيّنه مستشاراً له في دير القمر» ويتابع لاكروا قائلاً: «أنّ الأمير يوسف كان بطبيعته كالنباتات المتعرشة، لا يعيش دون وصيّ»[39]، وفي نفس العام, أي سنة 1186 هـ في شهر محرّم، يشير الركيني إلى وقعة إشترك فيها ناصيف النصّار والشيخ ظاهر العمر ضد النابلسي.
وفي سنة1187هـ، يوم الخامس والعشرين من جماد الآخر، ركب الشيخ ظاهر العمر والشيخ ناصيف النصار إلى أرض صيدا، وفي يوم ثاني رجب توجهت العساكر على مرجعيون, قاصدين البقاع إلى عسكر دولة الشام, فلما أقبلت عساكر المتاولة على الدولة, وأخذوا خبر نقمته... هربت عساكر الدولة في الليل.... وفات علي الضاهر على قرايا الشام ونهبها.... وكانت هذه الواقعة ضد عثمان باشا وجنده[40]، ويبدو أنه بعد هذه المعركة صفت الأمور بين الأمير يوسف والمتاولة, (بعد الخلاف الذي حصل بين الأمير يوسف وعثمان باشا)، ويقول بعض المؤرخين, أنّ ناصيف النصار «انثنى راجعاً إلى بلاده، ورجع الأمير يوسف إلى دير القمر, وصَفَتْ له الأيام، وصار بينه وبين الشيخ ناصيف وبنى متوال محبة عظيمة، وزالت من بينهم جميع الأحقاد القديمة, وأخذوا بعضهم على بعض العهود والمواثيق»[41].
هذا ولم يتوقف العامليون بعد هذا التاريخ عن مساعدة ظاهر العمر ضد أعدائهما, وخاصة سنة 1188هـ ، وفي سنة 1189 طلب ظاهر العمر من مشايخ جبل عامل موافاته إلى عكا لملاقاة محمد بك أبي الذهب، إلا أنّ المتاولة، كما يبدو لم يسترسلوا في الوقوف ضد الدولة وأنصارها من الحكام, كأبي الذهب، على سبيل المثال، ولم يسلم ناصيف والمشايخ إلا بعد موت أبي الذهب ...»[42].
هذا الأمر جعل بعض المؤرخين ينتقدون موقف المتاولة, حيث يأخذ الشيخ علي الزين على هؤلاء انقيادهم التام لحليفهم الشيخ ظاهر العمر, وهو يعتبر أنّ هذا الأخير «استغلّ ثمرة هذا التحالف إلى حد بعيد في كل الميادين التي خاضها لتحقيق أحلامه الكبار»[43]، ويبدو أنّ ذلك صحيح, لأنّ ظاهر العمر كان صاحب مشروع واضح، فقد كان يريد الإستقلال عن الدولة، وربما يكون قد استعمل المتاولة كأداة جيدة لتحقيق هذه الرغبة، وهذا الحلم لديه كان واضحاً، أما المتاولة، فإنّ المسألة لديهم كانت تختلف، فأنهم مع محاولاتهم الجادة لحكم منطقتهم بأنفسهم, فأنهم لم يكونوا يجدون ضيراً في البقاء على صلات معينة مع الحكومة، إنما الشرط احترام حقوقهم, وعدم التطاول على منطقتهم، مع التزامهم بدفع مايترتب عليهم من أموال وغير ذلك للحكومة.
بروز أحمد باشا الجزار 1776-1804م/1190-1219هـ
من هو أحمد بشا الجزار؟
لم تمضِ الفترات التي تحدثنا عنها والتي كابدت فيها جبال عاملة كثيراً من الويلات والاضطرابات، والمشاكل حتى قدم أحمد باشا الجزار والياً على صيدا, واضطربت الأوضاع بقدومه، وتوجه بعسكره بداية نحو بيروت, فاستولى عليها, ورفع يد الأمير يوسف عنها، وضبط ما فيها من الإملاك للأمراء الشهابيين, وكتب إلى الأمير يوسف يطلب منه الأموال السلطانية عن السنوات الثلاث الماضية, أي تلك السابقة على سنة1776. فمن هو هذا الحاكم الجديد, الذي التاع منه جبل عامل, وذاقت من ممارساته وظلمه وجوره المنطقة الشيء الكثير.
كان مولده في «أوائل القرن الرابع من القرن الثامن عشر م، في إحدى قرى البوسنة... ويروى انه ارتكب جرماً أخلاقياً... (قيل أنه اغتصب زوجة أخية)، اضطره إلى الفرار من وجه ذويه، حتى عاصمة السلطنة العثمانية (الأستانة) وجاء إلى مصر أيام المماليك، وأسلم على يد أحد التجار، وتسمى ب «أحمد»[44]. خلال الفترة اللاحقة، «دخل الجزار في خدمة علي بك الكبير حاكم مصر، فنال رتبة البكوية, ثم أطلق عليه لقب الجزار, وأصبح الجلاد المفضل لدى سيده ممتهن قطع الرؤوس، وكان هذا اللقب الجديد مدعاة فخر واعتزاز له, وبات يشعر بنشوة هائلة كلما رأى رؤوس قتلاه تتدحرج, ودماءهم تهرق, وأصبح اسمه عند الناس مرادفاً للرعب، ولازمه هذا اللقب طوال حياته» (من الواضح أنّ تربيته وسيرة حياته في البوسنة كان لها تأثير كبير في سلوكياته, وظلمه وإجرامه، حيث لم يعرف عنه، في أي وقت مع الأوقات أنه كان رحيماً مع أحد، أو أنه كان يعود إلى ضميره، وضرب به المثل حتى قيل «أظلم من الجزار»).
إنّ البلاد السورية «كانت تشهد في القرن الثامن عشر أحداثاً مروعة، وتنتابها ضروب من المظالم وصنوف من المآسي، نتيجة إستقلال بعض الولاة والحكام الإقطاعيين بالمقاطعات التي دانت لسلطانهم، فعاشوا بها عتوّاً وبرعاياهم طغياناً... وهؤلاء الولاة الذين كانت أولى واجباتهم فرض القانون وتطبيق النظام, كانت كثرتهم من العجز الحربي والسياسي بمكان, وكثيراُ ما كانت الدولة العثمانية تغيّرهم باستمرار, وكان همّهم الكبير وشاغلهم الأوحد أن يجمعوا أكبر مقدار من المال ما يستطيعون» ومن ناحية ثانية «شهدت البلاد في هذا القرن إنهياراً في الأحوال الأمنية والإقتصادية, وانحطاطاً في حياة السكان, كما كان من نتائج هذه الأوضاع السائدة ازدياد تدريجي في أهمية الشيوخ المحليين...»[45].
إنّ الدولة العثمانية, وفي ظل الإضطرابات التي كانت تسود معظم مقاطعاتها، وفي الوقت الذي حاول فيه أكثر من حاكم وشيخ وزعيم الإستقلال الذاتي بمقاطعة، وجدت في الجزار خير مساعد لها لتنفيذ مخططاتها ضد هؤلاء، وكانت السلطنة «بحاجة إليه لتنفيذ خططها باعادة صيدا إلى الحكم المركزي الفعلي، بعد أن قويت شوكة ظاهر العمر حاكم عكا، لدرجة أنّ نفوذه وسلطانه كانا هما السائدين على هذه الإيالة ومعظم فلسطين، فوجدت في الجزار رجلاً ذا بأس، يمكنها الإعتماد عليه للحدّ من سيطرة ظاهر»[46].
المعروف أنّ ظاهر العمر، وعندما ضاق خطر الدولة به وبعكا، دارت الدائرة عليه، ويقول المؤرخ ميخائيل الصباغ: «إتفق الشيخ ظاهر وذووه على أن يرحل من عكا مع عياله إلى قلعة هونين, عند الشيخ قبلان، شيخ المتاولة، كما فعل ذلك قبلاً، حينما حضر محمد بك أبو الذهب مع عزّ مصر، وعندما أسرع الناس بالخروج من عكا خوفاً على نفوسهم، كذلك تجهّز ظاهر وخرج بعياله قاصدا هونين، ولكن قُتل غدراً في الطريق»[47]، وتمّ ذلك على يد أحد رجاله، سنة1189 هـ ، ويقال أنّ رأسه حُمل على أعمدة البواخر إلى إسلامبول، كما يذكر الركيني[48]، وعندما علم أولاد ظاهر بمقتل والدهم فرّوا إلى جبل عامل، ملتجئين إلى الشيخ ناصيف النصّار، وفي نفس العام «توفي الشيخ علي الفارس ابن أحمد الفارس صاحب الشقيف، وهو بطل معركة كفررمان والدولاب وصيدا[49].
بعد مقتل ظاهر، تولى أحمد باشا الجزار أمر أبنائه، واستطاع أن يقضي عليهم، وبذلك «دانت له قطاعات صفد وطبريا، وعيّنته الدولة العثمانية في النصف الثاني من تشرين الأول سنة 1775 والياً على صيدا، ومنحته رتبة الباشوية، ثم استولى على أملاك الشهابيين في البقاع, وفي شباط سنة1776 منح رتبة(وزير)، ثم منح لقب (المالكان)، أي حق الحكم مدى الحياة»[50].
يأخذ بعض المؤرخين على المتاولة في تلك الفترة انصياعهم للجزار، الذي أسند إليه الحكم في ولاية صيدا وعكا، وأنهم ساروا مع عسكره يطاردون الشيخ علي ابن حليفهم السابق ظاهر، والشواهد على ذلك كثيرة، ظاهر العمر، وأورد بعضها الركيني نفسه، ويردّ الشيخ علي الزين على ذلك بردّ بسيط، يؤكد من خلاله أن «المطّلع على مجريات الأمور خلال الحكم الأقطاعي، (يفضل تعبير المقاطعجي) يرى أن من كان يتولى حكم أي مقاطعة من المقاطعات، كبيرة كانت أو صغيرة عليه أن يلبي إرادة الباشا الحاكم حين ينتدب لحرب من يشاء من الحكام أو الجماعات أو الدول»[51].
ان ما ورد من أخبار في رسائل الأب العام افتيموس زكّار، لا يعبر عن حقيقة الأمر، فيما يتعلق بموقف المتاولة من الجزار، ويؤكد الشيخ علي الزين في هذا المجال أن «المتاولة لم يتراموا في أحضان الجزار لأول وهلة، ولا تهافتوا أمام قوى الدولة وسطوتها، لأول بادرة كما كنّا نتوهم، وإنما وقفوا منه ومن عساكره موقف الحياد والحذر, إلى أن جرت الأمور بمجراها الطبيعي»[52].
سياسة الجزار تجاه جبل عامل
إستخدم الجزار مع زعماء جبل عامل سياسة فرّق تسْد, حيث كان يعمد إلى إثارة الزعماء العامليين على بعضهم البعض، تمهيداً لإضعافهم، وقد تمّ الإنقضاض عليهم الواحد تلو الأخر، وهي نفس السياسة التي اتبعها مع حكام المقاطعات، وهناك عوامل عديدة جعلت الجزار يمالئ الشيخ ناصيف النصّار, بداية, وأهمها:
- الغزوات المتكررة التي تعرض لها العامليين, والتي جعلت العامليين يهتمون بتحصين قلاعهم وحصونهم، للوقوف في وجه الغزاة، هكذا كان وضع قلاع: الشقيف, هونين، ميس, تبنين, مارون (في ديركيفا)، ودوبيه. هذه القلاع كانت تستدعي قوات عسكرية كبيرة لاحتلالها، وهذا لم يكن متوفراً للجزار في بداية عهده.
- طبيعة نظام الحكم الذي أقامه الشيخ ناصيف النصّار في جبل عامل, والذي كان يعتمد عل شكل من أشكال اللامركزية السياسية, خلافاً لما كان عليه الأمر في جبل لبنان، (ففي هذا الأخير كانت دير القمر تشكل العاصمة المركزية، حتى إذا سقطت هذه العاصمة، سيطر هذا الفاتح على كل جبل لبنان، أما في جبل عامل، فإن السلطة السياسية كانت موزعة عل عدد من المراكز، أبرزها: تبنين، جبع، هونين، الشقيف وسواها، وكان هذا التوزيع يعيق عملية اجتياح الجبل).
- السبب الأبرز، أن مبادرة الثورة على الدولة العثمانية كانت من قبل ظاهر العمر وعلي بك الكبير، وأن ناصيفاً رأى فيها فرصة مناسبة فشارك فيها.
- ركيزة ناصيف النصار في جبل عامل، ومكانة وضعه العسكري والسياسي، وهذا جعله يصمد فترة قصيرة بالقياس الزمني، وطويلة بالقياس السياسي أمام خطة الجزار، ولم يكن مثل الأمير يوسف الشهابي وأولاد ظاهر العمر، وليس أدل على قوة ناصيف، من محاولة بعض الأمراء الشهابيين، ومشايخ الشوف، اللجوء إليه خلال نزاعهم مع الأمير يوسف الشهابي سنة 1776, بسب أموال الميري المطلوبة منهم[53].
من خلال ما تقدّم، فإنّ قناعة راسخة كانت موجودة لدى الجزار، كما لدى الشيخ ناصيف النصار، بشكل خاص، بالإبقاء على العلاقات الوديّة، «وبدا من الجزار ما بدا في زيارته لمدينة صور ومبيته عند الشيخ حمد العباس، ثم نزول الشيخ ناصيف النصار بعد ذلك لمواجهته، كما يتضح من قول الركيني، الذي ورد كما يلي: «وفي سنة1190هـ ، في يوم السبت الثاني والعشرين من ربيع الأول، ركبت خيل ناصيف وخيل القواطعة مع أحمد باشا الجزار على علي الظاهر»[54].
نلاحظ هنا، أن وضع المتاولة كان مستقراً في تلك الفترة، خاصة وأن الجزار كان حريصاً على توثيق الصلة بهم اضطرارياً، كما هو واضح, وكدليل على ثبات وضع المتاولة ، فإنه في نفس العام سنة 1190هـ ، عندما ساءت العلاقات بين الأمير يوسف الشهابي والجنبلاطية، «فرّ المشايخ الجانبولادية إلى جبل عامل, ونزلوا على الشيخ حيدر الصعبي المتوالي، فنهض الأمير يوسف بالعسكر إلى الشوف، وخيمّ في الجديدة، فضبط أملاكهم، وهدم مساكنهم»[55].
هناك اختلاف بين المؤرخين حول تاريخ مقتل علي ظاهر العمر، فالشيخ علي الزين ينقل عن الركيني، أنّ «مقتل علي الظاهر كان سنة1190هـ ، وقد اضطر المتاولة أن يمشوا مع الجزار ضد علي الظاهر خوفاً من البطش بهم، مع أنهم لم يكونوا مقتنعين بذلك، وعندما قتل علي الظاهر غدراً أمسى محمد باشا والي، حاكم قرية «ديشوم»، أتوا بجثته إلى قرية عيناتا ودفنوه هناك»[56].
أما الشيخ محمد تقي آل فقيه، فإنه بدوره يعتبر أنّ مقتل علي ظاهر العمركان سنة1191 هـ ، ويقول أنه قتل في ذلك العام في قرية «ديشوم»، بعد أن نقل ناصيف جثته إليها، هربت فرسه إلى صلحا»[57].
التحالف المفروض
ليس أدلّ على القوة التي كان يتمتع بها المتاولة العامليون، من التحركات التي كان يقوم بها ناصيف النصار وجماعته بشكل استباقي، ضد من يهدّد منطقة نفوذه، ومن هذه التحركات، وكلها في ظل حكم الجزار في المنطقة:
- إغارات العامليين على البدو في المناطق المجاوره، كما حدث في ربيع الثاني سنة 1191هـ (1777م)، عندما هاجم حيدر فارس مرجعيون، فغنم عدداً من الأبقار، وأسر خمسة عشر رجلاً.
- في جمادي الأولى سنة 1193هـ (1779م) إستولى ناصيف على مواشي من الزركشية والتركمان - 1193هـ ، إشترك مشايخ المتاولة في جبل عامل، في واقعة الجولان، ضد حلفاء والي الشام محمد باشا المعظم، من القبائل العربية النازلة هناك. ويختلف المؤرخون في تفسير سبب مشاركة المشايخ العامليين في هذه الأحداث، فمن خلال ما يرويه السبيتي حول هذه الحادثة، وما يذكره الركيني في مذكراته، والشيخ محمد تقي آل فقيه في مؤلفه «جبل عامل في التاريخ» يتبيّن أنّ عرب الصقر وعرب السردين أو السردية، وعرب بني صخر، استنصروا بالشيخ ناصيف النصار على خصومهم بني حس المرؤوسين لآل المزيد، الذين كانوا قد استنصروا بالحكومة، وأن الشيخ ناصيف أرسل اليهم أخاه «أبو حمد النصار» وابن أخيه «قاسم المراد النصار» ، (صاحب قلعة دوبية) مع عدد من الفرسان، وأن هذين الشيخين قد استشهدا في المعركة التي دارت مع العرب، وأنه عندما انتهى الجنرال ناصيف هبّ للأخذ بالثأر[58].
إلا أنّ الشيخ علي الزين يفسّر الأمر تفسيراً أقرب الى الواقع والمنطق، ويؤكد أن «إرسال الشيخ ناصيف لأخيه وابن أخيه بمائة فارس من المتاولة للإشتراك مع حلفاء أحمد باشا الجزار في واقعة الجولان - ضد عساكر محمد باشا العظم وحلفائه القبائل العربية - لم يكن بادرة عفوية من ناصيف، وإنما كان بوحي من الجزار، وامتثالاً لإرادته كما أنّ اشتراك مشايخ المتاولة في هذه الأحداث، إنما كان «تقديراً منهم لميول أحمد باشا الجزار والي عكا، أو عملاً بوصيته وإشارته»[59].
حسن الأمين بدوره يتحدث عن هذه الواقعة والتي انجلت على مقتل أبي حمد النصار، ومقتل مئة فارس من قوات العامليين، وأنه عندما وصل الخبر لناصيف، زحف للثأر من آل مزيد، فهربوا تاركين أولادهم ونساءهم في مضاربهم، فما كان من ناصيف إلا أن حملته الشهامة، وأمر قومه بالإعتزال عن تحلّل تلك الربوع...[60].
«في جماد الأولى سنة 1194هـ (1780م)، غزا حيدر الفارس عرب العزّية. وفي 29 رمضان سنة 1195هـ (1780م) غزا ناصيف قريتين في الحولة ونهب طرشها»[61].
واستمرت العلاقات طيّبة بين العامليين والجزار، وليس أدلّ على ذلك من مشاركة العامليين، بقيادة الشيخ ناصيف النصّار لأحمد باشا الجزار في معارك «علمان وعانوت»، لإعادة الأمير يوسف إلى حكم بلاده بعد الثورة عليه سنة1195هـ . وفي واقعة «الضهر الأحمر»، التي ساعد فيها المتاولة، بناءً لطلب من الجزار أمير راشيا، محمد شهاب، ضد عساكر محمد باشا العظم، عساكر حليف الأمير سيد أحمد شهاب، أمير وادي التيم الفوقا والتحتا، مع البقاع الغربي، وفي واقعة «قب الياس» التي اشترك فيها عساكر والي الشام، وعساكر سيد أحمد[62].
ماذا كانت نتيجة كل ذلك؟
إنّ أحمد باشا الجزار، كان يؤخّر حتى تلك الفترة صدامه مع ناصيف النصار، ما دام هذا الأخير لا يشكل خطراً داهماً على الجزار وسلطته، وما دام الأخير أيضاً مقتنعاً أنّ ناصيف النصار هو رقم صعب، لا يمكن محوه وإنهاء دوره بسهولة، وذلك بسب القوة الذاتية التي امتلكها. يضاف إلى هذه القوة، أنّ الأطراف العامليين، كانوا يشكلون وحدة متماسكه لا يمكن اختراقها سريعاً، وهذه الأطراف كان لديها تصور موحّد تقريباً، أنّ العلاقة مع الجزار لن تستمر على نفس المنوال، وأن سياسة هذا الحاكم تقضي بالقضاء تدريجياً على أعدائه، واستخدام بعض المشايخ ضد بعضهم الأخر، تبعاً لمصلحته هو بالدرجة الأولى. وأن معظم المؤرخين يؤكدون على حكمة الشيخ ناصيف[63]، التي كان لها الأثر الكبير في تماسك العامليين, وفي إبقاء الجبل العاملي بمنأى عن أطماع الجزار أطول مدة ممكنة.
شكوك بنوايا الجزار
هكذا نلاحظ أن الجزار كان مضطراً للتحالف مع العامليين، وكأنه ينتظر الفرصة السانحة للإنقضاض على هؤلاء, ومن الواضح، أنه عندما حسم الأمور مع أكثر خصومه وأعدائه، فإن ملامحه كانت تفيد وتدل بأنه سوف يتابع تنفيذ خطته الأساسية، التي تقضي بالقضاء على كل مراكز النفوذ والقوى في المنطقة، والذين كان يسكت عن تحركاتهم، ويقبلهم على الساحة السياسية والعسكرية، وإنما على مضض.
لقد بدأ الجزار بالتوجه نحو ناصيف النصار، «الذي شعر بقوة الجزار المتزايدة، ورأى من الحكمة، أن يتقدم من طور المودة إلى مرحلة التحالف، علّه يحول بين جبل عامل وبين شرب الكأس المرة، لذلك فإنه ساهم بالفعل في محاربة علي ظاهر إلى جانب الجزار»[64].
بدأت الشكوك تزداد لدى ناصيف النصار من نوايا الجزار، خاصة عندما رآه يحاول تأديب الأمير يوسف، فازدادت شكوكه حول نواياه التوسعية, لذلك أخذ يعدّ العدة لمحاربته، إن هو حاول الإعتداء على العامليين. ويقول حسن الأمين نقلاً عن أحد المؤرخين العامليين، إن «الشيخ ناصيف ذهب مع عدد من مرافقيه لزيارة الجزار، فقال الشيخ ناصيف لهؤلاء: «إذا سمعتم الجزار يقول لي: أنت شعرة من شاربي فثقوا به واركنوا اليه، وإن قال: أنت كشعرة من لحيتي فيكون قصده الغدر» خلال الإجتماع، قال الجزار الجملة الثانية، عندها انتهز الوفد فرصة انشغال الجزار لمدة وجيزة، وركبوا وعادوا إلى بلادهم طالبين النجاة»[65].
لقد ظهر أنّ توتراً ما قد بدأ يلوح في الأفق بين العامليين والجزار، خاصة عندما «طلب هذا الأخير من مشايخ العامليين موافاته إلى عكا فرفضوا ذلك، (خوفاً من أن يحصل معهم مثل ما حصل مع أبناء ظاهر العمر إذ غدر بهم)، ولم يشذّ عن الإجتماع العملي إلا الشيخ قبلان، الذي كان يتطوع للتوسط بين المختلفين»[66].
مرحلة مهادنة جديدة
بين الجزار والعامليين
الأجواء كانت مشحونة بين الطرفين، والمواجهة كانت حتمية، لكن توقيتها كان مرههوناً بما يحصل خارج المنطقة العاملية، وكيفية تعامل الجزار معها، واضطراره مجدداً للسكوت عن خصومه القريبين، وأكثر من ذلك الإستعانة بهم ضد أعدائه الآخرين، وهذا ما حصل بالفعل، فقد نشأت ظروف ساعدت على تأجيل المواجهة المحتومة، وأهم هذة الظروف:
- معارك الجزار ضد محمد باشا العظم، والذي كان يسيطر على وادي التيم, ويلاحظ أن ناصيف النصار ذهب مع رجاله إلى عكا، ليزحف مع الجزار لقتال محمد باشا العظم.
- تهديد موقع الأمير يوسف الشهابي في الشوف، وكان حليفاً للجزار، ولم يتردد ناصيف في تقديم يد المساعدة للأمير.
- سنة1195هـ (1780م)، كان محمد الحرفوش (بعلبك) عند الشيخ ناصيف النصار في النبطية، ثم توجها معاً إلى بعلبك. وفي 20محرم وصل محمد حرفوش إلى دير القمر, ومنها خرج يوسف الشهابي إلى صيدا، ثم إلى صور حيث التقى بناصيف وكليب أبي نكد في 28محرم، ومنها توجه يوسف إلى عكا عند الجزار.
أخيراً، حاول ناصيف النصار، (نتيجة ثقته بعلاقته مع الجزار لأنه لبّى له كل الطلبات في النجدة والمساعدة) التوسط بين الجنبلاطيين والجزار، لكنه لم يوفق، وكانت هذه إشارة من الجزار أنّ دور ناصيف قد انتهى، وأن مرحلة التناصر قد انتهت، وبدأت مرحلة التناحر[67].
المواجهة بين الجزار والعامليين ومعركة يارون
سبق المواجهة الحتمية بين الطرفين حادثة جعلت الجزار يحقد على ناصيف النصار وجماعته، ويؤكد الشيخ علي الزين، أنه لم ير فيما يرويه المؤرخون ما يدعو إلى شك الجزار بمشايخ المتاولة، أو يوجب سخطه وثورته عليهم، سوى مايحدثنا به الأمير حيدر أحمد شهاب من أن «الأمير يوسف شهاب، لما قتل أخاه الأمير أفندي، وخاف من نقمة الأهالي عليه فرّ إلى عكا, وعند وصوله إلى بلاد المتاولة إلتقاه الشيخ ناصيف النصار، ونهاه عن النزول إلى عكا وقال له أنه يسلمه بلاد المتاولة، ويكون هو تحت يده، فما قبل الأمير يوسف، وظل سائراً في طريقه»[68].
هذا ويمكن أن يكون هذا القول وصل إلى مسامع الجزار بطريق من طرق الوشاية والدسّ.
المهمّ، أنّ علاقات الودّ والإتفاق بين الطرفين انقلبت إلى عداوة وحقد، حيث أخذ الجزار يعمل جاهداً لإخضاع المتاولة، لأنه أصبح يرى فيهم العدوّ اللدود له، وكانت له معهم وقائع عديدة، وكان الجزار قد «أرسل جماعة من جنده إلى جهات علما للتحرش، فهاجم جند الشيخ ناصيف، الذين انسحبوا إلى قرية الزيب، حيث جرت معركة لمدة ساعتين، قتل على أثرها ستة من جنود الجزار، وبدأ بعدها الجزار يضاعف استبداده، ويعزز جيوشه في بلاد بشارة»[69].
بالنسبة للمعركة الحاسمة، التي حصلت في يارون، فإنها كانت سنة 1195هـ (1781م)، وقد تعدّدت الآراء حولها كما يلي:
- كانت المعركة بين طرفين مهيأين مسبقاً للقتال.
- كانت بتواطؤ من قبلان على ابن عمه ناصيف النصار.
- الجزار تظاهر بأنه يزحف إلى وادي التيم، في حين كان يقصد مباغتة جبل عامل.
- الجزار كان يقصد حاصبيا فعلاً، وليس جبل عامل.
لقد تحدث عن الحادثة أكثر المؤرخين، كمحمد جابر آل صفا، والشيخ سليمان ظاهر الذي روى الحادثة معتمداً على الأمير حيدر الشهابي وشبيب باشا الأسعد والشيخ محمد تقي آل فقيه، ومن خلال جميع الروايات العاملية، نلاحظ أن هناك اتفاقاً على أن الجزار جهز حملة قوية تقدر بحوالي ثلاثة آلاف مقاتل، وجعلها بقيادة معاونه «سليم», نظراً لأن الباشا لا يعرّض حياته في مغامرة خطرة، غير مأمونة العواقب، وأن الشيخ ناضيف النصّار خرج على رأس ألف فارس، وأن الإقتتال جرى في 5 شوال سنة 1195هـ (الإثنين23 أيلول سنة1781), وانتهت المعركة باستشهاد شيخ المشايخ ناصيف النصار وما بين 300 و400 من فرسانه، ومقتل عدد من المشايخ العامليين، من بينهم أخوه الفارس أحمد، وعدد من القادة، في حين خسر سليم باشا ثلث قواته».
وهناك عدد من المؤرخين يؤكدون تواطؤ الشيخ قبلان الحسن، حاكم قلعة هونين مع الجزار على ناصيف، ظناً منه أن البلاد ستؤول إليه بعد ذهابه, كما أنّ موقف حيدر الفارس حاكم الشقيف لم يكن مع ناصيف.
وبعد انتهاء معركة يارون، دارت الدائرة على قبلان الحسن، ففرّ إلى دمشق بعد أن سقطت قلعة هونين بيد الجزار، وحيدر الفارسي حوصر في قلعة الشقيف من قبل الجزار، الذي واصل زحفه في جبل عامل[70].
من خلال جميع الروايات العاملية نلاحظ حرصاً على جعل استشهاد الشيخ ناصيف مميزاً، بل وأسطورياً, مما يدلّ على مدى تعلّق العامليين بشخصية الشيخ ناصيف القائد، كما يبدو لنا الشيخ ناصيف خريجاً (لمدرسة كربلاء) بما فيها من معاني القيادة والإخلاص والإيمان القائد إلى الإستشهاد. وقد أرّخ المرحوم الشيخ إبراهيم يحيى العاملي تاريخ استشهاد الشيخ ناصيف بهذه الأبيات:
قتل ابن نصار فيا له من |
مولى شهيد بالدماء مضرّج |
وتداولتنا بعده أيدي العدى |
من فاجرٍ أوغادر أو أهوج |
هي دولة عمّ البلاد الظلم في |
تاريخها الله خير مفرّج(1) |
للشيخ علي الزين رأي مغاير في وقعة يارون, حيث يرجّح رواية الشيخ علي السبيتي في أسباب حدوث المعركة في يارون, والتي مفادها أنه «في سنة خمسة وتسعين وألف، أرسل الجزار عسكراً إلى حاصبيا، فجاء إلى يارون، فظن أهل بلاد بشارة أن العسكر يريدهم, فحضر ناصيف، وصارت وقعة يارون، وخربت البلاد، وقبل أن يعسكر الجزار، حضر للبلاد بواسطة صاحب قلعة هونين، وصار قتل ناصيف بواسطته، وظن أن البلاد تصفى له, فلم يبقِ على أحد منهم»[71], كما أن الشيخ علي يشكك في حدوث عدة وقائع بين الجزار والمتاولة قبل معركة يارون.
أعمال أحمد باشا في جبل عامل
بعد استشهاد ناصيف
بمقتل الشيخ ناصيف النصار، وأخيه، وعدد كبير من رجاله وأنصاره, خضع جبل عامل خضوعاً مباشراً لحكم الجزار طيلة ربع قرن.
لقد عاثت قوات الجزار فساداً وتخريباً في المنطقة العاملية كلها، وكانت نتائج الحملة كارثية على البشر والحجر والثقافة، وأهم تلك النتائج:
- إحراق القرى والبلدات العاملية وتدمير المنازل.
- شحن ما في مكتبات جبل عامل من المؤلفات والمخطوطات النادرة, حيث يقال أنها بقيت تحترق في أفران عكا لمدة أسبوع, وقدرت المخطوطات بخمسة آلاف مخطوطة. (ويقول بعض كبار السن في المنطقة على ألسنة آبائهم وأجدادهم أن بعض المهتمين بالتراث العاملي ذهبوا إلى عكا، حيث اشتروا من أهلها بعض ما سلم من الكتب ولم يحرق).
كما أنه «قبض على فريق من الوجهاء فأماتهم خنقاً في سجون عكا، وشّرد من بقي منهم إلى البلاد المجاورة، وكان هناك حملة إرهابية هدفها: السرقة والنهب أمام خوف العامليين وفرار أغلبهم، وفي كل مرة يدفع الشعب الثمن، فقد سُرقت المؤن وأحرقت القرى ودمرت المنازل، وبدأ رجال الحملة مجزرة بشرية مفجعة عندما أسرفوا في الجبل قتلا وذبحاً»[72].
- لقد قتل الجزار الرجال «وسلب الأموال وسبى النساء, حتى كانت المرأة تباع بثلث قرش، وبعد ذلك أخضع مدينة صور، كما هاجم جنده بيروت، فهرب معظم سكانها، وأحرقوا وقتلوا وباعوا الأسرى، وأرسلوا إليه منهم الكثير، فقطع رؤوس البعض، وأجلس آخرين على الخازوق»[73]، وإضافة إلى ذلك «فرّ من بقي من الحكام وأبناء العشائر إلى جبال حلب والأناضول، وقصد بعضهم عكار، فأنزلهم حاكمها علي بك الأسعد المرعبي في دار رحبه، لم تزل للآن تعرف بدار العشائر».
كما أنّ معظم المؤرخين لا يزالون يتحدثون عن مآسي الجزار على جبل عامل فيقولون: «قضى الجزار على الإستقلال الذاتي لجبل عامل، الذي كان ينعم به في ظل مشايخه، كما تابع الجزار انتقامه من العامليين بجيش مؤلف من الأكراد والأتراك، وأعمل السيف بهم، واستباح أعراضهم ونهب أموالهم، ناهيك عن هتك الأعراض واغتصاب العذارى، وتصف العرفان ما حدث بالأمور التالية: صار الأمير اسماعيل يعدّ النساء ويأخذ عليهن خفراً، كما أخذ العداد والخراج، وهدمت الدولة القلاع، وأخذوا الأولاد والنساء. كما ورد في دواني القطوف مايلي: «وكانوا يبيعون المرأة بعشرة مصاري» وفي مشهد العيان ورد: كان الرجال يساقون إلى عكا، ينتظرهم الموت على الخازوق». وكذلك «هرب المشايخ إلى بعلبك، والشيخ قبلان وأخوته إلى الشام عند واليها محمد باشا العظم».
كما ورد في العرفان مايلي: «جعلت الدولة تأخذ من الرعية الأموال والخيل والسلاح، وكانت هذه السنة سنة خوف وجزع وذعر شديد»[74].
تشريد العلماء العامليين
يذكر بعض المؤرخين أنّ علماء جبل عامل «تقدموا بشكوى إلى حكومة الباب العالي ضدّه، فزاد انتقامه من المنطقة وأهلها، فهاجر العلماء وأهل الفضل إلى البلاد الإسلامية البعيدة، كالهند والعراق وإيران والأفغان، وخدموا فيها الإسلام والشيعة الإمامية أجّل خدمة»[75].
ممن استشهد من العلماء العامليين: «العلامة السيد فخر الدين فضل الله، أحد معاصري الشيخ ناصيف، وشاعره الخاص، والشيخ علي بن خاتون العاملي، وكان فقيهاً، وبرع في الرياضيات والطب القديم، أسره أحمد باشا الجزار من جملة علماء جبل عامل، سنة 1800م، ويقال أن الجزار عفى عنه أولاً، ثم قتله أحد جنوده في جويا أمام احفاده، ودفن هناك، وهاجر آل خاتون إلى جويا واستقروا هناك»[76].
هذا، ويذكر الشيخ الفقيه أن «الشيخ إبراهيم يحيى، قطن دمشق الشام، وبقي بها الشيخ علي خاتوني، الطبيب الفقيه، والعالم بعدة علوم، هاجر بطلبها إلى إيران، وقد صودرت أمواله وضبطت أملاكه، وحبس مرتين، ولم تقبل منه فدية، ثم أخذت المكتبة التي كانت لآل خاتون، وكان الشيخ المذكور ولي أمرها، وكانت تحتوي على خمسة آلاف مجلد من الكتب الخطية النادرة، فأمست في عكا طعمة للنار»[77].
وممّن فرّ من العلماء من ظلم الجزار: «العالم الكبير والشاعر المبدع الشيخ إبراهيم يحي، قطن دمشق الشام، والسيد أبو الحسن ابن السيد حيدر الأمين، الشيخ حسن سليمان، الشيخ محمد الحرّ، وكثير من أهل العلم والمعرفة»[78].
هذا وقد «سرق التراث العاملي المخطوط، والذي كان متراكماً في المكتبات الخاصة، ولم يكن متسعاً من الوقت لدى أصحاب المكتبات لنقله أو ترحيله، أتلف ما أتلف والباقي سرق، ولم ينج إلا القليل القليل مما حمله أصحابه إلى البلدان البعيدة»[79].
ماذا بعد إجتياح جبل عامل
إدارياً، طرأ تغيير واضح على الوضع الإداري في المنطقة، فقد «جعل الجزار إبراهيم مشاقة متسلماً للإدارة، وجعل مركزه في قلعة مارون، وتمّ اختياره لأنه كان على خبرة في أحوال جبل عامل ونفسية العامليين، منذ أن كان كاتباً لناصيف في صور، فنشأت بينه وبينهم علاقات تجارية زاهرة، وقد أحسن هذا إدارة الجبل، لكن العامليين كانوا لا يرضون عن الإستقلال بديلاً»[80].
إن هذه العملية التي قام بها الجزار، وحقق خلالها إنجازات مهمة، أكسبته مكانة ونفوذاً زائداً في الأستانه وفي الولاية، لأنه أخضع منطقة كانت عصيّة لفترة طويلة عن معظم ولاة صيدا، هذا «وأصبح الجزار سيد بلاد مزدهرة وأراضي خصبة وغنية، تضم مدينة ومرفأ صور التجاري، التي غادرها جميع سكانها، حين علموا بالنكبة التي حلت بالشيخ ناصيف النصار. واستبدل الباشا مشايخ مقاطاعات جبل عامل الذين فرّوا من البلاد، متسلّمين مؤقتين من قبله»[81].
وكان لهذا الوضع المستجد تأثيرات سلبية، حَدَتْ بوالي صيدا إلى محاولة تدارك أمر تأثير خلوّ البلاد من أهلها على الوضع الإقصادي في البلاد، وبالتالي على ما سيجنيه وما يملأ خزائنه بالثروات، «فحضر إلى صور لكي يؤكد بشخصه بقاء كل ما يخص زعماءها، وتأمين ممتلكات السكان، وأشارت إلى ذلك الوثائق الفرنسية الصادرة عن صيدا بقولها: «أذاع هنا، وفي كل الأمكنة التي لجؤوا اليها، أن بإمكان جميع الذين خرجوا العودة إلى صور، دون خشية أو خوف، سواء منه أو من أي شخص آخر»[82].
لقد أظهر السلطان العثماني رضاه الكامل عن عملية تدمير جبل عامل واحتلاله، وأرسل الجزار أحد موظفيه ومعه هدية، من سيف وخلعة ثمينة، ومظاهر الشرف هذه لم تجعله (أي الجزار) بعيداً عن مطالبة الباب العالي له بتأدية الحساب عن الثروة التي استولى عليها في هذه الحملة.
متابعة حملة الجزار
بعد أن ركّز الجزار سلطته في جبل عامل، ولم يبق أمامه إلا قلعة الشقيف التي بقيت عصية عليه طيلة تلك الفترة، «عاد ووجّه عساكره لتفرض حصاراً على قلعة الشقيف، التي كان معتصماً بها الشيخ حيدر الفارس مع أتباعه، وبالرغم من القصف المدفعي الذي كانت تتعرض له القلعة، فقد صمد الشيخ شهراً كاملاً، ولم تستطع عساكر الباشا تحقيق أي كسب، بسب رداءة القنابل المستعملة، وجهل المدفعجية بأصول استخدام سلاحهم، وشجاعة المحاصرين، الذين أبدوا بسالة فائقة في الدفاع عن أنفسهم، خشية أن يصيبهم ما أصاب أبناء ملّتهم» كما ورد عن دار الوثائق القومية في باريس[83].
وحين فشلت خطة الباشا لاحتلال القلعة بالقوة، سعى إلى تحقيق ذلك بالوعود المغرية للأسباب التالية:
- خشي أن تطول فترة الحصار أكثر، وما يتطلبه ذلك من نفقات باهظة.
- صمود العامليين فترة أطول من أن يؤدي إلى إزالة الهيبة والمكانة والخوف، التي كان يثيرها إسمه في ولاية صيدا ( بعد انتصاراته المتتالية).
- خطر بقاء قوات في هذه البلاد المعادية له، واقتراب فصل الشتاء.
- من مصلحته أن يتم تسليم الحصن عن طريق المفاوضات، ليضمن سلامة محتوياته من نهب قواته.
هذا وانتهى الأمر بمفاوضات بين الفريقين، أدت إلى حضور الباشا شخصياً إلى الشقيف في سنة 1196هـ ، 24 تشرين ثاني سنة1781 ، عندما أكدوا له بأنّ المحاصرين مستعدون أن يستسلموا له شخصياً، واستسلم الشيخ حيدر الفارس ورجاله وسلّموا الحصن للباشا»[84]
الجدير بالذكر أنّ الجزار حطّم القلاع السبع الرئيسية في جبل عامل وهي: هونين، تبنين، مارون، ميس، صربا، جباع، وشمع، إضافة إلى الإستيلاء على ميناء صور.
الرد مجدداً على الإحتلال - الفرق الإنتحارية
كما أسلفنا قوله، فإن الباشا، قائد القوات التابعة للجزار، والتي احتلت المنطقة، عمد إلى استبدال مشايخ جبل عامل (الحاكمين الفعليين للنواحي المتعددة) بضباط من عنده، مزوّدين بفرق عسكرية قادرة على السيطرة بفاعلية على تلك المقاطعات، لم يستكن أبناء جبل عامل لهذا الواقع المستجد، خاصة وأنهم يقاومون أية قوة طاغية ظالمة محتلة، وهذا ما أثبتته السيرة التاريخية للمنطقة وأهلها. وكان الرد على النحو التالي:
بعد استشهاد الشيخ ناصيف النصار، تسلم القيادة مكانه إبنه الأكبر الشيخ فارس الناصيف، فلعب نفس دور والده النضالي والجهادي.
الجزار ركز سلطته في مدينة صور، التي لم يبقَ فيها أحد، فعمد الجزار على إعادة المشايخ وأتباعهم إلى المدينة، ليس حباً بهم، وإنما رغبة منه في جني الأموال المترتبة على عملية الإلتزام. شكّل الشيخ فارس الناصيف وإخوانه وأعوانه الذين ذهبوا إلى بعلبك وعكار فرقاً إنتحارية، سميت بـ «الطيّاح»[85]. وراحت هذه الفرق «تدخل متسللة إلى جبل عامل، وراح أفرادها يقومون بكمائن ضد قوات الجزار، وبغارات على معسكراته»[86].
من ناحية أخرى، حصلت تحركات عاملية في منطقة صور، كان من شأنها محاولة الرد على الهزيمة التي مُني بها العامليون على يد الجزار، وفي هذا المجال إجتمع في قرية شحور، من أعمال صور، أعيان البلاد، وقرروا التصدي للجزار بكل ما هو متوفر لديهم، بغية إنقاذ ما تبقى من البلاد والحفاظ عليها، وألّفوا مجموعات قتالية لهذه الغاية، وعهدوا بهاإلى الشيخ حمزة بن الشيخ محمد نصار، وعُيّن الشيخ علي الزين من شحور منسّقاً لهذه المجوعات، وكان أول عمل قتالي نفذته هذه المجموعات، هو مهاجمة قلعة تبنين، نظراً لما تمثله هذه القلعة من رمزية، كونها كانت معقل الشيخ ناصيف، ومركز حاكمية جبل عامل[87]، وكان ذلك سنة 1179هـ - 1783م، يوم اشتد الخصام بين الجزار والأمير يوسف الشهابي، عندها أرسل أولاد ناصيف ورجالهم، يعربون ليوسف عن استعدادهم لقتال الجزار، إذا أمّن لهم السلاح اللازم، فوافقهم وحضروا إلى بلاد الشوف، ومنها توجهوا إلى شحور.
لم يسكت الجزار عن هذه العمليات، وعمل على التصدي لها، لأنه كان يشعر أنه لو لم يحسم أمرها، فإن ناصيف نّصار آخر سيبرز، وسيحاول الأخذ بالثأر، ولذلك، فإنه «على أثر هذه الهجمات جهّز الجزار حملة عسكرية على بلدة شحور، لتأديبها، فقتل الشيخ حمزة النصّار، وفرّ الشيخ علي الزين إلى إيران، ومنها إلى الهند، ولم يعد إلى البلاد إلا بعد سيطرة الإنكليز»[88].
في نفس السياق المقاوم من قبل العامليين ضد الجزار وممارسته التعسفية، «بلغت جرأة العامليين إلى حدّ قيام الشيخ عقيل ابن فارس النصار بالهجوم على قلعة تبنين، فأفنى العساكر الموجودة فيها، وأخذ منها الثروة التي خبأها والده في الحصن المذكور»[89]، ويقال أن هذه الثروة كانت مطمورة تحت شجرة في الحصن.
«فوجئ الشيخ عقيل بوجود قوة مسلحة من المغاربة، كان قد تركها الباشا لحفظ الأمن في البلاد المجاورة، فأفنى تلك القوة، ونقل الكنز إلى مكان أمين، ولم يقتل من رجاله سوى أربعة، ثم غادر القلعة بعد أن ترك فيها حامية من رجاله، وأحرق ونهب عدة قرى، وتابع زحفه نحو عكا، وأصيب الجزار بالذهول حين علم بالنصر الذي حققته قوات الشيخ عقيل وقوات الطيّاح في تبنين، وخشي من انتفاضة سكان جبل عامل، والتفافهم حول الشيخ الشاب، مما قد يؤدي إلى استقلالهم، وتعرّض قواته للفناء، نظراً للتحالف القائم بين العامليين وأمير جبل الدروز... فقرر إخماد الفتنة في مهدها، والحيلولة دون ازدياد نفوذ متمردي جبل عامل بين أبناء ملّتهم، وبالتالي تدهور مكانته بين رعاياه... وقد أنكر أحمد باشا تعرّض قواته للهزيمة في تبنين، وأطلق في 1199هـ، في الأول من حزيران سنة1784 مدافع قلعة صيدا، إحتفاء بانتصار جنوده على عصاة جبل عامل»[90]، وكان هذا الأمر زوراً وبهتاناً في تلك الفترة، حيث أن أكثر المؤرخين يؤكدون هزيمة عسكر الجزار في تلك الحادثة.
ردّ الجزارعلى العامليين مجدداً
ردّاً على هذه الهزيمة، فإن الجزار عمل جاهداً في سبيل إخضاع بعض المناطق العاملية، التي اتضح أنها لا تزال خارجة عن سلطته، وتشكل تهديداً ما له، وأصدر في 1199هـ، الأول من حزيران سنة 1784م أمراً إلى القوات التي كان قد سيرّها في ذلك اليوم لاجتياح جبل الدروز، بالإنسحاب، وأرسلها من جديد إلى جبل عامل، واضطر الامير اسماعيل الشهابي بالعودة بأتباعه إلى صيدا، وقصف الباشا أربع قرى عاملية، ودمّرها تدميرأ كاملاً (لم يذكر أسماءهذه القرى). كما تمكنت قواته من الإنتصار على الطيّاح.
وفي الثاني من حزيران، عرض الباشا رؤوس القرى المتمردين خارج أبواب المدينة، كما أمر بخوزقة أحد الزعماء العامليين، وقد تصرف بهذا الشكل لتحقيق هدفين، أولهما إثارة الرعب والخوف لدى سكان الولاية، والثاني ترهيب أنصار الأمير يوسف.
وبعد أن أعاد الجزار النظام في جبل عامل، ترك والي صيدا جانباً من القوات التي أرسلها إلى هناك للحفاظ على الأمن فيها، وسحب ما تبقّى لاستخدامه في حملة جديدة على جبل الدروز المتمرد عليه، وعزل الأمير يوسف الشهابي، وأقام عمه الأمير سيد أحمد وخاله الأمير إسماعيل كحاكمين على تلك البلاد[91].
تزايد هجمات الطيّاح وموقف الجزار
أقام الجزار مراكز عسكرية كثيرة في منطقة جبل عامل، وكانت تدعى بـ» السردلة»، وهدفها البحث عن الطيّاح في المنطقة، لكنها- كما يقول بعض المؤرخين - «كانت تعود خائبة، ثم عيّن عساكر من العامليين أنفسهم، ومع ذلك لم يُجْدِهِ ذلك نفعاً، لأنهم كانوا يحضرون للبحث عن المشايخ العصاة، ويكون هؤلاء قد انتقلوا إلى مناطق أخرى وعرة، أو إلى أطراف البلاد»[92].
للمؤرخ حسن الأمين رأى في هؤلاء الطيّاح، حيث يقول إنّ «جبل عامل عانى كثيراً من هجمات أولئك الطيّاح، لأنه وقع بين نارين، نار متسلّمي الجزار، وجنوده، ونار الثوار، فكان الباشا يرسل متسلميه وجنوده السردلة لملاحقة العصاة، فيعيثون في البلاد فساداً، ويضيّقون على السكان، ويغير الثوار على القرى فيسلبون وينهبون ويحرقون ما يصادفهم من أمتعة، ومن ثم يفرّون في بطون الأودية، أو يعتصمون في قمم الجبال»، ويضيف الأمين قائلاً: «كان الأهالي يدفعون الميري والذخائر للمتسلمين والعساكر السردلة، الذين كانوا يدّعون بأنهم يحافظون عليهم من التعديات، كما كانوا يدفعون الميري والذخائر للمشايخ المذكورين وأتباعهم، بحجة أن البلاد بلادهم وأهاليها عبيد لهم»[93].
إنّ محاولات الجزار المتكررة للإيقاع بالطيّاح باءت بالفشل، بالرغم من أنه كان قد أخضع المنطقة العاملية لسلطته، يساعد في ذلك ضباط عينهم ليحكموا باسمه المناطق التي سيطر عليها، وبشكل مباشر.
في تلك الفترة، تقلب الجزار في سياسته مع الدروز بين الأمير يوسف وخاله الأمير إسماعيل الشهابي، ووصلت الأمور به إلى حدّ «إثارة العداء بين الأمير يوسف، ملتزم جبل الدروز، وخاله الأمير إسماعيل متسلم مقاطعتي مرجعيون وحاصبيا، التابعتين لإدارة ولاية دمشق، وأمدّ الأمير الأخير بقوات من عنده، أقامت معسكراً لها في جزين، لكنها هزمت في جباع»[94].
استغل الطيّاح هذا الأمر، أي انشغال الجزار في القتال الدائر بين الخصمين من أمراء آل شهاب في الشوف، و«سحبه أعداداً كبيرة من قواته المتواجدة في بلاد عاملة، لمساندة حليفيه الأميرين الشهابيين إسماعيل وسيد أحمد، فزادوا من غاراتهم وهجماتهم على القوات القليلة المتبقية في بلادهم، وتشجع فتيانهم الذين فرّوا إلى دمشق، فحضر حوالي ستماية فارس منهم، وشكلّوا مع الطيّاح قوة مهاجمة، إنضم اليها حوالي ألف من فلاحي جبل عامل، وشجعهم الأمير يوسف الشهابي، وتحالف معهم، وسهّل إمدادهم بالسلاح والمؤن والمقاتلين، وكان ذلك في سنة 1784»[95].
الجزار والمؤامرة
ترافق تحرك الطيّاح مع أخبار وإشاعات أفادت بأنّ الباب العالي حانق على الجزار وتحركاته، وهناك نية من قبل السلطنة العثمانية للتخلص منه، كما سرت إشاعة في المنطقة تفيد «بأن الباب العالي سوف يرسل حملة بحرية وبرية لتدمير الجزار، وصار السكان يتصورون أنّ عزل الباشا سيتم بين لحظة وأخرى»[96].
في هذا الوقت بالذات، تشكلت خلايا سريّة في جبل عامل، خطّطت للإنقضاض على عساكر الباشا، بمجرد تبلغهم أول إشارة رسمية عن عزله، لكن بوصول أنباء هذه المؤامرة إلى مسامع الأخير، أصدر أمراً في 1200هـ، أيار(مايو)سنة 1785، باقتياد الزعماء المتآمرين إلى عكا مقيدين بالحديد، وبطرد جميع المتاولة ومعاملتهم بالشدّة المتناهية»[97]، وهكذا استطاع الجزار مجدداً أن يقضي على «المؤامرة» التي كانت تستهدفه، وهذا الأمر كانت له آثار إيجابية بالنسبة اليه، حيث أن الأستانة إقتنعت بقوته العسكرية والإقتصادية، وأنه «أحد الولاة القلائل القادرين الإعتماد على أنفسهم لتمويل وقيادة قافلة الحج بفعالية، فصدر فرمان سنة 1201هـ ، الأول من أيار سنة 1786 ، يجعل اثنين من مماليكه: سليمان باشا والياً على طرابلس، وسليم باشا والياً على صيدا، وأشارت التقارير الدبلوماسية الفرنسية، الصادرة عن عكا إلى ذلك بقولها:... أصبح الجزار سيد سوريا الأوحد، تخضع لأمره البلاد الممتدة من اللاذقية شمالاً إلى غزة جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً إلى بادية الشام شرقاً، يحكم هذه البلاد الشاسعة بواسطة ضباط»[98]
المزيد من المعاناة العاملية
وصلت الأمور في منطقة جبل عامل إلى درجة، لم يعد فيها أهله قادرين على العيش بأمن وهدوء وسلام، خاصة أن الوضع إتسم بأمور عديدة، دلّت بشكل رئيسي على معاناة العامليين من ظلم المتسلمين، واضطرارهم لدفع الميري والذخائر والمؤن، ومهاجمة البلدات والقرى بحجة ضرب الثوار، ونقص في الأملاك بسبب مصادرتها، ومصادرة الغلال والتضييق على السكان، وفرض الغرامات النقدية، وإجبار المواطنين على القيام بأعمال السخرة، والفرض على السكان تقديم الهدايا للضباط وإيواء الجنود، وتقديم ما يحتاجونه من طعام وغذاء، وتأدية العلف لخيولهم، ومصادرة الدواب من القرى لنقل المؤن والذخائر للعسكر، واسترقاق النساء والأطفال الرضّع، وبيعهم في أسواق النخاسة، والقيام بنهب ما يصادفه الجنود من متاع وأثاث ومؤن[99].
علم الجزار، وهو في دمشق، وكان يستعدّ للسفر من هناك لتأدية فريضة الحج، بما يحصل في جبل عامل، وأنّ «جماعة من العامليين، من آل علي الصغير، قد فرت إلى مشغرة، وأقامت فيها بإذن وحماية الأمير يوسف الشهابي، فخشي أن يستغل هؤلاء فرصة غياب وتوزيع قواته بين ولايات طرابلس وصيدا ودمشق, ومرافقة عدد من تلك العساكر لقافلة الحج الشامي، فيتوجه هؤلاء المشايخ إلى جبل عامل بمساعدة الأمير الشهابي الحاكم، للإنتقام لما أصابهم على يد الباشا وقواته، فقرّر أن يزيل مخاوفه بالقضاء عليهم، عن طريق الأمير يوسف، والفرصة متاحة أمامه نظراً لوجود الشيخ سعد الخوري، مربي ومستشار الأمير يوسف مرتهناً لديه، وبذلك سوف يجبر الأخير على تنفيذ ما يطلب منه، وهو يستطيع تحقيق هدفين:
أولهما: ضرب التحالف العاملي الشهابي، وزرع بزور الفتنة والإنشقاق.
وثانيهما: القضاء على آل الصغير اللاجئين في مشغرة»[100].
هذا، وقبل خروج الجزار بقافلة الحج، أصدر أمراً إلى الشيخ سعد الخوري، أن يكتب إلى سيده أمير جبل الدروز بإلقاء القبض على مضيفيه العامليين، وإرسالهم إلى والي صيدا سليم باشا، واستجاب الأمير يوسف للأمر، وسلّم العامليين إلى عدوهم، وقد أثار تصرفه هذا استنكار المعاصرين، لأنه يتنافى مع تقاليد المنطقة التي تحثّ على حماية اللاجئ والدفاع عنه»، وأشار إلى ذلك المؤرخ حيدر الشهابي بقوله: «لم يحفظ الجوار ويرعى الذمام... ولام الناس الأمير يوسف على ذلك...»[101].
إنّ ما ورد في هذا الموضوع يؤشر على عدة أمور منها، أنّ الجزار، وبالرغم من اجتياحه المنطقة واحتلالها وقتل بعض كبار رجالاتها ومن معهم، فإنه كان لايزال، يشعر بالخوف والرعب من هؤلاء، وكأنه لا يزال يحسب لهم حساباً، كما أنّ الزعماء العامليين، كانوا يحاولون استغلال الخصومات السياسية للجزار مع بعض الزعامات، للإستفادة منها ضد محاولات الجزار إستهدافهم، أو في فرض أنفسهم كقوى لها أهميتها، ولا يمكن عدم التطلع إليها وإلى مواقفها.
كذلك لابد من ملاحظة أمر مهم، وهو أن أعداء العامليين كانوا يستغلون أحياناً بعض الخصومات بين زعماء عامليين، للدخول من خلالها إلى المنطقة، كما أن الاتفاق بين الزعامات العاملية، كان من شأنه أن يحدّ من تأثير التعديات على المنطقة.
هكذا بقيت البلاد طيلة فترة حكم الجزار، وبالرغم من الأقوال التي تتحدث عن تغير طرأ على موقفه بعد أن رأى خراب البلاد، ثم أشير عليه باستدعاء السيد محمد الأمين بعد أن يؤمنه، وهذا الأخير يتكفّل بإعادة عمران البلاد، وعودة أمراء جبل عامل إلى ربوعه، وهكذا كان، حيث استقر الأمر، وعمرت البلاد من جديد.
سنة 1209هـ - سنة 1804م، توفي أحمد باشا الجزار في مدينة عكا، وتنفّس العامليون الصعداء من الكابوس الثقيل الذي كان يثقل كواهلهم، ويذكر الشيخ علي الزين، أنه من المتفق عليه، لدى جلّ المؤرخين، أنه لما توفي الجزار «اجتمع مجلس شورى ولاية عكا، المؤلف من قادة العساكر، واختاروا إسماعيل باشا القدسي لتولي منصب الجزار، وكتبوا للباب العالي في اسطنبول، يخبرونه بوفاة الجزار، ويلتمسون منه تعيين إسماعيل باشا مكان الجزار، ولكن الدولة العثمانية - لأمرٍ ما - عيّنت إبراهيم باشا والي حلب مكانه، ثم أرسلت راغب أفندي، أمين الخزنة لضبط مخالفات الجزار»[102].
بعد فترة وجيزة تغير الموقف، وصدرت الأوامر السلطانية بتوجيه الإيالة إلى سليمان باشا سنة 1220هـ سنة1805م، وعزل إبراهيم باشا، وجرى الصلح بين مشايخ جبل عامل والوالي الجديد، بتعهّد من الأمير بشير، إنما بشروط، منها أن «يترأس عليهم بصفته شيخ مشايخ، الشيخ فارس الناصيف، ليتعاطى أمورهم ومصالحهم، وفصل الدعاوى فيما بينهم، ثم أصدر سليمان باشا مرسوم الأمان، الذي أرسل للشيخ فارس الناصيف، حيث استدعي لعند سليمان باشا، فحضر هو وإخوته والبعض من كبار المشايخ، واستقبلهم بكل بشاشة وإكرام».
يذكر أنّ هذا العقد تضمن توزيع القرى على المشايخ، كل منهم قدر لزومه بالعدل والإنصاف، من دون ميل أو انحراف، ويقول الشيخ علي الزين أن «الأمير تآمر مع الباشا على مشايخ المتاولة، وأنّ شروط الصلح كانت محجفة جداً بحقّ المشايخ».
[1] أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية كلية الآداب.
[2] حول موضوع الإلتزام أنظر: عبد العزيز شناوي: «تاريخ أوروبا في العصر الحديث» القاهرة, سنة 1961 (ص 534 - 535)
[3] علي الزين: «للبحث عن تاريخنا في لبنان» ط1، 1973 (ص326)
[4] نقولا زيادة: «أبعاد التاريخ اللبناني الحديث» جامعة الدول العربية, قسم البحوث والدراسات التاريخية والجغرفية، القاهرة، سنة 1972 (ص 34).
[5] فولني: «سوريا ولبنان وفلسطين في القرن الثامن عشر» ترجمة حبيب السيوفي، جزءان، الجزء الأول، المجلة المخلصية، صيدا، 1948 - 1949 (ص66 – 67)
[6] دائرة الوثائق القومية في باريس، مجموعة(A-E-B)، مجلد 1019، تقرير صادر عن صيدا، بتاريخ 2/9/1712.
[7] حول العائلات المتنفذة في جبل عامل، راجع: ميخائيل الصباغ: «تاريخ الشيخ ظاهر العمر حاكم عكا وبلاد صفد» حريصا، لبنان، لا تاريخ للنشر(ورقة رقم 11).
[8] الشيخ طنوس الشدياق: «أخبار الأعيان في جبل لبنان» الجزء الثاني سنة 1859 (ص29)
[9] ياسين سويد: «جبل عامل في عهد الامارتين المعنية والشهابية 1516-1842» دراسة منشورة في: «صفحات من تاريخ جبل عامل» المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، دار الفارابي، بيروت سنة 1979 (ص57)
[10] محمد تقي آل فقيه: «جبل عامل في التاريخ» المطبعة العلمية سنة 1946 (ص84 )
[11] علي الزين: «المرجع السابق»( ص469 - 470 )
[12] محمد كرد علي: «خطط الشام» ستة أجزاء، ط3، مكتبة النوري، دمشق سنة 1983 (ص300 )
[13] نقلاً عن حسن الأمين: «جبل عامل السيف والقلم» ط1، دار الأمير، بيروت سنة 2003 (ص 146)
[14] نفس المرجع (ص 149)
[15] نفس المرجع
[16] حول بروز ناصيف راجع: حسين سليمان: «مجلة الباحث» السنة الرابعة، عدد 20-21 (ص56)
[17] محمد جابر آل صفا: «تاريخ جبل عامل» ط4، دار النهار للنشر سنة 2004 (ص 123)
[18] نفس المرجع (ص124)
[19] نفس المرجع (ص 124)
[20] الأمير حيدر الشهابي: «الغٌرر الحسان في تواريخ والأزمان» 3 أجزاء الجزء الأول، طبعة الجامعة اللبنانية، بيروت سنة 1969 (ص89)
[21] حسن الأمين: «المرجع السابق» (ص 195)
[22]ADEL Ismail: «Document diplomatiques et consulaires»T2 (p:210): 210
[23] الشيخ طنوس الشدياق:«المرجع السابق» الجزء الأول (ص152) والجزء الثاني (ص 42- 43)
[24] حسن الأمين: «المرجع السابق» (ص 274) وما بعد
[25] راجع: الأمير حيدر الشهابي: «المرجع السابق الجزء الأول (ص 291)
[26] راجع: محمد جابر آل صفا: « المرجع السابق (ص 135-136) وسليمان ظاهر:» أسماء وقرى جبل عامل» مجلة العرفان، م8 (ص 133) وحسين سليمان:» المقاومة العاملية لسياسة القمع العثماني 1750 -1825» مجلة تاريخ العرب والعالم، عدد 55، أيار سنة 1982
[27] حسن الأمين:» المرجع السابق» ص 279 راجع أيضاً: طنوس الشدياق:» المرجع السابق» (ص 30)
[28] فولني: «سوريا ولبنان وفلسطين» ترجمة حبيب السيوف، جزءان، الجزء الأول، صيدا، 1948- 1949 ص77
[29] راجع: أرشيف دار الوثائق الفرنسية... «المرجع السابق» سجل 1037 تاريخ 30/10-1771
[30] حول هزيمة يوسف الشهابي راجع: حيدر الركيني: «جبل عامل في قرن» العرفان، م38 ص55 ومحمد تقي آل فقيه: «المرجع السابق» ص 109 ص105 (يقول أن المعركة هي من الأيام المشهورة التي يتحدث عنها التاريخ).
[31] الأمير حيدر الشهابي: «المرجع السابق» ص809-810
[32] طنوس الشدياق: «المرجع السابق» ص154
[33] علي الزين: «المرجع السابق» ص519و ص521 والشدياق «نفس المرجع» ج 12 ص42
[34] علي الزين: «نفس المرجع» ص 547
[35] الركيني: «مجلة العرفان» مجلد 28 سنة 1939 ص952
[36] محمد تقي آل فقيه: «المرجع السابق» ص228 -229
[37] حول هذه المعركة راجع: ياسين سويد: «التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين» جزءان، الجزء الثاني، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت سنة 1985 ص111
[38] محمد تقي آل فقيه: «المرجع السابق» ص 229
[39] إدوارد لاكروا: «أحمد باشا الجزار وأعماله في سوريا ولبنان وفلسطين» تعريب جورج مسرّة، سان باولو، البرازيل، سنة 1934 ص74-75
[40] علي الزين: «المرجع السابق» ص 546 -547
[41] نفس المرجع ص559 نقلاً عن العرفان م 28 ص159، وتاريخ الأمير حيدر الشهابي ، ص103، والجزء الثاني ص819
[42] راجع حول هذا الموضوع: الفقيه: «المرجع السابق» ص 137-138 وعلي الزين: «نفس المرجع» ص 594
[43] قسطنطين خمار: «مجلة العربي» العدد 281، نيسان سنة 1982 ص166. وحول أحمد باشا الجزار، وولادته راجع: فيليب حتي: «تاريخ لبنان، منذ اقدم العصور التارخية إلى عصرنا الحاضر» ط 2، دار الثقافة، بيروت، آذار سنة 1972 ص478-479
[44] نفس المرجع. راجع: حسن الأمين: «المرجع السابق» ص 235
[45] نفس المرجع، والأمين: « نفس المرجع» ص240
[46] نقلاً عن علي الزين: «المرجع السابق» ص 571، والفقيه: المرجع السابق» ص 141
[47] الفقيه: نفس المرجع ص 141. وحسن الأمين: «المرجع السابق» ص 206
[48] نفس المرجع ص 142
[49] راجع: حسن الأمين: «المرجع السابق» ص 240
[50] الزين: «المرجع السابق» ص 553
[51] علي الزين: «فصول من تاريخ الشيعة في لبنان» ط1، دار الكلمة للنشر سنة 1979 ص40
[52] راجع: حسن الأمين: «المرجع السابق» ص 206-207
[53] الزين: «فصول... « المرجع السابق ص 40-41
[54] الشدياق: «المرجع السابق» الجزء الأول، ص153
[55] الزين: « للبحث» المرجع السابق ص 554-555
[56] الفقيه: «المرجع السابق» ص144
[57] العرفان م 28 ص54 والفقيه: «المرجع السابق» ص 146-148
[58] علي الزين: «فصول...» المرجع السابق» ص 42 وص44
[59] حسن الأمين: «المرجع السابق» ص 210
[60] نفس المرجع
[61] علي الزين: «فصول» ص 45 وص 47
[62] نفس المرجع
[63] حسن الأمين: «المرجع السابق» ص 212
[64] نفس المرجع ص 213
[65] نفس المرجع 213
[66] راجع نفس المرجع ص214
[67] عن لقاء الأمير والشيخ ناصيف سنة 1194 هـ راجع: الزين: « فصول...» ص 48. والفقيه: « المرجع السابق « ص 150
[68] حسن الأمين ..المرجع السابق ص216 نقلاً عن مخطوطة الظاهر.
[69] نفس المرجع ص216
[70] حول اتهام الشيخ قبلان بالغدر بالشيخ ناصيف راجع:علي الزين «فصول» ص50، و الفقيه «المرجع السابق» ص 157
[71] حسن الأمين «المرجع السابق» ص220، و محمد جابر آل صفا: «المرجع السابق» ص138
[72] نفس المرجع ص 240
[73] نفس المرجع ص221 نقلاًعن ميخائيل مشاقة و عن العرفان دون ذكر رقم المجلد..
[74] نفس المرجع ص 220
[75] راجع: محسن الأمين «أعيان الشيعة» المجلد الثامن ص235
[76] راجع: الفقيه:»المرجع السابق» ص166 وما بعدها.
[77] محمد حسين المظفر:»تاريخ الشيعة» ط 3 دار الزهراء سنة 1983 ص160-161
[78] محسن الأمين: الأعيان...»المرجع السابق» ص235
[79] راجع:حسن الأمين «المرجع السابق» ص223
[80] راجع تقرير القنصل الفرنسي، صيدا، مترجم، مجموعة (A.E.B)سجل رقم 1040 تاريخ 2/6/1982
[81] نفس المرجع
[82] نقلاً عن دار الوثائق القومية في باريس، مجموعة (A.E.B)سجل رقم 1039 تاريخ 2/6/1982
[83] هذه الفرق سميت بهذا الإسم، أي قطاع الطرق، الذين كانوا يطلبون من القرى مال الميري والذخائر والمؤن…
[84] إبراهيم العورة:»تاريخ ولاية سليمان باشا العادل» نشره قسطنطين الباشا، حريصا، لا تاريخ (ص 34)
[85] محمد جابر آل صفا: «المرجع السابق»(ص 138- 139)
[86] إدوارد لاكروا: «المرجع السابق» (ص 174)
[87] دار الوثائق الفرنسية … مجلد 979، تاريخ 4/6/1784
[88] راجع: حسن الأمين:» المرجع السابق» (ص 323 – 324)
[89] تقرير القنصل الفرنسي في صيدا، مجموعة (A.E.B) سجل 1040 تاريخ 2/6/1784
[90] راجع: إبراهيم العورة: «تاريخ ولاية …» المرجع السابق.
[91] ونقلاً عن حسن الأمين: « المرجع السابق» (ص321)
[92] نفس المرجع (ص322)
[93] دار الوثائق الفرنسية …مجلد 979، تاريخ 15/8/1784 راجع أيضاً: حيدر الشهابي: « الغرر الحسان» المرجع السابق (ص 137)
[94] الأمين:» المرجع السابق» (ص320)
[95] دار الوثائق القومية في باريس، مجموعة (A.E.B) مجلد 979، تقرير صادر عن عكا، بتاريخ 16/5/1785 راجع أيضاً: «حيدر الشهابي: «المرجع السابق» نشره أسد رستم وفؤاد أفرام البستاني بعنوان: «لبنان في عهد الأمراء الشهابيين»الجامعة اللبنانية، 3 أجزاء، بيروت سنة 1933 (ص 137)
[96] دار الوثائق: المرجع السابق» سجل 979 (حالة القنصلية العامة في سوريا وفلسطين خلال العام سنة 1786)
[97] راجع: إبراهيم العورة:» المرجع السابق» (ص35) والأمين» المرجع السابق» ط 325
[98] حيدر الشهابي:«المرجع السابق» الجزء الأول (ص141)
[99] نفس المرجع
[100] علي الزين: « فصول…»المرجع السابق» (ص 105-106)
[101] نفس المرجع (ص116-117)
[102] نفس المرجع ، وراجع:حيدر رضا الركيني:» جبل عامل في قرن» مخطوط، نشر في مجلة العرفان، م29 سنة 1940 (ص981)
في توصيف المهمّة التاريخية للجزار في لبنان
د. جويدة غانم[1]
تقديم :
لم ينأ على لبنان وعلى الإطلاق آفاق النظام الاستبدادي بالشكل الذي يحيل إلى ذلك التبرير اللاموضوعي في السياسة بالهجوم الشرس على التاريخ وعلى العقل المكوّن والصانع للجماعات، حيث يروم هذا الأمر ومن ورائه تحقيق جملة من المكتسبات، كان لحظتها في أن يتداخل لحظتها ويتفاعل كل من السياسي والاجتماعي والإقتصادي والديني مع الإجتماعي، وتبنى على ضوئه محطات إضافية لأطر الهيمنة على المنطقة، وإدخالها عنفا وترويضا في لعبة الأمم، التي كانت من نصيب الأتراك والروس والإنجليز والفرنسيين، يوجب هذا الأمر في معرفة وإدراك المسافة الفاصلة بين ما كان متصوراً ومتجسدا في فكر هذه القوى من حيث الصور المترافقة لمواقع إحداثياتها.
ولما كان من الصعب تحديد - بالضبط - كلّ ما جرى في عهد الجزار والإبادة التي اتخذت عنده فنّاً رائقا في التعذيب والتقتيل للجماعات البشرية، فإنه ثمة وبلا شك، شعوراً إبستيمولوجياً لدى الباحثين سيمكّنهم من توصيف لحظات هذا الفعل والبحث في فبركاته المتداخلة مع شتّى الموضوعات والإرتباطات الداخلية والخارجية، ومن حيث استعادة هذا الوضع الذي سيشهد على نفسه، سواء من حيث التعريف بموضوعه واستتباع أحداثه التاريخية، أو ما أفرزته هذه الأحداث سلباً وإيجاباً على الجماعات المضطهدة، ومحاولة إخراجها خارج المكان الخاص والزمان الخاص، قصد الطمس والإلغاء بالرغم من ما لها من قوة في الحضور والبقاء رغم تعددها وتنوعها، سواء من حيث المنشأ الملي، أومن حيث الجهاز السياسي المتموضع ضمن أنساق معرفية خاصة ستؤسس نمطاً خاصا في المقاومة والمواجهة، وإعادة توجيه التاريخ وصناعته وفقا لمصلحتها سواء بالمواقف الإعتيادية، أو غير الإعتيادية ،أيا كانت طبيعة الصراع والتنافس حتى بين هذه الجماعات حينها، والتي تضاربت في الكثير من الأحيان المصالح الذاتية والبرغماتية دون النظر بالدقة إلى ما يؤول إليه هذا الأمر من تكالب مختلف القوى عليه، إذا ما استقرأنا جيداً وأولاً مشروع التتريك في المنطقة وتجاوز الحدود اللازمة والقواعد الإنسانية الذي فرضها نظام الحكم المستبد، الذي باشر ودون رحمة التفنّن في الإبادة، والتفنن في التنكيل، ومن هذا الأمر كان لزاما وفي هذا البحث أن نناقش ما يلي:
أولاً: قراءة ماهوية للجزار في قوى الفكر الثلاث
أجمعت الدراسات الغربية لكل من القوى الفكر الثلاث التي تواجدت في فترة تواجد الجزار في لبنان، التي جمعت كل من بازيلي الروسي، والكولونيل تشرشل البريطاني، وإدوارد دولا كروا الفرنسي، على صفة تعريفية، توصيفيه، تقريرية واحدة للماهوية الجزار، ناهيك عن بعض الفروقات والإختلافات والتي أخضعت مرة للتفاوت في توصيف التعريف فيما بينهما، و تارة في الإقتضاب الحاصل في بعض المحطات، خاصة إذا ربطنا هذا الإختلاف بالفارق الإيديولوجي والكولونيالي، الذي يجمع هذه القوى في تقرير الحقائق على حسب المصلحة.
فمن حيث التوصيف:
تشير كتاباتهم إلى أنه من أصل باشناقي وفي السادسة عشر من عمره، قد نجا هاربا من القسطنطينية خوفاً من انتقام أقاربه وعشيرته له، كونه مارس عنفاً لا أخلاقياً اتجاهها، فارّاً من المحاكمة الأخلاقية[2] وقد بيع في سوق العبيد حيث سيق إلى بكوات مصر وهو علي بك ليكون خادما ضمن المماليك، حيث أظهر من قوة وتهوّر ما جعله متميزاً عن أقرانه، وقد ساهم مع جماعة من البدو بقتل دون رأفة، وبعد كل عملية ذبح، كان يصرخ بأعلى صوته (ضحية أخرى ثأرا لدم سيدي عبد الله بك).
وقد كانت هذه المهمة الأولى التي أعطاها علي بك للجزار، هو منحه لقب الجزار بك. وزاد هذا الأمر من تكوين البنية الشخصية له، من حيث تزايد الأخلاق العنفية والسادية ، وبروز الإنتقام من أي إنسان لا يحبذه ولا يتماشى بطريقته المثلى، ويكون له مقاما في الجماعات والتحكم فيها، الدور الرئيس في تكوين إمبراطورية لا تخرج عن إطار أقرانه الأتراك.
أما المهمة الثانية فأمره علي بك باغتيال صالح بك الساعد الأيمن لعلي بك، وصاحب السلطة له في مصر، فحينما أراد التخلص منه أمر الجزار بذلك، لكن الجزار أبى أن يقتل صالح بك رغم الخطة المدسوسة من طرف علي بك ، والذي تمكّن في بداية المهمة الثانية التي قام ببطولتها أحمد أبو الذهب والذي خلّصه منه بشجار مصطنع مع صالح بك، ولمّا أراد أن يقضي على الجزار تفطّن لذلك بدهاء، وفي هذا يسرد بازيلي بالتفصيل ظاهرة الانتقام، مع انتقائنا لهذا النص المشكل لهذا الحدث التالي:
«وقع اختيار علي بك على محمد أبي الذهب.. وكلّفه بمهمة التخلّص من الإثنين صالح بك وأحمد بك الجزار، قد دعاهما أبي الذهب إلى نزهة على ضفاف النيل(...) وهناك اصطنع خلافاً وقتل صالح (..). رأى الجزار كل ذلك من بعيد، وقد وصل متأخراً لإنقاذ صالح بك(... ) أبو الذهب لم يتجرأ أن يهجم على الجزار مادام الأخير يحمل سلاحا، فاستقبله بحفاوة، جلسا على السجاد ودخّنا الغليون(...) صحب سيفه من غمده، واخذ يفتخر بسيفه(...) و أراد أن يقارنه بسيف الجزار في حيلة لتجريده من السلاح، فأجابه الجزار ببرودة، بأنه لن يسحب سيفه من غمده إلا ليقطع به رأسا ما»[3].
اتجه الجزار فيما بعد هاربا من علي بك، لعدم تنفيذ ما طلبه منه من اغتيال صالح بك حاكم مصر، فانتقل إلى الآستانة، ومنها إلى سوريا، بصفته جنديا خاصا، ومن ثم قادته الأغوار أن يكون بين الدروز حيث يحظى بوافر الكرم والضيافة من طرف شخصية مهمة، وهي الأمير يوسف، ليكون هذا اللقاء بمثابة التحوّل الكبير والتاريخي الذي سيقدّمه الجزار فيما بعد في المنطقة التي تكون خاضعة له بقوة السيف وكل أشكال العنف والإضطهاد، ويصرخ بأعلى صوته أنّ لبنان وبيروت هي ملكاً للأتراك[4].
وقد أشار الجنرال تشرشل أنّ الأتراك انتهزوا هذه الفرص فلجأوا إلى استغلال موقعه والإغداق عليه بالأموال والجند، والمناصب وفي هذا يقول: «وإنه لصحيح -أي الأتراك - أنّهم لا يستطيعون في الوقت الراهن إلا باستخدام مثل ما عليه الجزار من فساد، أن يمارسوا بربريّتهم ويحقّقوا خطط اختلاسهم الدائمة المتلاحقة التي مارسها موظفون أتراك رفيعو المراتب المدنية أو العسكرية، وعلى العموم فإنّ جراثيم الفساد التركي تظهر في كل منطقة لهم فيها نفوذ في ساحل أو في جبل، أو مكان خصيب، أو أرض بوار، أو صحراء قاحلة.» [5]
بالتالي، تتطور الصيغة التعريفية له، من واقع التشرد، والإنسان العبد الذي بيع في الأسواق، إلى الإنسان الفائق في الذكاء، وتقدير الأحكام بحنكة، وصاحب الأوامر والنواهي، لتصبح، بعدها، سياسة المنطقة عنده تدخل في زاوية نشر القوة والنفوذ التي انتقلت إليه، و التي اتسمت غالبا بقدر فاضح في التعسّف والإرهاب.
واقع المعرفة والمصلحة
بناءا على هذا الوضع في تشكيل الأحداث وربطها بشخص الجزار البطولي، الحاذق في مواجهة المناخ العام وتسيير الواقع على حسب ما يريد، تستمر الدراسات نفسها، بالوصف نفسه، الذي يخفي من ورائه إعجابا بالجزار، ومدى قدرته وتفوّقه على خصمه، وهذا ما جعل الفرنسي دولا كروا، يفرد له مبحثا بعنوان مميز (الفتى الطريد)، ويغدق من مغامرته، ما يجعله أعجوب عصره وزمانه، و الآمر والناهي، الذي تنبسط له أموره السياسية، سواء كانت منها الداخلية أو الخارجية، كما أنّه الممهّد لتسهيل دخول القوات الأجنبية للبنان والمناطق المجاورة للقضاء على الإحلال التركي من جهة، ومن جهة ثانية، إعتبر الجزّار ورقة رئيسية بيد الحلفاء، لقضاء كل قوة على قوة أخرى، قصد تحصيل النفوذ الكامل في المنطقة سواء كان من الجانب الروسي، أو الإنجليزي، أو الفرنسي آنذاك.[6]
ورغم الموضوعية التي يدّعيها هؤلاء، فإنّ واقع الرغبة في توسّع المد الكولونيالي، يعتمد بالأساس، في التقعيد لمثل هذه المشاريع الكبرى، لمثل هذه الشخصيات، بالتالي يبرّر كل توجّه أجنبي في إحلال المنطقة في بوتقة الصراع ومحاولة حسم مصيرها، في ضوء أي تكتل فقد كان الجزار باعتباره ممثلا للأتراك أعداء للروس، فاشتغل الروس مع الدروز لإسقاطه وإخماد عملياته، كما كان الإنجليز أعداء للفرنسيين، فقاموا بتدعيم الجزار لإخماد توسع نابليون، والمتمعّن في كتابات كل من بازيلي وتشرشل ودولاكروا يجد أنّ هذه الكتابات تنفتح لمصلحتها أولا، وكما تنفتح على الموقف المعادي والرافض للإستقرار واستقلال المنطقة، ولازال لحد هذه اللحظات آثار لهذه السياسات وهذه الكتابات. وفي هذا أكد بازيلي ما يلي:
«أحيانا كنت أعمل وحيدا باسم الحكومة الروسية، و أحيانا أخرى كنت أتعامل مع إخواني ممثلي الدول الغربية(...)مع رفيقي قنصل بريطانيا العام الكولونيل روزي الذي شغل منصب القائد الإنجليزي، و قنصل فرنسا بوري، كان من واجبنا أن نعمل بحماس كي ننقذ المسيحيين من الظلم والإستعباد، بغض النظر من المنافسة بين انجلترا، وفرنسا هذه المنطقة المعذّبة من الشرق العثماني».
إحلال الأزمة في واقع الجماعة والتجميعية
قد عمل البحث عن المناطق وترويض الجغرافيات للمصالح العالمية التي تربطها مصالح إيديولوجية لا تخرج بدورها عن المنشأ الكولونيالي الذي يتماشى مع نظرية الاحتواء للمكان، وتلبيسه مخططات استيطانية قصد تغيير معايير القوى، داخل الجماعات المضطهدة والمستعمرة، لإحداث تغيير في مفاهيم الجماعة ذاتها، والضغط عليها وتعميق الفوارق بينها، ولو بعد قرون أين نستقرأ للتو تدابير هذه المهمة، التي عمقت بأي شكل من الأشكال أوامر الأحكام السلطانية فيها، سواء من قريب، أو من بعيد.
بهذه الرؤية، وبهذه الصور والأهداف، آلت الإمبراطورية العثمانية في تمكين مآلها على منطقة سوريا ولبنان ومصر وفلسطين وغيرها من الدول العربية فاتحة بذلك حكما جديا، وزمانا جديدا، وسياسة جديدة، لا تخرج عن نظام الإمبراطورية في التوسيع والتشميل، الذي يحيل هذه السياسية إلى التركيز على ما هو أجدى في مخططها الاحلالي، لترويض علاقات التبعية والولاء الذي يدخل في نطاق تثبيت سلطتها الشرعية، التي أرادت أن تجعل من المسألة الشرقية تحول فاصل في محتوى العلاقات الدولية، خاصة فيما يخص ارتباط الأتراك بالمنطقة أولا، ورغبة كل من القوى الثلاث آنذاك، لكل من فرنسا وانجلترا وروسيا، ثانيا.
ومن ثم يتحدّد الدور الذي تقدّمه هذه القوى للمسائل الوطنية داخل المجتمع اللبناني خصوصا فيما يتعلق بإعادة توزيع هذه الجماعات داخل القطر الواحد وإرجاع جماعة إلى قطر آخر، والإمعان في دلالات التكون الثقافي والإجتماعي لها بتهيئة سلسلة من الضغوط لا تنتهي إلا إذا تمّ محاصرة هذه الجماعة أو إخراجها من مكانها الأصلي، ومن ثم تتكون أطر الجزأرة الجديدة للجماعة وعزلها إلى ما لا عزلة لها.
تطرح فلسفة الجماعة والتجميع في إطار علم الاجتماع التجميعي، مفهوم المحنة الذي رافقته صوراً قاسية في الحياة والتعامل وتبديل العلاقات، والتوظيف الإقطاعي له، وفيما يخص المحاصرة الإقتصادية لهذه الجماعات، بواسطة تحقيق مبدأ التبعية الداخل ضمن سياسة الأتراك ممثلة في قوى الجزار أو بتحصيل مفهوما في المواطنية مستقلا عن هذه التبعية مطبوعة بقيم الولاء للوطن، والولاء للمقاومة، والإنتصار للآخر في حدود المذهب المتبع، لا ينفصل البتة عن لحظة المصير المشترك، حيث يكون حينها (التاريخ مرفوعاً على رماح المنتصر، أو ملصقا على قفا المهزوم) [7].
يقتضي هذا الأمر دائما، و أبدا،أجسادا عالمة، وحالمة، مقاومة، متحدية، تطمح في كل حين أن يكون لها التموضع الإجتماعي، والسياسي، الداخلي والخارجي، وفقاً لنظرية الوعي المزدوج المناهض لاستراتيجية العنف الذي مارسه الأتراك على هذه الجماعات، كون هذه الإستراتيجية المشكلة لنمطها الخاص، ليس في حد ذاتها ما يعبر عن كيان أو دولة، وإنما هي أزمة سياسية تتمحور أولا حول حل أزمة الإمبراطورية، وأزمة شعبها، قبل أن تكون حلا لأزمات المناطق والدول التي احتلها[8].
على هذا النحو يغدو القتل، والحصار والخنق والتضييق والطرد إلا سمة من هذه السمات التي ستحدد مجرى الهويات، وما الجزار إلا العنوان الأبرز في كل هذه المحطات، يستشف من خلالها استكشاف التاريخ من وجهة الإهتمام بدراسة المقدمة الكبرى والصغرى والنتيجة، شرط أن تكون مفردات الصغرى صحيحة واقعية لا خيالية، ناشئة عن الأهواء والشبهات، و أن تكون الكبرى صحيحة واقعية نابعة من النظر الموضوعي، لا ناشئة من الذاتية الدوغمائية، المؤدلجة في إطار ضيق يمنع الرؤية التعددية للذات والموضوع، من حيث توصيفيها للحدث، وأن تكون النتائج صحيحة بمقدور صحة المقدمات الكبرى والصغرى[9].
وبناءً على هذا الأمر، تتحدد تاريخا ميزات المجابهة داخل لبنان، خاصة حال التوصيف للوضع، الذي ساهم الجزار في خلقه، إنتقاما، من الإيديولوجية الدينية التي مثلها بالخصوص المذهب الشيعي، كون بنية هذا المذهب قائمة في تشكيلها على المواجهة المضادة بكل طرقها، لأناس مثل الجزار، ولإمبراطورية، مثل الأتراك، وغيرها ممّن أراد أن يماثل في الفعل، ما يجعل بنيات الدولة والتجميع إمّا أن يتفككان في أي لحظة، أو يستجمعان في لحظة يكون للتداخل الذاتي والموضوعي دورا هاما في ذلك.
تداخل الذاتي والموضوعي في السياسة الجزارية:
باشرت السياسة العثمانية اضطهادها لمختلف شرائح الشعب اللبناني فور تواجدها، وتسلم جميع السلطات التشريعية والتنفيذية، سلسلة من الضغوطات السياسية والإقتصادية والنفسية والإجتماعية، ليصبح التشتيت والطرد، سمة من سمات هذه السياسة التجزيرية، حيث تصبح تيمة الصوت والصمت مسألة محورية من زاوية تقعيد أسس المواجهة، والنظر في إيجاد الحلول المبسطة على الأقل التي تتخطى الحاجات الملحة في تقبل هذا الاضطهاد وهذا العنف.
وبناءا على هذا التوصيف أصبح العنف الممارس اتجاه اللبنانيين «ضربة أليمة - وبالأخص - الطائفة الشيعية التي فقدت العزة والمنعة (...)حيث كان الأتراك أشداء في حكمهم وعملوا على تفتيت صفوف جبل عامل، ووقفوا حجر عثرة في طريق انتقالهم من حيث البداوة إلى حياة التحضر، وقد أذكوا نار الفتنة بين أبنائه ليتسنى لهم السيطرة والحكم كما يشاءون، كما اتبعوا سياسة الإفقار، فقد أرهقوا الإقتصاد وزادوا الضرائب على الأراضي والإنتاج»[10].
وقد واجهوا ضروبا متفاوتة في الإستغلال، ليقف كعامل كبح وإعاقة في وجه أي محاولة للنهوض، والاستسلام لحكم الأقدار، من حيث يشكل أكبر عملية تفريس في التاريخ اللبناني، والتاريخ العاملي.
أشار دولا كروا أنّ سياسة الأتراك في عهد الجزار كانوا يعرفون كيف يدبرون المشاكل، وكيف يحرّكون سلطتهم التي لا تثبت من جهة حتى تتزعزع من جهة أخرى ولكنها استمرت باقية رغم العواصف التي كانت تهزها في كل مرة، وتعيش دائما أكثر ما يستوجب موتها، بالإضافة إلى اشتهارها بالدسائس التي كان يديرها، و يدبرها، أصحاب الديوان بطريق أكثر نظامية[11] .
لذا ساهم هذا المنهج في تكوين البنية الإستئصالية للجزار والتخلص من منافسيه في المنطقة في أقرب وقت، و بأقصر طريقة ممكنة، كونه يعلم بمدى الدسائس التي ستدبر ضده، إذا ما كان فيه توحّد بين زعماء المناطق والعشائر، بهذا المعنى يصيح استعداد الجزار للمواجهة أقوى من سابقيه، كون هذا الأمر سيجعل منه إنساناً كاريزمياً سيتحرّك وفقاً لتحرّك هذه الأحداث وتواليها، ويكون حينها المنفذ القريب والبعيد في إثارة الفتن في آن.
ومن ثم وجد الأتراك في شخصيته الرجل الذي يمكن الاعتماد عليه، في القضاء على الظاهر العمر، حاكم عكا، والمتمرّد على سلطة الباب العالي، لكن في الوقت نفسه لم يقدموا له مساعدات حسية لتنفيذ الأمر، حيث أنّ خصومه من الدروز بقيادة الأمير يوسف، وبمساعدة الأسطول الروسي، قد قصفوا بيروت ودمّروا أسوارها وكانت القوة الروسية لها مصلحة في ذلك وليس حبا في الدروز، فلجأ إلى حيلة، يخبر الظاهر العمر أنه في أتم الإنضمام معه في مواجهة الدولة التركية، فلمّا امن مضجعه نكث بوعده، واتجه فاراً إلى دمشق، فانضم لحظتها إلى الجيش العثماني مجددا ولاءه وتبعيته للباب العالي، والذي كان من ورائه القضاء على الظاهر العمر واستلام مدينة عكا، حيث استلم الجزار كرسي قيادتها وولايتها من عام 1775م، لتسير بعدها المنطقة في قبضة حديدية، لم تشهد له مثيل في تاريخها العام[12].
على الرغم من تخلص الجزار من ظاهر العمر، ونجاح الفتنة التي نشرها بين إخوته، إلا أنّه عمل على تهديد سلطة المنشقين مما كانوا يؤيدونه خاصة من طرف المناطق العاملية، قد كان لقتل عائلة الظاهر العمر أثراً سيئاً بين الجزار والعامليين، وأوفد في ذلك من طرف حسين باشا حماية إنسانية وعسكرية للقيام بحملة تطهيرية على جبال عاملة، وكانت أعدادهم تتدفق عليهم من البوسنيين والألبان والمغاربة ناهيك عن الفتن التي أحدثها بين الشهابيين وناصيف النصار، وبين إخوان الظاهر، والهجوم على الدروز وإثارة الفتن بين الشهابيين من جهة أخرى، والذي ساهم إلى حد بعيد في تفتيت قدرة العامليين[13].
ليتفرد بعدها بحملة عسكرية واسعة النطاق على جبل عامل قصد تأديبه، ومن ثمّ تطويع المنطقة وتطويقها بحصار شامل، علماً، أنه كان على(علم بمقدرة العامليين القتالية وبكثرة حصونهم وقلاعهم، ولما رأى الفرصة سانحة، جهّز جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل ووضع عليه معاونه سليم قائداً وأمره بالزحف على جبل عامل) [14].
وقد كانت منطقة يارون نقطة التقاء جيوش الجزار بجيوش العامليين، حيث كان ناصيف النصار العنوان الأبرز في هذه المعركة كونه الضليع بفن إدارة المعارك وتحويلها، وفي الوقت نفسه، يعتبر الزعيم العسكري والروحي، وأيضا العنوان الإستراتيجي، لتشجيع العامليين نحو مواجهة الجزار لما له من قدرة تعبوية، قد تمكّن العامليين من إثبات الوجود، على غرار ما هو موجود في سائر المناطق والطوائف، ،وبالرغم من هذه المقدرة فإنّ الشهادة قد عجلت له، حيث توسعت مهمات الجزار بعدها، رغم ظهور حركات تمرد من طرف الأهالي تارة، وتارة أخرى ظهورحركات مقاوماتية غير منظمة تعكس منحى وتوجه كل طائفة، ممّا زاد التضييق والخناق على المجتمع، وقد أشار جابر آل صفا إلى الوضع المؤسف الذي آلت له المنطقة وفقا لهذا النص» لما تولى المذكور أي أحمد باشا الجزار - أيالة صيدا - واستفحل أمره (...) ودانت له فلسطين وألقى الخلاف بين الأمراء اللبنانيين فأصبحوا يناوئ بعضهم الآخر، وهو يصفّق طرباً ويضحك في سره، حول نظرته إلى جبل عامل يريد أن يخضعه لسلطته (...) فساق عليه جنده وكر على جبل عامل الكرة بعد الكرة، وكان في كل مرة يرجع خائبا... حتى إذا شاءت الأقدار هاجمه بجيش كثيف في سنة 1780 من الجهة الجنوبية وأحرقت كل القرى ودمرت المنازل[15].
إنّ ما سبقت الإشارة إليه، يوحي إلى مدى التضافر بين الأحداث اللبنانية والتحولات التي تنبثق من جدوى التحولات الذاتية والموضوعية لقيم هذه الأحداث التي حوّلها الجزار بفعل سياسته، إلى خراب في جميع المستويات، ولكي يبقى الوضع على حاله، عمد إلى سياسة خبيثة كان من ورائها أن «يستبدل مشايخ مقاطعات جبل عامل الذين فرّوا من البلاد بمتسلّمين مؤقتين من قبله، لأنّ سياسته عدم إبقاء أحد مدة طويلة في المراكز ذات الأهمية، وزوّدهم بوحدات عسكرية قادرة على السيطرة بفعالية على القرى (...) وأظهر السلطان العثماني رضاه الكامل عن تدمير مشايخ عاملة»[16].
الأمر الذي أدى إلى ظهور تحولات عدة كان أبرزها، ظهور حركات للمقاومة، أدّت فيما بعد إلى المواجهة الرسمية ضد الجزار ومشروع التتريك، حيث تماثلت، وتقاربت مع تصور الجماهير للدفاع عن الحقوق وترسيخ المواطنة الفعلية إيذاناً بأنّ ما أُخذ بالقوة، لا يستردّ إلا بالقوة، تلك هي اللغة المناسبة التي ستفهم الجزار جدوى العامليين في الدفاع عن شرفهم ووطنهم.
وفي تكوين خلايا الخطاب المضاد، أو مبرّرات تجاوز الأزمة:
قد تكون منطلقات هذه المواجهة والإنتفاضة في وجه الجزار، حركة أساسية في تغيير لعبة السياسة نحو المزيد من الصراع الداخلي وانفجار الأوضاع ملمحاً آخر في تجديد خطاب الذات، وإعادة وصله بتجارب وتحدّيات الموضوع.
ومن ثم وجب النظر إلى هذا الأمر الذي ساهم في تفكيك روابط الجماعة العامة، ومحاولة هذا الآن اللحظي الراهن إضفاء هذه الصفة الآنوية على الحركة الزمنية، والحفر في الحدث التاريخي عن طريق تمثل الظروف السياسية والاجتماعية، تلك، والسعي في التركيز على توسيع عمران الجماعة ومنشأ العصبية فيها[17].
هذا الإقرار في توصيف حالة الحدث، نستقرأ في بنيته خطة إستراتيجية، لتفعيل جبهة المقاومة ومدى ارتباطها بالمشروع الوطني مستقبلا، مع باقي التشكيلات المجتمعية المتعددة، خاصة فيما يخص تنافس القوى الأجنبية في احتواء هذه المنطقة، ومن خلال هذا التقدير في الحكم، يتاح على كثب معرفة مدار الإنتفاضات العاملية بمعزل عن تلك الكتابات الطائفية، حيث أنّ مثل هذا الصراع قد رافق جموع البشرية عبر التاريخ، سواء في علاقاتهم مع الحاكم، أو مع عساكر السلطان العثماني[18].
وقد شكّل هذا التصور نقطة حد فاصلة في تكوين تحالف بين جموع الشعب لمواجهة سياسة الجزار التجزيرية التي قضت على الأخضر واليابس ولم تسلم منه حتى المكتبات التي قام بحرقها، وبمطاردة رجال العلم والأدب وطردهم إلى الدول المجاورة كإيران والعراق «فقد كانت أعظم حادثة، أنه أتلف معظم كتب جبل عامل فقد نقلت أحمال كثيرة إلى عكا على ظهور الجمال وغيرها، ومعظمها كان من كتب آل الآمين شقرا، و كتب آل سليمان من مزرعة مشرف وآل خاتون في جويا[19].
ومن ثمّ فإنّ خطاب العنف جاء في درجة لافتة، من حيث المستويات التي كان يسعى إلى إلغائها، من حيث إدراك الجزار على أنّ العلم بناء اجتماعي ثقافي متولّد من العناصر الفردية داخل هذا الجبل وغيره، ومنشأ الجماعة العامة ومحصل الآداب والسلوك المتعارف عنه، وبالتالي فإنّ هذا العلم له الدور الكبير في تعبئة معنويات الجماعة التي لا تنفصل عراها أبدا، عن مرجعية علمائها وتراثها، ومن ثم تعمدت أيدي الجزار إلى نهب المكتبات والمخطوطات النفيسة التي قدرت بخمسة آلف مخطوطة، وأودعت في أفران عكا، وقد فرّ من العلماء، الشاعر إبراهيم يحيى، وأبو الحسن حيدر الأمين والشيخ حسن سلمان والشيخ محمد الحر[20].
وقد كان لاجتماع شحور سنة 1784م، الدور الكبير في تنظيم صفوف المقاومة وإنقاذ ما تبقى من الجماعات من الدمار الذي ألحق بهم وتقرر مكافحة الجزار إلى ما لانهاية، كان على إثر هذا القرار، ظهور حركة مقاومة، سميت بالطياح، والتي جعلت الجزار يستخدم كل الوسائل للقضاء عليها»، وبدأ الطياح بحركة مطابقة لحرب العصابات، حيث بدأت أعمالها تتسع مع انتماء الشعب إليها أمام فجور رجال الإقطاع من جهة، وظلم الجزار من جهة ثانية (...) وقد ساعدت طبيعة البلاد الجبلية على القيام بمثل هذه العمليات التي كانت تتطلب أحيانا أعمالا استشهادية»[21].
ورغم ما قدّمته الطياح من نضال ومقاومة فإنها تعرّضت لتشويه إما متعمّد أو غير متعمد، أو للإلتباس في تزامنها مع حركات أخرى قد مارست العنف مع الأهالي لأجل المصلحة الذاتية، لا المصلحة الوطنية العامة، وقد أورد جابر آل صفا هذا النص يوضح التوصيف المتناقض للحركة بما يلي:
«كان دور العصابات والفدائيين ما يسمى بعهد الطياح، أتعس دور مرّ على جبل عامل وقع فيها بين ناريين: نار زبانية الجزار، ونار رجال الثورة، فالزبانية التي كان يقذفها الطاغية تعبث في البلاد فساد، وتضيق الخناق على الأهليين والمساكين، والثوار يشنون الغارة للسلب والنهب، وحرق القرى وتدمير البيوت متغلغلين في بطون الأودية وبين الأحراش والغابات ومعتصمين برؤوس الجبال»[22].
وإذا سلّمنا بالمنظور التاريخي في التناقض الذي كتب ووصفت به حركة الطياح، فإنّ هذه الكتابة تبقى مجرد ظاهرة من ظواهر سيكولوجيا الرؤية الإختزالية والتنميطية، لفلسفة المقاومة داخل لبنان، وجبل عامل منبت هذه الحركة بالخصوص، نستقرأ من خلال هذا التوصيف إعادة مراجعة في مفاهيم المكان والجماعة والزمان والحوادث والعوارض، حتى لا تقع في شرك مناقض ومعارض، يجعل المقاومة بلا أساس تقعيدي فيما يخص علاقاتها بالتحديات المعاصرة، الداخلية منها والخارجية التي يفرضها منطق القوة الحالي، ومشروع الكولونياليات البيضاء في المنطقة كتحدي أكبر لها.
من هذه الصورة في توصيف واقع تاريخ المنطقة، يمكن الإهتمام بالعناصر التالية:
- أنّ التاريخ اللبناني في ماضيه لا ينفصل عن حاضره، من حيث النظرة لتلك الإستثناءات التي ميّزت تواجد القوى في المنطقة من حيث استغلاله وتشتيته، يطرح التساؤل التالي:
إلى متى لايستدرك اللبنانيين هذه المحطات التاريخية؟
قائمة المراجع:
- إدوارد دولا كروا: الجزار قاهر نابليون، دار الحداثة، بيروت، لبنان.
- بازيلي: سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي من الناحيتين السياسية والتاريخية، ترجمة، يسر جابر، مراجعة، منذر جابر، دار الحداثة بيروت، لبنان، ط1، 1988م.
- تشرشل:جبل لبنان(عشر سنوات إقامة بين الموارنة والدروز)، ترجمة فندي الشعار، دار الفارابي، بيروت لبنان، ط1، 1998، ج3.
- جابر آل صفا: تاريخ جبل عامل، دار النهار، بيروت، لبنان.
- جهاد بنوت: حركات النضال في جبل عامل، تقديم وجيه كوثراني، دار الميزان، بيروت، لبنان، ط11993م.
- حسن الأمين: جبل عامل القلم والسيف، دار الأمير، بيروت، لبنان ط1، 2003م.
- محمد حسين الشيرازي: في فلسفة التاريخ، بيروت، لبنان، ط1، 1424هـ/2003م.
- محمد تقي الفقيه: جبل عامل في التاريخ، دار الاضواء، ط2، 1406هـ، 1986م.
- محمد كوراني: الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل، دار الهادي، بيروت، لبنان.
- مسعود ظاهر: الإنتفاضات اللبنانية ضد النظام المقاطعجي دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 1988م.
- مصطفى الكيلاني: التاريخ والوجود في المتبقي والمندثر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 1431هـ/2010م.
- نوال فياض: صفحات من تاريخ جبل عامل في العهدين العثماني والفرنسي، دار الجديد، بيروت، لبنان، ط1، 1988م.
[1] باحثة جزائرية.
[2] بازيلي: سوريا، لبنان، فلسطين، تحت الحكم التركي، ترجمة، يسر جابر،دار الحداثة، بيروت، لبنان، ط1،1993م،ص،78، 79.
[3] بازيلي:سوريا،لبنان،فلسطين ،تحت الحكم التركي،ص79.
[4] المرجع نفسه،ص،78.
[5] تشرشل:جبل لبنان،ترجمة، فندي الشعار،دار الفارابي،بيروت،لبنلن،1988 ،ج3،ص،143.
[6] إدوارد دولاكروا: الجزار قاهر نابليون،ص،3.
[7] بازيلي: سوريا،لبنان،فلسطين تحت الحكم التركي،ص،15.
1_بازيلي:سوريا ،لبنان،فلسطين،تحت الحكم التركي،ص،08.
[9] محمد حسين الشيرازي:فلسفة التاريخ،بيروت،لبنان،ط1 ،1424ه/2003م،ص127.
[10] نوال فياض :صفحات من تاريخ جبل عامل في العهدين العثماني و الفرنسي،دار الجديد ،بيروت،لبنان،ط1 ،1988م،ص،23.
[11] إدوارد دولاكروا:الجزار قاهر نابليون:ترجمة،جورج مسرة،دار الثقافة،بيروت، لبنان،ص،124.
[12] حسن الأمين :جبل عامل (القلم والسيف)،دار الأمير،بيروت،لبنان،ط1، 2003م،ص،283.
[13] رامز رزق: جبل عامل تاريخ و أحداث، دار الهادي للطباعة والنشر،بيروت، لبنان، ط1 ، 1426ه/2005م، ص286.
[14] جهاد بنوت:حركات النضال في جبل عامل، ص 118/119.
[15] جابر آل صفا: تاريخ جبل عامل، ص، 136/137.
[16] محمد تقي الفقيه: جبل عامل في التاريخ: دار الأضواء،بيروت، لبنان ط2،1406 ه/1986م
[17] مصطفى الكيلاني:التاريخ والوجود في المتبقي و المندثر، الدارالعربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 1431ه/2010م، ص63.
[18] مسعود ظاهر:الانتفاضات اللبنانية ضد النظام المقطاعجي، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ص43.
[19] محمد كوراني: الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل، دار الهادي، بيروت، لبنان، ص93.
[20] جهاد بنوت:حركات النضال في جبل عامل، تقديم وجيه كوثراني، دار الميزان، بيروت، لبنان، ط1،1993م، ص121.
[21] المرجع نفسه: ص 120.
[22] جابرآل صفا: تاريخ جبل عامل، ص139
جبل عامل في مواجهة الجزار
د. منذر محمود جابر[1]
أطل منتصف القرن الثامن عشر، على هيئة سياسية جديدة للشيعة في جبل عامل. ففي العام 1744 تمكّن هؤلاء من تسجيل انتصارهم الأول على أمراء جبل لبنان بشخص الأمير ملحم الشهابي[2]. وأتبعوه بانتصار آخر العام 1749، في معركة جباع ومرجعيون[3]. ولا يخفف من أهمية هذين الحدثين ـــ الظاهرة، في مجرى العلاقة بين جبل لبنان وجبل عامل، انتقام الأمير ملحم، وإحراقه بعض القرى العاملية ووصوله حتى بلاد بشارة[4].
لقد أحدث هذان الإنتصاران، تغييرا في «الهيئة التاريخية» لمنطقة جبل عامل، التي كانت عبارة عن نهر هزائم وآلام، ينبع من كربلاء، ويصب في موقعة أنصار الثانية العام 1743. وكانت اكتمالا لنشوء وجه المنطقة العاملية السياسي الجديد، تحت قيادة شيخ المشايخ العامليين ناصيف النصار الوائلي العام 1749. وهذا الواقع الجديد يجد مقوماته في اهتزاز التوازن القائم آنذاك: فقد عرف النزاع اليزبكي ــ الجنبلاطي بداية اهتياجه في جبل لبنان، مع قرب نهاية الأمير ملحم دون عقب من ذريته يخلفه. والأمير بدوره، ولتخلفه عن دفع الميري، كان على خلاف مع باشا دمشق. وظاهر العمر الزيداني، حاكم صفد وعكا، على حدوح جبل عامل الجنوبية، كان على خلاف مع أبنائه من جهة، ومع باشا دمشق، من جهة ثانية. وفي مثل هذا الاهتزاز السياسي، تبدو لجبل عامل أهمية خاصة ووزن سياسي أكبر. فهو أكثر المناطق استقرارا، بعد تماسكه الآنف تحت قيادة ناصيف النصار. فها هو ناصيف النصار، شيخ مشايخ جبل عامل، «والذي كان يتعاطى التجارة والحرب والذي كان مخيفا كتاجر وكان مخيفا كجندي»[5]، يعقد مع فريق من فرقاء النزاع الثنائي اليزبكي ــ الجنبلاطي في جبل لبنان، هو الشيخ على جنبلاط «جمعيات» ثلاثا، بين 1765 و1767 [6]. كذلك توج الحضور العاملي الجديد العام 1767، بمعاهدة «دفاعية هجومية»، كما عرفها نقولا الصباغ، مع ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا وصفد. وقد تكون هذه المعاهدة، هي الأولى في صيغتها بين حكام بلاد الشام[7].
التحالف مع ظاهر العمر الزيداني، أنزل الشيعة، ولأول مرة، كطرف فاعل في لعبة المنطقة. ومن موقع التحدى مع السلطة العثمانية، بوقوفهم إلى جانب حليف ظاهر العمر، علي بك الكبير، حاكم مصر، في محاولته الابتعاد عن السلطة المركزية في اسطنبول. وقد خاض العامليون، منفردين، أو بمساهمة متكافئة مع ظاهر، معارك خمسة كبيرة: معارك نابلس ودمشق والحولة وكفررمان وحارة صيدا. وكانت ضد أمير جبل لبنان يوسف الشهابي، منفردا، أو متحالفا مع عثمان باشا والي دمشق، أو ابنه درويش باشا والي صيدا. وقد انتصروا فيها جميعا، واحتلوا صيدا مع ظاهر العمر، ودخلوا دمشق مع أبي الذهب قائد حملة علي بك الكبير إلى سوريا[8].
الانتصارات التي أحرزها التحالف الصفدي العاملي، بقيت في حدود الانتصارات العسكرية، دون أن تتحداها إلى المجال السياسي. محاولة علي بك الكبير حاكم مصر، كانت من الممكن في حال نجاحها، أن تشكل إطارا سياسيا لتلك الانتصارات.
المواجهة المابشرة مع الدولة العثمانية، والمؤجلة سابقا، أصبحت واقعة بعد انتهاء الحرب مع الروسيا العام 1772. التحالف الصفدي العاملي الشهابي، بعد انضمام الأمير يوسف إليه، كان مدركا تمام الإدراك لهذه الحقيقة. وأكثر، كان واعيا لعجزه عن الثبات في المواجهة العتيدة. من هنا فقد سعت أطرافه إلى طلب العفو، عما أبدوه من عصيان تجاه السلطة المركزية في اسطنبول. وقد كان لهم ذلك[9].
ولكن هذا العفو لم يكن «سلطانيا»، وإنما كان مناورة ليس غير. ففي الوقت الذي أصدرت فيه الدولة فرمانها بالعفو عن «ظاهر ورفاقه وتوابعه»، وفي الوقت الذي أرسلت فيه مندوبها إلى صيدا لطلب الأموال الأميرية عن السنوات الخمس الماضية، حسبما نص فرمان العفو[10]، كانت تأذن لمحمد بك أبو الذهب، حاكم مصر الجديد، بعد علي بك الكبير، بالصدام والمواجهة.
سار أبو الذهب من مصر إلى غزة، وحاصر يافا. فطلب ظاهر العمر العون من حلفائه السابقين. فسار ناصيف بقوات المتاولة مع ظاهر العمر، في 30 محرم 1189هـ/ 1775م، إلى مرج بن عامر للقاء أبي الذهب[11]. لكن أنباء سقوط يافا بيد أبي الذهب، وتخاذل أولاد ظاهر العمر عن نصرة أبيهم، أرغم ظاهرا وناصيفا على التراجع إلى عكا. سقوط يافا، كان فاتحة سقوط مراكز ظاهر وناصيف، واحدا بعد الآخر. فقد احتل أبو الذهب عكا، ثم «أرسل قوة إلى صفد فهدمها وخربها وضربت صور ورحلت أهلها وعزلت صيدا وبيروت ووجلت منه أهل طرابلس وهو في عكا»[12].
النهاية السياسية للتحالف، تحددت بعد سقوط كل المراكز الأساسية. النهاية الدراماتيكية لشخصبة ظاهر العمر، تأجلت مع موت محمد أبي الذهب المفاجيء، وتضعضع قواته. ولكن المسألة كانت مسألة وقت ليس غير. وها هو ظاهر المحاصر، هذه المرة من قبطان البحر التركي، ومعه أحمد باشا الجزار، يقتل على يد أحد جنوده، أثناء محاولته الفرار إلى قلعة هونين في جبل عامل[13]. بعد القضاء على الشيخ ظاهر العمر، حق للشيخ ناصيف النصار، أن يقول ماقاله الثور الأسود: ألا أني أكلت يوم أكل الثور الأبيض. ذلك لأن نهاية ظاهر العمر، تقود، بالقطع، إلى نهاية ناصيف النصار. بخاصة وأن الأمور في عكا آلت من بعد ظاهر العمر، إلى شخصية عدائية خصيمة، هي شخصية أحمد باشا الجزار، الذي ارتبط اسمه بأحلك تاريخ سوريا.
من العام 1975، تاريخ القضاء على ظاهر العمر، حتى العام 1780، تاريخ القضاء على ناصيف النصار، خمس سنوات. مرحلة طويلة بالمقياس السياسي . سيما وأن المشرف على ساعة التوقيت السياسي هو أحمد باشا الجزار.
ابتداءا من العام 1780، كان جبل عامل قد وقع كليا في سياج الجزار. فهو محاط خارجيا، شمالا وشمالا شرقيا، بالأمير يوسف والأمير إسماعيل الشهابي، وهما كما نعلم مرتهنان لدى الجزار. ومحاط جنوبا بالجزار نفسه. أما داخليا، فقد كان جبل عامل قد فقد أغلب رجالاته الذين خبروا المرحلة، ولم يبق منهم الكثير إلى جانب ناصيف النصار[14]. والخلافات بين آل الصغير أنفسهم، أخذت تتجدد بين قبلان النصار وناصيف النصار، ظنا من قبلان أن الزعامة ستؤول إليه بعد ذهاب ناصيف[15]. وهكذا أخذ يتقرب بالأموال من الجزار. فأخذ «يؤدي إليه الميري أربع مرات في السنة رأسا وفي أوقاتها كما يدفع ابن المدن الشريف أجرة بيته باستحقاق»[16].
وفي العام 1780، بدأت مناوشات بسيطة على الحدود بين الطرفين، خسر الجزار في إحداها 6 قتلى[17]. تصعد الموقف. وفي يوم الإثنين الواقع فيه 5 شوال 1195 هـ/ 1780م «كان الصدام الحاسم في يارون[18]. وكانت النتيجة مقتل ناصيفى وقد حزنت عليه المتاولة»[19]. و«دخل الجزار إلى جبل عامل وخربت البلاد»[20].
يغني اسم أحمد باشا الجزار، عن الحديث في سياسته داخل جبل عامل، بعد إسقاطه شيخ مشايخ هذه البلاد، ناصيف النصار، في موقعة يارون العام 1780. نكتفي، بعينة عن أحوال جبل عامل مع الجزار، بما يسوقه عيسى اسكندر المعلوف، عن أن المرأة بيعت بـ «عشرة مصاري»[21]. وبما يسوقه الركيني من أن جماجم القتلى بقيت مدة طويلة ملقاة على شواطئ صيدا وصور[22].
ولكن الجانب الآخر في هذه المرحلة من حكم الجزار، يتمثل، في جبل عامل، بظاهرة الطياحة العاملية. وهي حركة، وإن كانت تندرج في مسرى حركات العصيان السائدة ضد الجزار، او خلغائه، في ذلك الوقت، في جبل لبنان (1780، 1789، 1790، 1797)، وفي دمشق (1789)[23] وفي جبل العرب (1804)[24] ، إلا أن خصوصيتها، تكمن في كون هذه المنطقة (جبل عامل)، كانت تخضع مباشرة لحكم الجزار وجنوده، المتواجدين دائماً على الأرض العاملية. وتكمن ثانياً، في استمراريتها من 1780 حتى سنة 1808. وتكمن ثالثا،ً في خصوصيتها كظاهرة عصابات مسلحة، تقوم طويلاً وللمرة الأولى، في منطقة من سوريا الجنوبية الغربية.
ومما لا شك فيه، أن مرحلة حلف ناصيف النصار (1749 - 1780) وظاهر العمر الزيداني، وبما حفلت فيه من انتصارات، في معارك دارت مع الجوار الشمالي (أمراء جبل لبنان)، وفي الجوار الشرقي (باشوات آل العظم في دمشق)، وفي الجوار الجنوبي (المملوك محمد أبو الذهب)، كانت في أساس بعض من سلوك العامليين وعصيانهم حكم الجزار المباشر، إذ أن تلك الانتصارات، كانت في أساس تركيز الوعي السياسي الطائفي لدى جمهور العامليين. فقد اكتسبوا عبرها «عامليتهم» و«متواليتهم»، بما تعنيه هاتان الصفتان من جماعة وازنة في مجرى الأحداث، وفي «أبواب» السياسة ما بين جماعات هذه المنطقة. وبما تعنيه من ثقل اقتصادي، بدأ يطل على جبل عامل، من مداخيل مرفأ صور، ومن مداخيل التجارة التي راح يتعاطاها حكام جبل عامل ومشايخه، وعلى رأسهم ناصيف النصار نفسه. والذي يقول فيه إدوار لكروا «أنه كان يتعاطى التجارة والحرب، وكان مخيفاً كتاجر ومخيفاً كجندي»[25].
ومن طرف آخر، كان تذمر سكان جبل لبنان، وتململهم من زيادة الضرائب التي فرضها الجزار العام 1783[26]، باب العصيان الذي دخل منه المشايخ العامليون من آل الصغير، والذين كانوا قد لجأوا إلى بعلبك. فقد استجاب هؤلاء لاتصالات الأمير يوسف الشهابي بهم، وعروضه إمدادهم بالسلاح من قبله، رهاناً منه على موقف عاملي مقاوم للجزار، يخفف عن الأمير وطأة طلباته الضرائبية المتدافعة[27]. وقد جاء المشايخ العامليون، واتخذوا قاعدة لهم بلدة مشغرة، على حدود الطرف الجنوبي الشرقي من بلاد الأمير يوسف الشهابي، وحدود الطرف الغربي لولاية دمشق، العصية على أحمد باشا الجزار حتى تاريخه.
المقاومة:
كان الفعل الأول الذي أقدم عليه الجزار، بعد انتصاره على العامليين في موقعة يارون، جلب عناصر من أكراد وأرناؤوط وإسكانهم في جبل عامل. وكانت هذه الخطوة، مقدح الموقف العاملي المسلح، والذي لم تنفع في رده، كما ينقل ميخائيل مشاقة «إدارة إبراهيم مشاقة الحسنة»[28] ، وهو كما نعلم حاكم تبنين المعين من قبل الجزار نفسه. فلجأ العامليون إلى «تأليف العصابات تجوب البراري وتهاجم قوات الجزار في جبل عامل، وتعيث فيهم قتلاً بقصد إيجاد حالة من البلبلة والفوضى لكي لا يدعوا الجزار يستقر في بلدهم»[29].
كان الاجتماع العاملي الأول في بلدة شحور،تعاقد العامليون على أثره، بقيادة حمزة بن ناصيف النصار، بعد أن اجتمعوا «من كل فج وعميق وذكروا ما أصابهم من عظيم الضيق وقالوا اليوم أخذ الثار وكشف العار»
العمل العسكري الكبير الأول، كان الهجوم على بلدة تبنين، مركز متسلم الجزار، إبراهيم مشاقة «فاحتلوا (الطياح) القلعة وقتلوا المتسلم، وقتلوا معه مقدار مئتي نفر وقتل منهم أحد مشايخهم وأناس قلايل»[30].
ردة فعل الجزار كانت على عنف وسرعة، أو حسب تعبير ميخائيل مشاقة «قام وقعد»، وسيّر إلى جبل عامل، وتحديداً إلى بلدة شحور، مركز المقاومة آنذاك. وبعد تصد عنيف من قبل المتاولة، استظهرت حملة الجزار على مقاوميها، وانجلت المعركة عن 300 قتيل من الشيعة، من بينهم الشيخ حمزة بن ناصيف النصار، وعدد وافر من الأسرى «وقد سيق الأسرى إلى عكا وتم إعدامهم على الخازوق»[31].
حملة الجزار هذه، صيرت جميع الناس في جبل عامل طياحاً. فقد شردتهم في «البراري والأدغال والجبال والأقفار، وكل أمرئ في عقله محتار، وصار الناس يهربون، وفي كل واد يهيمون»[32]. ولكن الحاسم في هذه المرحلة، كان احتلال الجزار لدمشق. فقد عنى هذا الفعل، من طرف أول، إقفال المعابر إلى «بر الشام»، في وجه مشايخ آل الصغير. وقد تحصنوا، كما سبق وأشرنا، في بلدة مشغرة. كما عنى من طرف آخر، رضوخ الأمير يوسف الشهابي لطلب الجزار بتسليمه «أبناء علي الصغير المقيمين فيها (مشغرة)، وهو ما أقدم عليه الأمير يوسف[33]، في موازاة تنكيله بالعصيان ضده في داخل إمارته، والذي انتهى لدى الأمير يوسف، بقطعه لسان أخ له، واقتلاع عين أخ آخر».
مرحلة العصيان العاملي الجديدة، كانت «اللجوء إلى الجبال»، حسب التعبير الجزائري الشهير عن العصيان، مما أجبر الجزار، في البداية، لأن «يرتب رجالاً دائمين للتفتيش عن الطياح العامليين». ولكن هؤلاء، كثيراً ما استفردوا بعض أولئك المفتشين، «وظفروا بهم وأعدموهم الحياة»[34]. وينقل إبراهيم العورة، عن ازدياد حجم ونفوذ الطياح في الجبال «فدخلوا البلاد وصاروا يطلبون من البلاد ميري وذخائر». لم يعد يكفي المفتشون من قبل والي عكا لتدبر أمر العامليين، فاضطر الجزار، لأن يعين عساكر كبيرة، كان يسميها «السرولي»، ويرسلهم إلى «بلاد المتاولة بشكل دائم»[35].
لقد استفادت حركة العصيان العاملية من الصعوبات التي كان يعانيها أحمد باشا الجزار في النواحي الأخرى من باشويته: ثورات البدو في فلسطين، وصراعه مع والي دمشق. ولكن الفائدة الكبرى جاءت من ناحية جبل لبنان، يوم تمرد الجبل سنة 1798 «وقد تمكن الثوار من الاستيلاء على بيروت وصيدا وصور ومن الاقتراب من عكا»[36].
كذلك استفادت حركة العصيان العاملية، من وصول «أبو نابرتو» (بونابرت) حسب تعبير الشيخ محمد مهدي مغنية، حيث شكل وصوله مرحلة انفراج في جبل عامل، عاد على أثرها مشايخه من آل علي الصغير، اللاجئون دائماً، من مشغرة وأطرافها، إلى داخل جبلهم. وكانوا بذلك من أوائل مشايخ المنطقة، الذين وضعوا أنفسهم بتصرف الفرنسيين. ثم أنهم قابلوا لاحقاً «أبو نابرتو»، وأعطاهم حكم بلادهم، وساروا من عند أمير الجيوش الفرنسية، وقدموا له الذخائر من البلاد وتسلموا القلاع التي كانت لأبائهم[37].
ولكن مستجدات جديدة، تعود وتأخذ من حركة العصيان العاملية قوة دفعها المستجدة. فمع رحيل بونابرت عن أسوار عكا، ومع إمساك الأمير بشير الشهابي الكبير، الحكم بقوة في جبل لبنان، وتهدئة الأوضاع داخل الإمارة اللبنانية، تتراجع حركة الطياحة العاملية، إلى مخابئها المحلية في الجبال العاملية، من دون أن يتمكن الجزار منها والقضاء عليها. فقد استمر العصيان، كما يرى إبراهيم العورة، «كل مدة حكومة الجزار». وكذلك ينقل الركيني في مخطوطته، عن حوادث قتل، وعن حملات قام بها الجزار في الأعوام 1201هـ/ 1786م و 1250 هـ/ 1790م، و1208 هـ/ 1793م، و1214 هـ / 1799م.
الدفع الأساسي الجديد لحركة العصيان العاملية، جاء مع موت الجزار في نيسان/ أبريل العام 1804، حيث سادت الفوضى العامة، خصوصاً أن نزعات دموية راحت تحكم ما بين خلفائه، مما مكن المتاولة من البقاء على «هياجهم في بلاد بشارة وتملك صور بنوع من السلطة» حسب تعبير ميخائيل الدمشقي في تأريخه «لحوادث الشام».
في نهاية حكم الجزار، أي مع موته بالطبع، كانت حركة العصيان العاملية، قد تجاوزت منطق نشوئها، حركة عصيان في وجه الجزار، لتدور في مرحلة ما بعده، على مضامين وموازين جديدة أفرزتها أحداث الـ 24 سنة الماضية تحت حكم والي عكا.
قيادات جديدة:
بعد مقتل الشيخ حمزة بن ناصيف النصار، تراجع جميع المشايخ العامليين، ولم يعد يذكر، حتى بالاسم، عن أي دور لهم في حركة مقاومة الجزار. وهذا موقف طبيعي لفئة اعتمدت أساساً في سيطرتها الداخلية، على تفاعلات الأحداث الخارجية والمحيطة. وهكذا صار خروج هؤلاء المشايخ من الصراع، سحقاً على يد الجزار أم هروباً، مدخلاً لتأخذ العائلات الوسطى في السلم الاجتماعي، دور المحدد في موقع القيادة الأول. فهذا هو «الشيخ علي الزين مدير للمقاومة في شحور، وهذا هو سليمان البزي، يقتل على يد الجزار في عكا، مع أكابر من بلاد بشارة العام 1793[38]. كذلك هذا هو علي الدرويش، زعيم الأسرة الصعبية، يشنق في عكا بعد شنق الأمير يوسف فيها[39]. كذلك يبرز اسم حسن شيت، مفاوضاً باسم الثوار في مراحل لاحقة. وهذه كلها،عائلات جديدة تبرز في أدوار لها على المسرح السياسي العاملي، وتأخذ من حصة قيادة آل الصغير، حتى أفرغتها بالكامل من ميدان سلطتها، «فآل أمر حريمهم (آل الصغير) وبقية عيالهم وأولادهم إلى أن داروا في البلاد يشحذون ويطلبون من الناس»، كما ينقل الركيني عن أحوالهم[40].
مجيء سليمان باشا والياً على عكا، وعمله على إيقاف حركة العصيان، فتح أبواب العودة أمام آل الصغير من أماكن لجوئهم البعيدة. والمراجع العاملية وغير العاملية، لا تنقل عن صدام بين الطياح ومشايخ آل الصغير[41]. ولكن صك الاتفاق النهائي بين سليمان باشا وآل الصغير، يدل على رفض طياح بلاد بشارة وبلاد الشقيف، إرجاع آل الصغير وآل صعب وآل منكر إلى إقطاعاتهم السابقة. ففي الزيارة التي قام بها هؤلاء المشايخ إلى عكا، بقيادة فارس الناصيف، لتهنئة سليمان باشا «طلبوا منه إرجاع أملاكهم التي نهبها الجزار منهم. فأجابهم أن هذا غير ممكن. غير أني سأكتب للدولة بشأنكم وأستشيرها بأمركم لعلها تعوّض عليكم بدل أملاككم».
والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا، هو الآتي: هل يقي إرجاع المشايخ إلى «أملاكهم» وإقطاعاتهم السابقة، سليمان باشا من فوضى الطياح. سيما، وأن سليمان باشا نفسه، كان قد لاحظ ، أن «شررهم وضررهم وخطرهم لا يقع على بلاد بشارة بل يشمل أيضاً بلاد صفد»[42] ؟. وفي المقابل، كان الوالي قد لاحظ أيضا، «أن المشايخ ليس لهم حيلة أو مهنة يعتاشون منها ولا لهم ملك يقوم بمعاشهم يكتفون به ولا هم مثل بقية الناس، كما وليس لهم صنائع يشتغلون بها ولا تعودوا على المتاجرة ولا عندهم مال يوظفونه في تجارة ما ولا أحد يركن لهم ويسلمهم ماله ولا يمكن أن يتسولوا»[43]. كما يكتب إبراهيم العورة في صورة أحوالهم. ولم يكن هذا الاختلال في موازين القوى بين الطرفين، ليشكل دافعا، يحث سليمان باشا على التدخل القوي والحاسم، لصالح مشايخ أل علي الصغير.
لجأ مشايخ آل الصغير، والحال هذه، إلى صداقاتهم العتيقة، ومنها ما يجمعهم مع آل جنبلاط، حلفاء الأمير بشير الشهابي، والأكثر قربا منه، في منتصف عهد إمارته الأول. فوسطوا لدى الأمير، الشيخ بشير، كبير مشايخ آل جنبلاط[44]. فكان الالتقاء بين مصالح الأطراف الثلاثة: البشيريين ومشايخ آل الصغير. البشير الجنبلاطي، لتأكيد مصالحه في إقليم التفاح، الإقليم الشمالي من جبل عامل. والبشير الشهابي، لتأكيد توسيع سلطتة وحدود إمارته. ولا سيما، وأنه كان قد حاز العام 1798، وبعد وقوف الدولة العثمانية، بشخص الصدر الأعظم يوسف باشا ضيا، إلى جانب الأمير بشير في صراعه مع الجزار، وإلاقرار به على «ولاية جبل لبنان ووادي التيم وبلاد بعلبك وبلاد البقاع وبلاد المتاولة واعداً إياه بأن يبقى عليها والياً دائماً بأمر الدولة وأن لا يكون للوزراء عليه تسلط، وأن إيراد أموالها يكون من يده إلى خزينة الدولة كما كان في عهد الأمراء المعنيين»[45]. كما جاء في مرويات طنوس الشدياق وحيدر شهاب وإبراهيم العورة.
ولكن هذه الحيازة والسلطة للأمير بشير، بقيتا اسميتين طوال عهد الجزار باشا. وهكذا، فلم يكد آل الصغير يطالبونه بالتوسط «لأنهم لا يركنون لأحد سواه»[46]، حتى وجدها الأمير بشير «فرصة من توفيقات الباري تعالى»، فأرسل جرجس باز إلى عكا لمقابلة سليمان باشا وأصحبه بعرض حال «أنه متوجه من طرفنا عبدكم الشيخ جرجس باز يعرض لمراحمكم ما يقتضي، فنتوسل لعواطف دولتكم انعطاف الخاطر لسماح وقبول ما يعرض»[47].
ما هو عرض الأمير بشير؟ لنتابع مع العورة: «أن يعطى لهم (آل الصغير وآل صعب وآل منكر) الأمان التام وأن ترجع إليهم أملاكهم وحكومة البلاد، كما كانت أولاً، أي أن يتصرفوا بها كما يشاؤون ويدفعوا عنها مالاً مقطوعاً فقط. وأن لا تقبل عليهم شكاية عما مضى ولا في المستقبل وأن يكونوا أحراراً في بلادهم وأعمالهم من دون تسلط عليهم من طرف واحد ...»[48].
ولكن حضور الطياح في جبل عامل، وقوتهم في الميدان العسكري، كان عائقا أمام مبادرة الأمير الشهابي، لأن تجاوزهم لم يكن من السهولة بمكان. بخاصة، وأن سليمان باشا، كان على طموح في تحقيق الاستقرار في تركة الجزار المضطربة. فوالي عكا الجديد، لم يكن إذاً، في وارد متابعة المواجهة المسلحة مع طياح جبل عامل، ومحاولة اللجوء إلى الحسم العسكري السريع. وقد تكررت، مع تردد والي عكا، مراجعات الأمير بشير الشهابي والتماساته، بشأن مشايخ آل الصغير. ولا سيما، وأن الأمير الشهابي كان يعاني من أحداث خطيرة داخل إمارته (عامية انطلياس). أخيرا، وبعد «مفاوضات طويلة» بين الخوري سابا مندوب الأمير بشير، وسليمان باشا «قدم سليمان باشا عرضاً لا يمكن أن يتم سواه بوجه من الوجوه، وهو أن يعطى للمشايخ محلات من إقليم الشومر لأجل معيش كل منهم قدر لزوم معيشه بشرط أن يقيموا فيها ويديروها بالفلاحة والزراعة ويأكلوها معافاة بدون أن يدفعوا عنها لطرف الميري شيئاً. وتكون لهم ولذريتهم من بعدهم مفروزة القلم، ممنوعة القدم من دون معارض ولا منازع، وأن يترأس عليهم بصفة شيخ مشايخ الشيخ فارس الناصيف (ابن ناصيف النصار)، ليتعاطى أمورهم مصالحهم وفصل الدعاوى في ما بينهم. أما إذا بدا من أحدهم أو جرى بينهم مادة جسيمة فتعرض له وهو يتوسط فصلها مع الحكم بها، وإذا أحد بدا منه نقيصة ووجب عليه القصاص الحكمي فيطلب منه أي من الشيخ المذكور وإذا فر هارباً فيطلب جلبه منه ولا يقبل له عذر. ولا يكون للشيخ فارس ولا لغيره منهم أدنى مداخلة في بلاد بشارة أي مقاطعات جبل هونين وجبل تبنين وساحل معركة وساحل قانا ومرجعيون ومقاطعة الشقيف وبعض قرايا إقليم الشومر ومقاطعة إقليم التفاح ولا يتداخلون بهذه المقاطعات ولا بحكومة ولا بفلاحة ولا بزراعة ولا بأخذ ولا عطاء بوجه من الوجوه. والذي يتداخل منهم بأحد القرايا فلا تسمع له دعوى وستسمع عليه الدعوى»[49].
بإزاء شروط سليمان باشا هذه، كان لا بد للمشايخ العامليين «ونظراً للحال التي هم فيها»، من الميل إلى قبولها. وأجابوا الأمير بشير بالمديح والثناء، مؤكدين أنهم يأتمرون «بكل ما يريده ويرسمه». وبرغم من أنها تجردهم من كل سيطرة على بلاد بشارة وبلاد الشقيف وإقليم التفاح، فقد نزلوا إلى عكا، بكفالة الأمير بشير، الذي أرسل معهم جرجس باز، فاستقبلهم سليمان باشا بكل بشاشة وترحاب، وأوضح لهم «رغبته بعمار البلاد وراحة العباد وقطع دابر الفساد والمفسدين، وأوضح لهم شفقته عليهم لما نالهم بالأيام السالفة، ورغباته القلبية لراحتهم بما أنهم من رعاياه. وتوضحت الشروطات المقتضى القيام بها من الطرفين، وزيد عليها شرط آخر وهو حيث أنهم مزمعون أن ينالوا راحتهم التامة ويحصلوا على معيشتهم فهم ملزومون أيضاً بكل وقت متى لزم الأمر إلى طلبهم برجال العشائر لمحاربة أحد المحلات، يجب عليهم أن يحضروا بدون تردد ولا عامة ولا طلب علف نظير باقي العساكر، وذلك نظير الشروط الملتزم بها أمير جبل لبنان. فالكل أبدوا الدعاء لحضرة السلطان قابلين كل الشروط المدرجة فيه وكرماً من سعادته بدون استحقاق لها». وبعد ذلك استحضر سليمان باشا الشيخ حسن شيت (أحد زعماء الطياح) «وأمره أن يتوجه لعند الشيخ فارس الناصيف للاتفاق على توزيع قرى إقليم الشومر». وبعد المذاكرة تم الرأي أن يقدموا الالتماس للعتبة العلية ليؤكد تقرير هذا الترتيب مثبتاً له، وبعد مدة جاء جواب من جانب الدولة بقبول الترتيب المذكور واستحسانه»[50].
وبعد الاستحصال على هذا التثبيت، توجه الجميع إلى الحاج حسن شيت والمشايخ فرحين مسرورين حاصلين على غاياتهم مطمئنين على دمهم ومالهم وعيالهم، وبخروجهم من عكا أرسل قدامهم المبشرون لسائر البلاد، ففرح الجميع بذلك فرحاً عظيماً. وحالاً حضر لاستقبالهم وعملت الأفراح في منازلهم واستولوا على الإقليم (الشومر). وكل منهم أي المشايخ استقام في كل معيشة سالماً آمناً. أما أهالي البلاد فقد فرحوا بدورهم فرحاً عظيماً لخلاصهم من تلك البلايا التي كانت مصادفتهم منهم[51].
لقد ارتدّت حركة الطياحة العاملية، إلى مواقف داخلية تنال من سلطة مشايخ آل الصغير. بخاصة، بعد أن رأت هذه الجماعة العاملية وجودها مهدداً، جراء تواجد «الأغراب» الذين استقدمهم الجزار من أكراد وأرناؤوط، وبعد أن طعن انتصار الجزار 1780، بالعاملية التي برزت زاهية زمن ناصيف النصار. ومستويات المواجهة في المواقف هذه، كانت تتسنن باستمرار، مع الاستنزاف الضرائبي من قبل الجزار باشا، ولا سيما، وأن المرحلة الممتدة ما بين 1790 و 1830، عرفت انخفاضاً مستمراً في قيمة النقد، حيث انخفض سعر قطع القرش في المرحلة المذكورة، بنسبة خمسة أضعاف، وهي النسبة نفسها التي لحقت بارتفاع الضرائب. ولكن الاتجاهين، كما يرى شيفالييه، لم يكن ليعوض أحدهما الآخر.
هذه العناصر جميعها، يجمعها قاسم مشترك أساسي،هو الطابع «الخارجي للمصدر». وهذا الهجوم الخارجي، كان يتكفل بردة، في الظاهر، طوال مراحل العلاقة السابقة المعنية والشهابية مع جبل عامل، مشايخ المنطقة وعلى رأسهم آل الصغير. وبإزاء هذا الحدث الخارجي، وصول الجزار إلى سدة الباشوية في عكا، لم تكن المجموعتان، المشايخ والفلاحون، تمتلكان ردات فعل متوازية واحدة لكل المشاكل الناجمة عنه. فبينما «انتظم» المشايخ في قوافل باتجاه بعلبك والعراق، «انتظم» الفلاحون في طياحة مسلحة، ولمدة طويلة (24 سنة)، لأن ليس هناك خيار آخر. وقد كانت الأحداث السياسية والعسكرية السابقة، في مرحلة ناصيف النصار، «خميرة» للعامليين في طياحتهم هذه، والتي تحررت مع هروب المشايخ، من كل تبعية داخلية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. وهذا الشكل من المبادرة، ليس جديداً على المنطقة عموما، فقد برز في جبل لبنان بقيادة أبو سمرا غانم مع تصفية إبراهيم باشا. كما برز تكراراً في حركات الأعوام 1841 و 1845 و 1850 و 1851، وإن كانت الأمور، لا تتعدى بدايتها في كثير من الأحيان. كما برز ذلك واضحاً، في أواسط تشرين العام 1841، جواباً على تخاذل المقاطعجية الموارنة في كسروان، وعجزهم عن نجدة موارنة الشوف ومسيحيي زحلة. ولكن عفوية البداية لحركة الطياحة العاملية، ومع ديمومتها مدة طويلة، ومع تصدي العائلات الوسطى للقيادة، تحولت في ما بعد، إلى شيء من التنظيم، وهوالذي تجلى أخيراً في كون الحاج حسن شيت المفاوض الأول باسم الطياح.
[1] باحث ومؤرخ.
[2] راجع: حيدر أحمد، شهاب: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، ج 1، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1933، ص34؛ وكذلك: العرفان، م 28 ، ص 346.
[3] للحصول على تفاصيل وافية راجع: حيدر أحمد، شهاب: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، ج 1، مصدر مذكور، ص41؛ وكذلك: العرفان، م 28 ، ص 348؛ وكذلك: علي، الزين: للبحث عن تاريخنا في لبنان، بيروت، 1973، ص 440 ــ 441.
[4] راجع: حيدر أحمد، شهاب: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، ج 1، مصدر مذكور، ص43.
[5] إدوار، لا كروا: تاريخ أحمد باشا الجزار، تعريب جورج مسرة، ساوباولو، 1924، ص 47.
[6] راجع الركيني: العرفان، م 27، ص 628، 736.
[7] راجع: ميخائيل نقولا، الصباغ: تاريخ ظاهر العمر الزيداني، حريصا، دون تاريخ، ص 39.
[8] للحصول على تفاصيل وافية عن هذه المعارك، راجع: ميخائيل، بريك: تاريخ الشام، حريصا، 1930، ص 94 ــ 96؛ وحيدر أحمد، شهاب: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، مصدر مذكور، ص 85؛ وإدوار، لاكروا: تاريخ أحمد باشا الجزار، مرجع مذكور، ص 29؛ و ميخائيل نقولا، الصباغ: تاريخ ظاهر العمر الزيداني، مصدر مذكور، ص 99 ــ 102: والركيني: جبل عامل في قرن، العرفان، م 28، ص 54 ــ 55؛ وعيسى اسكندر، المعلوف: دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف، بعبدا، 1907، ص 307.
[9] صدر العفو العام 1188هـ/ 1774م ، بصيغة العفو عن ظاهر العمر « ورفاقه وتوابعه وتواحقه وعشايره فصاروا مشمولين بالعفو السلطاني». راجع: وحيدر أحمد، شهاب: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، ص 107.
[10] راجع الركيني: العرفان، م 28، ص 255.
[11] راجع: الركيني: العرفان، م28 ، ص 255.
[12] راجع: الركيني: العرفان، م28 ، ص 255.
[13] للحصول على تفاصيل وافية، راجع: ميخائيل نقولا، الصباغ: تاريخ ظاهر العمر الزيداني، مصدر مذكور، ص 148.
[14] عباس المحمد حاكم صور وعلي العباس المنكري، من قواد معركة حارة صيدا قتلا العام 1773. علي الفارس الصعبي حاكم مقاطعة الشقيف، والقائد في معركة كفررمان، قتل العام 1775.محمود النصار وقاسم المراد، ساعدا ناصيف في مجمل معاركه، قتلا العام 1779. راجع الركيني: العرفان، م 28، ص 158، 256، 454.
[15] راجع: سليمان، ظاهر: العرفان، م 6، ص 453.
[16] إدوار، لا كروا: تاريخ أحمد باشا الجزار،ص 48.
[17] راجع: سليمان، ظاهر: العرفان، م 6، ص 453.
[18] يختلف المؤرخون العامليون في روايتهم للأسباب المباشرة وللتفاصيب الجزئية للمعركة. راجع: محمد جابر، آل صفا، تاريخ جبل عامل، ص 137؛ وكذلك شبيب باشا الأسعد،ص 27؛ وكذلك: سليمان، ظاهر: العرفان، م 6، ص 453 454. ولاتزال إلى الآن في بلدة يارون، حيث جرت المعركة، بلاطة تعرف ببلاطة ناصيف.
[19] الركيني: العرفان، م 28، ص 832.
[20] علي، السبيتي: العرفان، م 5، ص22.
[21] عيسى، اسكندر المعلوف: دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف، بعبدا، المطبعة العثمانية، 1907ـ 1908، ص94.
[22] راجع: الركيني، جبل عامل في قرن، العرفان، م.37، ص378؛ راجع كذلك:
PERRIER, Ferdinand: La Syrie sous le gouvernement de MEHEMET ALI, Paris, 1842, p.71.
[23] راجع: فلاديمير،لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار التقدم، موسكو، 1971،ص40ـ 41.
[24] راجع: عبد الله، حنا: القضية الزراعية والحركات الفلاحية في سوريا ولبنان، دار الفارابي، بيروت، 1973، ص162.
[25] إدوار لاكروا، تاريخ أحمد باشا الجزار، ساو باولو، 1924، ص 47 .
[26] راجع حيدر، أحمد شهاب: نزهة الزمان، مطبعة مغبغب، مصر، 1900، ص137.
[27] راجع: طنوس الشدياق، أخبار الأعيان في جبل لبنان، ج2، منشورات الجامعة اللبنانية، 1969، بيروت، ص 64.
[28] ميخائيل، مشاقة: مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، ص 39. وابراهيم مشاقة هذا حاكم تبنين من قبل الجزار. وكان على معرفة جيدة بأحوال جبل عامل. فقد كان كاتبا لناصيف النصار في صور. وكانت بين الطرفين علاقات تجارية زاهرة.
[29] ميخائيل، مشافة: مصدر مذكور، ص40ـ 41.
[30] راجع: حنانيا، المنير: تاريخ الجزار، بيروت، 1954، ص108.
[31] راجع: حنانيا، المنير: مرجع مذكور،ص395؛ السبيتي: العرفان، مجلد5، ص22ـ23؛ وكذلك: طنوس الشدياق: أخبار الأعيان في جبل لبنان، ج2، ص64؛ وينفرد ميخائيل مشاقة عن هذه المراجع، فيؤكد أن ابراهيم مشاقة لم يقتل، وإنما هرب إلى عكا، وطلب إعفاءه من الوظيفة. راجع: ميخائيل، مشاقة: مشهد العيان في حوادث سوريا ولبنان، ص40ـ41.
[32] راجع: العرفان، مجلد 29، ص 75.
[33] راجع: حيدر أحمد، شهاب: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، ج 1، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1969، ص 141؛ وكذلك طنوس، الشدياق: مصدر مذكور، ج2، ص 348.
[34] ميخائيل، مشاقة: منتخبات الجواب على اقتراح الأحباب، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1955، ص 10. وفي الصفحات 11ــ 12، وصف عن تفنن الجزار في مظالمه.
[35] ابراهيم، العورة: تاريخ ولاية سليمان باشا العادل، مصدر مذكور، نشره قسطنطين الباشا، صيدا ـــ لبنان، 1936، ص 301..
[36] راجع: لوتسكي، تاؤيخ الأقطار العربية الحديث، دار التقدم، موسكو، 1971، ص 40.
[37] راجع: حيدر أحمد، شهاب: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، ج 1، ص 261 ــ 262. وفي كتابه الآخر نزهة الزمان، ج 2، ص 887، يقول أن تاريخ حضورهم لى عند بونابرت كان في 14 آذار 1798.
[38] راجع: الركيني: العرفان، م 5، ص23.
[39] راجع: الركيني: العرفان، م 29، ص 687؛ وحيدر أحمد، شهاب: نزهة الزمان، ص 826.
[40] راجع الركيني: العرفان، م 28، ص 952.
[41] ينفرد محمد جابر بالخبر الآتي: أن سليمان باشا بعد أن رأى الخراب في البلاد استدعى على الفارس‘ عميد آل صعب، فأقامه حاكما عاما في قلعة تبنين، ولم يكن يجسر أحد على قبول ذلك المنصب، بعد ذبح الحاكم السابق. ولم يقبل على الفارس ذلك المنصب، إلا بعد اتفاق مع زعماء الثوار، على أن يسعى بإجلاء جيش الأتراك والأرناؤوط عن البلاد، وإرجاع الحكم إلى أهلها. وهذا الخبر مشكوك بصحته لتناقضه، مع معطيات غير تاريخية. ليس أقلها أن على الفارس الصعبي كان قد مات العام 1775. تاريج جبل عامل، ص 104.
[42] إبراهيم، العورة: تاريخ ولاية سليمان باشا العادل، مصدر مذكور، ص 37.
[43] إبراهيم، العورة: مصدر مذكور، ص 37.
[44] راجع: إبراهيم، العورة: مصدر مذكور، ص142.
[45] راجع: طنوس، الشدياق: أ خبار الأعيان في جبل لبنان، ج 1، ص 370؛ وحيدر أحمد، شهاب: تاريخ الأمراء الشهابيين،ج 1، ص195.
[46] إبراهيم، العورة: مصدر مذكور، ص 40.
[47] إبراهيم، العورة: مصدر مذكور، ص 40.
[48] إبراهيم، العورة: مصدر مذكور، ص 41.
[49] إبراهيم، العورة: مصدر مذكور، ص 44.
[50] يفصل الشيخ سليمان ظاهر، ما أجمله إبراهيم العورة، فيورد وثيقة استحصل عليها، وهذا نصها:
بيان بالمحلات التي أنعمنا بها على ولدنا الشيخ فارس الناصيف وباقي حمولة آل الصغير وعلى مشايخ حمولة الصعبية بأجمعهم وعلى مشايخ حمولة المناكرة بأجمعهم، مع حسين ابن جواد المنصور لأجل معاشهم: المصرية، مطحنة المغيرية، الواسطة، الوسامية التحتا، الخرائب، جمجيم، ارزية، مغراقة القاسمية، سينية، دير تقلا، القاقعية، المروانية، الزرارية، عدلون، الوسامية الفوقا، البيسارية، خربة الدوير، عين أبو عبد الله، شتوية العربان، البابلية، الداوودية، براك الدوير، أعداد ماعز العربية، القرية، الحارثية، مزرعة النبي ساري، زيتون المروانية، تفاحتا، الغسانية، مغارة محيدلة، سمينة العربان، السكسكية، الياهودية الجديدة، زيتون الزرارية، اللوبية، الكوثرية، كفربدة، زيتون القاقعية، زيتون المشعراني، زيتون البابلية. العرفان، م 37، ص 379 ـــ 380.
ويورد الشيخ سليمان ظاهر كذلك صفحة 377، من المرجع نفسه، صكا آخر باسم محمد الناصيف المعارض للشيخ فارس. وهذا نصه من بعد المقدمة: سمحنا للمذكور في قرية الطيبة يتصرف بموسمها هذا العام، وفي العام القابل يمشيها من كيسه ويستغلها من غير ميري فلا تقارشوه بالقيمة المذكورة، وقد أمرنا للمذكور بإنعام في كل شهر 500 غرش. وكذلك أمرنا له بعشرة غرار حنطة وعشر غراير شعير، وكذلك سمحنا إلى أخيه الشيخ نصار الناصيف وإلى أسعد الخليل وإلى هادي المقبل في قرية طيرفليسيه مطلقا يتصرفوا بها بهذا العام ويمشوها على كيسهم في المقبل وأمرنا للمنكورين بأنعام شهرية 90 غرش في الشهر وحين طلوع الخير تنقطع الشهرية المذكورة».
[51] الحديث عن « شروط الصلح» مأخوذ من إبراهيم، العورة: مصدر مذكور، ص 44ـــ48. الفقرات الموضوعة بين مزدوجين مأخوذة بنصها الحرفي.
النهضة العلمية الثانية في جبل عامل
بعد نهاية حكم أحمد باشا الجزار
الشيخ حسن بغدادي
مقدمة:
لعلّ النهضة العلمية الثانية في جبل عامل التي قامت بعد حكم السفّاح أحمد باشا الجزار لا تقلّ أهمية عن النهضة العلمية الأولى التي تحققت على يد الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني أواسط القرن الثامن هـ، والبحث حول النهضة العلمية الثانية هي التي دعتني إلى إقامة مؤتمر حول المجرم أحمد باشا الجزار الوالي العثماني في عكا، والذي هلك سنة 1219هـ، بعد أن دمّر العباد والبلاد وأهلك العلماء قتلاً وتعذيباً، هذا ناهيك عن حرقه لآلاف المكتبات العلمية والمخطوطات وتهجيره للعلماء عن جبل عامل.
الشيء الآخر، عندما نتحدث عن جبل عامل في معرض حديثنا عن النهضة العلمية، فهي بالتأكيد شاملة لكثير من العلماء الذين هم من خارج دائرته الجغرافية، ونحن نقصد بجبل عامل دائماً (الحاضرة العلمية) مثل النجف الأشرف، أو الحلة، وقم المقدسة، ولم تعُد هناك ثمرة علمية للبحث عن حدوده الجغرافية فإنّ أصحاب التراجم والمؤرخين تحدثوا كثيراً حول هذا الموضوع، وبات الحديث عنه مجرد تكرار، وما يهمّنا نحن في الكلام عن علماء الشيعة في لبنان هو أنهم انتموا إلى جبل عامل كحاضرة علمية، وهذا ما نسبوه إلى أنفسهم سواء كانوا من كرك نوح أو بعلبك، أو الهرمل، وبتقديري لعلّ منشأ الإلتباس عند من ذهب إلى التوسعة في الدائرة الجغرافية لجبل عامل ليشمل مناطق بعيدة عنه، كان ناظراً لما أطلقوه على أنفسهم من لقب (العاملي).
محور بحثي في هذا المؤتمر السابع (النهضة العلمية الثانية في جبل عامل بعد النكبة)، وحتى نتعرّف على النهضة العلمية التي انطلقت بعد هلاك السفّاح أحمد باشا الجزار سنة 1219 هـ، لا بُدّ وأن نطلّ سريعاً على النهضة العلمية التي تأسّست في جبل عامل على يد الشهيد الأول كي نربط بين هاتين النهضتين، حيث استمرت النهضة الأولى من أواسط القرن الثامن هـ, إلى أواخر القرن الثاني عشر.
المنطقة في عهد الشهيد الأول كانت محكومة لسلطة المماليك وكانت هناك علاقة طيبة للشهيد الأول مع هذه السلطة عبر واليهم في دمشق، وليس الآن مجال البحث في كيفية إقامة هذه العلاقة وكيف دفع الشهيد الأول الثمن جرّاء التبدّل في حكم المماليك.. هذا الموضوع يأتي في مكان آخر، لكن ما يهمّني الآن، هو أنّ الشهيد استفاد من هذا المناخ لأجل تأسيس مشروع يقوم على أساس حفظ جبل عامل وجعله كياناً لتظهر آثاره لاحقاً، وهذا ما كان ليتحقق إلاّ بإقامة حاضرة علمية على ربوعه وخصوصاً أنه كان يرزخ تحت الإحتلال الصليبي حوالي (قرنين من الزمن)، وما كان ليصمد هذا الجبل أمام العواصف المختلفة التي مرّت على المنطقة ولم يكن ليتحوّل إلى قاعدة كبرى في سماء العالم الإسلامي لولا هذا الحضور العلمي الذي ولّد الثقافة والفكر والجهاد للمحافظة على الهوية، فقد تحوّل هذا الجبل إلى مركز كبير ساهم بنشر فكر وفقه أهل البيت R، ولولا هذه النهضة العلمية لما تمكنّا نحن اليوم من القيام بهذا الدور المذهل، من هزيمة العدو الإسرائيلي ومواجهة الإحتلال الأمريكي للمنطقة ومن وضع حد للخطر التكفيري.
هذه النهضة العلمية ما كانت لتبصر النور لو بقي الشهيد الأول في قريته (جزين) يدرس على أبيه ووالد زوجته السيد علي الصائغ، فنحن لا ننكر وجود علماء في جبل عامل قبل عصر الشهيد الأول[1]. ولكنهم لم يرتقوا إلى إطلاق حاضرة علمية تجعلها تستغني عن الذهاب إلى حوزات أخرى كالحلّة مثلاً، من هنا نجد الشهيد كان يتطلع بنور البصر والبصيرة إلى مستقبل زاهر لهذا الجبل ليكون منارة في سماء العالم الإسلامي، وهذا الذي جعل الشهيد يُغادر بلدته (جزين) إلى مدينة الحلّة بالعراق حيث مدرسة العلامة الحلي، والتي لها الفضل الأول على النهضة العلمية والفكر الوحدوي في مشروع التقريب على جبل عامل والمنطقة فالعلامة الحلّي توفي سنة 726هـ، ولكن مدرسته استمرت بنهجها العلمي والفكري والوحدوي بتلاميذه وأبرزهم نجله (فخر المحققين).
بقي الشهيد الأول في الحلة إثنتي عشرة سنة درس فيها على فخر المحققين وعدد آخر[2]، وخرج من الحلة وهو يحمل شهادة من أستاذه يعتز بها عندما قال: «إنني استفدت منه أكثر ممّا استفاد مني»[3].
والذي يؤكد هذا النضوج الفكري عند الشهيد الأول أنّه لم يكتف بما حاز عليه في مدرسة (الحلة)، وإنما قرّر المزيد من القراءة على علماء المذاهب الإسلامية المنتشرين في عواصم العالم العربي، وفي نفس الوقت كي تشكل هذه العلاقة فرصة لنشر الفقه الجعفري ولإقامة مشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية، القائم على (الفقه المقارن) ولكن ليس من بوابة كتابة الفقه، كما فعل الشيخ الطوسي في (الخلاف) وإنما من خلال الدرس والمباحثة وإقامة المجالس العلمية كما صنع في عواصم العالم العربي وبالأخص في (دمشق)، وهذا ما قاله في إجازته لابن الخازن الحائري: «إني قرأت على أربعين شيخاً من علماء أهل السنة»[4].
هذا الإنجاز ظهرت آثاره في (جزين)[5] بعدما شيّد حوزة علميّة خرّجت العشرات من المجتهدين، والتي عبّر عن هذا الإنجاز الحر العاملي في أمل الآمل: «أنه صلى على إحدى الجنائز في إحدى القرى في جبل عامل في عهد الشهيد الأول سبعون مجتهداً».
هذه النهضة العلمية التي استمرت زهاء أربعة قرون لم تكن بمنأى عن المضايقات والبغي من الولاة والتابعين للحكم العثماني، وهناك نصّ صريح لحفيد الشيخ حسن صاحب المعالم الشيخ علي في كتابه (الدر المنثور)[6] يقول فيه: «إنّ أهل البغي في جباع حرقوا لي ولأبي الشيخ محمد ولجدي الشيخ حسن ولأبيه الشهيد الثاني ما يزيد على الألف كتاب ومخطوطة من أنفس المخطوطات».
واستمرت هذه النهضة العلمية من خلال ذرية الشهيد الأول والذين عُرفوا بآل شمس الدين لاحقاً، واستمروا بطلب العلم إلى يومنا هذا وانتشروا في القرى والمناطق، مضافاً لطلابه، والذين ارتقوا لاحقاً إلى تأسيس مدارس علمية كان لها حضورها وفعاليتها، وكرك نوح في القرنين التاسع والعاشر هـ كانت من أهم المدارس ولكنها لم يُكتب لها البقاء بسبب رحيل أساتذتها إلى إيران في العهد الصفوي، وكذلك نهضت مدرسة (ميس) على يد المحقق الشيخ علي الميسي وكان من تلاميذها الشيخ زين الدين الجباعي (الشهيد الثاني) والسيد عز الدين حسين الموسوي جد السيد محمد صاحب المدارك، وجاءت مدرسة الشهيد الثاني في أواسط القرن العاشر هـ، لتُثبت تلك النهضة والتي إستمر معها الحضور العلمي إلى أواخر القرن الثاني عشر هـ، عندما توفي العلامة السيد أبو الحسن موسى الحسيني صاحب مدرسة (شقراء) والتي كانت من المدارس الأساسيّة في تلك المرحلة وكانت تضم على رواية المؤرخ الشيخ علي السبيتي أكثر من ثلاثمائة طالب[7] ومن بينهم إبن أخيه السيد جواد الحسيني صاحب مفتاح الكرامة في الفقه، حيث ذهب إلى النجف الأشرف وبقي هناك على أثر قيام حكم الجزار، وكان له دور أساسي في النجف سواء من الناحية العلمية مع المولى الوحيد البهبهاني والسيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر آل كاشف الغطاء، أو من ناحية حفظ النجف من الهجوم الوهابي عليها[8].
وأستطيع القول أنه بعد رحيل السيد أبو الحسن موسى الحسيني 1194 هـ، وقتل الأمير الشيخ ناصيف النصّار في معركته مع الجزار في (يارون) 1195 هـ، وعدوان جيش الجزّار على قرية (شحور) 1198 هـ، وقتل العلامة السيد أبو البركات هبة الله نجل السيد صالح الموسوي[9] ثم سجن السيد صالح في (عكا) وهروب علماء جبل عامل إلى خارج البلاد، إنتهى جبل عامل كحاضرة علمية.
الدور السياسي والإجتماعي لعلماء جبل عامل:
وقبل الحديث عن المدارس التي شكلت بمجموعها النهضة العلمية الثانية، لا بُدّ من إطلالة سريعة على الدور السياسي والإجتماعي لعلماء هذا الجبل قبل النكبة وأثنائها كي نتعرف على حجم الأضرار التي لحقت بهذه المنطقة، وعلى أهمية الدور الذي قام به علماؤنا بعد نكبة جبل عامل.
فجبل عامل لم يكن محكوماً مباشرة من قبل العثمانيين وإنما كان يحكمه أمراء يُسمّونهم (المشايخ) عيّنهم العثمانيون وكانت مهمتهم جبي الضرائب وجلب الشباب للإلتحاق بالجندية، وكان جبل عامل مقسّماً إلى ثلاث مقاطعات، كما جاء في كلام المرحوم السيد حسن الأمين في الندوة التي أقامتها جمعية الإمام الصادق Q في 10/12/1995 م حول الشاعر الشيخ إبراهيم يحيى وممّا قاله: «كان جبل عامل في عصر الشيخ إبراهيم يحيى واحداً من المقاطعات التابعة للحكومة العثمانيّة في بلاد الشام التي لا تخضع لحكم عثماني مباشر بل كان الولاة يلزمون إدارات المقاطعات الجبليّة إلى زعيم عصبية محليّة، وكان جبل عامل يتبع ولاية صيدا ويتولى إدارة مقاطعاته مجموعة من المشايخ يقيم كل منهم في إحدى تلك المقاطعات مع أتباعه المزارعين الذين يتعهدون أرض المقاطعة لحسابه».
وينتمي هؤلاء المشايخ إلى ثلاث أسر إقطاعيّة لها السيادة الأولى في البلاد وهم: بنو صعب في الشقيف وبنو منكر في الشومر والتفاح وآل الصغير في بلاد بشارة.
والرئاسة العامة في هذا المجموع هي لآل علي الصغير. وكان كل شيخ بمقدوره عند الحاجة أن يجنّد ما يستطيع تجنيده حتى إذا اجتمعوا معاً شكّلوا قوّة قتالية قوامها ستة آلاف مقاتل، معظمهم من الفرسان اشتهروا في سوريا كلها بشجاعتهم النادرة التي شهد لهم بها معاصروهم من الفرنسيّين، وقد أشار إلى ذلك الدبلوماسي الفرنسي باراديس بقوله: «شاهدناهم يقاتلون بترتيب ونظام ممّا جعلهم ينتصرون على أعدائهم الذين يفوقونهم عدداً».
وشهد جبل عامل في النصف الأول من القرن الثامن عشر إزدهاراً إقتصاديّاً بارزاً خصوصاً نتيجة نشاط التجّار الأوروبيين بالإضافة إلى مصر.
كما أخذ التجّار الفرنسيّون يتّصلون مباشرة بمشايخ القرى وصاروا يدفعون لهؤلاء ثمن قطنهم سلفاً. فأدّت هذه العلاقة إلى ازدياد المساحة المزروعة قطناً واشتهرت بلدة أنصار بجودة إنتاجها من هذا المحصول.
وبازدياد مداخيل مشايخ جبل عامل نمت قوتهم العسكريّة وازداد نفوذهم السياسي، وتزعّم شيخ المشايخ ناصيف النصّار الذي اتخذ من قلعة (تبنين) مقرّاً له. واستطاع مع باقي المشايخ ترميم القلاع العامليّة وتزويدها بالأسلحة والذخائر. وتمنّعوا عن دفع الضرائب لوالي صيدا كلّما حاول أن يجبي منهم أكثر من تلك المقرّرة عليهم.
الشيخ ناصيف النصار كان يُطلق عليه أمير الأمراء وشيخ مشايخ جبل عامل، وكان رجلاً عاقلاً حكيماً حليماً شجاعاً وكان يمتلك من الحلم مع خصومه وأعدائه ما جعله في مصاف الرجال القادة[10] وتاريخه في جبل عامل مُشرّف وعليه إجماع المؤرخين، فعاش قائداً شهماً وارتحل بطلاً شهيداً على يد الجزار في معركة يارون 1195هـ [11] وبقتله إنزاحت عقبة كبيرة من أمام هيمنة الجزار على جبل عامل، ليس المجال البحث بالتفصيل عن هذا الأمير الشجاع، إنّما قصدت الإشارة فقط إلى علاقته الوطيدة بعلماء الدين، وإنّهم لم يكن لديهم غضب مسبق أو عداء تجاه هؤلاء الأمراء، بل كانت تجمع فيما بينهم أكثر الأحيان المودة والعمل على مصلحة هذا الجبل، ولربّما اختلفوا لكن ضمن نقاط محددة مرتبطة بمصلحة الناس أو مخالفة موقف شرعي، وهذه ميزة تُسجل لعلمائنا الأجلاء.
وعلى سبيل المثال كانت هناك علاقة وطيدة تربط ما بين الأمير ناصيف النصّار والعلامة السيد أبو الحسن موسى الحسيني صاحب مدرسة (شقراء) الشهيرة،[12] وكيف كان يحرص على الحضور الأسبوعي ليصلي الجمعة خلف السيد، حتى أنّ المسجد لم يعد يتّسع للمصلين من القرية والقرى المجاورة، مما اضطر السيد أبو الحسن لتوسعة المسجد الذي هو (الهوية) لهؤلاء الناس التي تمثل حب الوطن والدفاع عنه إلى حدود الإستشهاد وهذا ما كان ليكون لولا المساجد، ولما تمكن أمراء جبل عامل من تجنيد الآلاف من الشباب البواسل الحاضرين للإستشهاد للدفاع عن جبل عامل.
وقد أرّخ الشاعر الكبير الشيخ إبراهيم يحيى تلميذ السيد أبو الحسن موسى لهذا المسجد[13] بأبيات من الشعر:
يا عصبة الدين ألا فانظروا |
ما شاده مولى الموالي لكم |
أبو الأمين العلوي الذي |
صيّر في كسب العُلى كسبكم |
أضحى خطيب الدين في جامع |
قد جمع الله به شملكم |
يقولون في تاريخه: «أمراً |
يا أيها الناس اتقوا ربكم» |
وعبّر السيد الأمين في الأعيان[14] عن السيد أبو الحسن موسى الحسيني فقال: «كان عالماً فاضلاً فقيهاً محدثاً رئيساً جليلاً مطاعاً عالي الشأن إنتهت إليه الرياسة العامة في البلاد العاملية ديناً ودنيا، فبنى المدارس والمساجد ونشر العلم وتوافد عليه الطلاب وكان يقيم صلاة الجمعة».
وعندما توفي السيد أبو الحسن موسى في 16/محرم/1194 هـ الموافق 1780هـ قرّر الشيخ ناصيف أن يبني على مقامه (قبة) تليق بشأنه ومقامه الشريف وكان قد حزن عليه حزناً شديداً ومع الأسف وقبل أن تكتمل بناء القبة قتل الشيخ ناصيف 1195 هـ و أمر الجزار بنقل الأحجار الثمينة إلى (عكا)[15].
بعد رحيل السيد أبو الحسن موسى الحسيني قام نجله السيد محمد الأمين مقامه وتقلّد منصب (الإفتاء) لبلاد بشاره[16] وهذا التصدّي هو مسؤولية دينية وسياسية وخصوصاً في العهد العثماني، وهو منصب خطير حيث يُشكل في ذلك الزمن سلطة دينية فحكمه نافذ عند الولاة العثمانيين، ولطالما أساء بعض المفتين والقضاة لوحدة المسلمين ونالوا من علماء الدين ومن الناس كيداً وحسداً، وعملوا على تعكير الأجواء بين السلطة العثمانية أو المماليك وبين المسلمين الشيعة، لهذا كان تصدي بعض علماء الشيعة لهذا المنصب عندما تُتاح الفرصة هو من صلب العمل الديني والسياسي الهادف بعيداً عن الأطماع والمصالح الشخصية، فالشيخ حسن الحانيني الذي توفي 1035هـ كان متصدياً للإفتاء[17] ولم يمنعه زهده وعبادته وطول سجوده الذي عُرف به، بل كان تصديه لهذا المنصب للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الأذى عن المسلمين هي من صلب العبادة والزهد.
كذلك السيد علي إبراهيم الحسيني تقلد منصب الإفتاء[18] في جبل عامل ومع ذلك مات مسموماً عن سن 45 سنة بسبب حكم شرعي لم يُهادن فيه الباطل، فهؤلاء لم يتقلّدوا منصب الإفتاء لأجل مُرتّب شهري أو لمصالح شخصية كما هو اليوم في زماننا، فالسيد محمد الأمين لم يتقلد هذا المنصب للراحة والأمان والقرب من السلطان، فقد تعرض لأصعب إختبار ومهمة لا يقوم بها طالب دنيا وعافية، فبعدما خربت البلاد جراء حكم الجزار وسياسته المدمرة لجبل عامل، على أيدي جنوده وقيام ما أطلق عليه حركة (الطيّاح)[19] فكانوا يقومون بهجمات على الجنود ومواقعهم ليلاً ويختبؤون بالنهار بالمغاير، فصارت الحياة في جبل عامل لا تطاق، فجاء من يقترح على الجزار إقامة هدنة مع زعماء هؤلاء علَّ البلاد تهدأ ويعود الإنسجام بين الناس والسلطة كما كانت قبل حكم الجزار، ووقع الإختيار على المفتي السيد محمد الأمين[20] فقبل الجزار العرض بشرط أن يترك ولده الصغير السيد علي في (عكا) كأمانة كيما يُكمل مهمته، قبل السيد محمد الأمين بهذا الطلب لما فيه من مصلحة عُليا للبلاد مع ما في هذه المهمة من مخاطر على نفسه وعلى إبنه الذي وضعه بين مخالب الجزار، هذا الموقف يُسجّل للسيد محمد الأمين، فصحيح أنه فشل في مهمته والجزار لم يلتزم ببنود المعاهدة والأسوأ أنه قام بسجن السيد محمد الأمين في (عكا)، لكن على قاعدة «رب ضارة نافعة» فقد نشأت علاقة وطيدة بين نجله السيد علي وعبد الله باشا الذي أصبح والياً في عهد السيد علي الذي تقلد منصب الإفتاء بعد عودته من النجف الأشرف، وسوف نتناول هذه الحادثة بعد قليل في معرض الحديث عن مدرسة شقراء والحضور السياسي والإجتماعي للسيد علي محمد الأمين كما فعل والده والدور الذي قام به قبل حكم الجزّار وبعده، وليس بعيداً عن دور السيد محمد الأمين فعلماء شحور والأمير الشيخ حمزة بن محمد النصار من آل علي الصغير[21] لما رأوا ما يقوم به الجزار في جبل عامل قرّروا المواجهة، وهناك رواية تقول: أنّهم صمّموا على دسّ السم للجزار وحاشيته عبر (الطبّاخ) ولكن كشف الأمر أحد المنافقين المندسّين، لكن المؤكّد أنهم هجموا على القلعة حيث مركز (المستلم) فقتلوه، ووصل الخبر الى الجزار فجهّز جيشاً لمهاجمة (شحور) فوقعت معركة كبيرة إستبسل فيها أهالي البلدة، ولكن كانت الغلبة لجيش الجزار لكثرتهم، فقتلوا أكثر من مئتي رجل ثم استباحوا البلدة وألقوا القبض على الأمير حمزه بن محمد النصار وأعدموه، وهرب الشيخ علي الزين من البلاد إلى (الهند)، وبعد فترة تمكّن عيون (الجزار) من قتل السيد أبو البركات هبة الله واعتقال والده السيد صالح الموسوي الذي يعود نسبه إلى السيد علي نور الدين الموسوي أخ السيد محمد صاحب المدارك[22].
هذه عيّنات من مواقف لعلماء جبل عامل عن الدور السياسي والإجتماعي والجهادي في كل المراحل المختلفة، وسوف نتحدث بالتفصيل عن جميع هؤلاء العلماء في معرض حديثنا عن هؤلاء السادة وحتى العلماء الذين لم يتمكّنوا من القيام بمهامهم في جبل عامل، نجدهم قد غادروا هذه البلاد وقاموا بما هو مطلوب منهم في أماكن أخرى، فالشيخ علي الزين بعد نكبة (شحور) 1198هـ توجه إلى (الهند) وصار أحد الوزراء في الحكومة[23]. وأن يصل إلى هذا المركز شخص لا يعرف اللغة وبعيد عن بلاده هذا يُدلّل على قدرته على المبادرة وقوة همّته وحضوره، وهنا نرى السيد جواد الحسيني (شقراء) بعد موت عمه السيد أبو الحسن موسى وقيام حكم الجزّار ينتقل إلى كربلاء والنجف الأشرف ويُصبح من الطبقة التي اكتمل الفقه في عهدههم وهم المولى الوحيد البهبهاني والسيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر آل كاشف الغطاء، ثم يقوم بدور إجتماعي وجهادي وخصوصاً فيما يخص مواجهة الوهابية عندما قرَّرت الهجوم على النجف الأشرف، فكان يحرس مع الشباب المقاتلين سور النجف الأشرف حتى أنه صنف رسالة سماها: «وجوب الذبّ عن النجف الأشرف لأنها تشكل بيضة الإسلام»[24].
أو الشيخ إبراهيم يحيى جد الشيخ عبد الحسين صادق الكبير المقدّس والشاعر الكبير والمؤسّس أول حسينية في جبل عامل وذلك في مدينة (النبطية)، كان من بلدة (الطيبة) من جبل عامل وكان شاعراً كبيراً وهو من تلامذة مدرسة السيد أبو الحسن موسى في (شقراء) وينقل أصحاب التراجم عن المعاناة التي عاشها جراء حكم الجزار وله قصائد تؤرّخ لتلك المرحلة وفيها مواقف سياسية فهو لم يهدأ أو يستكين بل كانت له مواقف وكان يتنقل بين دمشق وبعلبك وزار العراق وإيران، توفي في دمشق كما يقول السيد الأمين في الأعيان انه مات ودفن في دمشق في باب الصغير وزار قبره وله قصيدة يتمنّى العودة إلى جبل عامل ويصف فيها تلك المرحلة التي قضاها في جبل عامل. والسيد صالح بن السيد محمد إبراهيم شرف الدين الموسوي الذي يعود نسبه إلى السيد علي نور الدين الموسوي والد السيد محمد صاحب (المدارك) وكيف هرب من سجن(عكا) إلى العراق ونسله من أهل العلم كان لهم دور علمي وسياسي وجهادي في العراق وإيران ولازالت آثارهم إلى يومنا هذا وعُرفوا بآل الصدر.
أكتفي بهذا القدر من النماذج عمّا كان عليه علماؤنا في جبل عامل على أمل أن نتحدث بالتفصيل عن جميع هؤلاء الساده في موسوعتنا إنشاء الله تعالى، وبهذا نكون قدّمنا صورة مختصرة عن الدور الذي قام به علماؤنا قبل النكبة وأثناءها.
العودة العلمية مجدداً إلى جبل عامل بعد الذي ذكرنا من النهضة العلمية الأولى والدور السياسي والإجتماعي لعلماء جبل عامل، جاء الحديث عن عودة الحياة العلمية إلى هذا الجبل حيث الجهود الجبارة التي بُذلت والتي أسّست لعودة النهضة الثانية في مختلف المجالات العلمية واللغوية والأدبية والشعر، والتي لا زلنا ننعم بها إلى يومنا وحتى نُعطي لكلّ ذي حق حقه ويبقى (السابقون السابقون أولئك المقربون) فإنّ النهضة العلمية الثانية مرّت بعدة محطات:
المحطة الأولى: كوثرية السياد - طيردبا - شقراء
فقد نهضت عدة مدارس متقاربة إلى بعضها في الثلث الأول من القرن الثالث عشر هـ، واستكمل الحضور العلمي بتلاميذ هؤلاء الأساتذة الذين أكملوا هذا الدور.
بعد هلاك الجزار سنة 1219هـ إستراحت البلاد والعباد منه، لكنها لم تكن لتطمئن لسلامة نهج وفكر الوالي الجديد (سليمان باشا)، فقد ذاقت الويلات من الطاغية الجزار ما يقرب من ثلاثين سنة، لهذا كان لا بُدّ للوالي الجديد أن يعمل على تطمين أهالي جبل عامل، وأن يفتح صفحة جديدة من العلاقة بين الوالي العثماني وأهالي جبل عامل، ومع ذلك لم تستجب الناس لدعوته ورغبته حيث كانت تحتمل أنها مكيدة جديدة للإيقاع بهم، لهذا اضطر للتوسط عند الأمير بشير الشهابي[25] ليقوم بدور الوسيط مع الأمراء والعلماء، والخطوة الثانية هي الإفساح في المجال لعودة المدارس إلى جبل عامل، بل أكثر من ذلك المساهمة في عودتها. ففي عهد أحمد باشا الجزار، كان العلامة الشيخ حسن القبيسي يدرس في النجف الأشرف على أساطينها منهم السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر آل كاشف الغطاء، وجرياً على العادة كان لا بُدّ من العودة إلى البلاد وعدم البقاء في العراق إلى آخر العمر، لكن ربما وجدنا إعتراضاً من علماء النجف على عودة بعض العلماء أو مغادرتهم النجف لأجل التحصيل والوصول إلى سدّة الرئاسة الدينية كما حدث مع الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) والعلامة الشيخ عبد الله نعمة[26] بينما نجد هنا بعض الأساطين يُساهم في عودة الشيخ حسن القبيسي إلى جبل عامل لأجل إعادة الحياة العلمية التي انتهت بالكامل في تلك المرحلة وهذه لفتة كريمة ولها ما بعدها عند هؤلاء الأعلام، وهي أن جبل عامل من وجهة نظرهم له قيمة علمية وحضور إستراتيجي على صعيد المنطقة، وخصوصاً أنّ الحوزة العلمية في النجف تعرف تماماً قيمة علماء هذا الجبل من الشهيد الأول أو المحقق الكركي والمحقق الشيخ علي الميسي، والشهيد الثاني وعشرات العلماء الأعلام الذين شعّ نورهم في سماء العالم الإسلامي وكان لحضورهم العلمي والسياسي والإجتماعي والجهادي أثر مدوي في سماء المنطقة، لهذا كان الحرص منهم على وجوب عودة الشيخ القبيسي[27] . والأمر الآخر، أنّ طلب عودة الشيخ القبيسي يؤشّر إلى مكانته العلمية وقدرته على تجاوز الصعاب وأنه يصلح أن يكون في مرحلة التأسيس، وإلاّ فأيّ عالم يستطيع أن يُدرس في أي حوزة عندما تكون جاهزة.
مدرسة كوثرية السياد: لم تكن ميزة خاصة لكوثرية السياد، فهي قرية كبقية القرى في جبل عامل، إنما القيمة في وجود المدرسة فيها تعود لإمامها الذي لبّى دعوة أهاليها ليكون شيخاً عندهم، وجرياً على عادة العلماء فإنهم في الغالب يقومون بثلاث خطوات:
الأولى: التبليغ الديني، من تعليم الناس الأحكام التي هي محل ابتلائهم، وهناك وجوب مبادرة المكلف إلى معرفة أحكام محلّ الإبتلاء، مضافاً إلى إحياء المناسبات الدينية، والصلاة جماعة إلخ..
الثانية: إصلاح ذات البين وحلّ الخصومات، في هذه النقطة كان الناس يقبلون مرجعية العلماء في حلّ مشاكلهم، وبتقديري فإنّ مسألة إصلاح ذات البين كان جميع علماء الدين يقومون بها، أمّا حلّ الخصومات والتصدي للقضاء بمعنى إبرام الحكم فهذا لم يكن من مهام جميع العلماء، لأنه يحتاج إلى ثلاثة شروط، الأول: أن يكون هذا العالم مدركاً لكليات هذه الأحكام وحاضرة عنده، والثاني: أن يجيد تطبيقها، والثالث: أن تقبل الناس حكمه، لهذا الذين تصدّوا للقضاء وحلّ الخصومات كان لهم حضورهم العلمي المميّز والإجتماعي الكبير، على عكس الموظفين اليوم في سلك القضاء حيث البعض لا علم له ولا دين ويُعيّن تبعاً للمصالح الخاصة والتقسيم المناطقي.
الثالثة: التصنيف والتدريس وتشييد المدارس حسب الحاجة والضرورة[28]
الشيخ حسن القبيسي، لعلّه العالم الوحيد الذي عاد إلى جبل عامل وهو يحمل مشروع إعادة النهضة العلمية إليه مجدداً كما حدث مع القائد الفذ الشهيد الأول مؤسّس النهضة العلمية في جبل عامل، وبطبيعة الحال لا يُقاس الشيخ القبيسي ولا غيره بالشهيد الأول وإنما من باب تقريب الصورة على أهمية الدور الذي قام به المقدّس الشيخ حسن القبيسي.
بناءً على ما تقدم، لا بُدّ من أن يشرع الشيخ حسن القبيسي في كوثرية السياد بمشروعه الذي خطط له من النجف الأشرف وخصوصاً أنّ الفرصة باتت سانحة، وهذا الوالي (سليمان باشا) حاضر للمساهمة في بناء هذه المدرسة[29].
المدرسة الدينية الأولى في النهضة العلمية الثانية شُيّدت على مساحة حوالي 2900م وكانت تضم عشرين غرفة، عشر غرف للدرس وعشر غرف لمنام الطلاب، وعليّة خاصة بالشيخ القبيسي وكان تحت يد الشيخ القبيسي (مرج من توت) يستخرج منه الحرير كمصارفات على هذه المدرسة[30]. إنتسب إليها العديد من الطلاب منهم السيد علي إبراهيم الحسيني، والشيخ عبد الله نعمة.
المدرسة الثانية: التي ساهمت في إعادة الحياة العلمية مدرسة الشيخ مهدي مغنية في طيردبا وكان من جملة طلابها الشيخ محمد العسيلي[31] وأولاد الشيخ أحمد شومان، وابن عمّها الشيخ محمد علي شومان، والشيخ سلمان بن علي قعيق، الشيخ حسن بن إبراهيم البلاغي، الشيخ جواد والشيخ خليل آل شكر البعلبكيان من قرية (تمنين التحتا)، الشيخ جعفر بن علي بن محمد بن علي بن حسين بن محمود بن محمد آل مغنية العاملي، الشيخ حسن بن الشيخ مهدي مغنية، السيد حسن بن السيد علي آل إبراهيم العاملي الكوثراني والسيد محيي الدين فضل الله الحسني، حيث نشأت علاقة وطيدة مع أستاذه الشيخ مهدي وتزوج كريمته، والشيخ مهدي مغنية الذي يذكره نجله الشيخ محمد في(جواهر الحكم) أنه درس في النجف الأشرف على الشيخ محمد حسن إبن الشيخ باقر (صاحب الجواهر).
المدرسة الثالثة: هي بالأصل مدرسة السيد أبو الحسن موسى الحسيني في قريته (شقراء) والتي انتهت 1194هـ بعد رحيل السيد أبو الحسن موسى وقيام حكم الجزار، إلا أنّ حفيده السيد علي نجل السيد محمد الأمين بن السيد أبو الحسن موسى بعدما درس في النجف الأشرف على أساطينها ومنهم شيخ الطائفة الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء، عاد من النجف الأشرف عالماً مجتهداً فأعاد فتح مدرسة جده وانتسب إليها الطلاب منهم الشيخ محمد السبيتي والد الشيخ علي والشيخ حسن، والشيخ علي شمس الدين، والشيخ علي مروة، والشيخ علي زيدان، والشيخ صادق إبن الشيخ يحيى، والشيخ سلمان قعيق، والشيخ نصر الله بن إبراهيم بن يحيى العاملي الطيبي، والسيد هاشم عباس بن السيد محمد بن عباس صاحب نزهة الجليس الموسوي العاملي، والشيخ محمد بن الشيخ سليمان جواد بن الشيخ حسن آل سليمان، والشيخ علي زين بن ناصر العاملي المعركي، والسيد جواد بن السيد علي بن السيد محمد الأمين الحسيني العاملي الشقرائي عم السيد محسن الأمين، وكان للسيد علي محمد الأمين حضور علمي وسياسي في جبل عامل، حيث أصبح مفتياً في عهد الوالي (عبد الله باشا)[32] وتوفي مسموماً نتيجة الحسد سنة 1249هـ [33]، وعليه فتكون حياته العلمية في جبل عامل قبل السيد علي إبراهيم الذي عاد من النجف الأشرف سنة 1248هـ وتوفي مسموماً 1260هـ بعد أحد عشرة سنة من رحيل السيد علي الأمين، وكذلك الشيخ عبد الله نعمة الذي عاد من النجف الأشرف وتوفي في (جباع) 1303هـ وأقام له العلامة الشيخ موسى أمين شرارة مجلس فاتحة والذي توفي بعده بسنة واحدة.
إذاً، نستطيع القول أنّ هؤلاء الثلاثة الشيخ حسن القبيسي والشيخ مهدي مغنية والسيد علي محمد الأمين الحسيني هم أساس النهضة العلمية الثانية في جبل عامل.
المحطة الثانية من النهضة العلمية: كانت على يد العلامتان السيد علي إبراهيم والشيخ عبد الله نعمة.
- السيد علي إبراهيم الحسيني، عاد من النجف الأشرف سنة 1248 هـ، إستقرّ في بداية الأمر في كوثرية السياد التي هي بلدته وأصبح هو الأستاذ في المدرسة التي درس فيها على الشيخ حسن القبيسي وتوطّدت العلاقة حيث صاهره على كريمته بعدما توفيت زوجته والدة السيد حسن إبراهيم على طريق الحج، وأنجب من القبيسيّة السيد محمد إبراهيم الذي لعب دوراً مركزياً في إعادة النهضة العلمية واللغوية والأدبية إلى جبل عامل وخصوصاً في مدرستي (حناويه والنبطية) حيث سنتحدث عنهما في المحطة الرابعة من النهضة والتي رسّخت ما أسّسته المدارس السابقة بعودة السيد علي إبراهيم من العراق إلى الكوثرية حيث أصبحت أكثر حضوراً ولمعاناً وتخرّج عليه العديد من الفضلاء، فكان يمتلك الأهلية لهذا المقام والذي عبّر عنه السيد الأمين[34] أنه من مشاهير علماء جبل عامل، ومن جملة من درس عليه الشيخ حسين زغيب اليونيني المعروف (بشمس العراقين)[35] مدة إثنتي عشرة سنة حتى أصبح من الفضلاء وصنّف في الكوثرية (كتاباً في أصول الفقه)[36]، كما درس عليه الشيخ جواد بن شكر التمنيني البعلبكي، والسيد حسن بن السيد علي آل إبراهيم، والشيخ خليل عسيران الصيداوي، والشيخ محمد علي عز الدين، والشيخ علي والشيخ حسن أولاد الشيخ محمد سبيتي، والشيخ حسين بن محمد بن حسين بن محمد بن أحمد حسين اللاكودي الجشعمي البعلبكي اليونيني.
- مدرسة (جباع)، شيّدها العلامة الشيخ عبد الله نعمة بعدما عاد مجتهداً مُسلّم الإجتهاد من النجف الأشرف والذي حاز على شهادة الأستاذ الكبير الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر)[37]، ودرس عليه العديد من الأفاضل منهم الشيخ مهدي شمس الدين الذي كان أستاذاً في حوزته ويعبر عنه الآغا بزرك الطهراني في الطبقات[38] أنه من أهم الأساتذة في جبل عامل، حيث درس عليه العلامة الشيخ موسى أمين شرارة (القوانين في الأصول)[39]، كما درس عليه في مدرسة (جباع) السيد حسن يوسف مكي صاحب (مدرسة النبطية)، وكان الشيخ مهدي شمس الدين من ذرية الشهيد الأول فدرس على الشيخ عبد الله نعمة الفقه والأصول، وبتقديري فإنّ من يدرس على الشيخ عبد الله نعمة ويتفرّغ للدرس فإنّ ذلك يُغنيه عن الذهاب إلى النجف الأشرف[40]. وممّن درس في مدرسة (جباع): الشيخ محمد علي عز الدين، الشيخ علي والشيخ حسن السبيتي، الشيخ علي الحر، الشيخ عبد السلام الحر، الشيخ حسن بن سعيد الحر، الشيخ محمد حسين المحمد الجبعي المعروف بالحر، الشيخ محمد سليمان الزين وأخوه الشيخ أبو خليل الزين، السيد مهدي والسيد عبد الله والسيد محمود الأمين (أعمام السيد محسن الأمين)، الشيخ محمد حسين فلحة الميسي (جدّ السيد محسن الأمين لأمّه)، الشيخ موسى شرارة، الشيخ حسن نعمة، الشيخ قاسم محمد قدوح، الشيخ قاسم محمد صفا، السيد قاسم والسيد جواد أحمد فحص، الشيخ حسين الكركي العاملي الجبعي، السيد أمين بن السيد علي بن السيد محمد الأمين، السيد محمد بن السيد حسن بن السيد هاشم بن عباس صاحب نزهة الجليس الموسوي العاملي، الشيخ جعفر بن علي بن محمد بن علي بن حسين بن محمود بن محمد آل مغنية العاملي، الشيخ أحمد رعد العاملي، الشيخ حسن بن الشيخ علي بن الحج حسين آل مروة، السيد أبو الحسن بن السيد محمد الأمين العاملي بن السيد محسن الأمين.
الخلاصة أنّ مدرسة الشيخ حسن القبيسي بطلابها شكّلت الأساس في النهضة العلمية الثانية لجبل عامل بالإضافة الى مدرسة الشيخ مهدي مغنية والسيد علي محمد الأمين في شقراء.
مدارس النهضة العلمية الثانية
في جبل عامل
المحطة الأولى |
||
مدرسة كوثرية السياد |
الشيخ حسن القبيسي |
|
مدرسة طيردبا |
الشيخ مهدي مغنية |
|
مدرسة شقراء |
السيد علي بن السيد محمد |
الأمين الثاني الحسيني |
المحطة الثانية |
||
مدرسة الكوثرية والنميرية |
السيد علي إبراهيم الحسيني |
|
مدرسة جباع |
الشيخ عبد الله نعمة |
|
المحطة الثالثة |
||
مدرسة حناويه |
الشيخ محمد علي عز الدين |
|
مدرسة بنت جبيل |
الشيخ موسى أمين شرارة |
|
مدرسة يونين (بعلبك) |
الشيخ حسين زغيب |
|
المحطة الرابعة |
||
مدرسة حناويه الثانية |
الشيخ إبراهيم عز الدين |
|
مدرسة أنصار |
الشيخ سلمان العسيلي |
السيد حسن إبراهيم |
مدرسة النبطية |
السيد حسن يوسف مكي |
|
مدرسة طورا |
السيد يوسف شرف الدين |
ملاحظة: هناك مدارس صغيرة نشأت على هامش هذه المدارس:
ففي المحطة الثانية: كانت مدرسة مجدل سلم للشيخ مهدي شمس الدين.
وفي المحطة الثالثة: مدرسة شحور للسيد يوسف شرف الدين.
وفي المحطة الرابعة: مدرسة طيردبا للشيخ محمد مغنية بن الشيخ مهدي برعاية الشيخ سلمان العسيلي.
وهناك مدرسة جويا الشيخ محمد علي خاتون وغيرها.
المحطة الثالثة لهذه النهضة: كانت على أيدي طلاب هذه المدارس الذين درسوا على هؤلاء الأساتذه وبعضهم ذهب إلى النجف واستكمل تحصيله العلمي كالشيخ محمد علي عز الدين والشيخ حسن السبيتي والسيد حسن يوسف مكي، والشيخ موسى أمين شراره والسيد يوسف شرف الدين ومنهم من بقي في جبل عامل ولم يغادر كالشيخ مهدي شمس الدين والشيخ علي السبيتي، وآخرين ساروا على ذات النهج من بعدهم كالشيخ جعفر مغنية وولده الشيخ موسى والشيخ أسد الله صفا والشيخ سليمان ظاهر والشيخ أحمد رضا إلخ، وبتقديري الفريقان خيراً صنعوا، فكما كنّا بحاجة إلى من يذهب إلى النجف الأشرف لاستكمال التحصيل العلمي على أساطين حوزتها، كذلك خيراً صنع الفريق الآخر من عدم ذهابه إلى النجف والبقاء في جبل عامل، وكان من الضروري أن يبقى ليشحذ الهمم للإلتحاق بطلب العلم، كما كان لهم الدور الكبير في النهضة الأدبية واللغوية كما وكان لهم الدور السياسي والجهادي في جبل عامل.
مدرسة (حناويه):
هي المدرسة الأولى في المحطة الثالثة من النهضة، كما كانت مدرسة الكوثرية المدرسة الأولى في المحطة الأولى، أسّسها العلامة الشيخ محمد علي عز الدين بعدما عاد من النجف الأشرف[41]. فبطبيعة الحال عاد إلى بلدته كفرا وأسّس في البداية مدرسته الدينية فيها واستفاد من وجود الشيخ علي السبيتي صاحب التجربة العملية ومن مكتبته الكبيرة المعروفة[42]. بعد مدة طلبه أهالي (حناويه) ليكون إماماً لهم، وهناك شيّد مدرسة اشتهرت في جبل عامل وانتسب إليها العديد من الطلاب كالشيخ جعفر مغنية وولده الشيخ موسى والسيد نجيب الدين فضل الله، والشيخ إبراهيم عز الدين (حفيد الشيخ محمد علي) وابن عمه الشيخ كاظم عز الدين، والسيد أبو الحسن بن السيد محمد الأمين الحسيني، والشيخ أحمد بن الشيخ عبد المطلب آل مروة، والسيد أمين بن السيد علي أحمد الحسيني، والشيخ علي بن الشيخ حسن بن الشيخ مهدي بن الشيخ محمد مغنية، والشيخ محمد أمين مروة بن محمد العاملي، والسيد محمد بن هاشم بن عباس صاحب نزهة الجليس، والسيد محمد بن السيد حسين بن السيد أحمد الحسيني، والشيخ محمد حسين مروة المعروف بالحافظ بن الشيخ محمد حسن، والسيد محمد بن السيد علي إبراهيم الحسيني العاملي، والشيخ جواد سبيتي، والشيخ علي عز الدين، والسيد محمد محمود وبن عمهما السيد علي مهدي أمين الحسيني، والشيخ حسن عز الدين بن أحمد عز الدين من كفرا، والشيخ حسين مغنية، والشيخ محمد حسين والشيخ عبد المطلب آل مروة، والشيخ محمد زغيب من بعلبك، والشيخ علي مروة من (عيتيت).
وكان الشيخ محمد علي عز الدين يجمع إلى التبليغ الديني التدريس والتصنيف، حتى أنه كانت له طريقة خاصة، فلم يكن التبليغ ليأخذ كلّ وقته وإنما كان يجلس مع الناس يحدّثهم بما يلزم ويجيب على أسئلتهم، ثم يبادر إلى الكتابة والتصنيف، وحتى عندما يذهب إلى قرية أخرى كان يصطحب معه (كيسه) الذي فيه أوراقه وكتبه[43].
مدرسة يونين (البقاعية):
أسّسها العلامة الشيخ حسين زغيب (اليونيني) (المعروف بشمس العراقين)، فبعد أن درس الشيخ زغيب في جبل عامل على العلامة السيد علي إبراهيم مدة (اثنتي عشرة سنة وأصبح من الفضلاء خصوصاً بعد أن استطاع أن يصنّف في (الكوثرية) كتاباً (بالأصول)، عاد إلى بلدته يونين ليقوم بواجبه الديني ولكن طموحه العلمي لم يسمح له بالبقاء، فقصد النجف الأشرف طلباً لمزيد من العلم ولمجاورة الإمام علي Q، وكان أستاذه الشيخ مرتضى الأنصاري الذي يُعتبر أستاذاً للفقهاء في تلك المرحلة. وبعدما عاد من النجف عالماً مجتهداً كان لا بُدّ من تشييد مدرسةٍ علمية تكون عنوان عودة الحياة العلمية إلى البقاع بعد فترة انقطاع العلماء عنها بسبب النزاع العثماني الصفوي في المنطقة ممّا جعل القسم الأكبر من علماء كرك نوح يُغادرون إلى إيران، ولعلّ قيمة مدرسة الشيخ حسين زغيب في أنها استطاعت أن تساهم في تشكيل نهضة علمية جديدة للمنطقة رغم عدم الإنقطاع الكلي لطلاب العلوم الدينية، وكان من جملة الطلاب الوافدين إلى مدرسة الشيخ حسين زغيب الآتي: السيد علي القاضي آل عودة اللبناني، الشيخ تقي شمس الدين الفوعي، الشيخ إبراهيم والشيخ محمد والشيخ حيدر محفوظ الهرمليون، الشيخ خليل العميري وأخوه الشيخ محمد والشيخ عبد الله وأخوهم الشيخ جواد العميري النحليون، الشيخ صادق زغيب بن الشيخ حسين زغيب مؤسّس المدرسة والشيخ عباس بن الشيخ محمد أمين زغيب.
مدرسة (بنت جبيل):
في سنة 1298 هـ عاد من النجف الأشرف العلامة الشيخ موسى أمين شراره إلى مدينة بنت جبيل بسبب مرض ألمّ به فخيّره الأطباء بين البقاء في النجف للعلاج وبين الذهاب إلى بنت جبيل فهناك الهواء نقي والمكان أفضل، فاختار المجيء إلى بلده والقيام بمسؤولياته.
الخطوة الأساسيّة كانت تشييد مدرسة علمية مضافاً إلى إصلاحات كبيرة أجراها في جبل عامل[44] أسّست لنهضة إصلاحية شاملة وبالخصوص ما يخصّ الأدب والشعر والمنبر الحسيني والذي سار على هذا الدرب العديد من علماء جبل عامل كالسيد محسن الأمين والشيخ عبد الحسين صادق والسيد عبد الحسين شرف الدين. وكانت أهم إنجازاته هي المدرسة العلمية والتي استمرت ست سنوات وانتهت بسبب رحيله 1304هـ. إنضمّ إلى تلك المدرسة العديد من الطلاب ومنهم كان في مدرسة الشيخ محمد علي عز الدين. وبتقديري هذا الإنتقال لم يكن بسبب زهد الطلاب بمدرسة حناويه، وإنّما هذه مسألة طبيعية فلكلّ قادم بهجة، وبالتالي فالصيت العلمي للشيخ موسى سبقه إلى جبل عامل، فهو كان أستاذ البحث الخارج في النجف الأشرف إلى جنب درس كبير فقهاء العرب الشيخ محمد طه نجف[45]، ومن جملة الطلاب الذين انتسبوا إلى هذه المدرسة السيد نجيب فضل الله الحسني، والشيخ حسين مغنية، الشيخ موسى مغنية، الشيخ عبد الكريم الزين، الشيخ محمد دبوق، السيد محسن الأمين، الشيخ عبد الحسين صادق، السيد حيدر مرتضى والسيد جواد مرتضى، والسيد محمد رضا فضل الله،[46] وبطبيعة الحال لم يكونوا هؤلاء الطلاب بمستوى واحد، فعلى سبيل المثال: السيد محسن الأمين درس على السيد نجيب فضل الله في مدرسة الشيخ موسى شرارة[47] وهذه الطريقة كانت متبعة في المدارس العلمية فالطالب فيها قد يصبح أستاذاً للطلاب الذين هم دونه مستوى، فالعادة جرت إذا أنهى الطالب مرحلة وانتقل إلى الثانية فيصبح أستاذاً للمرحلة السابقة، ولعلّ هذه الطريقة حصرية في الحوزات العلمية فقط.
المحطة الرابعة للنهضة العلمية:
نشأت عدة مدارس أيضاً، لعبت دوراً أساسياً في تثبيت النهضة العلمية وكان لها دور محوري في النهضة الأدبية واللغوية، وإن سبقها إلى هذه النهضة وأسّس لها الشيخ علي السبيتي الذي درس على السيد علي إبراهيم ولم يغادر إلى النجف الأشرف والشيخ جعفر مغنية وولده الشيخ موسى اللذين تخصصا بالعلوم العربية وما يُطلق عليه بعلم (المقدمات)، وحتى الشيخ موسى أمين شرارة الذي عبّر عنه السيد الأمين في الأعيان بأن سوق العلم والأدب قام في جبل عامل في عهد الشيخ موسى أمين شرارة[48] إلاً أنّ الذي صنّف وتخصّص هم طلاب مدرسة السيد حسن يوسف مكي. وسأكتفي هنا بذكر بعض المدارس على أمل أن نتحدث بالتفصيل عنها خلال الحديث عن سيرة هؤلاء الأعلام كما أشرت سابقاً[49].
مدرسة (طورا):
التي أسّسها العلامة السيد يوسف شرف الدين والد العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين، وذلك بعد وفاة الشيخ موسى أمين شراره في بنت جبيل حيث أغلقت المدرسة أبوابها بسبب عدم متابعة العلامة السيد مهدي الحكيم للتدريس والتفرّغ الكامل للتبليغ الديني[50]، فاقترح الشيخ محمد مغنية على السيد يوسف شرف الدين أن يعمدوا إلى تشييد مدرسة بديلة في وسط البلاد فوقع الإختيار على قرية (طورا) فانضم إليها العديد من الطلاب منهم العلامة الفقيه الشيخ حسين علي مغنية على حد تعبير السيد عبد الحسين شرف الدين[51]، والشيخ محمد بن الشيخ مهدي مغنية، المتوفي سنة 1334هـ، والسيد محمد رضا فضل الله الحسني المتوفى في قانا سنة 1336هـ، والشيخ جواد بن الشيخ علي السبيتي المتوفي في كفرا سنة 1305هـ، والشيخ طالب سليمان البياض المتوفي في المدينة المنورة سنة 1326هـ، والشيخ محمد بن الحاج حسين شعيتاني المتوفي في أنصار سنة 1316هـ، وأخوه الشيخ أحمد المتوفي في الكاظمية سنة 1312هـ، والشيخ محمد بن الشيخ مصطفى عاصي المتوفي في أنصار 1236هـ، والشيخ جواد ين الشيخ خليل الكوثراني المتوفي في الصرفند سنة 1366هـ، وأخوه الشيخ حسين المتوفي في تفاحتا سنة 1374هـ، والسيد أمين السيد علي أحمد المتوفي في جناتا سنة 1382هـ، والشيخ علي الدهيني المتوفي في طورا والشيخ عبد الحسين حدرج المتوفي في البازورية سنة 1335هـ، والسيد محمد بن السيد إسماعيل مرتضى المتوفي في دير قانون رأس العين والشيخ حسين بن الشيخ جواد مغنية المتوفي في طيردبا وغيرهم من طلاب العلم. إستمرت هذه المدرسة من سنة 1305هـ، إلى سنة 1308هـ، حيث وصل هؤلاء الطلاب إلى مرحلة السطوح، وعلى ما يظهر فإنّ مسلكيّة السيد يوسف شرف الدين كانت أن يذهب الطالب إلى النجف الأشرف لاستكمال تحصيله العلمي على أساطين الحوزات العلمية في العراق سواء في النجف أو كربلاء والكاظمية، وهذا ظهر من نفس إصرار السيد يوسف على عدم المجيء إلى لبنان والبقاء في النجف الأشرف لولا وفاة والده والإلحاح بالطلب إلى حضوره.
وكان السيد يوسف شرف الدين، وقبل مدرسة طورا عندما عاد من النجف الأشرف[52]، إفتتح مدرسة إلى جنب بيته وانضم إليها العديد من الطلاب، منهم الشيخ أحمد عليان المتوفي في بلدة قلاويه سنة 1335هـ ، والشيخ حسين نور الدين المتوفي في جويا سنة 1369هـ، والسيد أمين علي أحمد المتوفي في جناتا سنة 1382هـ وغيرهم، وهذه الطريقة كانت متّبعة عند أكثر علماء جبل عامل الذين كانوا يعملون على التدريس والتصنيف من دون أن يصلوا إلى تشييد مدارس بشكل رسمي.
مدرسة (حناويه) الثانية:
التي جاءت في إطار تثبيت النهضة العلمية الثانية في جبل عامل، فكانت عودة الحياة العلمية إلى مدرسة (حناويه) على يد العلامة الشيخ إبراهيم عز الدين حفيد العلامة الشيخ محمد علي عز الدين، فبعد وفاة جده سنة 1301 هـ، كان لا بدّ من الذهاب إلى النجف الأشرف لاستكمال التحصيل العلمي مضافاً للإستفادة من مجاورة الإمام علي Q. كانت المغادرة لجبل عامل سنة 1302هـ، وبقي في النجف الأشرف مدة ست سنوات وكان قراره البقاء أكثر لولا أنه فُرض عليه العودة بسبب وفاة والده الشيخ حسن.
وبعودته عادت الحياة العلمية إلى (حناوية) وبدأ الطلاب بالتوافد عليها، وهنا يمكن أن نسجّل مرحلتين مرّت بها المدرسة في عهد الشيخ ابراهيم، الذي كان عالماً مُربّياً عارفاً بمختلف العلوم وعلى حدّ تعبير ابن عمه وتلميذه الشيخ موسى عز الدين كان في العلوم العربية لا يجاريه أحد.
أما طلاب الطبقة الأولى، فمنهم الشيخ مصطفى خليل، الشيخ علي حاج قاسم، الشيخ محمود عودة، الشيخ محمود بحسون، الشيخ حبيب عز الدين بن الشيخ الكبير محمد علي، الشيخ علي كاظم عز الدين، الشيخ أحمد قصير من دير قانون النهر، والشيخ حسين جواد مغنية، الشيخ حبيب مغنية بن المرحوم الشيخ محمد مغنية من طيردبا، العلامة السيد أمين وأخوه السيد إبراهيم والسيد معروف أولاد المرحوم السيد علي أحمد من جناتا، الأديب الشاعر الشيخ محمد سعيد من صور، العلامة الشيخ عبد الحسين حدرج من البازورية، الأخوان الشيخ مهدي والشيخ محمد علي حدرج وكلاهما من البازورية، العلامة السيد عبد الحسين زين، الشيخ حمد الصليبي، السيد ابراهيم آل إبراهيم من الكوثرية، الشيخ محمد عز الدين من العباسية والشيخ علي زغيب من بعلبك.
وأما طلاب الطبقة الثانية فمنهم الشيخ موسى عز الدين، السيد محمد يحيى، الشيخ حسن شمس الدين، الشيخ حبيب آل إبراهيم، الشيخ محمد قاسم عز الدين بن عم الشيخ موسى عز الدين، الشيخ زين العابدين شمس الدين.
مدرسة (أنصار):
التي نهضت خلال هذه المحطة العلمية الرابعة، وقد تأسّست في البداية على يد الزاهد الشيخ سلمان العسيلي بعدما طلبه أهالي أنصار ليقدم إليهم من بلدة (رشاف) 1272هـ، وإن كان على ما يظهر فإنّ الحضور العلمي لمدرسة أنصار الدينية كان أكثر فعالية بعد رحيل الشيخ سلمان العسيلي ومجيء صهره العلامة السيد حسن إبراهيم مكانه، وكان عالماً فاضلاً من تلاميذ والده السيد علي إبراهيم في (الكوثرية).
وبعد وفاة والد زوجته الشيخ سلمان العسيلي دعاه أهالي أنصار ليكون إماماً لهم وفي نفس الوقت ليحيي المدرسة الدينية فيها، وكانت هذه المدرسة من أهم المدارس في تلك المرحلة حيث ضمّت ما يقرب سبعين طالباً. ومن طلاب هذه المدرسة كما ينقل المؤرّخ محمد جابر آل صفا: السيد محمد أخو السيد حسن إبراهيم، والشيخ أحمد عبد المطلب مروة وابن الشيخ الحافظ محمد حسين مروة، والشيخ طالب سليمان البياضي، والشيخ حسن ابن الشيخ محمد علي القبيسي، والشيخ خليل كوثراني بالإضافة إلى ولديه السيد محمد إبراهيم والسيد مهدي إبراهيم وكذلك ولده الأديب الفاضل السيد علي إبراهيم، واللغوي الأديب الشيخ أحمد رضا.
مدرسة (النبطية):
أسّسها وشيّدها العلامة السيد حسن يوسف مكي، وتعتبر من مدارس المحطة الرابعة في تثبيت النهضة العلمية التي انطلقت في جبل عامل بعد نهاية حكم الجزار. والسيد حسن هو من بلدة (حبوش) وكان عالماً فاضلاً له حضوره وهيبته، وعندما دعاه أهالي النبطية ليكون إماماً لهم، قرّر أن يُشيّد مدرسة علمية كانت مميزة بحضورها اللغوي والأدبي والفكري من خلال طلابها الذين اتجهوا إلى هذا المنحى كالشيخ سليمان ظاهر والشيخ أحمد رضا وغيرهما، وبالفعل فإنّ النهضة الأدبية واللغوية في جبل عامل اكتملت في عهد مدرسة السيد حسن يوسف مكي، والذي ساهم في تفعيل هذه المدرسة هو أحد أساتذتها السيد محمد إبراهيم بن السيد علي ابراهيم في كوثرية السياد، وضمّت تلك المدرسة العديد من الطلاب إضافة إلى الذين ذكرناهم الشيخ أسد الله صفا، والمؤرخ جابر آل صفا وغيرهم.
في الختام:
أردتُ في هذا البحث أن أطلّ بالإجمال على أهمّ المحطات لمدارس النهضة العلمية الثانية في جبل عامل، على أمل أن يكون الحديث بالتفصيل حول هذه المدارس والشخصيات العلمية ضمن موسوعتنا القادمة إن شاء الله تعالى، وكلامنا اليوم هو متمّم للأبحاث التي قدّمها السادة الفضلاء عن مرحلة الجزار وما أنتجت من تداعيات خطيرة على جبل عامل وصولاً إلى نهاية حكم هذا الطاغية الوالي العثماني السفاح أحمد باشا الجزّار وحتى تكتمل الفائدة قدّمنا بحثنا بعنوان «النهضة العلمية الثانية لجبل عامل بعد النكبة»، وبهذا نكون قد قدّمنا ملخّصاً مفيداً للقراء الأعزاء عما حصل في نهاية القرن الثاني عشرهـ من تدميرٍ كامل للمكوّنات الإجتماعية والدينية والسياسية والإقتصادية لجبل عامل وكيف استعاد عافيته بعد سنة 1219هـ عندما هلك هذا الطاغية.
[1] كان في جبل عامل علماء قبل النهضة العلمية التي أطلقها الشهيد الأول، فوالده الشيخ مكي وجده الشيخ محمد بن حامد كانا من العلماء وامتدحهما الحر العاملي في أمل الآمل وعبّر عنهما بالثقاة. و كان أقدم من وجد في جبل عامل الشيخ بن طومان.
[2] ) وصل الشهيد الأول إلى مدينة الحلّة بالعراق وكما هو المعروف إبن (ست عشرة سنة) وكان المؤسّس للحوزة العلمية العلاّمة الحلّي قد توفي سنة 727هـ قبل أن يولد الشهيد الأول والتي استمرت بتلاميذه وفي مقدمتهم (فخر المحققين) الذي تخرّج الشهيد الأول عليه.
[3] نقل هذه الشهادة كل من ترجم للشهيد الأول ومنها أعيان الشيعة ج14 ص 371 .
[4] دمشق كانت تُعتبر مركزاً كبيراً على الصعيد العلمي، وخصوصاً انها تُشكّل حضوراً لوالي السلطة الحاكمة والتي أراد الشهيد أن يستفيد من هذه العلاقة. سنة 784 هـ والمثبتّة في بحار الأنوار 25/39 .
[5] أورد هذا النص الحر العاملي في كتاب أمل الآمل ج1.
[6] الدر المنثور ج 2 ص 338 .
[7] 8 ) السبيتي – في كتابه الجوهر المجرد.
[8] أعيان الشيعة ج 6 ص 404 ان السيد جواد الحسيني كان من العلماء الحاضرين بقوة للدفاع عن النجف الأشرف في وجه العدوان الوهّابي، وصنًف رسالة فقهية في وجوب الذبّ عن النجف الأشرف حيث عبّر عن النجف (ببيضة الإسلام).
[9] بغية الراغبين ج1 ص129 السيد صالح الموسوي نجل السيد محمد الذي قدم من قرية (جباع) إلى بلدة شحور وسكن فيها، ويعود نسبه إلى السيد علي نور الدين الموسوي أخي السيد محمد (صاحب المدارك)، عندما وقعت نكبة شحور اعتقل الجزار السيد صالح وسجنه في (عكا) مع عدة أشخاص ووضعوهم في (طامورة) تحت الأرض بات لا يميّز فيها (الليل من النهار) حتى ضاق صدره فقال للذين معه: «أنا سأدعوا الله تعالى بدعاء الطائر الرومي وأنتم أمّنوا»، وما أن أكمل دعاءه حتى فتح الله تعالى لهم باب السجن وهربوا، ثمّ غادر إلى العراق ولم يرجع إلى جبل عامل وبقي نسله موزعاً بين إيران والعراق حيث أصبحوا علماء أعلام وصاروا ينتسبون إلى آل الصدر نسبة إلى ولده السيد صدر الدين، وأمّا أخوه السيد محمد بقي في شحور فكان آل شرف الدين منه.
[10] فكلّ من كتب عن الأمير الشيخ ناصيف النصّار أو عن مرحلته، وصف الشيخ ناصيف بالرجل الشهمّ فالسيد عبد الحسين شرف الدين في بغية الراغبين ج1 ص 131 قال: «وكان ناصيف صادق البأس، جميع القلب، مُسعّر الحرب، وخوّاض غمرات». كان عنوان تلك المرحلة الإستثنائية التي مرّ بها جبل عامل، طبعاً من دون ان ننسى أن جبل عامل بكلّ حضوره العلمي والفكري والجهادي، وخصوصاً تلك المرحلة كان يعيش الإزدهار العلمي والإقتصادي والجهادي، وهذا ببركة الحاضرة العلمية التي أسّسها علماء هذا الجبل مضافاً لقيادة بعض الأمراء كالشيخ ناصيف، ففي سنة 1185 هـ بعدما استطاع الشيخ ناصيف وبالإتفاق مع الشيخ ظاهر العمر في فلسطين وأبو الذهب من مصر، أن يسقطوا الوالي العثماني في سوريا (عثمان باشا) وبالفعل لولا خيانة أبو الذهب وعودة قواته إلى (مصر) لكانت المنطقة قد استعادت حريتها بالكامل عن السلطة العثمانية، ممّا اضطر الشيخ ناصيف النصار وظاهر العمر إلى الإنسحاب والعودة إلى جبل عامل وفلسطين. وبعودة الوالي العثماني إلى (دمشق) مجدداً قرّر الإنتقام من الشيخ ناصيف ومن أهالي جبل عامل بالتحديد، ولكن من دون أن يمتلك جرأة المواجهة وجهاً لوجه، فلم يأت عن طريق (صيدا) لذا جاء عن طريق (بحيرة الحولة) جهة فلسطين المُطلّة على جبل عامل وذلك بعشرة آلاف مقاتل بكامل عدتهم، وعلى (قاعدة ما غُزي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلوّا) قرّر الشيخ ناصيف أن ينتخب عدة مئات من بواسل جيشه ليواجه بهم الوالي العثماني بغارة سريعة تقصم ظهره وتترك جيشه لا يلوي على أحد، وقبل أن يصل إلى حدود المواجهة مرّ على بلدة (بليدة) الممّر الإجباري لتلك المنطقة، فزار المقام المنسوب إلى (يوشع بن نون) وبعد أن صلّى وزار ومسح عمامته بجدران المقام الشريف، نذر أنه إذا نصره الله تعالى على عدوّه فسوف يُجدّد بناء (المقام الشريف)، وبالفعل تمكن عدة مئات من بواسل جبل عامل أن يقضوا على أكثر الجيش العثماني المجهّز بأحدث المعدات، وهرب الباقي وخلّفوا جثث القتلى والسلاح وكل أعتدتهم. هذا نموذج على طريقة تصرّف الشيخ ناصيف النصّار وسوف نبحث في مكان مستقل حول هذه الشخصية الإستثنائية وسنحيي ذكراه بما يليق بشأنه إنشاء الله تعالى.
[11] وكما جاء في بغية الراغبين ففي 5 شوال 1195 زحفت على جبل عامل جيوش الجزّار، فنهد إليهم أمير عاملة الشيخ ناصيف النصّار، فإن الجزّار الذي كان قادماً إلى جبل عامل ... ، وكان يتظاهر أنه قاصداً (عكّا) وليس جبل عامل ولكن على ما يبدوا فإن الشيخ ناصيف فهم أنه قاصداً جبل عامل، ولم ينتظر حتى يستدعي بقية الأمراء والجند، فقرّر المواجهة بمن حضر من عسكره المتواجد معه وهم حوالي سبعمائة فارس وفقد الجزار في هذه المعركة ثلث جيشه.
[12] ينقل السيد الأمين في أعيان الشيعة ج 15 ص66 أنّ «هناك علاقة وطيدة كانت تربط بين الأمير الشيخ ناصيف وبين السيد أبو الحسن موسى الحسيني صاحب أهمّ مدرسة دينية في تلك المرحلة، فعندما توفي حزن عليه كثيراً». من خلال هذه العلاقة نفهم طبيعة الشيخ ناصيف النصار ونظرته إلى علماء الدين، ونفهم أيضاً علاقة علماء الدين بالأمراء وأنها لم تكن محكومة بتوتر مسبق، وعندما كانت تضطرب إمّا نتيجة إختلاف بالرؤى في بعض الأحيان أو لأجل مخالفة حكم شرعي.
[13] الشيخ إبراهيم يحيى من بلدة (الطيبة) من قرى جبل عامل، وكان شاعراً كبيراً ومن تلاميذ مدرسة السيد أبو الحسن موسى الحسيني، ومن الذين هربوا إلى خارج جبل عامل بعد وقوع النكبة ولاقى من المصاعب كثيراً في الطريق وتوفي في دمشق سنة 1212 هـ قبل هلاك الجزار ودفن في باب الصغير. وأرّخ عدة أبيات بتاريخ بناء المسجد الذي شيّده السيد أبو الحسن موسى الحسيني سنة 1182 هـ أعيان الشيعة ج 15 ص 65.
[14] في أعيان الشيعة ج 15 ص 64 .
[15] أعيان الشيعة ج 15 ص 64 .
[16] أعيان الشيعة ج 13 ص 256 وتوفي في (شقراء) سنة 1224 هـ.
[17] كما نقل السيد الأمين في أعيان الشيعة ج 8 ص 245 أنه كان زاهداً ويضرب بسجوده المثل.
[18] أعيان الشيعة ج 12 ص 179 ويمتدحه السيد الأمين كثيراً.
[19] (الطيّاح) عبارة عن عصابات كانت تأخذ الضريبة من الناس.
[20] أعيان الشيعة ج 13 ص 256.
[21] ) كما ينقل السيد شرف الدين في بغية الراغبين ج 1.
[22] السيد علي نور الدين الموسوي هو الجد الأعلي لآل شرف الدين وآل الصدر وآل نور الدين وآل أبو الحسن إلخ.
[23] بغية الراغبين ج 1 ص 131
[24] أعيان الشيعة ج 6 ص 404
[25] كما ينقل محمد جابر آل صفا من تاريخ جبل عامل ص 241، بأنّ الأمير بشير الشهابي الثاني حاكم جبل لبنان إستنجد به الوالي سليمان باشا لإقامة وساطة بينه وبين الثوار وزعماء العشائر في بلاد بشارة، بعد أن رد زعماء الثورة موفوده (باكير آغا) رافضين دعوته ومطالبه بالطاعة وإلقاء السلاح وإيقاف الغارات، وذلك لعدم وثوقهم بوعود الأتراك بسبب غدرهم ونكثهم للوعود.
[26] فالشيخ عبد الله نعمة كان يدرس عند الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) وذات يوم طلب أهالي (رشت) من الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء أن يرسل إليهم عالماً يبقى عندهم ويعلّمهم أحكام دينهم، فاختار لهم العلامة الشيخ عبد الله نعمة، وقرّر الشيخ نعمة المغادرة، وجاء ليودّع أستاذه الشيخ النجفي فرآه خارجاً من حرم أمير المؤمنين Q، وهنا انزعج الأستاذ من هذا الخبر وأخذ بيده وأدخله إلى إحدى الغرف في الصحن الشريف والتي فيها قبر العلامة السيد جواد الحسيني صاحاب (مفتاح الكرامة) وقال له إن صاحب هذا القبر (وكان أستاذاً للشيخ محمد حسن) كان قد نهاني عن السفر إلى (أصفهان لأكون إماماً لهم) وقال إني أرى فيه أنك (صاحب المنبر الأعظم) في الحوزة العلمية، بمعنى أنك المرجع وأنك الأستاذ الأول، وعندما رآني مصرّاً على الذهاب ذهب إلى والدتي وأمرها أن تُحرّم عليَّ (السفر)، وأنا اليوم لست متندماً بل أحتفظ بالجميل لهذا الأستاذ وأذكره بالخير دائماً، وأنا اليوم أقول لك كما قال لي الأستاذ: فإني أرى فيك ملامح الرئاسة الدينية، وأنهاك عن السفر. لكن على ما يظهر فانّ الظروف للشيخ عبد الله نعمة كانت تقتضي السفر وعاد بعد اثنتي عشر سنة، ولكنه كما يقول: تندّمت كثيراً.
[27] كما جاء في أعيان الشيعة ج 8 ص 334
[28] وهذه طريقة كانت ولا زالت متبعه عند علماء الشيعة في لبنان، فعندما يُنهون تحصيلهم العلمي سواء في جبل عامل أو حوزة النجف الأشرف أو غيرها كالحلّة كما فعل الشهيد الأول، يعودون إلى أوطانهم لا ينقطعون عن التدريس والتصنيف.
[29] ولاية سليمان باشا كانت محطة إنتقالية في جبل عامل، فبعد الخراب الذي لحق بجبل عام وهروب العلماء الذين نجوا من القتل والسجن والتعذيب، كان لا بُدّ لهذا الوالي الجديد وبما تُملي عليه مصلحته أن يُعيد الهدوء والأمان، وخصوصاً مع علماء الدين الذين ينظر إليهم المجمع أنهم عنوان وجوده وإستمراره.
[30] لا شكّ أنّ للوالي (سليمان باشا) دور في المدرسة التي أسّسها الشيخ القبيسي، وكما ينقل المؤرّخ محمد جابر صفا في تاريخ جبل عامل، فإنّ سليمان كان كوبي الأصل مسيحي خُطف صغيراً وبيع فوقع في ملك الجزّار وارتفعت منزلته عنده فخلفه في الولاية وكان متمسكاً بالشريعة الإسلامية يُعامل أبناء الطوائف بالمساواة.
[31] الشيخ محمد العسيلي كان من العلماء الزهّاد المعروفين، ولد في قرية الصرفند من جبل عامل 1305هـ كما جاء في خط يده، وطفولته كانت في قرية (أنصار) ثم درس في (طير دبا) على العلامة الفقيه الشيخ حسين مغنية، وعاد من النجف الأشرف يحمل شهادات بالإجتهاد، فسكن في بلدة (الشهابية) وتوفي سنة 1967 م وأنجب علماء فضلاء الشيخ حسن والشيخ علي والشيخ أحمد الذي هو إمام (بلدة الشهابية) حالياً.
[32]قلنا في أحداث جبل عامل أنه جاء من يقترح على السفّاح أحمد باشا أن يعمل على التهدئة وإعادة الحياة إلى جبل عامل، ووقع الإتفاق على أن يكون المفتي السيد محمد الأمين هو الوسيط لكن بشرط أن يضع ولده رهينة عند الجزّار في (عكا)، وهناك نشأت علاقة بين السيد علي وبين(عبد الله باشا)الذي أصبح والياً بعد سليمان باشا على جبل عامل، وهذه العلاقة سببها أن والدة عبد الله أحبت السيد علي على محبة ولدها وأصبح السيد علي كأنه أحد أفراد العائلة، وكان يُدرّس بعض المقدمات لعبد الله، وعندما عاد السيد من النجف واستتبّ الأمر لعبد الله باشا، تعمّقت هذه المودة، ممّا جعله(مفتياً)على بلاد بشاره وكانت لهذه العلاقة أثراً طيباً على جبل عامل، والذي جعل السيد علي يتصدّى لإصدار الفتاوى أنه ذات يوم وصل إليه خبرٌ مفاده أنّ أحد زملائه في الدرس الذي هو من دون السيد علي في الفضل بدرجات قد تصدى للإفتاء بعد وفاة الأستاذ الشيخ جعفر (كاشف الغطاء) وعندما علم ذلك قال: «هنا يجب عليَّ أن أتصدّى، فعندما كنت في النجف كنت أفضل منه بكثير».
[33] أعيان الشيعة ج 4 ص 421.
[34] أعيان الشيعة ج 12 ص 179 أنه من مشاهير علماء جبل عامل.
[35] أعيان الشيعة ج 9 ص 390.
[36] أعيان الشيعة ج 9 ص 390.
[37] ذات يوم وصل خبر إلى العلامة الكبير الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) أنّ ناصر الدين (الشاه القاجري) يقول: أنّ الشيخ محمد حسن النجفي لديه (مصبغة) يطمغ بها شهادات بالإجتهاد ويُعطيها إلى طلابه ويرسلهم إلى إيران كي يحصلوا على حصانة العالم المجتهد، وهنا بعدما ارتقى الشيخ النجفي المنبر لإلقاء الدرس على الطلاب، نقل إليهم الخبر وقال: «الله يعلم أنه طوال حياتي لم أعطِ شهادة بالإجتهاد إلا لأربعة»، منهم العلامة الشيخ عبد الله نعمة العاملي.
[38] بالفعل فكان أستاذاً في مدرسة الشيخ عبد الله نعمة في جباع وصاحب مدرسة (مجدل سلم) كما قال في الطبقات ج 12 ص 529
[39] نقل هذا الكلام السيد محمد رضا فضل الله الحسني في كتابه عن الشيخ موسى أمين شرارة.
[40] لأنّ علماء جبل عامل عندما كانوا يعودون إلى لبنان كانوا يحملون شهادات بالإجتهاد من كبار الفقهاء، وعليه فهم مؤهّلون لأن يكونوا من أفضل الأساتذة، لهذا لو استطاعوا أن يجتمعوا في مكان واحد ويتفرّغوا للتصنيف والتدريس كما فعل غيرهم.
[41] فالشيخ محمد علي عز الدين لم يكتف بما حاز عليه في جبل عامل من الدراسة على السيد علي إبراهيم والشيخ عبد الله نعمة، بسبب موت الأول وعدم التفرغ الكامل للدرس على الشيخ نعمة.
[42] فالشيخ علي السبيتي الذي درس مع الشيخ محمد علي عز الدين وأخوه الشيخ حسن في جبل عامل، لم يُغادر النجف الأشرف وساهم بشكل فعّال في دعوة الناس للنهضة العلمية والأدبية وكان يمتلك مكتبة كبيرة في بلدته (كفرا)، وعندما عاد الشيخ محمد علي عز الدين إلى (كفرا) من النجف، بطبيعة الحال كانت الأرضية التي جهّزها الشيخ علي السبيتي جاهزة للإستفادة من الشيخ عز الدين.
[43] وهذا ما نقله الشيخ موسى عز الدين في التذكرة، والسيد الأمين في الأعيان.
[44] الشيخ موسى أمين شرارة توفي وله من العمر سبعة وثلاثون سنة وعندما أصيب بمرض عضال في النجف الأشرف خيّره الأطباء بين العلاج في النجف وهذا يحتاج إلى مصارفات أو الذهاب إلى بنت جبيل، وكي لا يمدّ يده إلى أحد قرّر العودة إلى جبل عامل والإستفادة من هواء مدينة بنت جبيل، ولكنه توفي بعد ست سنوات من العودة، واستطاع خلالها أن يؤسّس لنهضة علمية وإصلاحية لازالت آثارها إلى يومنا هذا.
[45] أن يكون أستاذ البحث الخارج إلى جنب درس بحث الخارج للشيخ محمد طه نجف هذا تقدم كبير، ولهذا طلب منه الشيخ محمد طه نجف أن يحضر مجلس درسه لعلمه بأهمية حضوره مجلس درسه وأنّه يستطيع أن يُحرّك أجواء الدرس والنقاش، وخيراً صنع الشيخ موسى فإنه ارتحل وبقي الأستاذ الأساس هو الشيخ محمد طه وأصبح من كبار فقهاء العرب وتخرّج عليه العشرات من العلماء وخصوصاً من لبنان وحازوا منه على شهادات بالإجتهاد.
[46] هناك تسامح في مسألة الإنتماء إلى الأستاذ الراعي لتلك المدرسة الدينية، فأنا كطالب عندما أذهب إلى حوزة النجف الأشرف لأدرس المقدمات أو السطوح، ليس معنى ذلك أنني أدرس على كبار الأساطين في الحوزة، وإنّما أدرس على بعض طلبتها، كذلك قسم من الطلاب الذين انتسبوا إلى مدرسة الشيخ موسى أمين شرارة أو إلى مدرسة حناويه الشيخ محمد علي عز الدين أو مدرسة جباع فهم لم يدرسوا عليهم مباشرة وإنما على بعض الطلاب الذين أنهوا تلك المرحلة.
[47] فالسيد نجيب فضل الله الحسني هو نجل العلامة السيد محي الدين فضل الله وكان قد أنهى المقدمات على مدرسة(حناويه) وغيرها، لهذا عندما التحق بمدرسة الشيخ موسى أمين شرارة كان يدرّس (السطوح).
[48] أعيان الشيعة ج15 ص52.
[49] في الموسوعة القادمة إن شاء الله.
[50] بعد وفاة الشيخ موسى أمين شرارة سنة 1304 هـ، أرسل أهالي (بنت جبيل) إلى النجف الأشرف بطلب أحد عالمين ليأتي إلى جبل عامل ويقوم مقام الشيخ موسى، على أن يأتي السيد إسماعيل الصدر أو السيد مهدي الحكيم، لكن السيد إسماعيل رفض فقبل العرض السيد مهدي الحكيم وكما ينقل السيد الأمين أنّ العلامة السيد مهدي الحكيم لم يهتم نهائياً بموضوع المدرسة الدينية وتدريس الطلاب ورعايتهم، وانصرف بالكامل إلى التبليغ الديني، وتحدث عنه بكلمات قاسية على طريقته.
[51] بغية الراغبين ج 1
[52] بغية الراغبين ج 1
الفهرس
صور المؤتمر
الجلسة الأولى
من اليمين الحاج محمد رعد، الشيخ حسن بغدادي، السيد أحمد صفي الدين
من اليمين الشيخ عادل التركي، الشيخ حسين درويش، الشيخ حسين بغدادي،
الشيخ حسين قبيسي والشيخ علي ياسين
من اليمين د. محمد كوراني، الحاج علي الزين، د. محمد نور الدين والشيخ علي ياسين
من اليمين ممثل السفير الإيراني، السيد أحمد صفي الدين، الحاج علي طاهر ياسين ،
الحاج عبد الحميد الغازي
الشيخ علي ياسين
د. محمد كوراني
د. مححمد نور الدين
أ. علي الزين
الجلسة الثانية
من اليمين د. جويدة غانم، د. مصطفى بزي، د. منذر جابر والسيد حسين حجازي
د. مصطفى بزي
الشيخ حسن بغدادي
د. جويدة غانم
د. منذر جابر
السيد حسين حجازي
من اليمين أ. جمال صفي الدين، الشيخ علي خشاب
من اليمين الشيخ حسن بغدادي، النائب قاسم هاشم والشيخ أحمد الزين
من اليمين الشيخ حسن بغدادي، الحاج قاسم قاسم والحاج علي الزين
على هامش المؤتمر